نقوس المهدي
كاتب
من يطالع كتب التراث يرى فيها العجَبَ العُجاب من أخبار السابقين وأحوالهم وثقافاتهم. فلكل زمان ظروفه ومعطياته، وكل زمان تحيله الأحوال كما قال الشاعر(1):
إنما الحالُ تقتضي حالَ صبرٍ لِزَمانٍ تُحِيلهُ الأَحوالُ
حِكَمٌ قد جَرَت لكل زَمانٍ دولةٌ وَفقَ حالهِ ورِجالُ
ولكي يَظهَرَ الصفيُّ ويُبلى قَمِنٌ ان يَهُزَّنا الغِربالُ
كلُّ ما فوقَ ذا الثَرَى مستحيلٌ بل لكلٍّ تغيُّرٌ وابتدالُ
ليسَ شيءٌ بثابتِ الحالِ الَّا مَن لهُ العِزُّ دائماً والجَلالُ
خالقي عادلٌ وذلك حسبي لم يَضِع قطُّ عندهُ مثقالُ
ونحن حين نقرأ أخبارا لا تتفق مع مفاهيمنا الاجتماعية والأخلاقية، او بالأحرى لا تتماشى مع مفاهيمنا الدينية، نقع في حيرة واضطراب؛ خاصة شبابنا المتدين الخلوق. فما كنا نظنه من الأسلاف من خير لا نجده كله خيرا، ومن كنا نراهم قدوة لنا نجد أنهم ليسوا جميعا كما رأينا او ظننا.. ذلك أن كل ابن ادم خطّاء، وخير الخطائين المستغفرون أو التوابون ،كما ورد في الأثر النبوي الشريف. وسواء علينا صح هذا الأثر او لم يصح، فإن معناه لا ينكره العقل السليم، ولا تأباه التجربة والمراقبة والمعاناة.
والناس طوال حيواتهم منهم الصالح ومنهم الطالح، وفيهم الآثم وفيهم المستغفر التائب وفيهم وفيهم ...فعلينا إذن أن لا نُفاجأ ببعض ما نقرؤه من أخبار لا تسرّنا، ولا نتسرع في الحكم عليها بالكذب والاختلاق. صحيح أن كتب التراث لا تخلو من أكاذيب، ولا تخلو من تعصب مقيت لمذهب أو رأي أو نِحلة؛ خاصة تلك التي تعنى بالقصص الخيالي، وتلك التي صنفها أصحابها وفقا لأهوائهم من أجل بغضهم فرقة من الفرق ، او مذهباً من المذاهب، أو حزباً من الأحزاب ، بل إن من كتب التراث ،التي نسميها بالدينية، ما يتضمن أخبارا وأقوالا أو تفسيرات لا يمكن تصديقها بحال من الأحوال؛ ولكنّ كثرة المطالعة تنمي القدرة على استخلاص الحقيقة من تلك الكتب، أو ما يقرب من الحقيقة على أقل تقدير.
المهم عندنا ان نأخذ العبرة من ماضٍ تولى، لحاضر يتجلى بحلوه ومره، وربما بمحاسنه أحياناً، وبمساوئه أحايين كثيرة واأسفاه!
قال الشاعر(2):
أقولُ لدهر قد توالت خُطوبُهُ أليس لهذا يا زمانُ زوالُ ؟!
فقال اصطبر كم دولة قد تغيّرت لكلّ زمان دولةٌ ورجالُ
إن الذي حفزني لأكتب ما أكتبه في هذه المقالة هو اني طالعت كتيّباً للمرحوم الشيخ علي الطنطاوي(3) يتعلق بأشعار الفقهاء القدامى، وقد سماه" من غزل الفقهاء"، وأن أولئك الفقهاء كانوا على قدر كبير من الاهتمام بنظم الأشعار الرائقة؛ خلافا لما توهمه البعض من أن الفقهاء ليسوا بشعراء، وإنما هم ناظمون ينظمون القصائد الخالية من الإبداع الشعري، والتي تنتمي إلى سلسلة المنظومات الفقهية والنحوية، كألفية ابن مالك في النحو على سبيل المثال. وقد تتبع الشيخ الطنطاوي بعض أشعار الفقهاء فألفاها أشعارا جيدة، فيها من ألوان البيان والبديع والمعاني ما يجعلها في مصاف القصائد الممتازة، وقام بسرد عدد منها، ومن بينها قصيدة للقاضي شمس الدين أحمد بن خلكان المؤرخ الشهير(4)، بيد أن في قصيدته مصيبة شنعاء ، لا من جهة جودتها الشعرية؛ إنما مما وقع فيه ابن خلكان من هوىً خاطيء مخزٍ يتعلق بعشقه للذكران، ولا حول ولا قوة إلا بالله! غير أن المتمعن في ما كان عليه عصر ابن خلكان من انتشار الغزل بالمردان، وهم صغار الشبان الذين لم تنبت لحاهم بعد، وتأليف الأشعار المبتذلة المتهتكة بمحاسنهم وبصفاتهم الجسمية، ينقضي بعض عجبه إذا علم ما لتأثير البيئة على من يعيش فيها.
قال ابن حجة الحموي (5) في " ثمرات الأوراق والمحاضرات":
"ومن لطائف المنقول عن قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان، رحمه الله تعالى، أنه كان يهوى بعض أولاد الملوك، وله فيه الأشعار الرائقة يقال: إن أول يوم زاره بسط له الطرحة وقال ما عندي أعز من هذه طأ عليها ولما فشا أمرهما وعلم به أهل منعوه من الركوب فكتب إليه:
يا سادتي إني قنعت وحقكم في حبكم منكم بأيسر مطلب
إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ورأيتمُ هجري وفرط تجنبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ألقاه من كمدٍ إذاً لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالةٍ لولاك لم يك حملها من مذهبي
ومن البليّة والرزيّة أنني أقضي وما تدري الذي قد حل بي (6)
قسما بوجهك وهو بدر طالعٌ وبليل طرتك التي كالغيهب
وبقامةٍ لك كالقضيب ركبتُ من أخطارها في الحبِّ أصعبَ مركب
لو لم أكن في رتبةٍ أرعى لها ال عهد القديم صيانةً للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذّ لي خلع العذار ولجَّ فيك مؤنِّبي
لكن خشيت بأن تقول عواذلي قد جنَّ هذا الشيخ في هذا الصبي
فأرحم فديتُك حُرقةً قد قاربت كشف القناع بحق ذياك النبي
قال الشيخ جمال الدين بن عبد القادر التبريزي: الذي يهواه القاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله الملك المسعود بن الملك الظاهر وكان قد تيمه حبه وكنت أنام عنده بالعادلية فتحدثنا في بعض الليالي إلى أن ذهب الناس، فقال لي: نم أنت ههنا وألقى عليَّ فروة قرظ وقام يدور حول بركة العادلية ويقول في دورانه:
أنا والله هالكٌ آيسٌ من سلامتي
أو أرى القامة التي قد أقامت قيامتي" أ.ه
أقول: يا ابن خلكان، غفر الله لنا ولك، ليتك وأنت العالم الجهبذ، والمؤرخ المدقق، أمتعتنا بالتغزل بربات الحجال دون ان تذكر اسما، أو لفظا خادشا للحياء والمروءة! فأمر طبيعي أن يحب الرجل المرأة، وأن تحب المرأة الرجل، بل هذا هو المطلوب والمرغوب، وإلا كيف تقوم الأسر؟ أليست على المحبة والمودة والإخلاص؟ أم هي تقوم على أمراض قلبية، ونوازع شيطانية؟! حاشا وكلا!
وأقول أنا كاتب هذه المقالة: لقد كانت مصيبة، بل كارثة انتشار الرقيق من الذكور والإناث في ذلك العصر، وهذا الانتشار من اهم الدوافع عندي، التي دفعت بمن يقتنونهم إلى الوقوع في المهالك الأخلاقية، والأمراض القلبية حتى أن كثيرا ممن عرفوا بالصلاح وبالعلم الديني نسبت إليهم أشعار في هذا المضمار، بل إن منهم من ألف في ذلك الكتب؛ ليظهر مقدرته الشعرية في الغزل والوصف! وانظر، على سبيل المثال لا الحصر، في رسالة اسمها: " جنة الولدان في الحسان من الغلمان" للشهاب الحجازي(4) تجد فيها ما لا يخطر ببالك أو ببال غيرك من عباد الله في عصرنا من أشعار فاضحة. وفي أيامنا لا أظنك تجد من يتغزل بالغلمان مهما بلغ من السفاهة والسفالة، وربما لو فعل ذلك أحد لاستهزأ به الناس أيما استهزاء. على أن الشهاب الحجازي، غفر الله لنا وله، قصد إظهار مقدرته الشعرية على ما يبدو؛ وفقا لما طلبه منه بعض أصحابه كما قال، وأن هذا النوع من الشعر هو الرائج في زمانه، ولهذا لم يترك صاحب مهنة، او خليفة ، أو شاعرا ، او قاضيا أو، أو...إلا وتغزل به، بل إنه تغزل بالعميان وبالطرشان وبالخرسان وبالمجانين وبالعوران، وبمن في لسانه لثغة، وبمن لا يخطر في بال. ولكن داهية الدواهي هي أنه دخل على غلام مشرف على الموت وأخذ يتغزل به !!
قال:
" وقلت في مليح ضعيف عدتُهُ فوجدته في السياق(سياق الموت):
عُدتُ حبيبي وهو في كربه وقلتُ لمّا العقل قد طاشا
يا طولَ حزني بعده وعسى ينعشني بالوصل إن عاشا ".
وبعد، هل كان فنك يا شهاب يا حجازي، أن تظهر براعتك في الإنعاش وفي إن عاش؟! ليتك أظهرت تلك البراعة، كما حسبوها في زمنك براعة، في موضوع غير الذي قلته، وما أكثر المواضيع! ثم أخلص إلى القول: ابناء آدم (عليه السلام) خطاؤون، وعلينا أن نصلح من عيوبنا. والبيئة لها أثر بيّن في العادات، صحيحها وسقيمها. وعلى الشباب الفتي الصاعد ان يعلم أن كتب التراث فيها الحسن المفيد، وفيها لذوي الألباب عبرة تُعتبر، وفيها عادات وتقاليد وأفهام تُذم أو تُحمد، فعليه أن يسعى لخلق بيئة طيبة، كل وَفق ما ييسره الله تعالى له، وأن لا يضجر مما في الكتب التراثية مما لا يعجبه، بل يتناولها بعين النقد المبصرة، ولا فائدة من إخفائها أو طمسها إلا تشويه تراث واجبنا في رأيي أن نرعاه ونحافظ عليه؛ لأن فيه العبرة القيمة، والموعظة اللينة، والتاريخ الحافل بالتقلبات.
وانظرُ في أمر الرقيق وكيف شجع الدينُ الحنيف على التخلص منه بالتدرج في ذلك، فأجد المسلمين بعد صدر الإسلام قد كثر الرق لديهم بدل أن يقل، ثم أصبح الرقيق يباع ويشترى في الأسواق، ثم في عهد بني العباس ازداد الرقيق أكثر.. فأين ما أراده الله تعالى منا من تحرير العبيد إذن؟! أذكر أني قرأت مرة قصيدة لشاعر من العصر العباسي لا أذكر اسمه الآن يتحسر فيها على بغداد بعد خرابها (أظن على أيدي التتار)، وأكثر ما تحسر عليه الشاعر سوق الرقيق ببغداد، حيث كان بإمكانه ابتياع الجواري والغلمان كيف شاء ومتى شاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1103 - 1169 هـ / 1692 - 1756 م نقولا (أو نيقولاوس) الصائغ الحلبي.شاعر، كان الرئيس العام للرهبان الفاسيليين القانونيين المنتسبين إلى دير مار يوحنا الشوير. وكان من تلاميذ جرمانوس فرحات بحلب. له (ديوان شعر-ط) وفي شعره متانة وجودة، قال مارون عبود: أصلح الشيخ إبراهيم اليازجي كثيراً من عيوبه حين وقف عليه.(الموسوعة الشعرية).
2 ــــ علي الغراب الصفاقسي: ? - 1183 هـ / ? - 1767 م ، أبو الحسن.شاعر خلاعي له علم بفقة المالكية من أهل صفاقس.(الموسوعة الشعرية). ذكرني الآن اسم هذا الشاعر ببيتين من الشعر أعجبت بهما وهما لابنة ابن السّكان المالقية الأندلسية، وقد قالتهما على البديهة حينما طُلب منها وصف غراب مر لتوه:
مرّ غراب بنا يمسح وجه الربى
قلنا له مرحبا يا لونَ شعر الصّبى
فجعلتنا بعد أن شابت منا الرؤوس ، وأعول منا شبابنا من عَوْده الميؤوس ، نحب لون الغراب ونستريح له. اما البيتان فبالإمكان جعلهما بيتا واحدا لمن يشاء.
3 ــــ الشيخ علي الطنطاوي: (23 جمادى الأولى 1327 هـ 12 يونيو 1909م - 18 يونيو عام 1999م الموافق 4 ربيع الأول 1420 هـ) هو فقيه وأديب وقاض سوري، ويُعتبر من كبار أعلام الدعوة الإسلامية والأدب العربي في القرن العشرين.( ويكيبيديا)
أقول: الذين عاصروا الشيخ الطنطاوي أحبوه كثيرا، وأنا منهم، من خلال برامج تلفازية كان يظهر فيها في رمضان على مدى سنوات. وكان التلفاز الأردني يبث للشيخ حلقات في شهور رمضان في السبعينات من القرن الفائت، ثم انقطع عن ذلك دون أن أعلم السبب . وفي عام 1979 ذهبت للعمل في العاصمة الأردنية حيث علمت ان للشيخ ابنة متزوجة وتسكن بعمان ويأتي ليزورها. وقد سألت بعض من أعرفهم عن سبب انقطاع برنامجه، فعلمت أنه في إحدى الحلقات انتقد واحدة من الفنانات المغنيات وذكرها بالاسم ووصفها بالعجوز المتصابية، فأقامت تلك المغنية عليه دعوى قضائية، ثم قام التلفاز الأردني بُعيد ذلك بمنع عرض حلقاته. وكانت تلك في رأيي هفوة من الشيخ حين ذكر اسم المغنية، وهو لو لم يذكر الاسم، لما جرى له ما جرى. رحمه الله وأحسن إليه.
4 ــــ ابن خِلّكان(ت681هـ) أحمد بن محمد ...بن خلكان البرمكي الإربلي. مؤرخ حجة، وأديب ماهر، صاحب (وفيات الأعيان) وهو أشهر كتب التراجم...(الموسوعة الشعرية).
5 ــــ ابن حِجة الحموي : ( ت 837هـ) .إمام أهل الأدب في عصره. من اهل حماة، ولد ونشأ وتوفي بها.(الموسوعة الشعرية).
6 ــــ (قال المرحوم علي الطنطاوي في كتيّبه " من غزل الفقهاء" عن هذا البيت: بل البلية والله أن يكون قاضيا ويعشق الغلمان، هذا مع الثقة بدينه، وأنه لا يطلب حراما، ولا يأتيه مختارا ــــــــ غفر له الله.). وهذا البيت لم أجده في ثمرات الاوراق لابن حجة ووجدته في (ذيل مرآة الزمان ) لليونيني(ت726هـ، مؤرخ أصله من بعلبك. كان فاضلا مليح المحاضرة. توفي في دمشق)، والذي أورد قصيدة ابن خلكان بتمامها.
إنما الحالُ تقتضي حالَ صبرٍ لِزَمانٍ تُحِيلهُ الأَحوالُ
حِكَمٌ قد جَرَت لكل زَمانٍ دولةٌ وَفقَ حالهِ ورِجالُ
ولكي يَظهَرَ الصفيُّ ويُبلى قَمِنٌ ان يَهُزَّنا الغِربالُ
كلُّ ما فوقَ ذا الثَرَى مستحيلٌ بل لكلٍّ تغيُّرٌ وابتدالُ
ليسَ شيءٌ بثابتِ الحالِ الَّا مَن لهُ العِزُّ دائماً والجَلالُ
خالقي عادلٌ وذلك حسبي لم يَضِع قطُّ عندهُ مثقالُ
ونحن حين نقرأ أخبارا لا تتفق مع مفاهيمنا الاجتماعية والأخلاقية، او بالأحرى لا تتماشى مع مفاهيمنا الدينية، نقع في حيرة واضطراب؛ خاصة شبابنا المتدين الخلوق. فما كنا نظنه من الأسلاف من خير لا نجده كله خيرا، ومن كنا نراهم قدوة لنا نجد أنهم ليسوا جميعا كما رأينا او ظننا.. ذلك أن كل ابن ادم خطّاء، وخير الخطائين المستغفرون أو التوابون ،كما ورد في الأثر النبوي الشريف. وسواء علينا صح هذا الأثر او لم يصح، فإن معناه لا ينكره العقل السليم، ولا تأباه التجربة والمراقبة والمعاناة.
والناس طوال حيواتهم منهم الصالح ومنهم الطالح، وفيهم الآثم وفيهم المستغفر التائب وفيهم وفيهم ...فعلينا إذن أن لا نُفاجأ ببعض ما نقرؤه من أخبار لا تسرّنا، ولا نتسرع في الحكم عليها بالكذب والاختلاق. صحيح أن كتب التراث لا تخلو من أكاذيب، ولا تخلو من تعصب مقيت لمذهب أو رأي أو نِحلة؛ خاصة تلك التي تعنى بالقصص الخيالي، وتلك التي صنفها أصحابها وفقا لأهوائهم من أجل بغضهم فرقة من الفرق ، او مذهباً من المذاهب، أو حزباً من الأحزاب ، بل إن من كتب التراث ،التي نسميها بالدينية، ما يتضمن أخبارا وأقوالا أو تفسيرات لا يمكن تصديقها بحال من الأحوال؛ ولكنّ كثرة المطالعة تنمي القدرة على استخلاص الحقيقة من تلك الكتب، أو ما يقرب من الحقيقة على أقل تقدير.
المهم عندنا ان نأخذ العبرة من ماضٍ تولى، لحاضر يتجلى بحلوه ومره، وربما بمحاسنه أحياناً، وبمساوئه أحايين كثيرة واأسفاه!
قال الشاعر(2):
أقولُ لدهر قد توالت خُطوبُهُ أليس لهذا يا زمانُ زوالُ ؟!
فقال اصطبر كم دولة قد تغيّرت لكلّ زمان دولةٌ ورجالُ
إن الذي حفزني لأكتب ما أكتبه في هذه المقالة هو اني طالعت كتيّباً للمرحوم الشيخ علي الطنطاوي(3) يتعلق بأشعار الفقهاء القدامى، وقد سماه" من غزل الفقهاء"، وأن أولئك الفقهاء كانوا على قدر كبير من الاهتمام بنظم الأشعار الرائقة؛ خلافا لما توهمه البعض من أن الفقهاء ليسوا بشعراء، وإنما هم ناظمون ينظمون القصائد الخالية من الإبداع الشعري، والتي تنتمي إلى سلسلة المنظومات الفقهية والنحوية، كألفية ابن مالك في النحو على سبيل المثال. وقد تتبع الشيخ الطنطاوي بعض أشعار الفقهاء فألفاها أشعارا جيدة، فيها من ألوان البيان والبديع والمعاني ما يجعلها في مصاف القصائد الممتازة، وقام بسرد عدد منها، ومن بينها قصيدة للقاضي شمس الدين أحمد بن خلكان المؤرخ الشهير(4)، بيد أن في قصيدته مصيبة شنعاء ، لا من جهة جودتها الشعرية؛ إنما مما وقع فيه ابن خلكان من هوىً خاطيء مخزٍ يتعلق بعشقه للذكران، ولا حول ولا قوة إلا بالله! غير أن المتمعن في ما كان عليه عصر ابن خلكان من انتشار الغزل بالمردان، وهم صغار الشبان الذين لم تنبت لحاهم بعد، وتأليف الأشعار المبتذلة المتهتكة بمحاسنهم وبصفاتهم الجسمية، ينقضي بعض عجبه إذا علم ما لتأثير البيئة على من يعيش فيها.
قال ابن حجة الحموي (5) في " ثمرات الأوراق والمحاضرات":
"ومن لطائف المنقول عن قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان، رحمه الله تعالى، أنه كان يهوى بعض أولاد الملوك، وله فيه الأشعار الرائقة يقال: إن أول يوم زاره بسط له الطرحة وقال ما عندي أعز من هذه طأ عليها ولما فشا أمرهما وعلم به أهل منعوه من الركوب فكتب إليه:
يا سادتي إني قنعت وحقكم في حبكم منكم بأيسر مطلب
إن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ورأيتمُ هجري وفرط تجنبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ألقاه من كمدٍ إذاً لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالةٍ لولاك لم يك حملها من مذهبي
ومن البليّة والرزيّة أنني أقضي وما تدري الذي قد حل بي (6)
قسما بوجهك وهو بدر طالعٌ وبليل طرتك التي كالغيهب
وبقامةٍ لك كالقضيب ركبتُ من أخطارها في الحبِّ أصعبَ مركب
لو لم أكن في رتبةٍ أرعى لها ال عهد القديم صيانةً للمنصب
لهتكت ستري في هواك ولذّ لي خلع العذار ولجَّ فيك مؤنِّبي
لكن خشيت بأن تقول عواذلي قد جنَّ هذا الشيخ في هذا الصبي
فأرحم فديتُك حُرقةً قد قاربت كشف القناع بحق ذياك النبي
قال الشيخ جمال الدين بن عبد القادر التبريزي: الذي يهواه القاضي شمس الدين بن خلكان رحمه الله الملك المسعود بن الملك الظاهر وكان قد تيمه حبه وكنت أنام عنده بالعادلية فتحدثنا في بعض الليالي إلى أن ذهب الناس، فقال لي: نم أنت ههنا وألقى عليَّ فروة قرظ وقام يدور حول بركة العادلية ويقول في دورانه:
أنا والله هالكٌ آيسٌ من سلامتي
أو أرى القامة التي قد أقامت قيامتي" أ.ه
أقول: يا ابن خلكان، غفر الله لنا ولك، ليتك وأنت العالم الجهبذ، والمؤرخ المدقق، أمتعتنا بالتغزل بربات الحجال دون ان تذكر اسما، أو لفظا خادشا للحياء والمروءة! فأمر طبيعي أن يحب الرجل المرأة، وأن تحب المرأة الرجل، بل هذا هو المطلوب والمرغوب، وإلا كيف تقوم الأسر؟ أليست على المحبة والمودة والإخلاص؟ أم هي تقوم على أمراض قلبية، ونوازع شيطانية؟! حاشا وكلا!
وأقول أنا كاتب هذه المقالة: لقد كانت مصيبة، بل كارثة انتشار الرقيق من الذكور والإناث في ذلك العصر، وهذا الانتشار من اهم الدوافع عندي، التي دفعت بمن يقتنونهم إلى الوقوع في المهالك الأخلاقية، والأمراض القلبية حتى أن كثيرا ممن عرفوا بالصلاح وبالعلم الديني نسبت إليهم أشعار في هذا المضمار، بل إن منهم من ألف في ذلك الكتب؛ ليظهر مقدرته الشعرية في الغزل والوصف! وانظر، على سبيل المثال لا الحصر، في رسالة اسمها: " جنة الولدان في الحسان من الغلمان" للشهاب الحجازي(4) تجد فيها ما لا يخطر ببالك أو ببال غيرك من عباد الله في عصرنا من أشعار فاضحة. وفي أيامنا لا أظنك تجد من يتغزل بالغلمان مهما بلغ من السفاهة والسفالة، وربما لو فعل ذلك أحد لاستهزأ به الناس أيما استهزاء. على أن الشهاب الحجازي، غفر الله لنا وله، قصد إظهار مقدرته الشعرية على ما يبدو؛ وفقا لما طلبه منه بعض أصحابه كما قال، وأن هذا النوع من الشعر هو الرائج في زمانه، ولهذا لم يترك صاحب مهنة، او خليفة ، أو شاعرا ، او قاضيا أو، أو...إلا وتغزل به، بل إنه تغزل بالعميان وبالطرشان وبالخرسان وبالمجانين وبالعوران، وبمن في لسانه لثغة، وبمن لا يخطر في بال. ولكن داهية الدواهي هي أنه دخل على غلام مشرف على الموت وأخذ يتغزل به !!
قال:
" وقلت في مليح ضعيف عدتُهُ فوجدته في السياق(سياق الموت):
عُدتُ حبيبي وهو في كربه وقلتُ لمّا العقل قد طاشا
يا طولَ حزني بعده وعسى ينعشني بالوصل إن عاشا ".
وبعد، هل كان فنك يا شهاب يا حجازي، أن تظهر براعتك في الإنعاش وفي إن عاش؟! ليتك أظهرت تلك البراعة، كما حسبوها في زمنك براعة، في موضوع غير الذي قلته، وما أكثر المواضيع! ثم أخلص إلى القول: ابناء آدم (عليه السلام) خطاؤون، وعلينا أن نصلح من عيوبنا. والبيئة لها أثر بيّن في العادات، صحيحها وسقيمها. وعلى الشباب الفتي الصاعد ان يعلم أن كتب التراث فيها الحسن المفيد، وفيها لذوي الألباب عبرة تُعتبر، وفيها عادات وتقاليد وأفهام تُذم أو تُحمد، فعليه أن يسعى لخلق بيئة طيبة، كل وَفق ما ييسره الله تعالى له، وأن لا يضجر مما في الكتب التراثية مما لا يعجبه، بل يتناولها بعين النقد المبصرة، ولا فائدة من إخفائها أو طمسها إلا تشويه تراث واجبنا في رأيي أن نرعاه ونحافظ عليه؛ لأن فيه العبرة القيمة، والموعظة اللينة، والتاريخ الحافل بالتقلبات.
وانظرُ في أمر الرقيق وكيف شجع الدينُ الحنيف على التخلص منه بالتدرج في ذلك، فأجد المسلمين بعد صدر الإسلام قد كثر الرق لديهم بدل أن يقل، ثم أصبح الرقيق يباع ويشترى في الأسواق، ثم في عهد بني العباس ازداد الرقيق أكثر.. فأين ما أراده الله تعالى منا من تحرير العبيد إذن؟! أذكر أني قرأت مرة قصيدة لشاعر من العصر العباسي لا أذكر اسمه الآن يتحسر فيها على بغداد بعد خرابها (أظن على أيدي التتار)، وأكثر ما تحسر عليه الشاعر سوق الرقيق ببغداد، حيث كان بإمكانه ابتياع الجواري والغلمان كيف شاء ومتى شاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1103 - 1169 هـ / 1692 - 1756 م نقولا (أو نيقولاوس) الصائغ الحلبي.شاعر، كان الرئيس العام للرهبان الفاسيليين القانونيين المنتسبين إلى دير مار يوحنا الشوير. وكان من تلاميذ جرمانوس فرحات بحلب. له (ديوان شعر-ط) وفي شعره متانة وجودة، قال مارون عبود: أصلح الشيخ إبراهيم اليازجي كثيراً من عيوبه حين وقف عليه.(الموسوعة الشعرية).
2 ــــ علي الغراب الصفاقسي: ? - 1183 هـ / ? - 1767 م ، أبو الحسن.شاعر خلاعي له علم بفقة المالكية من أهل صفاقس.(الموسوعة الشعرية). ذكرني الآن اسم هذا الشاعر ببيتين من الشعر أعجبت بهما وهما لابنة ابن السّكان المالقية الأندلسية، وقد قالتهما على البديهة حينما طُلب منها وصف غراب مر لتوه:
مرّ غراب بنا يمسح وجه الربى
قلنا له مرحبا يا لونَ شعر الصّبى
فجعلتنا بعد أن شابت منا الرؤوس ، وأعول منا شبابنا من عَوْده الميؤوس ، نحب لون الغراب ونستريح له. اما البيتان فبالإمكان جعلهما بيتا واحدا لمن يشاء.
3 ــــ الشيخ علي الطنطاوي: (23 جمادى الأولى 1327 هـ 12 يونيو 1909م - 18 يونيو عام 1999م الموافق 4 ربيع الأول 1420 هـ) هو فقيه وأديب وقاض سوري، ويُعتبر من كبار أعلام الدعوة الإسلامية والأدب العربي في القرن العشرين.( ويكيبيديا)
أقول: الذين عاصروا الشيخ الطنطاوي أحبوه كثيرا، وأنا منهم، من خلال برامج تلفازية كان يظهر فيها في رمضان على مدى سنوات. وكان التلفاز الأردني يبث للشيخ حلقات في شهور رمضان في السبعينات من القرن الفائت، ثم انقطع عن ذلك دون أن أعلم السبب . وفي عام 1979 ذهبت للعمل في العاصمة الأردنية حيث علمت ان للشيخ ابنة متزوجة وتسكن بعمان ويأتي ليزورها. وقد سألت بعض من أعرفهم عن سبب انقطاع برنامجه، فعلمت أنه في إحدى الحلقات انتقد واحدة من الفنانات المغنيات وذكرها بالاسم ووصفها بالعجوز المتصابية، فأقامت تلك المغنية عليه دعوى قضائية، ثم قام التلفاز الأردني بُعيد ذلك بمنع عرض حلقاته. وكانت تلك في رأيي هفوة من الشيخ حين ذكر اسم المغنية، وهو لو لم يذكر الاسم، لما جرى له ما جرى. رحمه الله وأحسن إليه.
4 ــــ ابن خِلّكان(ت681هـ) أحمد بن محمد ...بن خلكان البرمكي الإربلي. مؤرخ حجة، وأديب ماهر، صاحب (وفيات الأعيان) وهو أشهر كتب التراجم...(الموسوعة الشعرية).
5 ــــ ابن حِجة الحموي : ( ت 837هـ) .إمام أهل الأدب في عصره. من اهل حماة، ولد ونشأ وتوفي بها.(الموسوعة الشعرية).
6 ــــ (قال المرحوم علي الطنطاوي في كتيّبه " من غزل الفقهاء" عن هذا البيت: بل البلية والله أن يكون قاضيا ويعشق الغلمان، هذا مع الثقة بدينه، وأنه لا يطلب حراما، ولا يأتيه مختارا ــــــــ غفر له الله.). وهذا البيت لم أجده في ثمرات الاوراق لابن حجة ووجدته في (ذيل مرآة الزمان ) لليونيني(ت726هـ، مؤرخ أصله من بعلبك. كان فاضلا مليح المحاضرة. توفي في دمشق)، والذي أورد قصيدة ابن خلكان بتمامها.