سعد هادي - العراقيّون القدماء والرغبة: مكتبة بانيبال إن حكت

النصوص الغزلية القديمة انتقلت بين المدن والعصور واللغات. من السومريين إلى أهل بابل وآشور... ولم يكن لسكّان بلاد الرافدين مشكلة مع الإثارة الجنسية، إذ رأوا أن ممارسة الحب قاعدةٌ للحضارة سعد هادي لم يكتب العراقيون القدماء نصوصاً عقائدية وفكرية ودينية فقط، تشرح وقائع حياتهم وخصائصها وشؤونها، بل عكست النصوص الأدبية التي خلَّفوها تطورهم الروحي ومشاعرهم وغرائزهم كبشر. إنّ مراجعة تلك النصوص أو القطع المجتزأة منها، كما أوردها الباحث حكمت بشير الأسود في كتابه «أدب الغزل ومشاهد الإثارة في الحضارة العراقية القديمة» (دار المدى ــــ دمشق) توضح للقارئ الجوانب المسكوت عنها، أو المنسية، في تلك الحضارة... وخصائص الحياة اليومية التي قد تغفلها الوثائق الرسمية. بل إنّ تلك النصوص الإيروتيكية، أو الأقرب إلى ذلك، قد تعكس لنا اختلاط المقدس بالدنيوي، والتأرجح المستمر للعواطف والرغبات بين الإلهي والأرضي، أو التمازج اللانهائي بينهما. في نص كتب في عهد سلالة بابل الأولى (حوالى 1600 ق. م.)، توصف عشتار إلهة الحب والحرب بما يلي: «غنية باللذة والابتهاج الجنسي وبلذة العشاق، من ذا الذي يوازي عظمتها، من؟ إن أوامرها التي لا تتزعزع مهيبة مليئة بالإشعاع، عشتار مكانها مميز بين الآلهة، إن أمرها هو السلطة». لقد ظلت نصوص العراقيين القدماء تنتقل من مدينة إلى أخرى، ومن عصر إلى آخر، ومن لغة إلى أخرى. كانت نقطة الانطلاق الأولى من السومريين الذين طوروا ضروباً أدبية متنوعة، وأعقبهم الأكاديون ثم تولدت لاحقاً أساليب أدبية وتعبيرية جديدة لدى البابليين والآشوريين. ومن مكتبة الملك «آشور بانيبال»، وصلت مجموعة كبيرة من النصوص الأدبية القديمة، سومرية كانت أو أكادية، إذ عكف نسّاخ ذلك الملك على نقل النصوص القديمة من أصولها السومرية، وإعادة صياغتها لتنسجم مع المزاج الاجتماعي والروحي في إمبراطورية مترامية الأطراف... أو أبقوا عليها كما هي. وقد احتلت النصوص الأدبية الخاصة بالحب والغزل مكانةً متميزةً بين الأدبيات العراقية القديمة، واستمرت بالتأثير في حياة الناس في بلاد الرافدين عبر مدلولاتها القدسية، وكذلك لخصائصها العاطفية والجمالية لأكثر من ألفي سنة. كانت هناك نصوص على شكل قصائد غزلية، حول شعائر ما يسمى الزواج المقدس بين آلهة الحب، وقيام الحاكم بتمثيل الإله، وكاهنة عليا بتمثيل دور الإلهة. وقد صيغت قصائد الحب تلك على شكل حوار، وغالباً ما كانت تصاحب عند إلقائها «أثناء أداء الشعائر» بالعزف الموسيقي... واقتربت إلى حدٍّ ما مما يمكن وصفه بالأدب المكشوف. حتى إنّ بعضها يصف العلاقة الجسدية بين إنانا/ عشتار وحبيبها دموزي (تمّوز)، وبعضها الآخر يصف وقائع الزواج المقدس والممارسة الجنسية الحقيقية التي تجري بمناسبة تتويج الملك. أما أشعار الحب الأكادية فقد تضمنت الأغراض نفسها، إلى جانب قصائد تختلف قليلاً، ومنها قصيدة فريدة عن امرأة مريضة بالحب تحاور حبيباً لا يبادلها مشاعرها. فيما استعملت قصائد الحب من العصر الآشوري الحديث (911 ــــ 612 ق. م.) كطقوس سحرية رمزية، وكانت الطلاسم والرقى تحتوي الجمل نفسها الموجودة في قصائد الحب. كما عُثر إلى جانب ذلك على عدد من نصوص الفأل التي تواصلت منذ العصر السومري حتى نهاية العصور الآشورية. وقد وصفت تلك النصوص أساليب الممارسة الجنسية، أو ما يتعلق بها من قواعد: ما الذي يحدث مثلاً إذا تكلم رجل مع امرأة في السرير؟ إذا اختطف رجل امرأة على مفترق الطريق واغتصبها؟ إذا ذهب رجل إلى مومس بانتظام؟ إذا حدث اللقاء الجنسي على درج؟... وهكذا. وقد وجدت أيضاً نصوص أدبية ذات علاقة بالرقى والتعاويذ الخاصة بالحب، تصف مفاتن الجسد، وكذلك حالة الهيجان والثمالة حين يرتبط الجنس بالسكر... وكيف ينادي جسد المرأة المغتلمة حبيبها الضال ليعود إليها. كانت تلك الرقى موجهة إلى الرجال والنساء على حدٍّ سواء، ومنها هذا النص: «لا توجد أنثى منافسة لي تستطيع التقرب منك، الكلب جاثم، الخنزير جاثم، وأنت تظل جاثماً على فخذي، أنظر إليّ، أشعر بالتوتر مثل وتر القيثارة، لعل قلبك يتوهج مثل الكحول، احتفظ بحيويتك مثل الشمس فوقي، احتفظ بتجدد نفسك لي مثل القمر». لقد اعتقد سكان بلاد الرافدين أن للجنس عنصراً دينياً، وكان هناك ما يسمى البغاء المقدس، حيث كان يتحتم على كل امرأة في بابل أن تستسلم في معبد عشتار لأول غريب يطلبها، ثم تأخذ منه أجراً رمزياً تسلّمه هبةً لإلهة الحب، توكيداً لانعدام الهدف الفردي لفعلها الجنسي. وكان فناء المعبد مليئاً على الدوام بنسوة في الانتظار، وربما قضت بعضهن سنوات قبل أن يقع عليهن اختيار أحد. لكن ما ذكره هيرودتس على هذا النحو يناقض ما ذكرته النصوص المسمارية، إذ كانت القوانين والشرائع العراقية تحدد ضوابط صارمة على مثل تلك الممارسات. لكن مع ذلك التحديد، ظلت عشتار دائماً رمزاً للبغيّ المقدسة الأولى، لأنها مركز الطاقة الجنسية الشاملة التي لا ترتبط بموضوع محدد. وهي تقول عن نفسها: «أنا العاهرة الحنون، وأنا من يدفع الرجل إلى المرأة ويدفع المرأة إلى الرجل». وفي النص الذي يصف هبوطها إلى العالم السفلي نقرأ: «بعدما هبطت السيدة عشتار إلى أرض اللاعودة، اضطجع الرجل وحيداً في غرفته، ونامت المرأة على جنبها وحيدة». كان هناك باستمرار، في المدن العراقية القديمة رجال يلقون بأنفسهم على النساء لإغرائهن أو اغتصابهن، أو لمضاجعتهنّ في السر، كما كانت هناك نساء يتسكعن في الشوارع والساحات هاربات من أزواجهن. وكنَّ أحياناً ينادين الذكور برقي أقرب إلى البكاء البليغ الذي يعبر عن الشبق. كانت الحانات أمكنة للقاء المومسات، وتصور ألواح عدة مشاهد مثيرة في تلك الحانات، حيث عزف الموسيقى، وحيث كان الرواد يحتسون النبيذ أو البيرة «وهما أكثر ما كان يتعاطاه العراقيون القدماء». وساد اعتقاد أن الآلهة عشتار تسكن في الحانات، وفي رقيم طيني يعلق على الجدران تقول كلمات صلاة إلى تلك الإلهة: «هذا هو محل إقامتك الكهنوتي، تعالي ادخلي بيتك، لعل العذب الذي يكون معك ويقاسمك السرير يدخل، حبيبك وممثل العبادة... جدران المشرب زينت بألواح الطين، تشاهد فيها المرأة العارية». عموماً لم يكن لسكان بلاد الرافدين في الماضي مشاكل مع الإثارة الجنسية، ولم يكونوا خجلين عند تقديمهم للمواضيع الإيروتيكية في فنونهم المرئية (الألواح المصورة والأختام والمسلات)، أو في أشكالهم الأدبية... إذ اعتبروا على الدوام أن ممارسة الحب قاعدةٌ للحضارة.

.
le-miroir.jpg
 
أعلى