جاء في كتاب " إتحاف الخلان " :
حدثنا الشيخ أبو الفضل النجداني ، قال : أخبرنا الشيخ خالد الجرمي ، الملقب بحية الوادي ، قال :
شهدتُ مجلساً من مجالس المستبد بالله ، وكان يجلس على سريره المرصع بالذهب ، و يمسك في يده نسخة من كتاب " الإتقان في أخبار طغاة نجدان "، لصاحبه الفقيه العالم العلامة الشيخ خالد بن شريك التميمي. و هي نسخة فريدة من أربعمائة ورقة ، نسخَها كبيرُ خطاطي نجدان ، الملقب بعين الديك . و بعد برهة من الصمت ، اعتدل الطاغية المستبد في جلسته و تنحنح كعادته ، فأدركنا أنه سيحدثنا في أمر جلل ، فانتصبَتْ منا الآذان و اشرأبَّت الأعناق و اتسعت الأحداق ، و إذا به يقول :
- أيها الأفاضل، ليس يخفى عليكم أن كتاب" الإتقان في أخبار طغاة نجدان " ، الذي أمسكه بين يديّ الآن ، هو أفضل الكتب التي تتحدث عن مزايا الظلم ، و عن فضائل أجدادنا الطغاة ، الذين تعاقبوا على حكم هذه المملكة المطمئنة الآمنة . و إني آمركم جميعا أن تحفظوه و تستوعبوا ما فيه من أخبار و عبَر، حتى تدركوا أن بلاد نجدان لا يُصلحها بالفعل إلا الظلم و الطغيان .
قال الشيخ خالد الجرمي:
فلما سمع الحاضرون كلامَ المستبد ، شرع كل واحد منهم يُثني على الظلم و يعدد مزايا الملوك الظالمين و الطغاة المستبدين . و لم أدر ما الذي حدث لي عندئذ ، إذْ بقيتُ صامتا فلم أسهم في الحديث الدائر و لم أثن على الطغاة و لم أعدد أفضالهم و فضائلهم ، كما كان ينبغي أن أفعل، واستمررتُ على تلك الحال إلى أن سمعتُ صوت الطاغية يأمرني بالوقوف، فامتثلت في الحين، فخاطبني بنبرة غاضبة :
- أراك صامتا لا تنطق بكلمة أيها الشيخ ، فإن كنتَ لا توافقنا فيما نحن عليه فأفصح عن رأيك و أعرب عن مبتغاك .
قلت و قد أوجستُ في نفسي خيفة :
-و كيف أخالفكم الرأي ، يا مولاي الطاغية ، و أنا متخصص بفضلكم في تاريخ الظلم و أدَرّسه لطلبة نجدان منذ ربع قرن من الزمان ، كما أنني أحفظ كتاب " الإتقان " حرفاً حرفاً منذ صباي.
قال الطاغية و قد بدأ يزايله الغضب :
- إذن هات ما لديك عن الظلم و عن فضائل الطغاة الظالمين ، أيها الشيخ .
قلت:
- يا مولاي الطاغية ، إنّ ظلمَ السلطان تكريمٌ للإنسان و مَجْلبة ٌ للأمان و حماية ٌ من غوائل الزمان. و الظلمُ جوادٌ لا يَكْبُو و سيفٌ لا يَنْبُو ، و سهمٌ لا يطيش . والطغيان يا مولاي - هو مدار السياسة و قوام السلطان ، بِهِ ثبات الأمور و استمرارُها ، و فيه صلاح الدولة و استقرارُها. و كيف يعدل الملك في الغوغاء الذين يملك نواصيهم ، وهمْ جُفاة ٌ أراذل ، لا ينفعهم حَقٌّ و لا يضرهم باطل ؟ بل كيف يعمل على إرضائهم ، و كلُّ هَمّهمْ كسرة يابسة و حياة بائسة ، لا يعجبهم رخاء العيش و لا يسعدهم حُسْن الحال و لا سَعة المال ؟ و إنما همْ طغام لا عقول لهم ، و من كان لا عقل له ، فلا غضاضة في ظلمه و لا وجْهَ لإنصافه.
و ينبغي - يا مولاي - للسلطان المستبد أن يحيط نفسه برجال يعرفون هؤلاء الغوغاء و يعلمون حقيقة حالهم ، في حلهم و ترحالهم ، حتى يدلوه على الطريقة المثلى لتقليم أظفارهم و العصف بأخيارهم قبْل أشرارهم . و إن هو بلغه عن بعض رعيته أنهم جمعوا أموالا ، فعليه أن يبادر حالاً إلى المصادرة على تلك الأموال ، درءاً للإتلاف و سوء الاستعمال.
و ها أنتَ - يا مولاي المستبد - قد بلغتَ بإذن الله ، و بفضل الظلم و الطغيان ، منزلة ً رفيعة في نفوس الرعية ، إذ يخشاك العالم و الجاهل ، و يخافك الفارس و الراجل ، و يتوجس منك الراجح و الشائل ، لأنك أدركتَ - كما أدرك أسلافك من الطغاة الميامين - أن المُلك الثابت الأركان و الوزن بالميزان ضدان لا يجتمعان . و قد قال مولانا الجائر بأمر الله ، مؤسس دولة نجدان : " ظُلمُ ساعة خير من عَدْل ستين سنة " و قيل للحكيم اليوناني تريفانوس: " فلان ملك عادل" فقال : " إذن لا يفرح طويلا بالملك" و سُئل الفيلسوف أشْنادير عن ركائز المُلك فقال : " هي أربع ركائز : الظلم و سوء التدبير و المبادرة إلى الشر و التعجيل بالعقاب ." و لأنْ يخطئ المَلكُ في العقوبة خير من أن يخطئ في العفو ، لأنه لا يليق بحامل التاج أن يتجرع الغيظ و أن يُكره نفسه على الحِلم ، فالحلم ذهابٌ للهيبة و ذهابُ الهيبة نذيرٌ بزوال السلطان. و الناصح الصدوق للمَلك لا يشير عليه بالحلم و الصبر و لكنه يزَيّن له القصاص و أخذ الثأر. و رحم الله أبا الطيب المتنبي الذي قال :
و الظلمُ منْ شيَم النفوس فإنْ تجدْ = ذا عفة فلعلةٍ لا يَظلمُ
قال الشيخ خالد الجرمي :
فلما انتهيت من كلامي تهللت أسارير الطاغية و بقي ينظر إليّ نظرة الرضا و القَبول حتى خلتُ أنه سينهض ليأخذني بالأحضان ، ثم إنه اعتدل في جلسته من جديد و قال :
- لله درك أيها الشيخ ، أتيت في بضع كلمات بما لا يتسع له كتاب بأكمله .
ثم إنه نظر إلى كبير الوزراء و خاطبه بقوله :
- اعلم أني عينتُ الشيخ خالد الجرمي، الملقب بحية الوادي، انطلاقا من الآن وزيرا للظلم و الطغيان في حكومة نجدان .
حدثنا الشيخ أبو الفضل النجداني ، قال : أخبرنا الشيخ خالد الجرمي ، الملقب بحية الوادي ، قال :
شهدتُ مجلساً من مجالس المستبد بالله ، وكان يجلس على سريره المرصع بالذهب ، و يمسك في يده نسخة من كتاب " الإتقان في أخبار طغاة نجدان "، لصاحبه الفقيه العالم العلامة الشيخ خالد بن شريك التميمي. و هي نسخة فريدة من أربعمائة ورقة ، نسخَها كبيرُ خطاطي نجدان ، الملقب بعين الديك . و بعد برهة من الصمت ، اعتدل الطاغية المستبد في جلسته و تنحنح كعادته ، فأدركنا أنه سيحدثنا في أمر جلل ، فانتصبَتْ منا الآذان و اشرأبَّت الأعناق و اتسعت الأحداق ، و إذا به يقول :
- أيها الأفاضل، ليس يخفى عليكم أن كتاب" الإتقان في أخبار طغاة نجدان " ، الذي أمسكه بين يديّ الآن ، هو أفضل الكتب التي تتحدث عن مزايا الظلم ، و عن فضائل أجدادنا الطغاة ، الذين تعاقبوا على حكم هذه المملكة المطمئنة الآمنة . و إني آمركم جميعا أن تحفظوه و تستوعبوا ما فيه من أخبار و عبَر، حتى تدركوا أن بلاد نجدان لا يُصلحها بالفعل إلا الظلم و الطغيان .
قال الشيخ خالد الجرمي:
فلما سمع الحاضرون كلامَ المستبد ، شرع كل واحد منهم يُثني على الظلم و يعدد مزايا الملوك الظالمين و الطغاة المستبدين . و لم أدر ما الذي حدث لي عندئذ ، إذْ بقيتُ صامتا فلم أسهم في الحديث الدائر و لم أثن على الطغاة و لم أعدد أفضالهم و فضائلهم ، كما كان ينبغي أن أفعل، واستمررتُ على تلك الحال إلى أن سمعتُ صوت الطاغية يأمرني بالوقوف، فامتثلت في الحين، فخاطبني بنبرة غاضبة :
- أراك صامتا لا تنطق بكلمة أيها الشيخ ، فإن كنتَ لا توافقنا فيما نحن عليه فأفصح عن رأيك و أعرب عن مبتغاك .
قلت و قد أوجستُ في نفسي خيفة :
-و كيف أخالفكم الرأي ، يا مولاي الطاغية ، و أنا متخصص بفضلكم في تاريخ الظلم و أدَرّسه لطلبة نجدان منذ ربع قرن من الزمان ، كما أنني أحفظ كتاب " الإتقان " حرفاً حرفاً منذ صباي.
قال الطاغية و قد بدأ يزايله الغضب :
- إذن هات ما لديك عن الظلم و عن فضائل الطغاة الظالمين ، أيها الشيخ .
قلت:
- يا مولاي الطاغية ، إنّ ظلمَ السلطان تكريمٌ للإنسان و مَجْلبة ٌ للأمان و حماية ٌ من غوائل الزمان. و الظلمُ جوادٌ لا يَكْبُو و سيفٌ لا يَنْبُو ، و سهمٌ لا يطيش . والطغيان يا مولاي - هو مدار السياسة و قوام السلطان ، بِهِ ثبات الأمور و استمرارُها ، و فيه صلاح الدولة و استقرارُها. و كيف يعدل الملك في الغوغاء الذين يملك نواصيهم ، وهمْ جُفاة ٌ أراذل ، لا ينفعهم حَقٌّ و لا يضرهم باطل ؟ بل كيف يعمل على إرضائهم ، و كلُّ هَمّهمْ كسرة يابسة و حياة بائسة ، لا يعجبهم رخاء العيش و لا يسعدهم حُسْن الحال و لا سَعة المال ؟ و إنما همْ طغام لا عقول لهم ، و من كان لا عقل له ، فلا غضاضة في ظلمه و لا وجْهَ لإنصافه.
و ينبغي - يا مولاي - للسلطان المستبد أن يحيط نفسه برجال يعرفون هؤلاء الغوغاء و يعلمون حقيقة حالهم ، في حلهم و ترحالهم ، حتى يدلوه على الطريقة المثلى لتقليم أظفارهم و العصف بأخيارهم قبْل أشرارهم . و إن هو بلغه عن بعض رعيته أنهم جمعوا أموالا ، فعليه أن يبادر حالاً إلى المصادرة على تلك الأموال ، درءاً للإتلاف و سوء الاستعمال.
و ها أنتَ - يا مولاي المستبد - قد بلغتَ بإذن الله ، و بفضل الظلم و الطغيان ، منزلة ً رفيعة في نفوس الرعية ، إذ يخشاك العالم و الجاهل ، و يخافك الفارس و الراجل ، و يتوجس منك الراجح و الشائل ، لأنك أدركتَ - كما أدرك أسلافك من الطغاة الميامين - أن المُلك الثابت الأركان و الوزن بالميزان ضدان لا يجتمعان . و قد قال مولانا الجائر بأمر الله ، مؤسس دولة نجدان : " ظُلمُ ساعة خير من عَدْل ستين سنة " و قيل للحكيم اليوناني تريفانوس: " فلان ملك عادل" فقال : " إذن لا يفرح طويلا بالملك" و سُئل الفيلسوف أشْنادير عن ركائز المُلك فقال : " هي أربع ركائز : الظلم و سوء التدبير و المبادرة إلى الشر و التعجيل بالعقاب ." و لأنْ يخطئ المَلكُ في العقوبة خير من أن يخطئ في العفو ، لأنه لا يليق بحامل التاج أن يتجرع الغيظ و أن يُكره نفسه على الحِلم ، فالحلم ذهابٌ للهيبة و ذهابُ الهيبة نذيرٌ بزوال السلطان. و الناصح الصدوق للمَلك لا يشير عليه بالحلم و الصبر و لكنه يزَيّن له القصاص و أخذ الثأر. و رحم الله أبا الطيب المتنبي الذي قال :
و الظلمُ منْ شيَم النفوس فإنْ تجدْ = ذا عفة فلعلةٍ لا يَظلمُ
قال الشيخ خالد الجرمي :
فلما انتهيت من كلامي تهللت أسارير الطاغية و بقي ينظر إليّ نظرة الرضا و القَبول حتى خلتُ أنه سينهض ليأخذني بالأحضان ، ثم إنه اعتدل في جلسته من جديد و قال :
- لله درك أيها الشيخ ، أتيت في بضع كلمات بما لا يتسع له كتاب بأكمله .
ثم إنه نظر إلى كبير الوزراء و خاطبه بقوله :
- اعلم أني عينتُ الشيخ خالد الجرمي، الملقب بحية الوادي، انطلاقا من الآن وزيرا للظلم و الطغيان في حكومة نجدان .