جاء في كتاب " إتحاف الخلان " :
حدثنا شيخنا أبو الفضل النجداني ، عن الشيخ عيسى بن حجَر بن عون ، قال :
كنت أميناً لدار الكتب بنجدان ، فاستدعاني الطاغية يوماً إلى مجلسه و عنده الوزراء و الشعراء و الأعيان ، فلما دخلت أمرني بالاقتراب ، ثم سألني إن كانت توجد بدار الكتب نسخة من " اللؤلؤ و المرجان في تاريخ طغاة نجدان " للشيخ كيوان بن مسلم ، الملقب بأحمر الدنان ، فأجبته قائلا :
- كانت عندنا منه نسخة وحيدة ، يا مولاي الطاغية ، و قد استعارها الشيخ أبو إسحاق العسقلاني ، الملقب بظل الحجر ، أيام كان وزيرا للغة و المعاجم ، و لكنه لم يُعدْها و لم يجرؤ أحد منا على مطالبته بذلك ، ثم كان بعد ذلك ما كان من غضبك عليه و من تسييره إلى الكثيب ، فانقطع عنا خبره ولم يعد بوسعنا استعادة النسخة .
فغضبَ الطاغية غضبا شديدا لدى سماعه ذلك الكلام و قال لي :
- يا عدو نفسه ، ألأجل هذا جعلتك أمينا لدار الكتب؟ كيف تضيع منك النسخة الوحيدة من هذا الكتاب النفيس؟ ألا تعلم أن الشيخ كيوان قد قام بتأليفه بأمر من جدي المتسلط بأمر الله ، و أنه قد صرف العمر كله في تصنيفه ، و أنه لم يعش أكثر من شهرين بعد الانتهاء منه ؟
قال عيسى بن حجَر :
فلما سمعتُ كلام المستبد ، ضاقت عليّ الأرضُ كأنها حلقة خاتم ، و لم أعد أدري ما أفعل و لا كيف أجيب ، فأسلمتُ أمري للخالق سبحانه و بقيتُ واقفا لا أتحرك و قد شملني تبلّدٌ مُميت .
ثم إن الطاغية توجه بالكلام إلى الحاضرين و قال :
- يا معشر الوزراء و الشعراء و الأعيان ، أليس فيكم رجل يحفظ هذا الكتاب ؟
و إذا بالشيخ المفضل الخالدي ، الفقيه الشاعر الخطاط ، ينهض و يقول :
- أنا أحفظه يا مولاي .
فتهللتْ و الله أسارير الطاغية عند سماعه ذلك الكلام و بدا عليه الانشراح و قال للشيخ المفضل :
- فهات اقرأ علينا الآن من حفظك الوصية َ الواردة في المقدمة ، و هي وصية جدي الأكبر الجائر بإذن الله لولي عهده المتسلط بأمر الله.
قال الشيخ المفضل :
- السمع و الطاعة يا مولانا المستبد .
ثم إنه وقف بعد ذلك و شرع يقرأ كأنما يُملى عليه ، أو كأن يدا خفية تقلب أمامه صفحات ذلك الكتاب الذي لا تراه العيون. فمن ضمن ما جاء في تلك الوصية العجيبة :
" يا بنيّ، اعلم أنه لا يوجد في الدنيا تاجٌ أكبر و لا أعظم من تاج الطغيان . فإذا أنتَ تبوأتَ هذه المرتبة الرفيعة ، فإن أول ما ينبغي أن تقوم به هو أن تقتصّ من المظلوم للظالم، و أن تضع الجاهل فوق مرتبة العالم ، و أن تأخذَ الأخيار بالشراسة و الأشرارَ بالكياسة.
و لا تعْفُ عن بريء قط ، و لا تعاقبْ إلا و أنتَ غضبان ، حتى يتحقق لك الجور المنشود و الظلم المقصود ، لأنك إذا تركتَ العقوبة َ إلى أن يَسكتَ عنك الغضب قضيتَ بالذي يتناسب مع قوانين البلاد، و تلك مفسدة كبرى لنظام الطغيان و الاستبداد .
و اعلم يا بُني أن رأس الطغيان هو أن تَنصرَ الهوى على الرأي ، و ألا تُلزمَ نفسك بمشورة و لا بإجماع ، و أن تكون عديم المروءة ، غليظ الطباع ، تنسى كما ينسى الجاحد و تذْكُر كما يَذكر الحاقد ، حتى تأمن شر المنافق و الحاسد.
و اطردْ صاحبَ الحاجة بالعنف وخذْ ما لدى الناس بالعسف ، لأن تكثير مال الطاغية لا يَكُون إلا بالأخذ من أموال الرعية ،
و اعمل يا بنيّ على بثّ العيون في كل مكان ، وأحطْ نفسك برجال قد آثَروا دنياهم على دينهم لأن أمثال هؤلاء هم الذين يشترون القربَ منك بالابتعاد عن خالقهم ." . "
فلما بلغ الشيخ المفضل الخالدي هذا المبلغ أشار إليه الطاغية بيده و قال :
- حسبك أيها الشيخ . هذه درة من الدرر ، و أنت خطاط لا يضاهيك أحد في هذا الفن ، فإذا كان الغد فاكتبها بماء الذهب، حتى نعلقها عند مدخل قصرنا العامر. و سيكون عليك ، بعد ذلك ، أن تكتب نسختين كاملتين من كتاب الشيخ كيوان هذا ، و أن تسلمهما للأمين الجديد لدار الكتب ، الذي سنقوم بتعيينه بعد أيام قليلة .
قال الشيخ عيسى بن حجَر :
و لما انتهى المستبد من كلامه ، أشار إلى رجاله ثم إليّ ، فلم أدر إلا و قد قيدوني بالسلاسل و اقتادوني إلى مخفر قريب من القصر. و كانت تلك بداية محنة أليمة ، دامت سبع سنوات و أربعة أشهر، قضيتها بأكملها في سجن الكثيب.
حدثنا شيخنا أبو الفضل النجداني ، عن الشيخ عيسى بن حجَر بن عون ، قال :
كنت أميناً لدار الكتب بنجدان ، فاستدعاني الطاغية يوماً إلى مجلسه و عنده الوزراء و الشعراء و الأعيان ، فلما دخلت أمرني بالاقتراب ، ثم سألني إن كانت توجد بدار الكتب نسخة من " اللؤلؤ و المرجان في تاريخ طغاة نجدان " للشيخ كيوان بن مسلم ، الملقب بأحمر الدنان ، فأجبته قائلا :
- كانت عندنا منه نسخة وحيدة ، يا مولاي الطاغية ، و قد استعارها الشيخ أبو إسحاق العسقلاني ، الملقب بظل الحجر ، أيام كان وزيرا للغة و المعاجم ، و لكنه لم يُعدْها و لم يجرؤ أحد منا على مطالبته بذلك ، ثم كان بعد ذلك ما كان من غضبك عليه و من تسييره إلى الكثيب ، فانقطع عنا خبره ولم يعد بوسعنا استعادة النسخة .
فغضبَ الطاغية غضبا شديدا لدى سماعه ذلك الكلام و قال لي :
- يا عدو نفسه ، ألأجل هذا جعلتك أمينا لدار الكتب؟ كيف تضيع منك النسخة الوحيدة من هذا الكتاب النفيس؟ ألا تعلم أن الشيخ كيوان قد قام بتأليفه بأمر من جدي المتسلط بأمر الله ، و أنه قد صرف العمر كله في تصنيفه ، و أنه لم يعش أكثر من شهرين بعد الانتهاء منه ؟
قال عيسى بن حجَر :
فلما سمعتُ كلام المستبد ، ضاقت عليّ الأرضُ كأنها حلقة خاتم ، و لم أعد أدري ما أفعل و لا كيف أجيب ، فأسلمتُ أمري للخالق سبحانه و بقيتُ واقفا لا أتحرك و قد شملني تبلّدٌ مُميت .
ثم إن الطاغية توجه بالكلام إلى الحاضرين و قال :
- يا معشر الوزراء و الشعراء و الأعيان ، أليس فيكم رجل يحفظ هذا الكتاب ؟
و إذا بالشيخ المفضل الخالدي ، الفقيه الشاعر الخطاط ، ينهض و يقول :
- أنا أحفظه يا مولاي .
فتهللتْ و الله أسارير الطاغية عند سماعه ذلك الكلام و بدا عليه الانشراح و قال للشيخ المفضل :
- فهات اقرأ علينا الآن من حفظك الوصية َ الواردة في المقدمة ، و هي وصية جدي الأكبر الجائر بإذن الله لولي عهده المتسلط بأمر الله.
قال الشيخ المفضل :
- السمع و الطاعة يا مولانا المستبد .
ثم إنه وقف بعد ذلك و شرع يقرأ كأنما يُملى عليه ، أو كأن يدا خفية تقلب أمامه صفحات ذلك الكتاب الذي لا تراه العيون. فمن ضمن ما جاء في تلك الوصية العجيبة :
" يا بنيّ، اعلم أنه لا يوجد في الدنيا تاجٌ أكبر و لا أعظم من تاج الطغيان . فإذا أنتَ تبوأتَ هذه المرتبة الرفيعة ، فإن أول ما ينبغي أن تقوم به هو أن تقتصّ من المظلوم للظالم، و أن تضع الجاهل فوق مرتبة العالم ، و أن تأخذَ الأخيار بالشراسة و الأشرارَ بالكياسة.
و لا تعْفُ عن بريء قط ، و لا تعاقبْ إلا و أنتَ غضبان ، حتى يتحقق لك الجور المنشود و الظلم المقصود ، لأنك إذا تركتَ العقوبة َ إلى أن يَسكتَ عنك الغضب قضيتَ بالذي يتناسب مع قوانين البلاد، و تلك مفسدة كبرى لنظام الطغيان و الاستبداد .
و اعلم يا بُني أن رأس الطغيان هو أن تَنصرَ الهوى على الرأي ، و ألا تُلزمَ نفسك بمشورة و لا بإجماع ، و أن تكون عديم المروءة ، غليظ الطباع ، تنسى كما ينسى الجاحد و تذْكُر كما يَذكر الحاقد ، حتى تأمن شر المنافق و الحاسد.
و اطردْ صاحبَ الحاجة بالعنف وخذْ ما لدى الناس بالعسف ، لأن تكثير مال الطاغية لا يَكُون إلا بالأخذ من أموال الرعية ،
و اعمل يا بنيّ على بثّ العيون في كل مكان ، وأحطْ نفسك برجال قد آثَروا دنياهم على دينهم لأن أمثال هؤلاء هم الذين يشترون القربَ منك بالابتعاد عن خالقهم ." . "
فلما بلغ الشيخ المفضل الخالدي هذا المبلغ أشار إليه الطاغية بيده و قال :
- حسبك أيها الشيخ . هذه درة من الدرر ، و أنت خطاط لا يضاهيك أحد في هذا الفن ، فإذا كان الغد فاكتبها بماء الذهب، حتى نعلقها عند مدخل قصرنا العامر. و سيكون عليك ، بعد ذلك ، أن تكتب نسختين كاملتين من كتاب الشيخ كيوان هذا ، و أن تسلمهما للأمين الجديد لدار الكتب ، الذي سنقوم بتعيينه بعد أيام قليلة .
قال الشيخ عيسى بن حجَر :
و لما انتهى المستبد من كلامه ، أشار إلى رجاله ثم إليّ ، فلم أدر إلا و قد قيدوني بالسلاسل و اقتادوني إلى مخفر قريب من القصر. و كانت تلك بداية محنة أليمة ، دامت سبع سنوات و أربعة أشهر، قضيتها بأكملها في سجن الكثيب.