نقوس المهدي
كاتب
جنس
في الفصل الخاص بالروائي الفرنسي الخلاعي أندريا دو نرسيا (القرن الثامن عشر) من كتابه " تاريخ الأدب الإيروتيكي " (باريس، منشورات بايو، 1989)، يورد الباحث والأديب الكبير ساران ألكسندريان الحوار التالي بين الرجل " بريكون" والماركيزة، في رواية " الجسد الملتهب" لنرسيا: " لقد سقطت الأفكار المسبقة... أشدّ الناس محافظةً أصبحوا يحلّلون لأنفسهم كلّ شيء"، فتجيبه الماركيزة: " ما دمنا نمتنع عمّا يُقْرِف، أهلاً وسهلاً".
خلافاً للماركيز دو ساد، يخلو عالم نرسيا من الفظاظة والقسوة، فلا جَلْد ولا قَتْل، وتنحصر الرذيلة في الحرقصة دون أذى.
نحن هنا بعيدون عن الغلوّ الدراماتيكي، خارج عالم " الإرهاب الإيروتيكي" كما يعبّر ألكسندريان في عنوان فصله عن ساد. صور المشاهد الخلاعيّة نفسها مضبوطة داخل نظام هو أقرب إلى بلاغة جمود نابض، منه إلى الاحتفالات الباخوسيّة الفاجرة، وعندما يصف نرسيا نشوةَ امرأة لا يتحدّث عن صراخٍ وعربدة بل عن تفاصيل دقيقة لا تلحظها إلّا عين الخبير.
عند المفاضلة بين سلوك جنسيّ يبني تميّزه على غرابات غير مؤذية وآخر قائم على التعذيب والتضحية بالآخر وصولاً أحياناً إلى القتل لا ريب في اختيار الأول. الثاني قد يُحتمل على الورق لكنّه قطعاً مرفوض في الممارسة الواقعيّة. ساد نفسه يقال إنه في الحياة الواقعيّة كان على الأغلب لطيفاً ولم يَقتل ويُفظّع إلّا على الورق وخاصّة حين اختلَّ ما بقي من توازنه العصبي بسبب تمضيته أكثر من ربع قرن داخل السجون وهو الشخص الذي ينطوي عالمه الكتابي على شغفٍ بالحريّة لم يبلغ مداه أحد. وعندما نضع الأهوال الإجراميّة (التي هي في الواقع مضحكة أكثر ممّا هي مرعبة) في إطارها الحقيقي، أي الإطار الرمزي، ونُعيد الخيالات الدمويّة إلى أصلها وهو الذهن والذهن وحده، وتوتّر العصب الذهني على قَدْر توقه اللانهائي إلى اختراق الحدود، يبدو ساد أقلّ جنسيّة من جميع أقرانه في الكتابة الإيروتيكيّة، وكلّ النساء عنده امرأتان: الضحيّة (جوستين) والجلّادة (شقيقتها جولييت) وكلّ الرجال عنده " بنات" ذهنه الذي يطير ويحلّق ولا يتنفّس إلّا بمواصلة التحليق، يَسْكر بالهواء وبهواء الهواء ويتعطّش إلى أكثر، والأكثر ليس هو عَيش العربدة بل عربدةُ الفكر، عربدةٌ تُفتّق الأزرار المرئيّة والمخفيّة، عربدةٌ أقوى من انفجار مجموع البراكين كافة، عربدةٌ كونيّة، خميرتها الفكر لا لحم الجسد، وما لحم الجسد فيها سوى شرارة للوحي، والباقي كلام، كلام هو قنابل الكلام النوويّة، هو أعلى درجة بلغتها حمّى الكلام في تواريخ اللغات البشريّة.
وهل الشَبَق إلّا زَبَدُ الخيال؟
.
في الفصل الخاص بالروائي الفرنسي الخلاعي أندريا دو نرسيا (القرن الثامن عشر) من كتابه " تاريخ الأدب الإيروتيكي " (باريس، منشورات بايو، 1989)، يورد الباحث والأديب الكبير ساران ألكسندريان الحوار التالي بين الرجل " بريكون" والماركيزة، في رواية " الجسد الملتهب" لنرسيا: " لقد سقطت الأفكار المسبقة... أشدّ الناس محافظةً أصبحوا يحلّلون لأنفسهم كلّ شيء"، فتجيبه الماركيزة: " ما دمنا نمتنع عمّا يُقْرِف، أهلاً وسهلاً".
خلافاً للماركيز دو ساد، يخلو عالم نرسيا من الفظاظة والقسوة، فلا جَلْد ولا قَتْل، وتنحصر الرذيلة في الحرقصة دون أذى.
نحن هنا بعيدون عن الغلوّ الدراماتيكي، خارج عالم " الإرهاب الإيروتيكي" كما يعبّر ألكسندريان في عنوان فصله عن ساد. صور المشاهد الخلاعيّة نفسها مضبوطة داخل نظام هو أقرب إلى بلاغة جمود نابض، منه إلى الاحتفالات الباخوسيّة الفاجرة، وعندما يصف نرسيا نشوةَ امرأة لا يتحدّث عن صراخٍ وعربدة بل عن تفاصيل دقيقة لا تلحظها إلّا عين الخبير.
عند المفاضلة بين سلوك جنسيّ يبني تميّزه على غرابات غير مؤذية وآخر قائم على التعذيب والتضحية بالآخر وصولاً أحياناً إلى القتل لا ريب في اختيار الأول. الثاني قد يُحتمل على الورق لكنّه قطعاً مرفوض في الممارسة الواقعيّة. ساد نفسه يقال إنه في الحياة الواقعيّة كان على الأغلب لطيفاً ولم يَقتل ويُفظّع إلّا على الورق وخاصّة حين اختلَّ ما بقي من توازنه العصبي بسبب تمضيته أكثر من ربع قرن داخل السجون وهو الشخص الذي ينطوي عالمه الكتابي على شغفٍ بالحريّة لم يبلغ مداه أحد. وعندما نضع الأهوال الإجراميّة (التي هي في الواقع مضحكة أكثر ممّا هي مرعبة) في إطارها الحقيقي، أي الإطار الرمزي، ونُعيد الخيالات الدمويّة إلى أصلها وهو الذهن والذهن وحده، وتوتّر العصب الذهني على قَدْر توقه اللانهائي إلى اختراق الحدود، يبدو ساد أقلّ جنسيّة من جميع أقرانه في الكتابة الإيروتيكيّة، وكلّ النساء عنده امرأتان: الضحيّة (جوستين) والجلّادة (شقيقتها جولييت) وكلّ الرجال عنده " بنات" ذهنه الذي يطير ويحلّق ولا يتنفّس إلّا بمواصلة التحليق، يَسْكر بالهواء وبهواء الهواء ويتعطّش إلى أكثر، والأكثر ليس هو عَيش العربدة بل عربدةُ الفكر، عربدةٌ تُفتّق الأزرار المرئيّة والمخفيّة، عربدةٌ أقوى من انفجار مجموع البراكين كافة، عربدةٌ كونيّة، خميرتها الفكر لا لحم الجسد، وما لحم الجسد فيها سوى شرارة للوحي، والباقي كلام، كلام هو قنابل الكلام النوويّة، هو أعلى درجة بلغتها حمّى الكلام في تواريخ اللغات البشريّة.
وهل الشَبَق إلّا زَبَدُ الخيال؟
.