لطالما اكتنف الغموض وسوء التقييم والفهم طبيعة العلاقة الفكرية بين الفيلسوفين العظيمين (هيجل وماركس) ولعل مردّ ذلك من وجهة نظرنا هو الانحياز الفكري حيناً والآيديولوجي أحياناً لأحد المفكرين والانتصار له على الآخر، غير أن هذا الحال لا يعدم وجود عدد كبير من الدراسات الرصينة التي تجيد التعامل مع مكانة الفيلسوفين ونوع صلتهما على نحو موضوعي بالغة الانصاف والدقة.
ولعلنا نجد في كتاب (ماركس وهيجل) الذي يقدمه لنا المفكر الفرنسي جان هيبوليت، تشخيص منصف وعميق لطبيعة هذه العلاقة فكرياً وانسانياً وسياسياً وشخصياً أيضاً.
فمن دون أن يصرح لنا بذلك بشكل مباشر أو يطرحه في عبارات ظاهرة، يمكن أن نكشف مجموعة من المعاني الجديدة أراد هيبوليت نسبتها الى تلك العلاقة التي جمعت المفكرين بحيث أصبح الأول منهما (هيجل) مقدمة فكرية لابد من وجودها، لا لفهم (ماركس) حسب، بل لامكان قيام فلسفته برمتها، بوصفها نتيجة وثمرة متسقة ومختلفة في آن واحد، مع فلسفة هيغل التي تؤسس وتمثل الشرط الفكري الضروري الأوحد لامكان فلسفة ماركس.
عمل هيبوليت هو تقعيد واقعي ووثائقي وتصحيح فكري رصين لطبيعة هذه العلاقة وهو من بعد كشف مضاف لجوانب فكرية أصلية جمعت المفكرين من دون أن يسبق لأحد من دارسي الفلسفة المعاصرة التأشير على حدودها بكل هذه الدقة والاصالة.
ولعلنا نجد مثالنا في التدليل على هذه العناصر العلائقية المضافة متمثلاً في كشف هيبوليت عن بعض العناصر المثالية في مادية ماركس، العناصر التي تسللت اليها، بالضرورة من المصدر المثالي الذي اعتمدته، أعني فلسفة هيجل، فضلاً عن كشفها ببراعة منقطعة النظير عن صلة هيجل بكل من ميداني السياسة والاقتصاد وأحداث العصر الواقعية التي عاش فيها، الأمر الذي يسفر لدى هيبوليت كنتيجة لذلك، الى القول شبه الصريح بأن فلسفة هيجل ونوع حضور الانسان فيها لم يكن حضوراً مجرداً منطقياً كما أشيع ذلك بمعونة وجهود فكرية كبيرة بذلها كيركغارد خلال نقده للفلسفة الهيجلية.
أي ان الانسان في فلسفة هيجل، كان بقدر كبير من الواقعية، وان فلسفة هيجل كانت على صلة وثيقة بأحداث عصره الواقعية وانه (هيجل) كان معنياً بميداني السياسة والاقتصاد، عناية كبيرة، بحيث لايمكن الفصل على الاطلاق، بين الميدان الواقعي المعاش في عصره، وبين فلسفته المثالية بكل ابعادها المنطقية والروحية.
كتاب هيبوليت مجموعة من المحطات الفكرية والانسانية بالغة الخطورة والأهمية، ولأن بعض هذه المحطات شائع ومعروف لدى قراء الفلسفة ودارسيها، فاننا سنقصر عرضنا هنا متوقفين فقط، عند مقدمة و احدة هي مشكلة الضياع الانساني في فكر الفيلسوفين وكيفية حلها لدى كل منهما.
(رأس المال) رداً على (الفينومنيولوجي)
يعد كتاب الفينومنيولوجيا أو (علم ظهور العقل) -كما يترجم أحياناً- أهم مؤلفات هيجل الفلسفية بلا منازع، تماماً كما يعد كتاب ماركس (رأس المال) أهم مؤلف فلسفي-اقتصادي لديه.
والفينومنيولوجيا، هو اكتشاف الانسان لنفسه بوصفه كائناً مفكراً يعي ذاته ويعي الآخرين معه، انه قصة وصف الشعور البشري في ارتفاعه الى المعرفة المطلقة، وموطن الأصالة في هذا الكتاب يتمثل في كونه أعظم جهد مبذول لربط الفردي بالكلي.
وليس يخفى القول هنا، بأن كارل ماركس الذي قرأ فينومنيولوجيا هيجل بعناية فائقة ودقة متناهية، كان قد تأثر بمضمون هذا الكتاب تأثراً بالغ الأهمية، بحيث اننا لا نستطيع أن نفهم رأس المال اذا كنا نجهل مؤلفات هيجل الرئيسة في تكوين فكر كارل ماركس وتطوره، أي فينومنيولوجيا الروح والمنطق وفلسفة الحق) ص159.
فديالكتيك (السيد والعبد) الشهير لدى هيجل، هو ديالكتيك صراع الطبقات لدى ماركس، ومشكلة ضياع الانسان في العالم، واسترجاعه لنفسه، وهي المشكلة الرئيسة في كتاب الفينومنيولوجيا تتبوأ في كتاب رأس المال الأهمية ذاتها ، بحيث يمكن القول، اشارة لأهميتها (ان رأس المال هو أعظم ضياع للانسان في التاريخ).
لذا ينبغي الاعتراف -كما يقول هيبوليت- (بأن ماركس واحد من أفضل مفسري هيجل والمعلقين عليه، فقد عرف كيف يعقل الفينومنيولوجيا الروح من جديد في كتابة -الاقتصاد السياسي والفلسفة- وقد استوطن المنهج الهيجلي في كتابه رأس المالي، الذي لا تدرك خطته ولا تنظيمه حتى في تفاصيله من دون هذه الاحالة الدائمة على الهيغلية) ص88.
لكن ورغم ذلك كله، أي رغم الوجود الفعلي لأساس الفلسفة الماركسية، في الفكر الهيجلي، يمكن الحديث بثقة عن اختلاف كبير وتضاد حاد بين المفكري، تضاد ما كان لفكر نادر أصيل سوى عبقرية ماركس بلوغ نتائجه المذهلة.
قلنا بان ضياع الانسان في المال و الأشياء هو احدى الموضوعات الرئيسة المؤلفة للفينومنيولوجيا مثلما هي في الوقت ذاته الهدف الأعلى الذي سعى كتاب رأس المال لماركس لفهم اشكاليته ووضع الحلول لها، وهنا بالتحديد تكمن ماهية الاختلاف بين الفيلسوفين الكبيرين، كيف؟
يقول (لوكاتش) في كتابه (أعمال الشباب عند هيجل) وهو الكتاب الذي يعنى ببحث صلتي الاتصال والانفصال بين الفيلسوفين، (في رأي ماركس ان هيجل قد خلط بين التموضع -الذي هو انتقال الذات الى الطبيعة والمجتمع وبين الضياع، وفي رأيه ان هذا الخلط يفسر تصور التحليل الهيجلي الاجتماعي لدى هيجل، وعجزه عن المشكلات التي يطرحها حلاً فعلياً) انه حل مزيف نظري من وجهة نظر ماركس، من هنا فليس فكر هيغل لدى ماركس (الاّ تزييفاً عندما يدعي التغلب على كل ضياع بالمعرفة المطلقة عند الفيلسوف) ص102.
بعبارات تفصيلية (ان هيجل قد خلط بين التموضع، اي الأفاعيل التي يجعل بها الانسان من ذاته شيئاً، أو يعبر عن ذاته أو يتموضع خارج ذاته في الطبيعة بالعمل والانشاء، وبين الضياع، أي الافاعيل التي يجد بها هذا الانسان المتموضع خارج ذاته، نفسه وقد صار غريباً عن نفسه أو بالأحرى لايجد ذاته البتة، ولا يتعرف على ذاته على الاطلاق، وهذا هو بالتحديد ما يسميه هيجل الشعور الشقي، وهو شعور يتسنى لهيجل التغلب عليه في كتابه علم ظهور العقل، لكنه تغلب لايحدث الاّ (عبر الفلسفة وبواسطته، وهي الواسطة التي لا تغني ولا تسمن من جوع في رأي كارل ماركس الذي كان يبحث عن حل واقعي فعلي معاش لمشكلة ضياع الانسان هذه.)
من هنا سيطرح ماركس، (مشكلة الفلسفة بوصفها نفياً للفلسفة أو حذفاً لها وسيحاول أن يبين ثغرات الفكر الفلسفي، الذي يؤكد دوماً ضرورة الاتصال بالحياة ولكنه لا يتصل بها في الواقع أبداً، ويترك الهوة التي تفصل بين (الفكرة) وبين الواقع فاغرة فاها) ص120.
كان التصور الهيجلي لضياع الانسان معبراً عن نفسه بهذه الطريقة التي يكتشف الانسان خلالها أن نفسه (قطعة من المادة، أو يجد نفسه في العالم الاجتماعي بوصفها مالاً وليس المال هو الشعور بالذات، بل هو ضياع هذا الشعور في صورة موضوعية) ص121.
أما معالجة ماركس لفكرة ضياع الانسان في محاولة تموضعه كما وجدت لدى هيجل فيمكن ايجازها بما يلي: يقول ماركس (لقد اكتشف هيجل العمل بوصفه الفعل الذي ينتج الانسان نفسه بنفسه، ولكن بما انه لم يدرك هذا العمل الاّ في (_الفكرة) أي في تجربة الفكر، فانه لم يصل الى حذف الضياع الاّ في (الفكر) وعلى هذا النحو، يكون هيجل قد ردّ العالم الى (فلسفة العالم).
من هنا يعبر ماركس عن الديالكتيك الجديد الخاص به والذي ينبغي ان يحل محل الديالكتيك الهيجلي فيقول (ان صيرورة العالم صيرورة فلسفية يجب ان تتحول الى صيرورة الفلسفة عالماً).
بعبارة أخرى (يجب على ألمانيا التي سمت مع هيجل الى هذا الفكر عن العالم ان تصير الآن ميدان معركة البروليتاريا التي بفضلها يمكن لفكرة الانسان الاجتماعي غير القابل للضياع هذه، أن تتحقق وأن تصير لذاتها عالماً، وهذا التحقيق لفكرة الانسان -بما هو كائن اجتماعي وشعور حسي - ليس مهمة الشعور الفلسفي وحده ذلك الشعور الذي ينفي نفسه بنفسه، بوصفه فلسفة، بل هو ايضاً مهمة الواقع التاريخي الذي ينبغي له، بما هو حصيلة ضياع الانسان، ان يصل الى حذف هذا الضياع، أما اداة التاريخ او الرافعة التي يستخدمها لانجاز هذه المهمة في رأي ماركس، فهي البروليتاريا، أو وعي البروليتاري لذاتها وعياً شعورياً.
ان ماركس يريد اذن، معرفة القوانين الاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي الى تضييع الانسان لنفسه داخل المجتمع والعمل، لأن معرفة هذه القوانين تؤدي من بعد الى السيطرة عليها والتحكم بها، ومن ثم حلّها حلاً واقعياً ينطلق من مقدمات الاقتصاد والعمل الواقعي، فهو حل مادي واقعي للمسألة وليس حلاً فلسفياً لها كما هو الحال لدى هيغل.
من هنا، يمكن النظر الى كتاب رأس المال، على انه الرد الحي على الفينومنيولوجيا، اذ بيّن ماركس في هذا الكتاب (ان الانسان الاجتماعي يضيع في التاريخ، ويصير رأس املاك على وجه التحديد، بيد ان رأس المال يتناول الحركة في الاتجاه المعاكس، فهذا النتاج، ضياع الانسان الاجتماعي هذا، ينتهي هو نفسه الى أن ينتج الانسان، ويصير الانسان بوصفه بروليتارياً، نتاج نتاجه الخاص به، ويرتد الى مجرد جزء في آلة هائلة تتجاوز رأس المال لتحدد شروط اعادة الانتاج أو الغذاء أو حياة البشر في الجماعة ثم تأتي برهة فيها يصير هذا الضياع تناقضاً حياً، وهذه البرهة هي برهة بروليتاريا، ففي تحويل المجمتع عموماً الى بروليتاريا لا يعود الانسان الاّ نتاج نتاج الخاص به).
ثم يتوج ماركس جهوده الفلسفية الخاصة ليعلن في لحظة انتصار تاريخي ان على الفلسفة ان ترفض نفسها بنفسها وأن تغدو عملاً تاريخياً.
فلسفة (أقتصر الفلاسفة حتى الآن على تفسير العالم، أما الآن فينبغي تغييره).
ولعلنا نجد في كتاب (ماركس وهيجل) الذي يقدمه لنا المفكر الفرنسي جان هيبوليت، تشخيص منصف وعميق لطبيعة هذه العلاقة فكرياً وانسانياً وسياسياً وشخصياً أيضاً.
فمن دون أن يصرح لنا بذلك بشكل مباشر أو يطرحه في عبارات ظاهرة، يمكن أن نكشف مجموعة من المعاني الجديدة أراد هيبوليت نسبتها الى تلك العلاقة التي جمعت المفكرين بحيث أصبح الأول منهما (هيجل) مقدمة فكرية لابد من وجودها، لا لفهم (ماركس) حسب، بل لامكان قيام فلسفته برمتها، بوصفها نتيجة وثمرة متسقة ومختلفة في آن واحد، مع فلسفة هيغل التي تؤسس وتمثل الشرط الفكري الضروري الأوحد لامكان فلسفة ماركس.
عمل هيبوليت هو تقعيد واقعي ووثائقي وتصحيح فكري رصين لطبيعة هذه العلاقة وهو من بعد كشف مضاف لجوانب فكرية أصلية جمعت المفكرين من دون أن يسبق لأحد من دارسي الفلسفة المعاصرة التأشير على حدودها بكل هذه الدقة والاصالة.
ولعلنا نجد مثالنا في التدليل على هذه العناصر العلائقية المضافة متمثلاً في كشف هيبوليت عن بعض العناصر المثالية في مادية ماركس، العناصر التي تسللت اليها، بالضرورة من المصدر المثالي الذي اعتمدته، أعني فلسفة هيجل، فضلاً عن كشفها ببراعة منقطعة النظير عن صلة هيجل بكل من ميداني السياسة والاقتصاد وأحداث العصر الواقعية التي عاش فيها، الأمر الذي يسفر لدى هيبوليت كنتيجة لذلك، الى القول شبه الصريح بأن فلسفة هيجل ونوع حضور الانسان فيها لم يكن حضوراً مجرداً منطقياً كما أشيع ذلك بمعونة وجهود فكرية كبيرة بذلها كيركغارد خلال نقده للفلسفة الهيجلية.
أي ان الانسان في فلسفة هيجل، كان بقدر كبير من الواقعية، وان فلسفة هيجل كانت على صلة وثيقة بأحداث عصره الواقعية وانه (هيجل) كان معنياً بميداني السياسة والاقتصاد، عناية كبيرة، بحيث لايمكن الفصل على الاطلاق، بين الميدان الواقعي المعاش في عصره، وبين فلسفته المثالية بكل ابعادها المنطقية والروحية.
كتاب هيبوليت مجموعة من المحطات الفكرية والانسانية بالغة الخطورة والأهمية، ولأن بعض هذه المحطات شائع ومعروف لدى قراء الفلسفة ودارسيها، فاننا سنقصر عرضنا هنا متوقفين فقط، عند مقدمة و احدة هي مشكلة الضياع الانساني في فكر الفيلسوفين وكيفية حلها لدى كل منهما.
(رأس المال) رداً على (الفينومنيولوجي)
يعد كتاب الفينومنيولوجيا أو (علم ظهور العقل) -كما يترجم أحياناً- أهم مؤلفات هيجل الفلسفية بلا منازع، تماماً كما يعد كتاب ماركس (رأس المال) أهم مؤلف فلسفي-اقتصادي لديه.
والفينومنيولوجيا، هو اكتشاف الانسان لنفسه بوصفه كائناً مفكراً يعي ذاته ويعي الآخرين معه، انه قصة وصف الشعور البشري في ارتفاعه الى المعرفة المطلقة، وموطن الأصالة في هذا الكتاب يتمثل في كونه أعظم جهد مبذول لربط الفردي بالكلي.
وليس يخفى القول هنا، بأن كارل ماركس الذي قرأ فينومنيولوجيا هيجل بعناية فائقة ودقة متناهية، كان قد تأثر بمضمون هذا الكتاب تأثراً بالغ الأهمية، بحيث اننا لا نستطيع أن نفهم رأس المال اذا كنا نجهل مؤلفات هيجل الرئيسة في تكوين فكر كارل ماركس وتطوره، أي فينومنيولوجيا الروح والمنطق وفلسفة الحق) ص159.
فديالكتيك (السيد والعبد) الشهير لدى هيجل، هو ديالكتيك صراع الطبقات لدى ماركس، ومشكلة ضياع الانسان في العالم، واسترجاعه لنفسه، وهي المشكلة الرئيسة في كتاب الفينومنيولوجيا تتبوأ في كتاب رأس المال الأهمية ذاتها ، بحيث يمكن القول، اشارة لأهميتها (ان رأس المال هو أعظم ضياع للانسان في التاريخ).
لذا ينبغي الاعتراف -كما يقول هيبوليت- (بأن ماركس واحد من أفضل مفسري هيجل والمعلقين عليه، فقد عرف كيف يعقل الفينومنيولوجيا الروح من جديد في كتابة -الاقتصاد السياسي والفلسفة- وقد استوطن المنهج الهيجلي في كتابه رأس المالي، الذي لا تدرك خطته ولا تنظيمه حتى في تفاصيله من دون هذه الاحالة الدائمة على الهيغلية) ص88.
لكن ورغم ذلك كله، أي رغم الوجود الفعلي لأساس الفلسفة الماركسية، في الفكر الهيجلي، يمكن الحديث بثقة عن اختلاف كبير وتضاد حاد بين المفكري، تضاد ما كان لفكر نادر أصيل سوى عبقرية ماركس بلوغ نتائجه المذهلة.
قلنا بان ضياع الانسان في المال و الأشياء هو احدى الموضوعات الرئيسة المؤلفة للفينومنيولوجيا مثلما هي في الوقت ذاته الهدف الأعلى الذي سعى كتاب رأس المال لماركس لفهم اشكاليته ووضع الحلول لها، وهنا بالتحديد تكمن ماهية الاختلاف بين الفيلسوفين الكبيرين، كيف؟
يقول (لوكاتش) في كتابه (أعمال الشباب عند هيجل) وهو الكتاب الذي يعنى ببحث صلتي الاتصال والانفصال بين الفيلسوفين، (في رأي ماركس ان هيجل قد خلط بين التموضع -الذي هو انتقال الذات الى الطبيعة والمجتمع وبين الضياع، وفي رأيه ان هذا الخلط يفسر تصور التحليل الهيجلي الاجتماعي لدى هيجل، وعجزه عن المشكلات التي يطرحها حلاً فعلياً) انه حل مزيف نظري من وجهة نظر ماركس، من هنا فليس فكر هيغل لدى ماركس (الاّ تزييفاً عندما يدعي التغلب على كل ضياع بالمعرفة المطلقة عند الفيلسوف) ص102.
بعبارات تفصيلية (ان هيجل قد خلط بين التموضع، اي الأفاعيل التي يجعل بها الانسان من ذاته شيئاً، أو يعبر عن ذاته أو يتموضع خارج ذاته في الطبيعة بالعمل والانشاء، وبين الضياع، أي الافاعيل التي يجد بها هذا الانسان المتموضع خارج ذاته، نفسه وقد صار غريباً عن نفسه أو بالأحرى لايجد ذاته البتة، ولا يتعرف على ذاته على الاطلاق، وهذا هو بالتحديد ما يسميه هيجل الشعور الشقي، وهو شعور يتسنى لهيجل التغلب عليه في كتابه علم ظهور العقل، لكنه تغلب لايحدث الاّ (عبر الفلسفة وبواسطته، وهي الواسطة التي لا تغني ولا تسمن من جوع في رأي كارل ماركس الذي كان يبحث عن حل واقعي فعلي معاش لمشكلة ضياع الانسان هذه.)
من هنا سيطرح ماركس، (مشكلة الفلسفة بوصفها نفياً للفلسفة أو حذفاً لها وسيحاول أن يبين ثغرات الفكر الفلسفي، الذي يؤكد دوماً ضرورة الاتصال بالحياة ولكنه لا يتصل بها في الواقع أبداً، ويترك الهوة التي تفصل بين (الفكرة) وبين الواقع فاغرة فاها) ص120.
كان التصور الهيجلي لضياع الانسان معبراً عن نفسه بهذه الطريقة التي يكتشف الانسان خلالها أن نفسه (قطعة من المادة، أو يجد نفسه في العالم الاجتماعي بوصفها مالاً وليس المال هو الشعور بالذات، بل هو ضياع هذا الشعور في صورة موضوعية) ص121.
أما معالجة ماركس لفكرة ضياع الانسان في محاولة تموضعه كما وجدت لدى هيجل فيمكن ايجازها بما يلي: يقول ماركس (لقد اكتشف هيجل العمل بوصفه الفعل الذي ينتج الانسان نفسه بنفسه، ولكن بما انه لم يدرك هذا العمل الاّ في (_الفكرة) أي في تجربة الفكر، فانه لم يصل الى حذف الضياع الاّ في (الفكر) وعلى هذا النحو، يكون هيجل قد ردّ العالم الى (فلسفة العالم).
من هنا يعبر ماركس عن الديالكتيك الجديد الخاص به والذي ينبغي ان يحل محل الديالكتيك الهيجلي فيقول (ان صيرورة العالم صيرورة فلسفية يجب ان تتحول الى صيرورة الفلسفة عالماً).
بعبارة أخرى (يجب على ألمانيا التي سمت مع هيجل الى هذا الفكر عن العالم ان تصير الآن ميدان معركة البروليتاريا التي بفضلها يمكن لفكرة الانسان الاجتماعي غير القابل للضياع هذه، أن تتحقق وأن تصير لذاتها عالماً، وهذا التحقيق لفكرة الانسان -بما هو كائن اجتماعي وشعور حسي - ليس مهمة الشعور الفلسفي وحده ذلك الشعور الذي ينفي نفسه بنفسه، بوصفه فلسفة، بل هو ايضاً مهمة الواقع التاريخي الذي ينبغي له، بما هو حصيلة ضياع الانسان، ان يصل الى حذف هذا الضياع، أما اداة التاريخ او الرافعة التي يستخدمها لانجاز هذه المهمة في رأي ماركس، فهي البروليتاريا، أو وعي البروليتاري لذاتها وعياً شعورياً.
ان ماركس يريد اذن، معرفة القوانين الاجتماعية والاقتصادية التي تؤدي الى تضييع الانسان لنفسه داخل المجتمع والعمل، لأن معرفة هذه القوانين تؤدي من بعد الى السيطرة عليها والتحكم بها، ومن ثم حلّها حلاً واقعياً ينطلق من مقدمات الاقتصاد والعمل الواقعي، فهو حل مادي واقعي للمسألة وليس حلاً فلسفياً لها كما هو الحال لدى هيغل.
من هنا، يمكن النظر الى كتاب رأس المال، على انه الرد الحي على الفينومنيولوجيا، اذ بيّن ماركس في هذا الكتاب (ان الانسان الاجتماعي يضيع في التاريخ، ويصير رأس املاك على وجه التحديد، بيد ان رأس المال يتناول الحركة في الاتجاه المعاكس، فهذا النتاج، ضياع الانسان الاجتماعي هذا، ينتهي هو نفسه الى أن ينتج الانسان، ويصير الانسان بوصفه بروليتارياً، نتاج نتاجه الخاص به، ويرتد الى مجرد جزء في آلة هائلة تتجاوز رأس المال لتحدد شروط اعادة الانتاج أو الغذاء أو حياة البشر في الجماعة ثم تأتي برهة فيها يصير هذا الضياع تناقضاً حياً، وهذه البرهة هي برهة بروليتاريا، ففي تحويل المجمتع عموماً الى بروليتاريا لا يعود الانسان الاّ نتاج نتاج الخاص به).
ثم يتوج ماركس جهوده الفلسفية الخاصة ليعلن في لحظة انتصار تاريخي ان على الفلسفة ان ترفض نفسها بنفسها وأن تغدو عملاً تاريخياً.
فلسفة (أقتصر الفلاسفة حتى الآن على تفسير العالم، أما الآن فينبغي تغييره).