"درج مؤرخو الأدب على تقسيم هذا الشِعر (أي الغزل) إلى صنفين رئيسيين؛ أولهما غزلٌ إباحي، يتسم بفتور العاطفة، وسرعة تحولها، وبالمجون (...).
أما الصنف الثاني، ما اصطلح على تسميته الغزل العذري... وهو شعر حب وغزلٌ قويُّ العاطفة، حافلٌ بالشوق والحنين" د.كمال خلايلي في كتابه جمهرة روائع الغزل في الشِعر العربي.
للحُبِّ في اللغة العربية درجات؛ فليس الهوى مثل الصبوة، ولا الهيام، مثل الغرام، حيث أنَّ كلَّ لفظة تعبِّر عن مرحلة من مراحل الحُبّ، ومِن الحبِّ منابعُ الغَزَل، الذي له درجاته أيضاً.
فليس الغزل العُذري، واشتياق الروح للروح، كمثل الغزل الإباحي، أو الشعر عن الغزل الحسي، أو ما يسميه البعض الغزل الفاحش! وشوق الجسد إلى الجسد، إلا أنَّ القصيدة قد تجمعهما معاً، لا سيما في الشِعر الحديث.
في هذا البحث؛ سنحاول تسليط الضوء على معنى الغزل الإباحي، كما سنقارن بينه، وبين الغزل العذري، من خلال استعراض أهم شعراء الغزل، وأبرز قصائدهم.
1
الشعر الفاحش أو الإباحي
لم يعرف الغزل الإباحي رواجاً بين العرب، على الأقل ليس بالقدر الذي لاقاه الغزل العذري، لعدة اعتبارات؛ أهمها أن الشِعر جاب قصور الخلفاء والملوك، كما جاب الأسواق والبيوت، فلم يكن من اللائق استخدام الشِعر الجنسي.
كما أنَّ للعرب عاداتهم، وتقاليدهم، التي تقضي بإخفاء الشبق الجنسي عن العموم، وكتمانه، لكن لشعر الغزل الإباحي، دوره الكبيرة في تطوير الشعر العربي في ذلك العصر.
حيث ما يزال الشعراء يدرسون أسلوب أسلافهم الغزليين، أما أشهر شعراء الغزل الإباحي، فهم:
2
الغزل والحب العذري
من بين الأخطاء اللغوية الشائعة، إرجاع مصطلح الغزل العُذري إلى عذرية الأنثى، من منطلق أن حبيبها لم يدخل عليها خِدراً، ولم يرفع عنها سِتراً.
لكن الحقيقة في ذلك، أن كلمة (عُذري) مشتقةٌ من اسم قبيلة (عُذرة أو عُذرى) التي سكنت وادي القرى قرب المدينة المنورة.
واشتهر فيها شعراء الحبِّ الملتزمون، منهم جميل بثينة العذري، كما أنَّ منهم الصحابي إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، أما عذرية الأنثى (عذراء) فقد قال العرب "رملة عذراء" أي لم تُطأ بقدم.
والحشرة العذراء هي التي تخطت مرحلة الشرنقة، قبل أن تكتمل، لتصبح حشرة يافعة (بالغة) بعد الخروج من عذريتها، كما قالوا درَّةٌ عذراء أي غيرَ مثقوبة.
3
أشعار عمر بن أبي ربيعة في الغزل الماجن
هو عمر بن أبي ربيعة المخزومي، من بني مخزوم، الذين يعتبرون من سادة القوم في قريش، ولد سنة 23هـ/633م، حيث شبَّ مترفاً، بين الجواري، والحانات، لم تسلم من شرِّه امرأة، إلا وتغزل بها، وتفنن في وصفها.
وقيل أنَّه تاب آخر حياته، فما كانت توبته إلا أنَّ جسده قد شاخ وهرم، حيث كان يعود عن توبته كلَّما رأى حسناءً، فاستذكر فيها صباه.
لكن في نفس الوقت، لا يتوقع القارئ أنه سيجد من الإباحية كلاماً شديد البذاءة، إنما مجازٌ له إيحاءاتٌ بذيئة.
قصيدة ليتَ هِنداً أنجزتنا ما تَعِد
لَيتَ هِنداً أنجَزتنا ما تَعدْ = وشَفَتْ أنفُسَنا مِمَّا تَجِدْ
واستَبدَّتْ مرةً واحدةً = إنَّما العَاجزُ مَن لا يَستبِدْ
زَعَموها سَأَلَت جاراتِها = وَتَعَرَّت ذاتَ يَومٍ تَبتَرِدْ
أكَما يَنعَتُني تُبصِرنَني = عَمرَكُنَّ اللهَ، أَم لا يَقتَصِدْ؟
طَفلَةٌ بارِدَةُ القَيظِ إِذا = مَعمَعانُ الصَيفِ أَضحى يَتَّقِدْ
سُخنَةُ المَشتى لِحافٌ لِلفَتى = تَحتَ لَيلٍ حينَ يَغشاهُ الصَّرَدْ
حَدَّثوني أَنَّها لي نَفَثَت = عُقَداً يا حَبَّذا تِلكَ العُقَدْ
كُلَّما قُلتُ مَتى ميعادُنا = ضَحِكَت هِندٌ وَقالَت بَعدَ غَدْ
الشرح: هند بلغها من صاحباتها أنَّ الشاعر يصف مفاتنها، فسألتهم إن كان قد وصفها كما يرينها عاريةً "أكَما يَنعَتُني تُبصِرنَني" أما الـ معمان: هو شدة الحر، والصَّرد: هو البرد.
وهند بجسدها لا يخاف الفتى معه حر صيف، أو برد شتاء، أما في قوله (لي نَفَثَت عُقَداً) أي أنَّها أعدت له من ضروب السحر، فالنفث في العقد، هو السحر، والشعوذة.
قصيدة هروبٌ بعد الوصال
وفي واحدةٍ من أكثر قصائده فحشاً، يروي ابن أبي ربيعة نزوله على إحدى عشيقاته ليلاً، فلما قضى منها حاجته، كان الصبح قد اقترب، والناس بدأوا بالاستيقاظ، فحارت هي بأمرها، كيف يخرج من عندها؟.
فتستشير أختيها، اللاتي يعطينه ثيابهنَّ، ويطلبنَّ منه عدم العودة مرة أخرى إلى ديارهنَّ، فيهرب وفي باله ذكرى تلك الليلة، وتُدرَّسُ هذه القصيدة، لتَتَبُع التطور الدرامي في الشِعر العربي القديم، إضافة إلى الحوار، والسرد:
فَما راعَني إِلّا مُنادٍ: (تَرَحَّلوا)، = وَقَد لاحَ مَفتُوقٌ مِنَ الصُبحِ أَشقَرُ
فَلَمّا رَأَت مَن قَد تَنَبَّهَ مِنهُمُ = وَأَيقاظَهُم، قالَت: أَشِر كَيفَ تَأمُرُ
فَقُلتُ: أُباديهِم فَإِمَّا أَفوتُهُم، = وَإِمّا يَنالُ السَيفُ ثَأراً فَيَثأَرُ
فَقالَت: أَتَحقيقاً لِما قالَ كاشِحٌ عَلَينا وَتَصديقاً لِما كانَ يُؤثَرُ (كاشح: فتى كان يشك في علاقة عمرٍ، بهند، فدارت قصتهم على لسانه)
فَإِن كانَ ما لا بُدَّ مِنهُ فَغَيرُهُ = مِنَ الأَمرِ أَدنى لِلخَفاءِ وَأَستَرُ
أَقُصُّ عَلى أُختَيَّ بِدءَ حَديثِنا = وَما لِيَ مِن أَن تَعلَما مُتَأَخَّرُ
لَعَلَّهُما أَن تَطلُبا لَكَ مَخرَجاً = وَأَن تَرحُبا صَدراً بِما كُنتُ أَحصُرُ
فَقامَت كَئيباً لَيسَ في وَجهِها = دَمٌ مِنَ الحُزنِ تُذري عَبرَةً تَتَحَدَّرُ
فَقامَت إِلَيها حُرَّتانِ عَلَيهِما = كِساءانِ مِن خَزٍّ، دِمَقسٌ وَأَخضَرُ
فَقالَت لِأُختَيّها: أَعينا عَلى فَتىً = أَتى زائِراً وَالأَمرُ لِلأَمرِ يُقدَرُ
فَأَقبَلَتا فَاِرتاعَتا ثُمَّ قالَتا: = أَقِلّي عَلَيكِ اللَومَ فَالخَطبُ أَيسَرُ
فَقالَت لَها الصُغرى: سَأُعطيهِ مِطرَفي = وَدَرعي وَهَذا البُردُ إِن كانَ يَحذَرُ
يَقومُ فَيَمشي بَينَنا مُتَنَكِّراً فَلا سِرُّنا يَفشو وَلا هُوَ يَظهَرُ
فَكانَ مِجَنّي دونَ مَن كُنتُ أَتَّقي ثَلاثُ شُخوصٍ كاعِبانِ وَمُعصِرُ(الكاعب: الحسناء، المعصر: الفتاة الشابة)
فَلَمَّا أَجَزنا ساحَةَ الحَيِّ قُلنَ لي: = أَلَم تَتَّقِ الأَعداءَ وَاللَيلُ مُقمِرُ
وَقُلنَ: أَهَذا دَأبُكَ الدَّهرَ سادِرا أَما تَستَحي أَو تَرعَوي أَو تُفَكِّرُ (سادر: تائه أو غير مبالٍ)
إِذا جِئتِ فَاِمنَح طَرفَ عَينَيكَ غَيرَنا = لِكَي يَحسِبوا أَنَّ الهَوى حَيثُ تَنظُرُ
فَآخِرُ عَهدٍ لي بِها حينَ أَعرَضَت وَلاحَ لَها خَدٌّ نَقِيٌّ وَمَحجَرُ (المحجر: ما يحيط بالعين)
سِوى أَنَّني قَد قُلتُ يا نُعمُ قَولَةً لَها = وَالعِتاقُ الأَرحَبيّاتُ تُزجَرُ
هَنيئاً لِأَهلِ العامِرِيَّةِ نَشرُها = اللذيذُ وَرَيَّاها الَّذي أَتَذَكَّرُ...
شعر ابن أبي ربيعة العُذري
يتفق النقاد على أنَّ عمر بن أبي ربيعة، أغزلُ العرب حتى عصره، حيث كان من أبرز المجددين في الشِعر العربي آن ذاك، وربما أول من أفرد قصيدة للغزل، كموضوع مستقل.
كما أنَّه مرَّ على الغزل العذري في بعض أبياته، وإنْ تابعت القصيدة في فجورها، لكن أبياتاً حملت المعاني العذرية، العفيفة:
أَلاَ حَبّذَا، حَبّذَا، حَبّذَا = حَبِيْبٌ تَحَمَّـلْتُ مِنهُ الأَذَى
وَيَا حَبّذَا مَنْ سَقَانِي الجَوَى = ونَبْضاً مِنَ الحُزْنِ مِنْهُ اغْتَذَى
غَـذَاهُ بِدَمْعٍ وقَلْبٍ بَكَى = عَلَى غُصْنِ رُوحٍ تَبُثُ الشَذى
تَرَاءَى لِعَيْنِي سَنَا عَيْنِهِ = وَهَلَّتْ عُيُـونِي: أَلاَ حَـبّذَا
تَمَلَّكَ مِنِّيْ سَلِيلُ الوِدَادِ = وقَلْبـيْ تَبَنّاهُ واسْـتَحْوَذَا
4
اشعار الأحوص غير العذرية
هو عبد الله بن محمد الأوسي الملقب (الأحوص)، وتعني ضيِّقَ العينين، من أهل المدينة، قيل أنَّه سكن دمشقَ، ومات فيها، فكان في شبابه طائشاً، يحب اللهو، وينظمُ الشِعر في شؤونه، كما يعتبر بعض النقاد، أنَّ الأحوص مهَّد لشعراء اللهو اللاحقين، أمثال بشار بن برد وغيره:
خَلِيلاَنِ بَاحَا بالهَوَى فَتَشَاحَنَتْ = أقاربُها في وَصلِها وأقَاربُهْ
ألا إنَّ أهوَى النَّاسِ قُرباً ورُؤيةً = وَرِيحاً إذا ما اللَّيْلُ غَارَتْ كَوَاكِبُهْ
ضجيعٌ دنا منِّي جذلتُ بقربهِ = فباتَ يُمنِّيني وبتُّ أعاتبُهْ
وَأُخْبِرُهُ فِي السِرِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ = بأنْ ليسَ شيءٌ عندَ نفسي يقاربُهْ
من أبيات الأحوص العذرية
مَا عَالَجَ النَّاسُ مِثْلَ الحُبِّ مِنْ سَقَمٍ = ولا برى مثلهُ عظماً ولا جَسَدا
ما يَلبثُ الحُبُّ أنْ تبدو شَواهِدهُ = مِن المُحِبِّ، وَإِنْ لَمْ يُبْدِهِ أَبَدَا
5
شعر غزل وليد بن يزيد في سليمى
هو أبو العبَّاس، الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، ولد في دمشق، وبُويع بالخلافة سنة 743م/125هـ، وكان ماجناً، مخموراً، ميالاً إلى النساء، واللهو، حكم سنةً وبعض السنة، ثم قُتِل.
لكن ما وصلنا من شعره إلا القليل، حيث تكاد تخلو قصائده إلا من المجون، والخمر، واللهو، كما أنَّ خلافاً حول حقيقة هذه الروايات يدور بين المؤرخين.
حيث كانت فترة الوليد من آخر فترات الدولة الأموية، فألَّفوا عليه القصص، ونحلو شعراً باسمه، لكن مهما يكن، فإنَّ شِعره امتاز بخطابات كثيرة لامرأةٍ واحدة، هي سمى، أو سليمى:
أرَانِي تَصابَيتُ وقدْ كُنتُ تَناهيتُ/ ولو يَترُكُني الحُبُّ لَقدْ صُمتُ وصَلَّتُ
إنْ شِئتُ تَبصَّرتُ ولمْ أبصِر لو شِيتُ/ لا والله لا يُصبِرُ في الدَّيمومةِ الحُوتُ
سُليمى؛ لَيسَ لي صَبرٌ وإنْ رَخَصَتْ جِيتُ/ فَقبلتُكِ ألفين وفَدَيتُ وحبَّيتُ
قصيدة إنما هاج قلبي بعد المشيب
إنَّما هاجَ لِقلبي شَجوُّهُ بَعدَ المَشيبِ/ نَظرةٌ قدْ وقَرَتَ في القِلبِ مِن أمِّ حبيبِ
فإذا ما ذُقتُ فاها ذُقتُ عَذباً ذا غُروبِ/ خَالطَ الرَّاح بِمِسكٍ خَالصٍ غَيرَ مَشوبِ
6
عرف العرب الغزل على مرحلتين رئيسيتين
أما الغَزَلُ؛ فقد عرفه العرب مع معرفتهم للشعر، واستهلوا به قصائدهم، لكن دلالاته، وأدواته، إضافة إلى مواضيعه، ومفرداته، اختلفت من زمنٍ إلى زمن، كما اختلف الشِعر كلُّه بين مرحلة تاريخية، وأخرى، شكلاً، ومضمونا.
فيذكر حنا الفاخوري في كتابه (تاريخ الأدب)، أن أعمدة الغزل "تطورت في العهد الأموي بشكل أساسي"، حيث أصبح للغزل قصائد مستقلة بذاتها، كما أنَّ لتطوره هذا مرحلتان أساسيتان:
المرحلة الأولى: الغزل البدوي
المعروفِ أيضاً بالغزل العفيف، أو الغزل العُذري، ومن أبطاله جميلُ بثينة، الذي اشتهر بشِعر الاشتياق، والغرام لابنة عمه بثينة، إضافة إلى مجنون ليلى، قيس بن الملوح، وشاعرة الغزل ليلى الأخيلِيَّة، حبيبةُ توبة بن حُمير.
حيث امتاز شِعر هذه المرحلة، بالتزام كل شاعر بحبيبٍ واحد، وهبهُ كلَّ قصائده، فضلاً عن امتياز القصيدة بالحشمة، التي تُمليها معاني الحبَ، والوجد، كذلك مفردات الاشتياق الروحي.
كما أنَّ هذا الغزل لم يتعلق بأوصاف الجسد، أو الوصال الجسدي، بل كان موضوعه دائماً اتصال العيون بالعيون، وفداء الحبيب بالغالي والنفيس، إضافة إلى ندب الفراقِ، وحتى الرثاء أحياناً، بإظهار الحزن على الحبيب الميت، وذكر محاسن صفاته.
فالقول إذاً؛ أنَّ هذا الشِعر كان وصفاً للخصال المعنوية في الحبيب، لم يمرَ فيه وصف الجسد بغاية جنسية، ونذكر من أبيات الغزل البدوي قول جميلِ بثينة:
فلو أرسَلتْ يَوماً بُثينةُ تَبتَغي = يَميني، وإنْ عَزَّتْ عَليَّ يَميني
لأعطيتُها ما جاءَ يَبغِي رَسولُها = وقلتُ لها بَعدَ اليَمينِ: سَليني
المرحلة الثانية: الغزل الحضري
وهو على العكس تماماً من الغزل البدوي، إنَّه النقيض المتكامل، حيث لم يلتزم شعراؤه بحبيبة بعينها، كما أنَّهم خلعوا عن القصيدة ثوبَ حشمتها، فصار الغزل عندهم للأجساد الملاح، خالياً من العاطفة إلا ما اقتضاه الشكل العام للقصيدة.
ولهذا النمط من الشِعر أسماء كثيرة، منها المدني، أو الحضري، إضافة إلى تسميته الغزل الحسي، أو الغزل الصريح، المباشر.
حيث تدل هذه التسميات على محتوى قصيدة الغزل الحضري، التي بالغت في وصف الجسد، والإشارات الجنسية، لكنَّها لم تبلغ مبلغاً يجعلها محظورةً تماماً، حيث حافظ شعراؤها على المجاز، والرمز.
ختاماً... على الرغم من الجدل القائم حول جواز الشِعر الإباحي، لكن الثابت أن هؤلاء الشُعراء، تركو أثراً في اللغة، وفي بنية الشِعر، ظلت تطارد الشِعراء اللاحقين حتى يومنا هذا.
ففي الشِعر الحديث، لقي الشاعر نزار قباني ما لقيه عمر بن أبي ربيعة، من هجوم، وتقريع، على تفصيله لمفاتن المرأة، وتفاصيل الاتصال الجسدي، إلا أن للقباني في الغزل المعنوي، مثل ما له في الإباحي، فهل هذا شفيع؟!
أما الصنف الثاني، ما اصطلح على تسميته الغزل العذري... وهو شعر حب وغزلٌ قويُّ العاطفة، حافلٌ بالشوق والحنين" د.كمال خلايلي في كتابه جمهرة روائع الغزل في الشِعر العربي.
للحُبِّ في اللغة العربية درجات؛ فليس الهوى مثل الصبوة، ولا الهيام، مثل الغرام، حيث أنَّ كلَّ لفظة تعبِّر عن مرحلة من مراحل الحُبّ، ومِن الحبِّ منابعُ الغَزَل، الذي له درجاته أيضاً.
فليس الغزل العُذري، واشتياق الروح للروح، كمثل الغزل الإباحي، أو الشعر عن الغزل الحسي، أو ما يسميه البعض الغزل الفاحش! وشوق الجسد إلى الجسد، إلا أنَّ القصيدة قد تجمعهما معاً، لا سيما في الشِعر الحديث.
في هذا البحث؛ سنحاول تسليط الضوء على معنى الغزل الإباحي، كما سنقارن بينه، وبين الغزل العذري، من خلال استعراض أهم شعراء الغزل، وأبرز قصائدهم.
1
الشعر الفاحش أو الإباحي
لم يعرف الغزل الإباحي رواجاً بين العرب، على الأقل ليس بالقدر الذي لاقاه الغزل العذري، لعدة اعتبارات؛ أهمها أن الشِعر جاب قصور الخلفاء والملوك، كما جاب الأسواق والبيوت، فلم يكن من اللائق استخدام الشِعر الجنسي.
كما أنَّ للعرب عاداتهم، وتقاليدهم، التي تقضي بإخفاء الشبق الجنسي عن العموم، وكتمانه، لكن لشعر الغزل الإباحي، دوره الكبيرة في تطوير الشعر العربي في ذلك العصر.
حيث ما يزال الشعراء يدرسون أسلوب أسلافهم الغزليين، أما أشهر شعراء الغزل الإباحي، فهم:
2
الغزل والحب العذري
من بين الأخطاء اللغوية الشائعة، إرجاع مصطلح الغزل العُذري إلى عذرية الأنثى، من منطلق أن حبيبها لم يدخل عليها خِدراً، ولم يرفع عنها سِتراً.
لكن الحقيقة في ذلك، أن كلمة (عُذري) مشتقةٌ من اسم قبيلة (عُذرة أو عُذرى) التي سكنت وادي القرى قرب المدينة المنورة.
واشتهر فيها شعراء الحبِّ الملتزمون، منهم جميل بثينة العذري، كما أنَّ منهم الصحابي إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، أما عذرية الأنثى (عذراء) فقد قال العرب "رملة عذراء" أي لم تُطأ بقدم.
والحشرة العذراء هي التي تخطت مرحلة الشرنقة، قبل أن تكتمل، لتصبح حشرة يافعة (بالغة) بعد الخروج من عذريتها، كما قالوا درَّةٌ عذراء أي غيرَ مثقوبة.
3
أشعار عمر بن أبي ربيعة في الغزل الماجن
هو عمر بن أبي ربيعة المخزومي، من بني مخزوم، الذين يعتبرون من سادة القوم في قريش، ولد سنة 23هـ/633م، حيث شبَّ مترفاً، بين الجواري، والحانات، لم تسلم من شرِّه امرأة، إلا وتغزل بها، وتفنن في وصفها.
وقيل أنَّه تاب آخر حياته، فما كانت توبته إلا أنَّ جسده قد شاخ وهرم، حيث كان يعود عن توبته كلَّما رأى حسناءً، فاستذكر فيها صباه.
لكن في نفس الوقت، لا يتوقع القارئ أنه سيجد من الإباحية كلاماً شديد البذاءة، إنما مجازٌ له إيحاءاتٌ بذيئة.
قصيدة ليتَ هِنداً أنجزتنا ما تَعِد
لَيتَ هِنداً أنجَزتنا ما تَعدْ = وشَفَتْ أنفُسَنا مِمَّا تَجِدْ
واستَبدَّتْ مرةً واحدةً = إنَّما العَاجزُ مَن لا يَستبِدْ
زَعَموها سَأَلَت جاراتِها = وَتَعَرَّت ذاتَ يَومٍ تَبتَرِدْ
أكَما يَنعَتُني تُبصِرنَني = عَمرَكُنَّ اللهَ، أَم لا يَقتَصِدْ؟
طَفلَةٌ بارِدَةُ القَيظِ إِذا = مَعمَعانُ الصَيفِ أَضحى يَتَّقِدْ
سُخنَةُ المَشتى لِحافٌ لِلفَتى = تَحتَ لَيلٍ حينَ يَغشاهُ الصَّرَدْ
حَدَّثوني أَنَّها لي نَفَثَت = عُقَداً يا حَبَّذا تِلكَ العُقَدْ
كُلَّما قُلتُ مَتى ميعادُنا = ضَحِكَت هِندٌ وَقالَت بَعدَ غَدْ
الشرح: هند بلغها من صاحباتها أنَّ الشاعر يصف مفاتنها، فسألتهم إن كان قد وصفها كما يرينها عاريةً "أكَما يَنعَتُني تُبصِرنَني" أما الـ معمان: هو شدة الحر، والصَّرد: هو البرد.
وهند بجسدها لا يخاف الفتى معه حر صيف، أو برد شتاء، أما في قوله (لي نَفَثَت عُقَداً) أي أنَّها أعدت له من ضروب السحر، فالنفث في العقد، هو السحر، والشعوذة.
قصيدة هروبٌ بعد الوصال
وفي واحدةٍ من أكثر قصائده فحشاً، يروي ابن أبي ربيعة نزوله على إحدى عشيقاته ليلاً، فلما قضى منها حاجته، كان الصبح قد اقترب، والناس بدأوا بالاستيقاظ، فحارت هي بأمرها، كيف يخرج من عندها؟.
فتستشير أختيها، اللاتي يعطينه ثيابهنَّ، ويطلبنَّ منه عدم العودة مرة أخرى إلى ديارهنَّ، فيهرب وفي باله ذكرى تلك الليلة، وتُدرَّسُ هذه القصيدة، لتَتَبُع التطور الدرامي في الشِعر العربي القديم، إضافة إلى الحوار، والسرد:
فَما راعَني إِلّا مُنادٍ: (تَرَحَّلوا)، = وَقَد لاحَ مَفتُوقٌ مِنَ الصُبحِ أَشقَرُ
فَلَمّا رَأَت مَن قَد تَنَبَّهَ مِنهُمُ = وَأَيقاظَهُم، قالَت: أَشِر كَيفَ تَأمُرُ
فَقُلتُ: أُباديهِم فَإِمَّا أَفوتُهُم، = وَإِمّا يَنالُ السَيفُ ثَأراً فَيَثأَرُ
فَقالَت: أَتَحقيقاً لِما قالَ كاشِحٌ عَلَينا وَتَصديقاً لِما كانَ يُؤثَرُ (كاشح: فتى كان يشك في علاقة عمرٍ، بهند، فدارت قصتهم على لسانه)
فَإِن كانَ ما لا بُدَّ مِنهُ فَغَيرُهُ = مِنَ الأَمرِ أَدنى لِلخَفاءِ وَأَستَرُ
أَقُصُّ عَلى أُختَيَّ بِدءَ حَديثِنا = وَما لِيَ مِن أَن تَعلَما مُتَأَخَّرُ
لَعَلَّهُما أَن تَطلُبا لَكَ مَخرَجاً = وَأَن تَرحُبا صَدراً بِما كُنتُ أَحصُرُ
فَقامَت كَئيباً لَيسَ في وَجهِها = دَمٌ مِنَ الحُزنِ تُذري عَبرَةً تَتَحَدَّرُ
فَقامَت إِلَيها حُرَّتانِ عَلَيهِما = كِساءانِ مِن خَزٍّ، دِمَقسٌ وَأَخضَرُ
فَقالَت لِأُختَيّها: أَعينا عَلى فَتىً = أَتى زائِراً وَالأَمرُ لِلأَمرِ يُقدَرُ
فَأَقبَلَتا فَاِرتاعَتا ثُمَّ قالَتا: = أَقِلّي عَلَيكِ اللَومَ فَالخَطبُ أَيسَرُ
فَقالَت لَها الصُغرى: سَأُعطيهِ مِطرَفي = وَدَرعي وَهَذا البُردُ إِن كانَ يَحذَرُ
يَقومُ فَيَمشي بَينَنا مُتَنَكِّراً فَلا سِرُّنا يَفشو وَلا هُوَ يَظهَرُ
فَكانَ مِجَنّي دونَ مَن كُنتُ أَتَّقي ثَلاثُ شُخوصٍ كاعِبانِ وَمُعصِرُ(الكاعب: الحسناء، المعصر: الفتاة الشابة)
فَلَمَّا أَجَزنا ساحَةَ الحَيِّ قُلنَ لي: = أَلَم تَتَّقِ الأَعداءَ وَاللَيلُ مُقمِرُ
وَقُلنَ: أَهَذا دَأبُكَ الدَّهرَ سادِرا أَما تَستَحي أَو تَرعَوي أَو تُفَكِّرُ (سادر: تائه أو غير مبالٍ)
إِذا جِئتِ فَاِمنَح طَرفَ عَينَيكَ غَيرَنا = لِكَي يَحسِبوا أَنَّ الهَوى حَيثُ تَنظُرُ
فَآخِرُ عَهدٍ لي بِها حينَ أَعرَضَت وَلاحَ لَها خَدٌّ نَقِيٌّ وَمَحجَرُ (المحجر: ما يحيط بالعين)
سِوى أَنَّني قَد قُلتُ يا نُعمُ قَولَةً لَها = وَالعِتاقُ الأَرحَبيّاتُ تُزجَرُ
هَنيئاً لِأَهلِ العامِرِيَّةِ نَشرُها = اللذيذُ وَرَيَّاها الَّذي أَتَذَكَّرُ...
شعر ابن أبي ربيعة العُذري
يتفق النقاد على أنَّ عمر بن أبي ربيعة، أغزلُ العرب حتى عصره، حيث كان من أبرز المجددين في الشِعر العربي آن ذاك، وربما أول من أفرد قصيدة للغزل، كموضوع مستقل.
كما أنَّه مرَّ على الغزل العذري في بعض أبياته، وإنْ تابعت القصيدة في فجورها، لكن أبياتاً حملت المعاني العذرية، العفيفة:
أَلاَ حَبّذَا، حَبّذَا، حَبّذَا = حَبِيْبٌ تَحَمَّـلْتُ مِنهُ الأَذَى
وَيَا حَبّذَا مَنْ سَقَانِي الجَوَى = ونَبْضاً مِنَ الحُزْنِ مِنْهُ اغْتَذَى
غَـذَاهُ بِدَمْعٍ وقَلْبٍ بَكَى = عَلَى غُصْنِ رُوحٍ تَبُثُ الشَذى
تَرَاءَى لِعَيْنِي سَنَا عَيْنِهِ = وَهَلَّتْ عُيُـونِي: أَلاَ حَـبّذَا
تَمَلَّكَ مِنِّيْ سَلِيلُ الوِدَادِ = وقَلْبـيْ تَبَنّاهُ واسْـتَحْوَذَا
4
اشعار الأحوص غير العذرية
هو عبد الله بن محمد الأوسي الملقب (الأحوص)، وتعني ضيِّقَ العينين، من أهل المدينة، قيل أنَّه سكن دمشقَ، ومات فيها، فكان في شبابه طائشاً، يحب اللهو، وينظمُ الشِعر في شؤونه، كما يعتبر بعض النقاد، أنَّ الأحوص مهَّد لشعراء اللهو اللاحقين، أمثال بشار بن برد وغيره:
خَلِيلاَنِ بَاحَا بالهَوَى فَتَشَاحَنَتْ = أقاربُها في وَصلِها وأقَاربُهْ
ألا إنَّ أهوَى النَّاسِ قُرباً ورُؤيةً = وَرِيحاً إذا ما اللَّيْلُ غَارَتْ كَوَاكِبُهْ
ضجيعٌ دنا منِّي جذلتُ بقربهِ = فباتَ يُمنِّيني وبتُّ أعاتبُهْ
وَأُخْبِرُهُ فِي السِرِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ = بأنْ ليسَ شيءٌ عندَ نفسي يقاربُهْ
من أبيات الأحوص العذرية
مَا عَالَجَ النَّاسُ مِثْلَ الحُبِّ مِنْ سَقَمٍ = ولا برى مثلهُ عظماً ولا جَسَدا
ما يَلبثُ الحُبُّ أنْ تبدو شَواهِدهُ = مِن المُحِبِّ، وَإِنْ لَمْ يُبْدِهِ أَبَدَا
5
شعر غزل وليد بن يزيد في سليمى
هو أبو العبَّاس، الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، ولد في دمشق، وبُويع بالخلافة سنة 743م/125هـ، وكان ماجناً، مخموراً، ميالاً إلى النساء، واللهو، حكم سنةً وبعض السنة، ثم قُتِل.
لكن ما وصلنا من شعره إلا القليل، حيث تكاد تخلو قصائده إلا من المجون، والخمر، واللهو، كما أنَّ خلافاً حول حقيقة هذه الروايات يدور بين المؤرخين.
حيث كانت فترة الوليد من آخر فترات الدولة الأموية، فألَّفوا عليه القصص، ونحلو شعراً باسمه، لكن مهما يكن، فإنَّ شِعره امتاز بخطابات كثيرة لامرأةٍ واحدة، هي سمى، أو سليمى:
أرَانِي تَصابَيتُ وقدْ كُنتُ تَناهيتُ/ ولو يَترُكُني الحُبُّ لَقدْ صُمتُ وصَلَّتُ
إنْ شِئتُ تَبصَّرتُ ولمْ أبصِر لو شِيتُ/ لا والله لا يُصبِرُ في الدَّيمومةِ الحُوتُ
سُليمى؛ لَيسَ لي صَبرٌ وإنْ رَخَصَتْ جِيتُ/ فَقبلتُكِ ألفين وفَدَيتُ وحبَّيتُ
قصيدة إنما هاج قلبي بعد المشيب
إنَّما هاجَ لِقلبي شَجوُّهُ بَعدَ المَشيبِ/ نَظرةٌ قدْ وقَرَتَ في القِلبِ مِن أمِّ حبيبِ
فإذا ما ذُقتُ فاها ذُقتُ عَذباً ذا غُروبِ/ خَالطَ الرَّاح بِمِسكٍ خَالصٍ غَيرَ مَشوبِ
6
عرف العرب الغزل على مرحلتين رئيسيتين
أما الغَزَلُ؛ فقد عرفه العرب مع معرفتهم للشعر، واستهلوا به قصائدهم، لكن دلالاته، وأدواته، إضافة إلى مواضيعه، ومفرداته، اختلفت من زمنٍ إلى زمن، كما اختلف الشِعر كلُّه بين مرحلة تاريخية، وأخرى، شكلاً، ومضمونا.
فيذكر حنا الفاخوري في كتابه (تاريخ الأدب)، أن أعمدة الغزل "تطورت في العهد الأموي بشكل أساسي"، حيث أصبح للغزل قصائد مستقلة بذاتها، كما أنَّ لتطوره هذا مرحلتان أساسيتان:
المرحلة الأولى: الغزل البدوي
المعروفِ أيضاً بالغزل العفيف، أو الغزل العُذري، ومن أبطاله جميلُ بثينة، الذي اشتهر بشِعر الاشتياق، والغرام لابنة عمه بثينة، إضافة إلى مجنون ليلى، قيس بن الملوح، وشاعرة الغزل ليلى الأخيلِيَّة، حبيبةُ توبة بن حُمير.
حيث امتاز شِعر هذه المرحلة، بالتزام كل شاعر بحبيبٍ واحد، وهبهُ كلَّ قصائده، فضلاً عن امتياز القصيدة بالحشمة، التي تُمليها معاني الحبَ، والوجد، كذلك مفردات الاشتياق الروحي.
كما أنَّ هذا الغزل لم يتعلق بأوصاف الجسد، أو الوصال الجسدي، بل كان موضوعه دائماً اتصال العيون بالعيون، وفداء الحبيب بالغالي والنفيس، إضافة إلى ندب الفراقِ، وحتى الرثاء أحياناً، بإظهار الحزن على الحبيب الميت، وذكر محاسن صفاته.
فالقول إذاً؛ أنَّ هذا الشِعر كان وصفاً للخصال المعنوية في الحبيب، لم يمرَ فيه وصف الجسد بغاية جنسية، ونذكر من أبيات الغزل البدوي قول جميلِ بثينة:
فلو أرسَلتْ يَوماً بُثينةُ تَبتَغي = يَميني، وإنْ عَزَّتْ عَليَّ يَميني
لأعطيتُها ما جاءَ يَبغِي رَسولُها = وقلتُ لها بَعدَ اليَمينِ: سَليني
المرحلة الثانية: الغزل الحضري
وهو على العكس تماماً من الغزل البدوي، إنَّه النقيض المتكامل، حيث لم يلتزم شعراؤه بحبيبة بعينها، كما أنَّهم خلعوا عن القصيدة ثوبَ حشمتها، فصار الغزل عندهم للأجساد الملاح، خالياً من العاطفة إلا ما اقتضاه الشكل العام للقصيدة.
ولهذا النمط من الشِعر أسماء كثيرة، منها المدني، أو الحضري، إضافة إلى تسميته الغزل الحسي، أو الغزل الصريح، المباشر.
حيث تدل هذه التسميات على محتوى قصيدة الغزل الحضري، التي بالغت في وصف الجسد، والإشارات الجنسية، لكنَّها لم تبلغ مبلغاً يجعلها محظورةً تماماً، حيث حافظ شعراؤها على المجاز، والرمز.
ختاماً... على الرغم من الجدل القائم حول جواز الشِعر الإباحي، لكن الثابت أن هؤلاء الشُعراء، تركو أثراً في اللغة، وفي بنية الشِعر، ظلت تطارد الشِعراء اللاحقين حتى يومنا هذا.
ففي الشِعر الحديث، لقي الشاعر نزار قباني ما لقيه عمر بن أبي ربيعة، من هجوم، وتقريع، على تفصيله لمفاتن المرأة، وتفاصيل الاتصال الجسدي، إلا أن للقباني في الغزل المعنوي، مثل ما له في الإباحي، فهل هذا شفيع؟!