أمبرتو إيكو - السعادة الحقيقية هي أن تذهب إلي الصيد لا أن تقتل الطائر.. نص محاضرة أمبرتو إيكو في مكتبة الإسكندرية - ت: جامعة الاسكندرية

فلقد كان هذا المكان في الماضي، كما هو في الحاضر، وكما سيكون في المستقبل، مكرسا للحفاظ علي الكتب، وبالتالي فإنه يعتبر، وسيعتبر كذلك في المستقبل، معبدا للذاكرة النباتية. فالمكتبات كانت عبر القرون وسيلة مهمة للحفاظ علي الحكمة الجماعية. وكانت ومازالت نوعا من العقل الكوني الذي يمكننا من خلاله استعادة ما نسيناه أو معرفة ما نجهل من الامور أو المعلومات. ولو سمحتم لي أن استخدم هذه الاستعارة، فإن المكتبة هي أفضل ما صممه العقل البشري لمحاكاة العقل الإلهي حيث تري فيها الكون بأكمله وتفهمه في ذات الوقت، فالإنسان الذي سيستطيع أن يخزن في عقله كل المعلومات التي تقدمها له مكتبة عظيمة يمكنه بصورة ما أن يضاهي عقل الله. أي أننا قد اخترعنا المكتبات لأننا نعرف أننا لانتمتع بقدرات إلهية ولكننا نحاول بكل ما أوتينا من قوة أن نحاكي هذه القدرات.

وان عملية بناء، أو لنقل إعادة بناء، واحدة من أعظم المكتبات في العالم قد تبدو تحديا كبيرا، فالمقالات التي تنشرها الصحف والأبحاث التي يقدمها بعض الباحثين الاكاديميين تتحدث كثيرا عن احتمال موت الكتاب وذلك في مواجهة عصر الكمبيوتر والإنترنت.

فلو كان لزاما علي الكتب أن تختفي، مثلما حدث لألواح الطين والمسلات التي تنتمي لحضارات عصور سحيقة لكان هذا سببا وجيها لإلغاء المكتبات. ولكن العكس صحيح فالكتب يجب ان تحيا كمتاحف تحفظ انتاج الماضي، تماما مثلما نحتفظ الآن في أحد المتاحف بحجر رشيد فقط لأننا لم نعد نحفر وثائقنا ونصوصنا علي أسطح معدنية، كما أن الإعجاب الذي أكنه للمكتبات سيحمل قدرا كبيرا من التفاؤل، وذلك لأنني أنتمي إلي تلك الحفنة من الناس التي مازالت تعتقد أن للكتاب المطبوع مستقبلا، وأن جميع المخاوف المتعلقة باختفائه ما هي إلا مثال آخر لبعض المخاوف المرعبة المتعلقة بانتهاء شيء ما، بما في ذلك انتهاء العالم.

ولقد كان لزاما علي في العديد من المقابلات أن أجيب عن أسئلة مثل: هل ستؤدي الوسائط الإلكترونية الجديدة الي موت الكتاب أو انقراضه؟ هل ستؤدي شبكة الإنترنت إلي موت الأدب؟ هل ستقضي حضارة النصوص ذات الروابط التي نجدها علي شبكة الإنترنت (hypertexts) علي فكرة ‘التأليف’؟ وكما ترون حضراتكم، لو كنتم تتمتعون بعقل طبيعي متزن فإن هذه أسئلة مختلفة، واذا أخذتم في الاعتبار الشعور بالخوف الذي نتجت عنه مثل هذه الأسئلة، فإن المرء يشعر أن المحاورين في هذه المقابلات أو اللقاءات يشعرون بالطمأنينة اذا كانت الاجابة ‘لا، اطمئنوا، الأمور علي ما يرام’. ولكن هذا خطأ، فلو أخبرتهم أن الكتب والأدب ومفهوم ‘التأليف’ لن تختفي، فسيبدو عليهم القلق. أين إذن السبق الصحفي والإثارة الصحفية؟ والواقع إنك اذا نشرت أن أحد الحاصلين علي جائزة نوبل قد توفي فإنك تصنع خبرا. أما اذا قلت إنه بخير ومازال علي قيد الحياة، فهذا الخبر لايهم أحدا إلا الشخص ذاته فيما أعتقد.

وان ما أود أن أفعله اليوم هو محاولة التعامل مع المخاوف المركبة المتعلقة بمشكلات مختلفة. فإن توضيح أفكارنا بخصوص هذه المشكلات يمكن أن يساعدنا في تحقيق فهم أفضل لما نعنيه بالكتاب، والنص، والأدب، والتفسير وما إلي ذلك من أمور. ولذلك فإننا سنري كيف أن سؤالا بسيطا يمكن أن يودي إلي اجابات حكيمة، وربما تكون هذه هي الفائدة الثقافية للمقابلات واللقاءات الساذجة.

ودعونا نبدأ بقصة مصرية علي الرغم من أن من يرويها أحد اليونانيين، فكما قال أفلاطون في Phaedrus عندما قدم هرميس أو Theut الذي يقال انه قد اخترع الكتابة، هذا الاختراع إلي الفرعون Thamus أثني الفرعون علي هذا الاسلوب غير المسبوق الذي من المفترض أنه يسمح للانسان أن يتذكر ما قد ينساه اذا لم يتم تسجيله كتابة. ولكن Thamus لم يكن سعيدا للغاية وقال ‘يا Theut الماهر، إن الذاكرة هبة عظيمة يجب ان نحافظ عليها عن طريق التدريب المستمر، أما طبقا لاختراعك فان الناس لن يضطروا إلي تدريب ذاكرتهم بعد الآن، لأنهم سيتذكرون الأشياء بسبب مساعدة اداة خارجية لابسبب جهد داخلي يقومون به‘.

ويمكننا أن نفهم قلق Thamus هذا، فالكتابة، مثلها في ذلك مثل أي اختراع تكنولوجي جديد، يمكن أن تؤدي إلي تقليص القدرة البشرية التي تتظاهر أنها تحل محلها أو تدعمها. فلقد كانت الكتابة تمثل خطرا ما لأنها قلصت قدرة العقل البشري عن طريق تقديمه للإنسان كروح مجمدة في صورة كاريكاتير، أو علي شكل ذاكرة معدنية.

وبالطبع فإن نص أفلاطون نص ساخر، فلقد كان أفلاطون يعبر عن رفضه للكتابة، ولكنه كان يتظاهر بأن هذه الرؤية قد قدمها سقراط الذي لم يكتب (وذلك لأنه لم ينشر أعماله حيث انه لقي حتفه في اثناء معركته الأكاديمية).

ولا يحمل أحد اليوم الهم الذي أرق Thamus وذلك لسببين بسيطين. أولا، إننا نعرف أن الكتب ليست وسيلة تجعل الآخرين يفكرون نيابة عنا، فالعكس هو الصحيح لأن الكتب عبارة عن آليات تؤدي إلي إثارة المزيد من الأفكار. فإنه فقط بعد هذا الاختراع الذي يسمي ‘الكتابة’ أصبح من الممكن أن تتم كتابة عمل رائع يصور الذاكرة العفوية مثل رائعة بروست Proust ‘البحث عن الزمن الضائع‘ La Recherche du Temps Perdu.

أما السبب الثاني فيتمثل فيما يلي، لو كان الناس قد احتاجوا في توقيت ما أن يدربوا ذاكرتهم علي تذكر الكتب، فالكتب تتحدي الذاكرة وتزيد من حدتها ولاتدمرها.

ولكن الفرعون في تلك القصة كان يعبر عن خوف أبدي: الخوف من أن يؤدي أي نجاح تكنولوجي جديد إلي قتل شيء كنا نعتبره في الماضي غاليا ومثمرا.

ولقد استخدمت الفعل ‘يقتل’ هنا عمدا، وذلك لأنه منذ أربعة عشر قرنا قدم لنا فيكتور هوجو Victor Hugo في روايته Notre Dame de Paris قسا يدعي كلود فرولو وهو ينظر بحزن إلي أبراج كاتدرائيته، وتدور أحداث هذه الرواية في القرن الخامس عشر بعد اختراع الطباعة. وقبل هذا التاريخ كانت المخطوطات تحفظ لتستخدمها الصفوة من المتعلمين، وكانت الوسيلة الوحيدة لتعليم العامة قصص الكتاب المقدس وحياة المسيح والقديسين والمباديء الاخلاقية بل وأحداث التاريخ القومي وبعض المفاهيم الأساسية في الجغرافيا والعلوم الطبيعية (مثل طبيعة الشعوب المجهولة بالنسبة لهم أو خصائص الأعشاب والصخور) تتمثل في صور الكاتدرائية، فلقد كانت الكاتدرائية في العصور الوسطي بمثابة برنامج تليفزيوني ثابت منوط به تعريف الناس بكل الأمور التي لاغني عنها في حياتهم اليومية وكذلك في سعيهم نحو الخلاص الابدي.

وفرولو لديه الآن كتاب مطبوع أمامه علي الطاولة ويردد هامسا: سيقتل هذا ذاك (أي سيقتل الكتاب الكاتدرائية، ستقتل الأبجدية الصور) فالكتاب سيصرف أنظار الناس واهتمامهم عن القيم المهمة كما أنه سيشجع وجود المعلومات غير الضرورية والتفاسير الحرة للكتاب المقدس وكذلك الفضول المجنون.

وفي الستينات كتب The Gutenberg GalaxyMarshall McL uhan (مجرة جوتنبرج) الذي أعلن فيه أن التفكير الأفقي الذي كان قد دعم وجوده اختراع الطباعة قد أصبح مهددا بالاستبدال بوسيلة أخري للإدراك والفهم أكثر عالمية تقدمها الصور في التليفزيون والآلات والأجهزة الإلكترونية الأخري. واذا كان McL uhan لم يشر بإصبعه إلي جهاز التليفزيون ثم إلي كتاب مطبوع ولم يقل: ‘هذا سيقتل ذاك’ فإن الكثيرين من قرائه قد فعلوا ذلك.

ولو كان ل McL uhan أن يبقي معنا وقتا أطول لكان أول من يكتب عملا يحمل عنوانا مثل: Gutenberg Strikes Back (جوتنبرج يرد). حقا ان الحاسب الآلي (الكمبيوتر) هو جهاز يستخدم لانتاج صور ثم تعديلها، وحقا يقدم هذا الجهاز التعليمات عن طريق أيقونات، ولكن هذا الجهاز قد أصبح كذلك أداة أبجدية، أكثر من كونه أي شيء آخر. فعلي شاشته تجد الكلمات والسطور، كما أنك يجب أن تكون علي دراية بالقراءة والكتابة حتي تستطيع أن تستخدم جهاز الحاسب الآلي.

فهل هناك فرق بين مجرة جوتنبرج الأولي ومجرته الثانية؟ نعم، هناك العديد من الفروق. أولا، لقد كانت مجرة جوتنبرج أول معالج كلمات أثري ينتمي إلي الثمانينات من القرن التاسع عشر ويقدم نوعا من التواصل المكتوب الأفقي. ولكن أجهزة الحاسب الآلي التي نراها اليوم تقدم ما هو أكثر من التواصل الأفقي، وذلك لأنها تقدم تركيبا لنصوص ذات روابط (hypertexts).

ومن الأمور الجديرة بالذكر هنا أن الحاسب الآلي عندما ظهر في الوجود لأول مرة كان عبارة عن آلة تستطيع فقط أن تقوم بخطوة واحدة تلو الأخري. وفي واقع الأمر فان هذا الجهاز مازال يعمل بنفس الطريقة علي مستوي لغاته الأساسية، أي يعمل علي أسس ثنائية، عبارة عن صفر واحد ثم صفر واحد وهكذا. ولكن مخرجات هذا الجهاز ليست مخرجات أفقية، فهي عبارة عن انفجار ألعاب نارية سميوطيقية، ونموذج هذه المخرجات ليس نموذجا أفقيا ولكنه عبارة عن نموذج مجرة حقيقية يمكن لكل فرد أن يصنع روابط غير متوقعة بين نجومها لتكوين صور سماوية جديدة مع كل بحث جديد.

وعند هذه النقطة بالضبط يجب أن تبدأ عملية الكشف التي نهتم بها هنا، وذلك لأننا نعني ظاهرتين مختلفتين تماما عندما نتحدث عن تركيب النصوص ذات الروابط الإلكترونية (Hypertextual Structure).

1- استخدام الروابط في داخل النص التقليدي Contextual Hypertext ففي كتاب تقليدي علي المرء أن يقوم بالقراءة من اليسار إلي اليمين (أو من اليمين إلي اليسار أو من أعلي إلي أسفل وذلك طبقا للثقافات المختلفة) في شكل أفقي. ويمكن للمرء بالطبع أن يقفز عبر الصفحات فبعد أن يصل إلي الصفحة رقم 300 يمكنه أن يعود لقراءة شيء ما أو للتحقق من أمر ما في الصفحة رقم 10 ولكن مثل هذا العمل يتضمن مجهودا بدنيا. أما النص الذي يحتوي علي روابط إلكترونية فهو عبارة عن شبكة متعددة الأبعاد أو متاهة يمكن لكل نقطة فيها أو لأي طرف أن يلتقيا مع أي نقطة أخري أو طرف آخر.

2 - النصوص ذات الروابط التي توجد في إطار ما: وتعد شبكة الإنترنت العالمية (www) أم جميع النصوص ذات الروابط الإلكترونية (Hypertexts)، فهذه الشبكة عبارة عن مكتبة تغطي العالم وتنتشر فيه بأسره، ويمكنك عن طريقها وفي وقت قصير أن تحصل علي كل الكتب التي ترغب في الحصول عليها. فشبكة الإنترنت هي النظام العام الذي يحوي في إطاره جميع النصوص ذات الروابط الإلكترونية (Hypertext) الموجودة في العالم.

وإن هذا الفرق بين ‘النص’ و ‘النظام’ هو فرق مهم للغاية، وسنعود للحديث عنه بعد لحظات، أما الآن فدعوني أتعامل مع أكثر الأسئلة التي تطرح في هذا الصدد سذاجة حيث أن هذا الفرق غير واضح بعد في هذا السؤال، ولكن الإجابة عن هذا السؤال الأول ستمكننا من توضيح النقطة التالية التي نعني بها.

وهذا السؤال الساذج هو: هل ستؤدي الأقراص الإلكترونية التي تحمل هذه النصوص ذات الروابط (Hypertext) وشبكة الإنترنت ونظم الوسائط المتعددة إلي إنقراض الكتاب؟ ولقد وصلنا بهذا السؤال إلي الفصل الختامي في قصة ‘سيقتل هذا ذاك‘.

ولكن حتي هذا السؤال قد يؤدي إلي شيء من الخلط. حيث أنه يمكن صياغته علي نحوين مختلفين: أ) هل الكتب كأشياء مادية ستختفي؟ ب) هل الكتب كأشياء افتراضية ستختفي؟

ودعوني أولا أجيب عن السؤال الأول.

إنه حتي بعد إختراع الكتابة لم تكن هي الوسيلة الوحيدة التي نحصل منها علي المعلومات.. فلقد كان هناك كذلك اللوحات والصور المطبوعة المنتشرة والتعليم الشفهي و غيرها، ولكن الكتب قد أثبتت أنها أكثر المصادر ملاءمة لنقل المعلومات.

وهناك نوعان من الكتب: تلك التي نقرأها وتلك التي نرجع إليها، وبخصوص تلك الكتب التي نقرأها فإن الاسلوب الذي نتبعه معها يمكنني أن أصفه علي أنه يشبه قصة بوليسية، فإنك تبدأ قراءة الصفحة رقم 1 التي يخبرك فيها الكاتب أنه قد تم ارتكاب جريمة، ثم تتتبع جميع مسارات البحث حتي النهاية ، وفي النهاية تكتشف أن المجرم هو كبير الخدم، وهذه هي نهاية الكتاب كما أنها نهاية عملية القراءة . ولتلاحظوا هنا أن مثل هذه العملية تحدث حتي عندما تقرأ مقالا فلسفيا، فالكاتب يريد منك أن تفتح الكتاب علي صفحته الاولي وأن تتتبع سلسلة من الأسئلة التي يطرحها لتري ما إذا كان قد خلص إلي إجابات محددة عنها، وبالطبع فإن الباحثين يمكنهم أن يعيدوا قراءة هذا المقال عن طريق القفز من صفحة إلي أخري في محاولة لتحديد العلاقة بين مقولة طرحت في الفصل الأول وأخري قدمت في الفصل الأخير. كما يمكنهم أيضا أن يحددوا جميع الأماكن التي ورد بها ذكر كلمة ‘أفكار’ مثلا في عمل ما، وبالتالي فإنهم بذلك يقفزون عبر مائة صفحة من أجل أن يركزوا فقط علي الأجزاء أو الفقرات التي تتناول هذا المفهوم، ولكن أسلوب القراءة هذا اسلوب قد يعتبره العامة اسلوبا غير مألوف أو مفتعل.

ثم هناك الكتب التي نرجع إليها، مثل المراجع والموسوعات، فالموسوعات قد تم إعدادها لنرجع إليها دائما لا لنقرأها بأكملها. فالشخص الذي يقرأ الموسوعة البريطانية (Britannica) قبل أن يذهب إلي النوم مثلا يعد بالقطع شخصية كوميدية، فعادة ما يختار المرء أحد مجلدات الموسوعة ليعرف أو ليتذكر تاريخ وفاة نابليون أو كيفية تركيب حمض الكبريتيك، أما الباحثون فيستخدمون الموسوعات بطريقة أكثر تعقيدا، فمثلا لو كنت أريد أن أعرف ما إذا كان ممكنا لنابليون أن يكون قد إلتقي بكانط، يكون علي أن أذهب إلي المجلد ‘كاف’ والمجلد ‘نون’ من مجلدات الموسوعة، وعندئذ سأكتشف أن نابليون قد ولد في 1769 وتوفي في 1821، أما كانط فقد ولد في 1724 وتوفي في 1804 اي عندما كان نابليون امبراطورا بالفعل.. وبالتالي فإنه ليس من المستحيل ان يكونا قد التقيا، وربما يكون علي ان اراجع سيرة حياة كانط او نابليون¬ ولكن في سيرة مختصرة لحياة نابليون الذي التقي بالعديد من الشخصيات ربما لايأتي ذكر للقاء يكون قد تم بينه وبين كانط، اما في سيرة لحياة كانط فيجب ذكر لقائه بنابليون، لو ان هذا اللقاء كان قد تم بالفعل. وفي هذه الحالة يجب علي ان اتصفح كتبا كثيرة فوق ارفف عديدة في مكتبتي، ويجب ان اقوم بكتابة بعض النقاط لاقارن لاحقا بين جميع البيانات التي قد جمعتها، وبالتالي فإن مثل هذا العمل سيكلفني مجهودا بدنيا مؤلما.

اما لو كان لدي نص ذو روابط الكترونية ‘hypertexts فإنني أستطيع أن أبحث واتجول في جميع أنحاء الموسوعة، ويكنني أن أربط بين حدث يأتي ذكره في البداية وأحداث اخري مشابهة له يأتي ذكرها عبرالنص، ويمكنني ان أقارن بين البداية والنهاية، كما يمكنني أن أعطي أمرا بتكوين قائمة بجميع الكلمات التي تبدأ بحرف ‘ألف’ أو بجميع المواقف والأحداث التي يأتي فيها ذكر اسم نابليون مرتبطا باسم كانط، ويمكنني أن أقارن بين تاريخ ميلاد كل منهما وتاريخ وفاته، اي انه يمكنني القيام بمهمتي في غضون ثوان أو دقائق معدودة.

وإن النصوص ذات الروابط الإلكترونية (hypertexts) ستؤدي حتما الي اختفاء الموسوعات والمراجع، فبالأمس كان من الممكن الحصول علي موسوعة كاملة في قرص مضغوط، اما اليوم فقد اصبح من الممكن الحصول علي هذه الموسوعة علي شبكة الانترنت عند الاتصال بها، مع ميزة انها تسمح لنا بالقيام بالربط بين اجزاء في داخل النص وباستعادة المعلومات في صورة غير افقية، وان جميع الاقراص المضغوطة الي جانب جهاز الحاسب الالي ستحتل مساحة تصل الي 5 /1 المساحة التي تحتلها الموسوعة المطبوعة، كما انه لايمكنك ان تنقل الموسوعة المطبوعة من مكان الي اخر بسهولة مثلما تنقل قرصا مضغوطا، هذا الي جانب انه لايمكن تحديث الموسوعة المكتوبة بسهولة. وان الارفف الموجودة في بيتي وكذلك تلك التي تجدها في المكتبات العامة تحتلها امتار وامتار من مجلدات الموسوعات التي يمكن الاستغناء عنها في المستقبل، ولن يكون هناك سبب يجعلنا ننعي اختفاءها ودعونا نتذكر هنا ان امتلاك موسوعة متعددة المجلدات يعد حلما صعب المنال بالنسبة لكثير من الناس ليس فقط لارتفاع ثمنها ولكن ايضا لتكلفة المكان المطلوب لاقامة الارفف التي ستستقر عليها هذه المجلدات فانا شخصيا اتمني ان يكون لدي في منزلي المجلدات التي يصل عددها الي 221 مجلدا من عمل micne الموسوعي الذي يحمل عنوان petrologic latino وذلك بما انني بدأت كمتخصص في دراسات العصور الوسطي. وبالرغم من تكلفة ذلك فإنني استطيع ان ادفع ثمنها، ولكنني لا استطيع ان اقوم بشراء شقة جديدة لاخزن فيها 221 مجلدا ضخما بدون ان اضطر الي التخلص مما يقرب من 500 كتاب اخر.

فهل يمكن لقرص يحمل نصا ذيا روابط الكترونية hypertext او لشبكة الانترنت العالمية ‘www ان يحلا محل الكتب التي نقرأها؟ مرة اخري يجب ان نحدد ما اذا كان السؤال يعني بالكتاب كشيء مادي او كشيء افتراضي. ومرة اخري دعونا نناقش الجانب المادي اولا.

الخبر السار هو ان الكتب ستبقي ولن نستغني عنها، ليس في الادب فقط بل في جميع الحالات التي يحتاج فيها المرء للقيام بقراءة دقيقة لنص ما، ليس فقط ليحصل منه علي معلومات ولكن ليفكر في المعلومات التي يقدمها له الكتاب ويتأملها. وان قراءة شاشة جهاز الحاسب الآلي تختلف عن قراءة كتاب. ولننظر مثلا الي عملية تعلم برنامج جديد للحاسب الالي ‘كمبيوتر’، وعادة مايكون البرنامج قادرا علي ان يعرض علي الشاشة كل التعليمات التي تحتاجها. ولكن المستخدمين للجهاز الذين يودون تعلم البرنامج عادة يطبعون التعليمات ويقرءونها كما يقرءون اي كتاب مطبوع او يشترون دليل استخدام هذا البرنامج ومن الممكن ان نتخيل برنامجا مرئيا يشرح جيدا كيفية طباعة كتاب وتغليفه، ولكن للحصول علي تعليمات بخصوص كيفية كتابة برنامج كمبيوتر او تعلمه نحتاج الي كتاب ارشادات مطبوع.

وبعد قضاء 12 ساعة امام جهاز الكمبيوتر ‘الحاسب الالي’ تتحول عيناي الي كرتي تنس واشعر انني في حاجة الي ان اجلس مسترخيا في مقعد وثير لاقرأ جريدة او ربما قصيدة جيدة وانني اعتقد ان اجهزة الحاسب الالي تنشر نوعا جديدا من التعلم ولكنها لاتستطيع ان ترضي الاحتياجات الفكرية التي تثيرها لدي الانسان.

وارجو ان تتذكروا ان الحضارتين العبرية والعربية الاولي كانتا تقومان علي كتاب، وهذا لا ينفصل عن الطبيعة البدوية لهاتين الحضارتين ولكن المصريين القدماء استطاعوا ان يحفروا نصوصهم وسجلاتهم علي مسلات من الحجر في حين ان موسي ومحمد عليهما الصلاة والسلام لم يكن في استطاعتهما ذلك. كما انك اذا اردت ان تعبر البحر الاحمر او تهرب من شبه الجزيرة العربية الي اسبانيا او تتجه شرقا، فان اللفائف تعد بالقطع طريقة افضل من المسلة او الاحجار لنقل نص القرآن او الكتاب المقدس المكتوب. ولذلك فإن هاتين الحضارتين اللتين قامتا علي كتاب مكتوب فضلتا الكتابة علي الصور.

وللكتب ميزة اخري عن اجهزة الحاسب الالي، فحتي لو كانت هذه الكتب مطبوعة علي الاوراق الحمضية الحديثة التي تعيش لمدة سبعين عاما فقط او مايقرب من ذلك، فان هذه الكتب تفوق عمرها الافتراضي كثيرا العمر الافتراضي للأدوات الممغنطة كما انها ‘اي الكتب المطبوعة’ لاتتأثر بنقص التيار الكهربائي او انقطاعه، وتقاوم الصدمات بشكل افضل، والي الان مازالت الكتب اكثر وسائل نقل المعلومات مرونة ومتانة كما انها اقلها تكلفة.

وان المعلومات التي تنتقل عن طريق اجهزة الحاسب الالي تسبقك، اما الكتب فتسافر معك وفقا لسرعتك، ولو حدث ان تحطمت بك السفينة في جزيرة منعزلة، لا تستطيع فيها ان تجد مصدرا للتيار الكهربائي لتشغيل جهاز الحاسب الالي، فإن الكتاب يعد اداة لاتقدر بثمن فحتي لو كان جهاز الحاسب الالي الخاص بك به بطاريات تشحن بالطاقة الشمسية فإنك لاتستطيع ان تقرأ بسهولة وانت تتمدد فوق شبكة معلقة بين شجرتين، فالكتب مازالت افضل رفيق اذا تحطمت سفينتك علي شاطيء جزيرة منعزلة او في اليوم التالي. فالكتب تنتمي الي مجموعة الاشياء التي لم تتعرض للمزيد من التطوير بعد اختراعها وذلك لانها في احسن حال علي ماهي عليه منذ اختراعها مثلها مثل المطرقة، السكين والمعلقة والمقص.

ولكن هناك اختراعين جديدين اوشكا ان يستغلا صناعيا، اولهما الطباعة عند الطلب اي انه لو تم القيام بعملية المسح الضوئي للكتب الموجودة في العديد من المكتبات او دور النشر، يمكن للقاريء ان يختار الكتاب الذي يحتاجه، ويقوم العامل بالضغط علي زر ما فيقوم الجهاز بطباعة نسخة واحدة من الكتاب، وللقاريء ان يختار نوع الخط المستخدم عند طباعة الكتاب، وبعد ذلك يتم تغليفه.

وحتما فإن هذا سيغير سوق النشر تماما، وربما يؤدي الي محو مال الكتب من الوجود، ولكنه لن يؤدي الي محو الكتب من الوجود، كما انه لن يلغي وجود المكتبات، فهذه هي الاماكن الوحيدة التي يمكن ان تجد فيها الكتب التي سيتم مسحها ضوئيا ثم طباعتها فيما بعد فالامر ببساطة يتمثل في ان كل كتاب سيتم اعداده طبقا لرغبات المشتري، تماما مثلما حدث بالنسبة للمخطوطات القديمة.

اما الاختراع الثاني فهو الكتاب الالكتروني الذي نحصل عليه عن طريق ادخال شريحة اليكترونية في جهاز الحاسب الالي او عن طريق ربطه بشبكة الانترنت، ثم طباعة الكتاب علي اوراق. وفي هذه الحالة ايضا يمكن ان نحصل علي كتاب، ولكنه يختلف عن كتابنا الحالي تماما مثلما اختلف كتابنا عن لفائف المخطوطات، ومثلما تختلف اول نسخة لاعمال شكسبير المطبوعة في عام 1623 عن احدث طبعة لاعماله اصدرتها دار بنجوين. ولكن حتي هذه اللحظة لم يثبت الكتاب الالكتروني نجاحه بصورة تجارية كما تخيل من اخترعوه، كما انه قد نمي الي علمي ان بعض قراصنة الحاسب الالي ‘الكمبيوتر’، هؤلاء الذين نموا وترعرعوا في عصر الحاسب الالي ‘الكمبيوتر’، والذين لم يعتادوا تصفح الكتب، قد قرءوا امهات الاعمال الادبية في صورة كتب الكترونية، ولكن في ظني مازالت هذ الظاهرة محدودة للغاية، فيبدو ان الناس يفضلون قراءة قصيدة او راوية مطبوعة بالصورة التقليدية. وربما تحقق الكتب الالكترونية نجاحا كمصادر للبحث عن معلومات ما، شأنها في ذلك شأن المعاجم او الوثائق المميزة، وربما تعين الطلاب الذين يكون لزاما عليهم ان يحملوا عشرات الكتب عندما يذهبون الي المدرسة، ولكن الكتب الالكترونية لن تصلح كبديل للكتب التي نحب ان نصطحبها معنا الي الفراش عند النوم.

كما ان هناك العديد من الاختراعات التكنولوجية التي لم تؤد الي انقراض ما سبقها من اختراعات، فالسيارة مثلا اسرع من الدراجة ولكنها لم تتسبب في انقراض الدراجة، كما انه ليست هناك تكنولوجيا لتطوير الدراجة عما كانت عليه من قبل. وان هذه الفكرة القائلة بأن التكنولوجيا الجديدة تمحي من الوجود كل ماسبقها فكرة بسيطة وساذجة. فبعد اختراع التصوير الفوتوغرافي مثلا، لم يشعر الرسامون ان عليهم تقديم تصوير دقيق للواقع، ولكن هذا لايعني ان اختراع daguerre شجع الرسم المجرد فقط، فهناك اتجاه فني حديث بأكمله لايمكن له ان يوجد بدون النموذج الفوتوغرافي، ولنتذكر هنا مثلا hyper-realism حيث تري عين الفنان الواقع من خلال عين فوتوغرافية.

وهذا يعني انه في تاريخ الثقافة لم يحدث ان قام شيء مابقتل شيء اخر، ولكن كان هناك شيء يغير بصورة جذرية شيئا اخر.

ولنختم القول هنا بخصوص عدم اتساق فكرة الاختفاء المادي للكتب، دعونا نقول ان القلق بهذا الشأن يمتد الي كل المواد المطبوعة بصفة عامة ولايقتصر علي الكتب فقط. فلو كان للمرء ان يأمل ان تقوم اجهزة الحاسب الالي وخاصة معالج الكلمات بالاسهام في انقاذ الاشجار¬ وياله من امل¬ فللأسف شجعت اجهزة الحاسب الالي انتاج المواد المطبوعة، فهذه الاجهزة تخلق انماطا جديدة من انتاج الوثائق المطبوعة ونشرها. فلابد من طباعة النصوص حتي نتمكن من قراءتها مرة اخري وتصحيحها بصورة دقيقة، فلو لم تكن هذه النصوص مجرد خطابات قصيرة يكون لزاما علينا ان نطبعها حتي نستطيع ان نعيد قراءتها ونصوب الاخطاء الموجودة بها باستخدام جهاز الكمبيوتر ثم طباعتها مرة اخري، فلا اظن انه يمكن للمرء ان يكتب نصا في مئات الصفحات ويصوب الاخطاء به بدون ان يعيد طباعته عدة مرات.

ولكن الان هناك hypertextual poetics التي يمكن ان تحول عن طريقها اي كتاب او اية قصيدة الي نص ذي روابط الكترونية hypertext وهنا ننتقل الي السؤال التالي طالما ان المشكلة لم تعد ‘او ليست فقط’ مشكلة مادية، ولكنها تعني بطبيعة النشاط الابداعي ذاتها، وكذلك بعملية القراءة. وحتي نستطيع التعامل مع مثل هذا النوع من الاسئلة علينا اولا ان نقرر او نحدد مانعني بالرابطة الالكترونية ‘hypetextual.

ولاحظوا هنا انه لو كان هذا السؤال يدور حول امكانية وجود تفسيرات غير محددة او لا نهائية يقوم بها القاريء للنص فإنه لايتعلق بالمشكلة التي نناقشها هنا الا بصورة طفيفة. فإن هذا السؤال يمكن ان يكون ذا علاقة بأسلوب جويس ‘joyce.s poetics فقد كان يعتقد ان روايته finnegan.s wake هي نص يقراه قاريء نموذجي متأثرا بالارق النموذجي

ومثل هذه الموضوعات تتعلق بحدود التفسير وبحالات القراءة التفكيكية وحالات التفسير الذي يتسم بالمبالغة، ولقد خصصت بعض اعمالي لمناقشة هذه الاشكاليات.ولكن الموضوع قيد البحث الان يتمثل في دراسة تلك الحالات التي يكون فيها تفسير النصوص غير محدود او علي الاقل تكون هذه النصوص قابلة لتفسيرات كثيرة لابسبب قدرات القاريء ومبادرته ولكن بسبب قدرة النص المادية الفيزيقية علي التحرك، هذا النص الذي تم انتاجه فقط لتتم اعادة كتابته مرة اخري.

وحتي نستطيع ان نفهم كيفية تفاعل النصوص التي لها هذه الطبيعة علينا ان نحدد ما اذا كان العالم النصي الذي نناقشه هنا عالما محدودا ولانهائيا، ام محدودا ولكن لانهائي بالفعل، ام لانهائيا ولكن محدود، ام غير محدود ولانهائيا؟

اولا، علينا ان نفرق بين النظم والنصوص، فالنظام ‘علي سبيل المثال النظام اللغوي’ عبارة عن جميع الاحتمالات التي تقدمها لغة انسانية ما، فهناك عدد محدود من القواعد النحوية التي تمكن المتحدث بهذه اللغة من ان ينتج عددا لانهائيا من الجمل، ويمكن في اطار هذا النظام تفسير كل وحدة لغوية من خلال علاقتها بوحدات لغوية اخري او بعلامات ما، فيمكن لكلمة ما ان تكون تعريفا او حدثا يقدم مثلا او حيوانا او زهرة من خلال صورة ما وهلم جرا ولننظر الي اي معجم موسوعي عادي، فيمكنه ان يعرف الكلب علي انه حيوان ثديي، ثم يكون عليك ان تنتقل للبحث عن الكلمة ‘ثديي’، ولو كانت الثدييات تعرف هنا علي انها حيوانات يكون لزاما عليك ان تبحث عن كلمة ‘حيوان’ ‘حيوانات’ وهكذا وفي نفس الوقت يمكن توضيح خصائص الكلاب عن طريق عرض صور لكلاب من مختلف الانواع، ولو قلنا ان نوعا معينا منها يعيش في lapiand فيجب ان نبحث عن lapiand لنعرف اين توجد فالنظام محدود والموسوعة محدودة من الناحية المادية، ولكنها في واقع الامر غير محدودة بمعني انه يمكنك ان تتجول في أرجائها في حركة دائمة تدور في شكل حلزوني إلي ما لانهاية. وعلي هذا فإن كل الكتب قد تمت صياغتها في ظل معجم جيد وفي اطار نحو رصين فلو كنت تستطيع ان تستخدم المعجم الانجليزي جيدا فانك تستطيع ان تكتب مسرحية ‘هاملت’ ولكن شخصا قد سبقك في القيام بهذه المهمة بمحض الصدفة فلو اعطيت هذا النظام الذي يقوم علي الروابط الالكترونية hypertextual لطالب في المدرسة ولشكسبير سيكون لدي كل منهما فرصة متساوية لانتاج نص مسرحية romeo and juliet

فالنحو والمعاجم والموسوعات ماهي إلانظم، فاذا استخدمها المرء انتج كل النصوص التي يرغب في انتاجها ولكن النص ليس نظاما لغويا او موسوعيا فالنص يقوم بتقليص هذه الاحتمالات اللانهائية اللامحدودة ليصنع عالما مغلقا فلو قلت مثلا ‘هذا الصباح تناولت.. في الافطار فان المعجم يقدم لي قائمة بالعديد من المفردات المناسبة شريطة ان تكون كلها من مواد عضوية، ولكنني لو قدمت نصي بصورة محددة وقلت ‘هذا الصباح تناولت الجبن والزبد في الافطار فانني قد استبعدت الجبن والكافيار والبسطرمة والتفاح، فالنص يقلص الاحتمالات اللانهائية التي يقدمها النظام، فعلي سبيل المثال يمكن تفسير نص ‘الف ليلة وليلة’ علي عدة اوجه ولكن مكان الاحداث هو الشرق الاوسط وليس ايطاليا، كما ان هذه القصص تدور حول حكايات علي بابا او شهرزاد ولكنها لاتتعلق بصياد يسعي الي اصطياد حوت ابيض او شاعر من tuscan يزور الجحيم او المطهر او الجنة.

ولننظر مثلا إلي إحدي القصص الخيالية ولتكن قصة ‘ذات الرداء الأحمر’ تتمثل نقطة بداية النص في معطيات محددة كالشخصيات والمواقف ‘الفتاة الصغيرة، الأم، الجدة، الذئب، الغابة’ وتتطور الأحداث من خلال خطوات محدودة لتصل القصة إلي نهاية، وبالطبع يمكنك أن تنظر إلي هذه القصص الخيالية علي أنها قصة أخلاقية رمزية وتعطي الأحداث وتصرفات الشخصيات أبعادا أخلاقية، ولكنك لا تستطيع أن تحول ‘ذات الرداء الأحمر’ إلي ‘سندريلا’، أما FINNEGAN’S WAKE فهي قطع مفتوحة للتفسيرات المتعددة، ولكنها بالطبع لن تقدم للقاريء توضيحا ل FERMATS THEOREM أو ببليوجرافيا (BIBLIOGRAPHY كاملة لوودي آلن. ويبدو أن مثل هذا الامر غير جدير بالاهتمام، ولكن الخطأ الفظيع الذي وقع فيه التفكيكيون تمثل في اعتقادهم بأنك تستطيع أن تفعل ما تريد بالنص، وإن هذا الاعتقاد زائف وباطل تماما.

ولنفترض معا أن نصا محدودا ومحددا قد تم تصميمه بصورة تقوم علي الروابط الالكترونية Hypertextualy ، وذلك عن طريق وضع عدد كبير من الروابط inks l التي تربط بين الكلمات التي يمكن أن تكون جزءا من تعريف كلمة ‘ذئب‘ .

كلمة ‘ذئب’ ترتبط بكلمات مثل : ‘حيوان’ و’ثديي’ و’مفترس’ و’أرجل’ و’فراء’ و’غابات’ وأسماء البلاد التي تعيش فيها الذئاب….’.

أما في ‘ذات الرداء الاحمر’ فيمكن لكلمة ‘ذئب’ أن ترتبط فقط بتلك الاجزاء الموجودة في النص التي تذكره صراحة أو التي يظهر فيها، وهنا يكون عدد الروابط الالكترونية link الممكنة محدودا ومحددا.

فكيف اذن يمكن لاستراتيجيات النصوص ذات الروابط الالكترونية hypertextual أن تستخدم بغرض تحويل نص محدود ومحدد إلي نص مفتوح؟

الامكانية الاولي تتمثل في جعل النص غير محدود فيزيقيا وماديا، بمعني أن القصة يمكن أن تصبح أكثر ثراء عن طريق اسهامات متتالية ومتعددة يقوم بها كتاب مختلفون ويتم ذلك بصورة مزدوجة أي بشكل مزدوج الابعاد أو ثلاثي الابعاد، والمثل الذي أقدمه هنا هو ‘ذات الرداء الاحمر’، فالكاتب الأول لهذه القصة يقدم موقفا يمكن أن ننظر إليه علي أنه البداية ‘تدخل الفتاة الصغيرة إلي الغابة’ ويمكن للاسهامات المختلفة أن تطور هذه القصة، إسهاما بعد الآخر، فمثلا يمكن للفتاة ألا تقابل الذئب ولكن تقابل علي بابا بدلا منه، ويدخلان معا قلعة مسحورة، ويقابلهما هناك تمساح سحري وهكذا، بحيث تستطيع القصة أن تستمر لسنوات كما أنها يمكن أيضا أن تكون غير محدودة بمعني أنه عند كل نقطة تحول ‘مثلا عند النقطة التي تدخل فيها الفتاة الصغيرة الي الغابة’ يمكن أن يقدم عددا كبيرا من الكتاب اسهاماتهم التي تمثل اختياراتهم المختلفة ‘فيجعلها أحدهم تقابل بينوكيو أو يحولها أحدهم إلي بجعة أو يجعلها آخر تدخل إلي الاهرامات وتكتشف كنز ابن توت عنخ آمون‘.

يمكن لهذا التصور أن يتحقق اليوم بل انك تجد الآن علي شبكة الانترنت أمثلة مثيرة تمثل هذا النوع من الالعاب الادبية. ويمكن هنا للمرء أن يتساءل حول امكانية بقاء مفهوم ‘التأليف’ بمعني أن الكاتب لنص ما يقوم بعملية الكتابة والتأليف بأكملها ، كما أن هناك سؤالا آخر يفرض نفسه بخصوص مفهوم العمل الادبي كتركيب يتمتع بوحدة عضوية، وانني أود أن أوضح للجمهور ببساطة أن هذه الظاهرة قد وجدت في الماضي بدون أن يهز ذلك مفهوم التأليف أو التراكيب التي تتمتع بوحدة عضوية، وإن أول مثل أذكره هنا هو ال COMMEDIA DELL ARTE : ففي هذه الحالة يضيف كل عرض إلي القصة الاساسية شيئا مختلفا بحسب مزاج الممثلين وخيالهم، وبالتالي لا يمكن هنا التعرف علي عمل فني بذاته ينسب إلي كاتب بعينه ونطلق علي هذا العمل مثلا ARLECCHINO SERVO DI DUE PADRONI.

ولكن يمكننا فقط أن نسجل سلسلة من العروض ضاع معظمها وكل منها يختلف عن الآخر، أما المثل الآخر الذي اذكره فهو عروض حفلات الجاز، وإننا قد نؤمن بأن هناك عرض مميز ل BASIN STREET BLUES وذلك بسبب وجود تسجيل لآخر هذه العروض، ولكننا نعرف أن هذا غير صحيح. فلقد كان هناك عدد من ال BASIN STREET BLUES يساوي بالضبط عدد العروض التي قدمت، كما أننالا نعرف ما اذا كان ستكون هناك عروض أخري في المستقبل ولا ندري عنها شيئا بعد، ويمكن لهذه العروض أن تتحقق فور التقاء عارضين أو ثلاثة عارضين معا يشعرون بالرغبة في تقديم رؤيتهم الشخصية والمحددة للتيمة الاساسية.

وان ما أود أن اقوله هو اننا قد تعودنا غياب مفهوم التأليف في الفن الشعبي الذي يضيف اليه كل من يشترك فيه شيئا، تماما مثل قصص الجاز التي لا تنتهي. ومثل هذه الوسائل التي تدعم الابداع الحر تلقي الترحيب وتعد جزءا من النسيج الثقافي للمجتمع، ولكن هناك فرق بين الانخراط في نشاط يؤدي الي انتاج نصوص غير محددة وبين وجود نصوص قد تم انتاجها بالفعل ويمكن أن يتم تفسيرها بصورة غير محدودة ولا محددة، ولكن هذه النصوص نصوص محدودة فيزيقيا أصلا. وطبقا لثقافتنا المعاصرة نقبل ونقيم عرضا جديدا لسيمفونية بيتهوفن الخامسة وعرضا جديدا لتيمة حفل الجاز BASIN STREET طبقا لمعايير مختلفة، وبهذا المعني فانني لا اري كيف أن هذه اللعبة الرائعة التي يمكن أن نمارسها من خلال شبكة الانترنت لانتاج قصص جماعية لا نهائية محدودة وغير محدودة يمكن أن تحرمنا من مفهوم الادب الذي يكتبه الادباء ومفهوم الفن بصفة عامة.

واننا نمضي قدما نحو مجتمع أكثر تحررا وأكثر حرية سيوجد فيه الابداع الحر جنبا الي جنب مع تفسيرات النصوص المكتوبة الموجودة بالفعل. وكم يعجبني هذا، ولكننا لا نستطيع أن نقول أننا قمنا باستبدال شيء بشيء آخر، فلدينا الشيئان معا والحمد لله، فان عملية التنقل بين قنوات التليفزيون لا علاقة لها بمشاهدة فيلم، كما أن الادوات التي تستخدم في انتاج النصوص ذات الروابط الالكترونية والتعامل معها HYPERTEXTUAL DEVICE لا علاقة لها بقدرتنا علي تفسير النصوص الموجودة من قبل. ولقد حاولت جاهدا أن اجد مثلا علي وجود نص غير محدود ومحدد ولكنني للاسف لم اجد مثلا شيقا، وفي الحقيقة، اذا كان لديك عدد لا نهائي من العناصر التي يمكن أن تلعب بها فلماذا تحد نفسك في عملية انتاج عالم محدود؟

وانها لقضية ثيولوجية، نوع من الرياضة الكونية التي يمكن للمرء من خلالها ‘المرء بالمعني المطلق’ أن ينفذ كل عرض ممكن ولكن يضع لنفسه قاعدة تتضمن بعض الحدود ويقوم بتوليد كون صغير وبسيط بعد ذلك، ودعوني هنا انظر في احتمال آخر يبدو للوهلة الاولي أنه يقدم عددا لا نهائيا من الاحتمالات باستخدام عدد محدود من العناصر ‘مثل النظام السميوطيقي’ ولكنه في واقع الامر يقدم وهما بالحرية والابداع. فيمكن لادوات النصوص ذات الروابط الالكترونية HYPERTEXT أن تعطي الايحاء أو الوهم بفتح جميع النصوص حتي المغلق منها، فالقصة البوليسية مثلا يمكن أن يتم تركيبها بصورة ما تسمح للقاريء أن يمارس الاختيار بحيث يقرر في النهاية ما اذا كان المجرم هو كبير الخدم أم القس أم المخبر أم الراوي، أم الكاتب أم القاريء، وبالتالي يمكن للقاريء أن يبني قصة خاصة به.

وإن مثل هذه الفكرة ليست بالجديدة، فقبل اختراع اجهزة الحاسب الآلي كان الشعراء والرواة يحلمون بنص مفتوح تماما يمكن للقراء أن يعيدوا تركيبه بصورة لا محدودة ولا نهائية،

وكانت هذه مثلا هي فكرة الكاتب LE LIVRE التي قدمها مالارميه MALLARME ولقد اخترع RAYMIND QUENEAU نظاما تركيبيا عن طريق تأليف بلايين القصائد باستخدام عدد محدود من السطور الشعرية. وفي بداية الستينيات كتب MAX SAPORTA رواية كان يمكن لصفحاتها ان ترتب بطرق عديدة لتصنع قصصا مختلفة كما أن NANNI BALESTRINI أعطت جهاز الحاسب الآلي قائمة غير مترابطة من الاشعار وقام الجهاز بتركيبها بعدة صور لخلق عدة قصائد مختلفة. كذلك فان العديد من الموسيقيين المعاصرين قد ألفوا قطعا موسيقية متحركة اذا تعامل معها المرء بصورة ما يخلق عروضا موسيقية مختلفة.

وكل هذه النصوص المتحركة أو المتنقلة يمكن أن تعطي الانطباع بوجود حرية مطلقة للقاريء، ولكن يبقي هذا مجرد انطباع أو وهم. فالجهاز الوحيد الذي يمكن الانسان من انتاج نصوص لا نهائية ولا محدودة باستخدام عدد محدود من العناصر يوجد منذ آلاف السنين، وهذا الجهاز هو ‘الأبجدية’ فباستخدام الابجدية أي عدد محدود من الحروف، يمكن للمرء أن يقدم بلايين النصوص وهذا بالضبط هو ما حدث منذ عصر ‘هوميروس’ الي يومنا هذا. أما هذا النص الذي لا يقدم لنا حروفا ولا كلمات ولكن عددا من التراكيب أو الصفحات المعدة سلفا لا يمنحنا الحرية التي تجعلنا ننتج أي شيء نريد. ان قدر الحرية المتاح لنا يتمثل فقط في حرية تحريك هذه التراكيب المعدة سلفا في اطار عدد كبير من الاحتمالات، فان جهاز CALDER المتحرك جهاز رائع لا لأنه ينتج احتمالات لا نهائية من الحركة، ولكننا نعجب بالقواعد الحديدية الصارمة التي يقدمها الفنان في الجهاز لا بالحركة التي يقوم بها لانه يتحرك فقط في داخل الاطر التي وضعها CALDER.

وعلي الحدود الاخيرة للحرية النصية، يمكن أن نجد النص الذي بدأ بكونه نصا مغلقا ‘لنقل مثلا ‘ذات الرداء الأحمر’ أو ‘ألف ليلة وليلة’ والذي يمكنني كقاريء أن ادخل عليه بعض التغييرات طبقا لاتجاهاتي وبالتالي أقدم نصا ثانيا لم يعد هو النص الاصلي، وأصبح أنا مؤلف هذا النص الثاني وذلك علي الرغم من أن التأكيد علي كوني ‘المؤلف’ هنا يعد نوعا من التهديد لمفهوم ‘التأليف المحدد’ أو ‘المؤلف المحدد’ وتسمح شبكة الانترنت بمثل هذه التجارب التي يمكن لمعظمها أن يثمر نصوصا جميلة فليس هناك ما يمنع أحد من كتابة ‘ذات الرداء الاحمر’ بصورة تجعل الفتاة الصغيرة تلتهم الذئب. كما أنه ليس هناك ما يمنعنا من تضفير عدد من القصص معا لخلق كيان سردي مختلف، ولكن لا علاقة لهذا مطلقا بوظيفة الكتاب الحقيقية ولا بكل ما يسحر في الكتب.

فالكتاب يقدم لنا نصا يحمل رسالة أو مضمونا لا يمكن تغييره، وذلك علي الرغم من أنه مفتوح للتفسيرات، ولنفترض مثلا انك تقرأ رواية تولستوي TOLASTOY ‘الحرب والسلام‘ WAR AND PEACE وانك تتمني بشدة ألا تقبل ناتاشا NATASHA تودد هذا الكاذب المخادع الذي يدعي أنا توليج ANATOLIJ كما انك تتمني ألا يلقي هذا الشخص الرائع الذي يدعي الامير اندريج ANDREJ حتفه، وانه يمكن أن يحيا مع ناتاشا في سعادة وهناء فلو كانت لديك هذه الرواية كنص ذي روابط الكترونية HYPERTEXT ولو كان لديك قرص تفاعلي مضغوط CD ROM يمكنك أن تعيد كتابة الرواية لتقدم قصتك طبقا لما تريده وبالتالي يمكنك أن تخترع عددا من روايات ‘الحرب والسلام‘ WAR AND PEACE يمكن في احداها أن ينجح بيير بيشوف PIERRE BESUCHOV في اغتيال نابليون NAPOLEON أو ربما، اذا أردت أن يهزم نابليون الجنرال كوتوسوف KUTUSOV هزيمة نكراء. يالها من حرية ويالها من متعة، فيمكن لأي شخص أن يصبح مثل فلوبير FLAUBERT.

ولكن للأسف لا يمكننا أن نفعل هذا بكتاب مكتوب بالفعل ‘فقد تم تحديد مصير هذا الكتاب بسبب قرار قمعي من قبل المؤلف’ وعلينا أن نقبل قوانين القدر وأن ندرك أننا لا نستطيع تغيير المصير الذي قد تحدد بالفعل.

أما النص التفاعلي ذو الروابط الالكترونية HYPERTEXTUAL فيسمح لنا بممارسة مثل هذا النوع من الحرية والابداع، واتمني أن يطبق مثل هذا النوع من النشاط التجديدي والمجدد في المدارس في المستقبل. أما النص المكتوب لرواية ‘الحرب والسلام‘ WAR AND PEACE فلا يواجهنا بالاحتمالات المحدودة لخيالنا ولكن بالقوانين الصارمة التي تحكم الحياة والموت.

أما ‘بؤساء‘ LES MISERABLES فيكتور هوجو VICTOR HUGO فتقدم لنا وصفا جميلا لمعركة واترلوو WATERLOO وتختلف واترلوو التي يقدمها هوجو عن واترلوو التي يصفها ستندال STENDHAL ففي رواية CHARTEUSU DE PARME يقدم لنا ستندال المعركة من خلال أعين بطله الذي يري الاحداث من داخلها ولا يفهم مدي تعقيدها. أما هوجو فانه يصف المعركة من وجهة نظر الله ويتتبع كل التفاصيل ويغطي برؤيته السردية مسرح الاحداث بأكمله.

وإن هوجو لا يعرف فقط ما حدث ولكنه يعرف أيضا ما كان من الممكن أن يحدث ولكنه لم يحدث. فهو يعرف أنه لو كان نابليون يعلم أنه كان هناك تجويف صخري في قمة جبل سانت جين لما سقط الجنرال ميلهو MILHAUD ورجاله تحت اقدام الجيش الانجليزي ‘ولكن مصدر معلوماته كان غير واضح أو متقاعس’ كما أن هوجو يعرف أنه لو كان الراعي الذي يرشد الجنرال فون بولو VON PULOW قد اقترح جدولا زمنيا مختلفا لما استطاع الجيش البروسي أن يصل في الموعد المناسب ليتسبب ذلك في ايقاع الهزيمة بالفرنسيين.

وفي اطار لعبة الادوار يمكن للمرء أن يعيد كتابة معركة واترلوو بحيث يصل GAUCHE برجاله لانقاذ نابليون، ولكن الجمال التراجيدي لواترلوو التي وصفها هوجو يكمن في أن القاريء يشعر أن الاحداث تجري في معزل عن رغباتهم. ويكمن سحر الادب في أننا نشعر أن أبطاله كان من الممكن أن يتجنبوا قدرهم ولكنهم يخفقون بسبب ضعفهم أو كبريائهم أو عمي بصيرتهم.

هذا الي جانب أن هوجو يخبرنا أن ‘مثل هذا الدوار، هذا الخطأ، هذا الدمار، هذا السقوط الذي أذهل التاريخ كله، هل يمكن أن يكون بلا سبب، لا…… إن اختفاء هذا الرجل العظيم كان ضروريا لقدوم قرن جديد، وتكفل أحدهم، ولا يمكن اعتراضه بتنفيذ هذا الحدث لقد مر الله من هنا.. لقد مر الله‘.

هذا هو ما تقدمه لنا كل كتاب عظيم، ان الله قد مر من هنا وانه قد مر من أجل المؤمنين والمتشككين علي حد سواء، فهناك كتب لا يمكننا أن نعيد كتابتها وذلك لان وظيفتها أن تعلمنا شيئا عن ‘الضرورة’ ولو احترمنا هذه الكتب كما هي فستمدنا بالحكمة.

فهذا الدرس القمعي الذي تقدمه لنا الكتب ضروري ولا يمكن الاستغناء عنه من أجل تحقيق حالة أعلي من الحرية الاخلاقية والفكرية.

وأتمني أن تستمر مكتبة الاسكندرية في اقتناء الكتب وحفظها حتي توفر للقراء الجدد هذه التجربة الفريدة التي لا يمكن ايجاد بديل لها وهي قراءة هذه النصوص، وانني لأدعو بالعمر المديد لمعبد الذاكرة النباتية هذا.



* قام بالترجمة قسم الترجمة بجامعة الإسكندرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...