نقوس المهدي
كاتب
الباب الحادي والسبعون في ذكر العشق ومن بلي به والإفتخار بالعفاف وأخبار من مات بالعشق وما في معنى ذلك وفيه فصول
الفصل الأول في وصف العشق
قال الجاحظ العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود وقال أعرابي العشق خفي أن يرى وجلى أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وقيل أول العشق النظر وأول الحريق الشرر وكان العشاق فيما مضى يشق الرجل برقع حبيبته والمرأة تشق رداء حبيبها ويقولان إنهما إذا لم يفعلا ذلك عرض البغض بينهما وقال عبد بني الحسحاس
( وكم قد شققنا من رداء محبر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس )
( إذا شق برد شق بالبرد برقع ... من الحب حتى كلنا غير لابس )
وقيل لاعرابي ما بلغ من حبك لفلانه ؟ قال إني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف فأجد من ذكرها رائحة المسك وقيل رأى شبيب أخو بثينة جميلا عندها فوثب عليه وآذاه ثم إن شبيبا أتى مكة وجميل فيها فقيل لجميل دونك شبيبا فخذ بثأرك منه فقال
( فلما قل عن ذاك اصطباري ... قذفت به على وجه الغواني ) قال فانبسط الهاشمي ودفع إليه مالا ومضى إلى سبيله
قال علي بن الجهم قلت لقينة
( هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإن الحب أقصاني )
قالت تأتي من باب الذهب وأنشدت
( إجعل شفيعك منقوشا تقدمه ... فلم يزل مدنيا من ليس بالداني )
وكان أشعب يختلف قينة بالمدينة فجلس عندها يوما يطارحها الغناء فلما أراد الخروج قال لها ناوليني خاتمك أذكرك به قالت إنه من ذهب وأخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود فلعلك أن تعود وناولته عودا من الأرض وكان بعض القينات من الجمال والحسن بجانب ثم أصابتها علة فتغير حالها فكانت تنشد
( ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح )
( أباها علي الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح ) وكان المعتصم يحب قينة من حظاياه فاتفق أنه خرج إلى مصر وتركها فذكرها في بعض الطريق فاشتاق إليها فغلبه الوجد فدعا مغنيا له وقال ويحك قد ذكرت جاريتي فلانة بنت فلانة فأقلقني الشوق إليها فعسى أن تغنيني شيئا في معنى ما ذكرته لك فأطرق مليا ثم غناه
( وددت من الشوق المبرح أنني ... اعار جناحي طائر فأطير )
( فما لنعيم ليس فيه بشاشة ... وما لسرور ليس فيه سرور )
( وإن امرأ في بلد نصف قلبه ... ونصف بأخرى غيرها لصبور )
والحكايات في معنى ذلك كثيرة ولو أردت بسطها لاحتجت إلى مجلدات ولكن ما قل وجل خير من كثير يمل وفيما ذكرته كفاية والله المسؤول أن يمدني منه باللطف والعناية ونسأله التوفيق والهداية وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
( ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقا كل هذا التجنب )
فغنتاه الصوت فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لم يفهما عني وما أظن القحبتين إلا مدنيتين وأهل المدينة يسمونهابيت الخلاء فقال يا حبيبتي أين بيت الخلاء ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا ؟ قالت يقول غنياني
( خلا علي بقاع الأرض إذا ظنوا ... من بظن مكة واستراعائي الحزن )
قال فغنتاه فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ما أظن الفاسقتين إلا بصريتين وأهل البصرة يسمونها الحشوش فقال يا حبيبتي أين الحشوش ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا ؟ قالت يقول غنياني
( أوحشوني وعز صبري فيهم ... ما احتيالي وما يكون فعالي )
قال فاندفعتا تغنيانه فقال ما أراهما إلا كوفيتين وأهل الكوفة يسمونها الكنف فقال لهما يا حبيبتي أين الكنيف ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها يعيش سيدنا ما رأيت أكثر اقتراحا من هذا الرجل قالت ما يقول قالت يسأل أن تغني له
( تكنفني الهوى طفلا ... فشيبني وما اكتهلا )
فقال واويلاه وأعظم مصيبتاه هذا والهاشمي يتقطع ضحكا فقال لهما يا زانيتان إن لم تعلماني به أنا اعلمكما ثم رفع ثيابه وسلح عليهما وعلى الفراش فانتبه الهاشمي وقد غشي عليه من شدة الضحك وقال ويلك ما هذا تسلح على وطائي ؟ فقال الرجل حياة نفسي أعز علي من وطائك وقيل إنه لما قيل له ويلك ما هذا ؟ قال المضحك هذه الأبيات
( تكنفني الملاح واضجروني ... على ما بي بنيات الزواني )
وللمتوكل في قينة
( أمازحها فتغضب ثم ترضى ... فكل فعالها حسن جميل )
( فان غضبت فاحسن ذي دلال ... وان رضيت فليس لها عديل )
وحدث أبو عبد الله بن عبد البر قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال كان في المدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لأحداهما رشا وللأخرى جؤذر وكان بالمدينة رجل مضحك لا يكاد يغيب عن مجلس المستطرفين فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليسخر به فلما أتاه قال له أصلحك الله إنك لفي لذتك ولا لذة لي قال وما لذتك ؟ قال تحضر لي نبيذا فإنه لا يطيب لي عيش إلا به فأمر الهاشمي باحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه فتناوم الهاشمي وغمز جاريتيه عليه فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسمون الكنف بالمراحيض فقال لهما يا حبيبتي أين المرحاض ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا قالت يقول غنياني
( رحضت فؤادي فخليتني ... أهيم من الحب في كل وادي )
فاندفعتا تغنيانه فقال في نفسه والله ما أظنهما فهمتا عني وما أظنهما إلا مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج فقال يا حبيبتي أني المخرج ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا ؟ قالت يقول غنياني
( خرجت لها من بطن مكة بعدما ... أقام المنادي بالعشي فأعتما )
فاندفعتا يغنيانه فقال في نفسه لم يفهما عني وما أظنهما إلا شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب فقال يا حبيبتي أين المذاهب ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول حبيبنا ؟ قالوا يقول غنياني
فافتضها ثم أرسلها فعلمت مولاتها بذلك فكتبت إليه رقعة تقول فيها هذه الأبيات
( بعثت الرسول فأبطأ قليلا ... على الرغم مني فصبرا جميلا )
( وكنت الخليل وكان الرسول ... فصرت الرسول وصار الخليلا )
( كذا من يوجه في حاجة ... إلى من يجب رسولا جميلا )
قال فاستحسن الرشيد ذلك منها وأرسل إليها أنا عندك الليلة وأهدى داود بن روح المهلبي إلى المهدي جارية فحظيت عنده فواعدته المبيت عنده ليلة فمنعها الحيض فكتب إليها يقول
( لأهجرن حبيبا خان موعده ... وكان منه لصفو العيش تكدير )
فأرسلت إليه تجيبه
( لا تهجرن حبيبا خان موعده ... ولا تذمن وعدا فيه تأخير )
( ما كان حبسي إلا من حدوث أذى ... لا يستطاع له بالقول تفسير )
وقال محمد بن مروان يصف جارية له
( أمست تباع ولو تباع بوزنها ... درا بكى أسفا عليها البائع )
وكان للمأمون جويرية من أحسن الناس وأسبقهم إلى كل نادرة فحظت عنده فحسدها الجواري وقلن لا حسب لها فنقشت على خاتمها حسبي حسني فازداد بها المأمون عجبا فمستها الجواري فماتت فجزع عليها المأمون جزعا شديدا وقال
( اختلست ريحانتي من يدي ... أبكي عليها آخر الأبد )
( كانت هي الأنس إذا استوحشت ... نفسي من الأقرب والأبعد )
( وروضة كان بها مرتعي ... ومنهلا كان بها موردي )
( كانت يدي كان بها قوتي ... فاختلس الدهر يدي من يدي )
تسمع فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها فحرك ذلك ساكنا من قلبها فهملت عيناها وعلا نحيبها فانتبه سليمان فلم يجدها معه فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال فقال ما هذا يا ذلفاء ؟ فقالت
( ألا رب صوت رائع من مشوه ... قبيح المحيا واضع الأب والجد )
( يروعك منه صوته ولعله ... إلى أمة يعزى معا وإلى عبد )
فقال سليمان دعيني من هذا فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامر ثم قال يا غلام علي بسنان فدعت الذلفاء خادما لها فقالت له إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان فحذرته فلك عشرة آلاف درهم وأنت حر لوجه الله تعالى فخرج الرسولان فسبق رسول أمير المؤمنين سليمان فلما أتى به قال يا سنان ألم أنهك عن مثل هذا ؟ قال يا أمير المؤمنين حملني على ذلك حلمك وأنا عبد أمير المؤمنين وغرس نعمته فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عن عبده فليفعل قال قد عفوت عنك ولكن أما علمت أن الفرس إذا صهل ودقت له الحجرة وأن الفحل إذا هدر ضبعت له الناقة وأن الرجل إذا تغنى أصغت له المرأة إياك إياك والعود إلى ما كان منك فيطول غمك
وحكي أن الرشيد فصد يوما فأرسلت إليه بعض حظاياه قدحا فيه شراب مع وصيفة لها حسنة الوجه جميلة الطلعة بديعة المحيا وغطته بمنديل مكتوب عليه هذه الأبيات
( فصدت عرقا تبتغي صحة ... ألبسك الله به العافية )
( فاشرب بهذا الكأس يا سيدي ... واهنأ به من كف ذي الجارية )
( واجعل لمن أنفذه خلوة ... تحظى بها في الليلة الآتية )
قال فنظر الرشيد إلى الوصيفة التي جاءت بالقدح فاستحسنها
عني لشجو ما سمعت اعلم يا أبا زيد أن تلك التي رأيتها هي الذلفاء التي قيل فيها
( إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان )
شراؤها على أخي ألف ألف درهم وهي عاشقة لمن باعها والله إن مات ما يموت إلا بحبها ولا يدخل القبر إلا بغصتها وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت نهيه قم أبا زيد في دعة الله تعالى ثم قال يا غلام نفله ببدرة فأخذتها وانصرفت قال فلما أفضت الخلافة إليه صارت الذلفاء إليه فأمر بفسطاط فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر ما بين أصفر فاقع وأحمر ساطع وأبيض ناصع وكان لسليمان مغن يقال له سنان به يأنس وإليه يسكن فأمره أن يضرب فسطاطه بالقرب منه وكانت الذلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزه فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور وأتم حبور إلى أن انصرف من الليل إلى فسطاطه فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له نريد قرا أصلحك الله قال وما قراكم ؟ قالوا أكل وشرب وسماع قال أما الأكل والشرب فمباحان لكم وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه عنه إلا ما كان في مجلسه قالوا لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا قال فاختاروا صوتا واحدا أغنيكموه قالوا غننا صوت كذا فرفع صوته يغني بهذه الأبيات
( محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... من آخر الليل لما نبه السحر )
( في ليلة البدر ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر )
( لم يحجب الصوت احراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصوت منحدر )
( لو مكنت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من لينها في المشي تنفطر )
قال فسمعت الذلفاء صوت سنان فخرجت إلى صحن الفسطاط
واحدة منهن أحسن من صاحبتها وقد غابت الشمس وغنت الأطيار فتجاوبت وصفقت الرياح على الأشجار فتمايلت فقلت السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته وكان مطرقا فرفع رأسه وقال أبا زيد في مثل هذا حين تصاحبنا فقلت أصلح الله الأمير أو قامت القيامة ؟ قال نعم على أهل المحبة ثم أطرق مليا ورفع رأسه وقال أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا ؟ قلت أصلح الله الأمير قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولها غادة هيفاء مضمومة الفاء أشربها من كفها وأمسح فمي بخدها فأطرق سليمان مليا لا يرد جابا تنحدر من عينيه عبرات بلا شهيق فلما رأت الوصائف ذلك تنحين عنه ثم رفع رأسه فقال أبا زيد حضرت في يوم فيه انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك قلت نعم أصلح الله الأمير كنت جالسا عند دار أخيك سعيد بن عبد الملك فإذا أنا بجارية قد خرجت من باب القصر كأنها غزال انفلت من شبكة صياد عليها قميص سكب اسكندراني يبين منه بياض بدنها وتدوير سرتها ونقش تكتها وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها بذؤابتين تضربان إلى حقويها لها صدغان كأنهما نونان وحاجبان قد قوسا على محاجر عينيها وعينان مملوءتان سحرا وأنف كأنه قصبة بلور وفم كأنه جرح يقطر دما وهي تقول عباد الله من لي بدواء ما لا يشتكى وعلاج ما لا يسمى طال الحجاب وأبطأ الجواب والقلب طائر والعقل عازب والنفس والهة والفؤاد مختلس والنوم محتبس رحمة الله على قوم عاشوا تجلدا وماتوا كمدا ولو كان إلى الصبر حيلة أو إلى ترك الغرام سبيل لكان أمرا جميلا ثم أطرقت طويلا ورفعت رأسها فقلت لها أيتها الجارية إنسية أنت أم جنية سماوية أنت أم أرضية ؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك واذهلني حسن منطقك فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني ثم قالت أعذر أيها المتكلم فما أوحش الساعد بلا مساعد والمقاساة لصب معاند ثم انصرفت فوالله ما أكلت طعاما طيبا إلا غصصت به لذكرها ولا رأيت حسنا إلا سمج في عيني لحسنها فقال سليمان أبا زيد كاد الجهل يستفزني والصبا يعاودني والحلم يعزب
من القصر فأمسكها فبكت وقالت له يا سيدي الموت دون ذلك فقال أبو نواس هذا جزع الابكار فاتفق أنه خرج يوما من القصر وقد ترقرق الدجا فوجدها نائمة في سدلة وهي سكرى لا تفيق فتقرب منها وحل سراويلها ووقع عليها فإذا هي خالية من البكارة فارتاع وظن أن يكون أتاها دم فلم يجد فقام عنها وندم على ما كان منه وأنشد يقوله
( وناهدة الثديين من خدم القصر ... مرقوقة الخدين ليلية الشعر )
( كلفت بها دهرا على حسن وجهها ... طويلا وما حب الكواعب من أمري )
( فما زلت بالأشعار حتى خدعتها ... وروضتها والشعر من خدع السحر )
( أطالبها شيئا فقالت بعبرة ... أموت ولا هذا ودمعتها تجري )
( فلما تعارضنا توسطت لجة ... غرقت بها يا قوم في لجج البحر )
( فصحت أغثني يا غلام فجاءني ... وقد زلقت رجلي وصرت إلى الصدر )
( ولولا صياحي بالغلام وإنه ... تداركني بالحبل صرت إلى القعر )
( فأقسمت عمري لا ركبت سفينة ... ولا سرت طول الدهر إلا على ظهر )
ومن ذلك ما حدث الشيباني قال كان عند رجل بالعراق قينة وكان أبو نواس يختلف إليها وكانت تظهر له أنها لا تحب غيره وكان كلما دخل إليها وجد عندها شابا يجالسها ويحادثها فقال فيها هذه الأبيات
( ومظهرة لخلق الله ودا ... وتلقي بالتحية والسلام )
( أتيت لبابها أشكو إليها ... فلم أخلص إليه من الزحام )
( فيا من ليس يكفيها خليل ... ولا ألفا خليل كل عام )
( أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام )
وقال أبو سويد حدثني أبو زيد الأسدي قال دخلت على سليمان ابن عبد الملك وهو جالس في إيوان مبلط بالرخام الأحمر مفروش بالديباج الأخضر في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع وعلى رأسه وصائف كل كأنك قد رضيت عني فأنشدت ما سمعت قال وأنا والله رأيت مثل ذلك ثم قال يا علي هل رأيت أعجب من هذا الاتفاق ثم أخذ بيدها ومضى إلى حجرتها وكان من أمرهما ما كان
قيل وكان أمير المؤمنين الواثق إذا شرب رقد في موضعه الذي شرب فيه ومن كان معه من ندمائه وشرب رقد ولم يخرج فشرب يوما وخرج من كان عنده إلا مغنيا واحدا أظهر التراقد فترك وكانت مغنية من حظايا الخليفة نائمة فلما خلا المجلس كتب المغني رقعة ورمى بها إليها فإذا فيها
( إني رأيتك في المنام ضجيعتي ... مسترشفا من ريق فيك البارد )
( وكأن كفك في يدي وكأننا ... بتنا جميعا في لحاف واحد )
( ثم انتبهت ومنكباك كلاهما ... في راحتي وتحد خدك ساعدي )
( فقطعت يومي كله متراقدا ... لأرك في نومي ولست براقد )
فكتبت إليه على ظهرها تقول
( خيرا رأيت وكل ما أملته ... ستناله مني برغم الحاسد )
( وتبيت بين خلاخلي ودمالجي ... وتحل بين مراشفي ونواهدي )
( ونكون أنعم عاشقين تعاطيا ... ملح الحديث بلا مخافة راصد )
فلما مدت يدها لترمي إليه بالرقعة رفع الواثق رأسه فأخذها من يدها وقال ما هذا ؟ فحلفا له أنه لم يجر بينهما قبل ذلك كلام ولا كتاب ولا رسول إلا أن العشق قد خامرهما قال فاعتقها من وقتها وزوجها به وقلت خذها ولا تقربنا بعد اليوم وكان لأسماء بنت المهدي جارية يقال لها كاعب وكانت بكرا ناهدا بنت ثلاث عشرة سنة قال فتلاعب عليها أبو نواس فتمنعت فوقع في قلبه منها ما وقع وأحبته هي أيضا فجعل أبو نواس كلما أمسكها تمنعت فظفر بها ليلة من الليالي في ناحية
- الباب السبعون في ذكر القينات والأغاني
.
الفصل الأول في وصف العشق
قال الجاحظ العشق اسم لما فضل عن المحبة كما أن السرف اسم لما جاوز الجود وقال أعرابي العشق خفي أن يرى وجلى أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وقيل أول العشق النظر وأول الحريق الشرر وكان العشاق فيما مضى يشق الرجل برقع حبيبته والمرأة تشق رداء حبيبها ويقولان إنهما إذا لم يفعلا ذلك عرض البغض بينهما وقال عبد بني الحسحاس
( وكم قد شققنا من رداء محبر ... ومن برقع عن طفلة غير عانس )
( إذا شق برد شق بالبرد برقع ... من الحب حتى كلنا غير لابس )
وقيل لاعرابي ما بلغ من حبك لفلانه ؟ قال إني لأذكرها وبيني وبينها عقبة الطائف فأجد من ذكرها رائحة المسك وقيل رأى شبيب أخو بثينة جميلا عندها فوثب عليه وآذاه ثم إن شبيبا أتى مكة وجميل فيها فقيل لجميل دونك شبيبا فخذ بثأرك منه فقال
( فلما قل عن ذاك اصطباري ... قذفت به على وجه الغواني ) قال فانبسط الهاشمي ودفع إليه مالا ومضى إلى سبيله
قال علي بن الجهم قلت لقينة
( هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإن الحب أقصاني )
قالت تأتي من باب الذهب وأنشدت
( إجعل شفيعك منقوشا تقدمه ... فلم يزل مدنيا من ليس بالداني )
وكان أشعب يختلف قينة بالمدينة فجلس عندها يوما يطارحها الغناء فلما أراد الخروج قال لها ناوليني خاتمك أذكرك به قالت إنه من ذهب وأخاف أن تذهب ولكن خذ هذا العود فلعلك أن تعود وناولته عودا من الأرض وكان بعض القينات من الجمال والحسن بجانب ثم أصابتها علة فتغير حالها فكانت تنشد
( ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح )
( أباها علي الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح ) وكان المعتصم يحب قينة من حظاياه فاتفق أنه خرج إلى مصر وتركها فذكرها في بعض الطريق فاشتاق إليها فغلبه الوجد فدعا مغنيا له وقال ويحك قد ذكرت جاريتي فلانة بنت فلانة فأقلقني الشوق إليها فعسى أن تغنيني شيئا في معنى ما ذكرته لك فأطرق مليا ثم غناه
( وددت من الشوق المبرح أنني ... اعار جناحي طائر فأطير )
( فما لنعيم ليس فيه بشاشة ... وما لسرور ليس فيه سرور )
( وإن امرأ في بلد نصف قلبه ... ونصف بأخرى غيرها لصبور )
والحكايات في معنى ذلك كثيرة ولو أردت بسطها لاحتجت إلى مجلدات ولكن ما قل وجل خير من كثير يمل وفيما ذكرته كفاية والله المسؤول أن يمدني منه باللطف والعناية ونسأله التوفيق والهداية وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
( ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقا كل هذا التجنب )
فغنتاه الصوت فقال لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لم يفهما عني وما أظن القحبتين إلا مدنيتين وأهل المدينة يسمونهابيت الخلاء فقال يا حبيبتي أين بيت الخلاء ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا ؟ قالت يقول غنياني
( خلا علي بقاع الأرض إذا ظنوا ... من بظن مكة واستراعائي الحزن )
قال فغنتاه فقال إنا لله وإنا إليه راجعون ما أظن الفاسقتين إلا بصريتين وأهل البصرة يسمونها الحشوش فقال يا حبيبتي أين الحشوش ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا ؟ قالت يقول غنياني
( أوحشوني وعز صبري فيهم ... ما احتيالي وما يكون فعالي )
قال فاندفعتا تغنيانه فقال ما أراهما إلا كوفيتين وأهل الكوفة يسمونها الكنف فقال لهما يا حبيبتي أين الكنيف ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها يعيش سيدنا ما رأيت أكثر اقتراحا من هذا الرجل قالت ما يقول قالت يسأل أن تغني له
( تكنفني الهوى طفلا ... فشيبني وما اكتهلا )
فقال واويلاه وأعظم مصيبتاه هذا والهاشمي يتقطع ضحكا فقال لهما يا زانيتان إن لم تعلماني به أنا اعلمكما ثم رفع ثيابه وسلح عليهما وعلى الفراش فانتبه الهاشمي وقد غشي عليه من شدة الضحك وقال ويلك ما هذا تسلح على وطائي ؟ فقال الرجل حياة نفسي أعز علي من وطائك وقيل إنه لما قيل له ويلك ما هذا ؟ قال المضحك هذه الأبيات
( تكنفني الملاح واضجروني ... على ما بي بنيات الزواني )
وللمتوكل في قينة
( أمازحها فتغضب ثم ترضى ... فكل فعالها حسن جميل )
( فان غضبت فاحسن ذي دلال ... وان رضيت فليس لها عديل )
وحدث أبو عبد الله بن عبد البر قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال كان في المدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لأحداهما رشا وللأخرى جؤذر وكان بالمدينة رجل مضحك لا يكاد يغيب عن مجلس المستطرفين فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليسخر به فلما أتاه قال له أصلحك الله إنك لفي لذتك ولا لذة لي قال وما لذتك ؟ قال تحضر لي نبيذا فإنه لا يطيب لي عيش إلا به فأمر الهاشمي باحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه فتناوم الهاشمي وغمز جاريتيه عليه فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسمون الكنف بالمراحيض فقال لهما يا حبيبتي أين المرحاض ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا قالت يقول غنياني
( رحضت فؤادي فخليتني ... أهيم من الحب في كل وادي )
فاندفعتا تغنيانه فقال في نفسه والله ما أظنهما فهمتا عني وما أظنهما إلا مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج فقال يا حبيبتي أني المخرج ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول سيدنا ؟ قالت يقول غنياني
( خرجت لها من بطن مكة بعدما ... أقام المنادي بالعشي فأعتما )
فاندفعتا يغنيانه فقال في نفسه لم يفهما عني وما أظنهما إلا شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب فقال يا حبيبتي أين المذاهب ؟ فقالت إحداهما لصاحبتها ما يقول حبيبنا ؟ قالوا يقول غنياني
فافتضها ثم أرسلها فعلمت مولاتها بذلك فكتبت إليه رقعة تقول فيها هذه الأبيات
( بعثت الرسول فأبطأ قليلا ... على الرغم مني فصبرا جميلا )
( وكنت الخليل وكان الرسول ... فصرت الرسول وصار الخليلا )
( كذا من يوجه في حاجة ... إلى من يجب رسولا جميلا )
قال فاستحسن الرشيد ذلك منها وأرسل إليها أنا عندك الليلة وأهدى داود بن روح المهلبي إلى المهدي جارية فحظيت عنده فواعدته المبيت عنده ليلة فمنعها الحيض فكتب إليها يقول
( لأهجرن حبيبا خان موعده ... وكان منه لصفو العيش تكدير )
فأرسلت إليه تجيبه
( لا تهجرن حبيبا خان موعده ... ولا تذمن وعدا فيه تأخير )
( ما كان حبسي إلا من حدوث أذى ... لا يستطاع له بالقول تفسير )
وقال محمد بن مروان يصف جارية له
( أمست تباع ولو تباع بوزنها ... درا بكى أسفا عليها البائع )
وكان للمأمون جويرية من أحسن الناس وأسبقهم إلى كل نادرة فحظت عنده فحسدها الجواري وقلن لا حسب لها فنقشت على خاتمها حسبي حسني فازداد بها المأمون عجبا فمستها الجواري فماتت فجزع عليها المأمون جزعا شديدا وقال
( اختلست ريحانتي من يدي ... أبكي عليها آخر الأبد )
( كانت هي الأنس إذا استوحشت ... نفسي من الأقرب والأبعد )
( وروضة كان بها مرتعي ... ومنهلا كان بها موردي )
( كانت يدي كان بها قوتي ... فاختلس الدهر يدي من يدي )
تسمع فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها فحرك ذلك ساكنا من قلبها فهملت عيناها وعلا نحيبها فانتبه سليمان فلم يجدها معه فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال فقال ما هذا يا ذلفاء ؟ فقالت
( ألا رب صوت رائع من مشوه ... قبيح المحيا واضع الأب والجد )
( يروعك منه صوته ولعله ... إلى أمة يعزى معا وإلى عبد )
فقال سليمان دعيني من هذا فوالله لقد خامر قلبك منه ما خامر ثم قال يا غلام علي بسنان فدعت الذلفاء خادما لها فقالت له إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان فحذرته فلك عشرة آلاف درهم وأنت حر لوجه الله تعالى فخرج الرسولان فسبق رسول أمير المؤمنين سليمان فلما أتى به قال يا سنان ألم أنهك عن مثل هذا ؟ قال يا أمير المؤمنين حملني على ذلك حلمك وأنا عبد أمير المؤمنين وغرس نعمته فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عن عبده فليفعل قال قد عفوت عنك ولكن أما علمت أن الفرس إذا صهل ودقت له الحجرة وأن الفحل إذا هدر ضبعت له الناقة وأن الرجل إذا تغنى أصغت له المرأة إياك إياك والعود إلى ما كان منك فيطول غمك
وحكي أن الرشيد فصد يوما فأرسلت إليه بعض حظاياه قدحا فيه شراب مع وصيفة لها حسنة الوجه جميلة الطلعة بديعة المحيا وغطته بمنديل مكتوب عليه هذه الأبيات
( فصدت عرقا تبتغي صحة ... ألبسك الله به العافية )
( فاشرب بهذا الكأس يا سيدي ... واهنأ به من كف ذي الجارية )
( واجعل لمن أنفذه خلوة ... تحظى بها في الليلة الآتية )
قال فنظر الرشيد إلى الوصيفة التي جاءت بالقدح فاستحسنها
عني لشجو ما سمعت اعلم يا أبا زيد أن تلك التي رأيتها هي الذلفاء التي قيل فيها
( إنما الذلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان )
شراؤها على أخي ألف ألف درهم وهي عاشقة لمن باعها والله إن مات ما يموت إلا بحبها ولا يدخل القبر إلا بغصتها وفي الصبر سلوة وفي توقع الموت نهيه قم أبا زيد في دعة الله تعالى ثم قال يا غلام نفله ببدرة فأخذتها وانصرفت قال فلما أفضت الخلافة إليه صارت الذلفاء إليه فأمر بفسطاط فأخرج على دهناء الغوطة وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة تحتها أنواع الزهر ما بين أصفر فاقع وأحمر ساطع وأبيض ناصع وكان لسليمان مغن يقال له سنان به يأنس وإليه يسكن فأمره أن يضرب فسطاطه بالقرب منه وكانت الذلفاء قد خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزه فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان في أكمل سرور وأتم حبور إلى أن انصرف من الليل إلى فسطاطه فنزل به جماعة من إخوانه فقالوا له نريد قرا أصلحك الله قال وما قراكم ؟ قالوا أكل وشرب وسماع قال أما الأكل والشرب فمباحان لكم وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه عنه إلا ما كان في مجلسه قالوا لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا قال فاختاروا صوتا واحدا أغنيكموه قالوا غننا صوت كذا فرفع صوته يغني بهذه الأبيات
( محجوبة سمعت صوتي فأرقها ... من آخر الليل لما نبه السحر )
( في ليلة البدر ما يدري مضاجعها ... أوجهها عنده أبهى أم القمر )
( لم يحجب الصوت احراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصوت منحدر )
( لو مكنت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من لينها في المشي تنفطر )
قال فسمعت الذلفاء صوت سنان فخرجت إلى صحن الفسطاط
واحدة منهن أحسن من صاحبتها وقد غابت الشمس وغنت الأطيار فتجاوبت وصفقت الرياح على الأشجار فتمايلت فقلت السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته وكان مطرقا فرفع رأسه وقال أبا زيد في مثل هذا حين تصاحبنا فقلت أصلح الله الأمير أو قامت القيامة ؟ قال نعم على أهل المحبة ثم أطرق مليا ورفع رأسه وقال أبا زيد ما يطيب في يومنا هذا ؟ قلت أصلح الله الأمير قهوة حمراء في زجاجة بيضاء تناولها غادة هيفاء مضمومة الفاء أشربها من كفها وأمسح فمي بخدها فأطرق سليمان مليا لا يرد جابا تنحدر من عينيه عبرات بلا شهيق فلما رأت الوصائف ذلك تنحين عنه ثم رفع رأسه فقال أبا زيد حضرت في يوم فيه انقضاء أجلك ومنتهى مدتك وتصرم عمرك والله لأضربن عنقك أو لتخبرني ما أثار هذه الصفة من قلبك قلت نعم أصلح الله الأمير كنت جالسا عند دار أخيك سعيد بن عبد الملك فإذا أنا بجارية قد خرجت من باب القصر كأنها غزال انفلت من شبكة صياد عليها قميص سكب اسكندراني يبين منه بياض بدنها وتدوير سرتها ونقش تكتها وفي رجليها نعلان صراران قد أشرق بياض قدميها على حمرة نعليها بذؤابتين تضربان إلى حقويها لها صدغان كأنهما نونان وحاجبان قد قوسا على محاجر عينيها وعينان مملوءتان سحرا وأنف كأنه قصبة بلور وفم كأنه جرح يقطر دما وهي تقول عباد الله من لي بدواء ما لا يشتكى وعلاج ما لا يسمى طال الحجاب وأبطأ الجواب والقلب طائر والعقل عازب والنفس والهة والفؤاد مختلس والنوم محتبس رحمة الله على قوم عاشوا تجلدا وماتوا كمدا ولو كان إلى الصبر حيلة أو إلى ترك الغرام سبيل لكان أمرا جميلا ثم أطرقت طويلا ورفعت رأسها فقلت لها أيتها الجارية إنسية أنت أم جنية سماوية أنت أم أرضية ؟ فقد أعجبني ذكاء عقلك واذهلني حسن منطقك فسترت وجهها بكمها كأنها لم ترني ثم قالت أعذر أيها المتكلم فما أوحش الساعد بلا مساعد والمقاساة لصب معاند ثم انصرفت فوالله ما أكلت طعاما طيبا إلا غصصت به لذكرها ولا رأيت حسنا إلا سمج في عيني لحسنها فقال سليمان أبا زيد كاد الجهل يستفزني والصبا يعاودني والحلم يعزب
من القصر فأمسكها فبكت وقالت له يا سيدي الموت دون ذلك فقال أبو نواس هذا جزع الابكار فاتفق أنه خرج يوما من القصر وقد ترقرق الدجا فوجدها نائمة في سدلة وهي سكرى لا تفيق فتقرب منها وحل سراويلها ووقع عليها فإذا هي خالية من البكارة فارتاع وظن أن يكون أتاها دم فلم يجد فقام عنها وندم على ما كان منه وأنشد يقوله
( وناهدة الثديين من خدم القصر ... مرقوقة الخدين ليلية الشعر )
( كلفت بها دهرا على حسن وجهها ... طويلا وما حب الكواعب من أمري )
( فما زلت بالأشعار حتى خدعتها ... وروضتها والشعر من خدع السحر )
( أطالبها شيئا فقالت بعبرة ... أموت ولا هذا ودمعتها تجري )
( فلما تعارضنا توسطت لجة ... غرقت بها يا قوم في لجج البحر )
( فصحت أغثني يا غلام فجاءني ... وقد زلقت رجلي وصرت إلى الصدر )
( ولولا صياحي بالغلام وإنه ... تداركني بالحبل صرت إلى القعر )
( فأقسمت عمري لا ركبت سفينة ... ولا سرت طول الدهر إلا على ظهر )
ومن ذلك ما حدث الشيباني قال كان عند رجل بالعراق قينة وكان أبو نواس يختلف إليها وكانت تظهر له أنها لا تحب غيره وكان كلما دخل إليها وجد عندها شابا يجالسها ويحادثها فقال فيها هذه الأبيات
( ومظهرة لخلق الله ودا ... وتلقي بالتحية والسلام )
( أتيت لبابها أشكو إليها ... فلم أخلص إليه من الزحام )
( فيا من ليس يكفيها خليل ... ولا ألفا خليل كل عام )
( أراك بقية من قوم موسى ... فهم لا يصبرون على طعام )
وقال أبو سويد حدثني أبو زيد الأسدي قال دخلت على سليمان ابن عبد الملك وهو جالس في إيوان مبلط بالرخام الأحمر مفروش بالديباج الأخضر في وسط بستان ملتف قد أثمر وأينع وعلى رأسه وصائف كل كأنك قد رضيت عني فأنشدت ما سمعت قال وأنا والله رأيت مثل ذلك ثم قال يا علي هل رأيت أعجب من هذا الاتفاق ثم أخذ بيدها ومضى إلى حجرتها وكان من أمرهما ما كان
قيل وكان أمير المؤمنين الواثق إذا شرب رقد في موضعه الذي شرب فيه ومن كان معه من ندمائه وشرب رقد ولم يخرج فشرب يوما وخرج من كان عنده إلا مغنيا واحدا أظهر التراقد فترك وكانت مغنية من حظايا الخليفة نائمة فلما خلا المجلس كتب المغني رقعة ورمى بها إليها فإذا فيها
( إني رأيتك في المنام ضجيعتي ... مسترشفا من ريق فيك البارد )
( وكأن كفك في يدي وكأننا ... بتنا جميعا في لحاف واحد )
( ثم انتبهت ومنكباك كلاهما ... في راحتي وتحد خدك ساعدي )
( فقطعت يومي كله متراقدا ... لأرك في نومي ولست براقد )
فكتبت إليه على ظهرها تقول
( خيرا رأيت وكل ما أملته ... ستناله مني برغم الحاسد )
( وتبيت بين خلاخلي ودمالجي ... وتحل بين مراشفي ونواهدي )
( ونكون أنعم عاشقين تعاطيا ... ملح الحديث بلا مخافة راصد )
فلما مدت يدها لترمي إليه بالرقعة رفع الواثق رأسه فأخذها من يدها وقال ما هذا ؟ فحلفا له أنه لم يجر بينهما قبل ذلك كلام ولا كتاب ولا رسول إلا أن العشق قد خامرهما قال فاعتقها من وقتها وزوجها به وقلت خذها ولا تقربنا بعد اليوم وكان لأسماء بنت المهدي جارية يقال لها كاعب وكانت بكرا ناهدا بنت ثلاث عشرة سنة قال فتلاعب عليها أبو نواس فتمنعت فوقع في قلبه منها ما وقع وأحبته هي أيضا فجعل أبو نواس كلما أمسكها تمنعت فظفر بها ليلة من الليالي في ناحية
- الباب السبعون في ذكر القينات والأغاني
.