ا
ابن يامون
ومما يحكى أن إسحق بن ابراهيم الموصلي قال: اتفق أنني ضجرت من ملازمة دار الخليفة والخدمة بها فركبت وخرجت ببكرة النهار وعزمت على أن أطوف الصحراء وأتفرج وقلت لغلماني: أذا جاء رسول الخليفة أو غيره فعرفوه أنني بكرت في بعض مهماتي وأنكم لا تعرفون أين ذهبت ثم مضيت وحدي وطفت في المدينة وقد حمي النهار فوقفت في شارع يعرف بالحرم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.
وفي الليلة العشرين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن اسحق بن ابراهيم الموصلي قال: لما حمي النهار وقفت في شارع يعرف بالحرم لأستظل من حر الشمس، وكان للدار جناح بارز على الطريق فلم ألبث حتى جاء خادم أسود يقود حماراً فرأيت جارية راكبة وتحتها منديل مكلل بالجواهر وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده ورأيت لها قواماً حسناً وطرفاً فاتراً وشمائل ظريفة فسألت عنها بعض المارين فقال لي: إنها مغنية وقد تعلق بحبها قلبي عند نظري إليها وقد قدرت أن أستقر على ظهر دابتي.
ثم أنها دخلت الدار التي كنت واقفاً على بابها فجعلت أتفكر في حيلة أتوصل بها إليها فبينما أنا واقف إذ أقبل رجلان شابان جميلان فاستأذنا فأذن لهما صاحب الدار فنزلا ونزلت معهما ودخلت صحبتهما فظنا أن صاحب الدار دعاني فجلسنا ساعة فاتى بالطعام فأكلنا، ثم وضع الشراب بين يدينا، ثم خرجت الجارية وفي يدها عود فغنت وشربنا وقمت لأقضي حاجة فسأل صاحب المنزل الرجلين عني فأخبراه أنهما لا يعرفاني فقال: هذا طفيلي ولكنه ظريف فأجملوا عشرته ثم جئت فجلست في مكاني فغنت الجارية بلحنلطيف وأنشدت هذين البيتي:
قل للغزالة وهي غير غـزالة = والجؤذر المكحول غير الجؤذر
لمذكر الخلوات غير مـؤنـث = ومؤنث الخطوات غير مذكـر
فأدته أداءً حسناً وشرب القوم وأعجبهم ذلك ثم غنت طرقاً شتى بألحان غريبة وغنت من جملتها طريقة هي لي وأنشدت تقول:
الطلول الـدوارس = فارقتها الـوانـي
أوحشت بعد أنسهـا = فهي قفراء طامس
فكان أمرها أصلح فيها من الأولى ثم غنت طرقاً شتى بألحان غريبة من القديم والحديث وغنت في أثنائها طريقة هي لي وأنشدت تقول:
قل لمن صد عاتبـاً = ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي بلغت = وإن كنت لاعبـا
فاستعدته منها لأصححه فأقبل علي أحد الرجلين وقال: ما رأينا طفيلياً أصفق وجهاً منك أما ترضى بالتطفل حتى اقترحت وقد صح فيك المثل: طفيلي فأطرقت حياء فأطرقت حياء ولم أجبه فجعل صاحبه يكفه عني فلا ينكف، ثم قاموا إلى الصلاة فتأخرت قليلاً وأخذت العود وشددت طرفيه وأصلحته إصلاحاً محكماً وعدت إلى موضعي فصليت معهم ولما فرغنا من الصلاة رجع ذلك الرجل إلى اللوم علي والتعنيف ولج في عربدته وأنا صامت فأخذت الجارية العود وجسته فانكرت حاله وقالت: من جس عودي؟ فقالوا: ما جسه أحد منا.
قالت: بلى والله لقد جسه حاذق متقدم في الصناعة، لأنه أحكم أوتاره وأصلحه إصلاح حاذق في صنعته فقلت لها: أنا الذي أصلحته. فقالت: بالله عليك أن تأخذه وتضرب عليه فأخذته وضربت عليه طريقة عجيبة صعبة تكاد أن تميت الأحياء وتحيي الأموات وانشدت عليه هذه الأبيات:
وكان لي قلـب أعـيش بـه = فاكتوى بالنار واحـتـرقـا
أنا لم أرزق مـحـبـتـهـا = وإنما للـعـبـد مـا رزقـا
إن لم يكن ما ذقت طعم الهوى = ذاقه لا شك مـن عـشـقـا
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن إسحق بن ابراهيم الموصلي قال: لما فرغت من شعري لم يبق أحد من الجماعة إلا ووثب من موضعه وجلسوا بين يدي وقالوا: بالله عليك يا سيدنا أن تغني لنا صوتاً آخر فقلت: حباً وكرامة، ثم أحكمت الضربات وغنيت بهذه الأبيات:
ألا مـن لـقـب ذوائب بـنــوائب = أناخت به الأحزان من كل جـانـب
حرام على رامي فؤادي بسـهـمـه = دم صبه بين الـحـشـا والـتـراب
تبـين بـين الـبـين إن اقـتـرابـه = على البين من ضمن الظنون الكواذب
أراق دماً لولا الـهـوى مـا أراقـه = فهل لدمي من ثـائر ومـطـالـب
فلما فرغ من شعره لم يبق أحد منهم إلا وقام على قدميه ثم رمى بنفسه على الأرض من شدة ما اصابه من الطرب، قال: فرميت العود من يدي فقالوا: بالله عليك أن لا تفعل هذا وزدنا صوتاً آخر زادك الله من نعمته، فقلت لهم: يا قوم أزيدكم صوتاً آخر وآخر وآخر وأعرفكم من انا، أنا إسحق بن ابراهيم الموصلي والله غني لآتيه على الخليفة إذا طلبني وانتم قد أسمعتموني غليظ ما أكرهه في هذا اليوم، فوالله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا العربيد من بينكم فقال له صاحبه: من هذا حذرتك وخفت عليك.
ثم أخذوا بيده وأخرجوه فأخذت العود وغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، ثم أسررت إلى صاحب الدار أن الجارية قد وقعت محبتها في قلبي ولا صبر لي عنها فقال الرجل: هي لك بشرط فقلت: وما هو؟ قال: أن تقيم عندي شهراً فأقمت عنده شهراً ولا يعرف أحد أين أنا والخليفة يفتش علي في كل موضع ولا يعرف لي خبراً.
فلما انقضى الشهر سلم لي الجارية وما يتعلق بها من الأمتعة النفيسة وأعطاني خادماً آخر فجئت بذلك إلى منزلي كاني حزت الدنيا باسرها من شدة فرحي بالجارية، ثم ركبت إلى المأمون من وقتي فلما حضرت بين يديه قال: ويحك يا إسحق وأين كنت فأخبرته بخبري فقال علي بذلك الرجل في هذه الساعة فدللتهم على داره فأرسل إليه الخليفة، فلما حضر سأله عن القصة فأخبره بها فقال له: أنت رجل ذو مروءة والرأي أن تعان على مروءتك فأمر له بمائة ألف درهم وقال لي: يا إسحق أحضر الجارية فأحضرتها وغنت له وأطربته فحصل له منها سرور عظيم، فقال قد جعلت عليها نوبة كل يوم خميس فتحضر وتغني من وراء الستارة، ثم أمر لها بخمسين ألف درهم فوالله لقد ربحت في تلك الركبة.
وفي الليلة العشرين بعد الأربعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن اسحق بن ابراهيم الموصلي قال: لما حمي النهار وقفت في شارع يعرف بالحرم لأستظل من حر الشمس، وكان للدار جناح بارز على الطريق فلم ألبث حتى جاء خادم أسود يقود حماراً فرأيت جارية راكبة وتحتها منديل مكلل بالجواهر وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده ورأيت لها قواماً حسناً وطرفاً فاتراً وشمائل ظريفة فسألت عنها بعض المارين فقال لي: إنها مغنية وقد تعلق بحبها قلبي عند نظري إليها وقد قدرت أن أستقر على ظهر دابتي.
ثم أنها دخلت الدار التي كنت واقفاً على بابها فجعلت أتفكر في حيلة أتوصل بها إليها فبينما أنا واقف إذ أقبل رجلان شابان جميلان فاستأذنا فأذن لهما صاحب الدار فنزلا ونزلت معهما ودخلت صحبتهما فظنا أن صاحب الدار دعاني فجلسنا ساعة فاتى بالطعام فأكلنا، ثم وضع الشراب بين يدينا، ثم خرجت الجارية وفي يدها عود فغنت وشربنا وقمت لأقضي حاجة فسأل صاحب المنزل الرجلين عني فأخبراه أنهما لا يعرفاني فقال: هذا طفيلي ولكنه ظريف فأجملوا عشرته ثم جئت فجلست في مكاني فغنت الجارية بلحنلطيف وأنشدت هذين البيتي:
قل للغزالة وهي غير غـزالة = والجؤذر المكحول غير الجؤذر
لمذكر الخلوات غير مـؤنـث = ومؤنث الخطوات غير مذكـر
فأدته أداءً حسناً وشرب القوم وأعجبهم ذلك ثم غنت طرقاً شتى بألحان غريبة وغنت من جملتها طريقة هي لي وأنشدت تقول:
الطلول الـدوارس = فارقتها الـوانـي
أوحشت بعد أنسهـا = فهي قفراء طامس
فكان أمرها أصلح فيها من الأولى ثم غنت طرقاً شتى بألحان غريبة من القديم والحديث وغنت في أثنائها طريقة هي لي وأنشدت تقول:
قل لمن صد عاتبـاً = ونأى عنك جانبـا
قد بلغت الذي بلغت = وإن كنت لاعبـا
فاستعدته منها لأصححه فأقبل علي أحد الرجلين وقال: ما رأينا طفيلياً أصفق وجهاً منك أما ترضى بالتطفل حتى اقترحت وقد صح فيك المثل: طفيلي فأطرقت حياء فأطرقت حياء ولم أجبه فجعل صاحبه يكفه عني فلا ينكف، ثم قاموا إلى الصلاة فتأخرت قليلاً وأخذت العود وشددت طرفيه وأصلحته إصلاحاً محكماً وعدت إلى موضعي فصليت معهم ولما فرغنا من الصلاة رجع ذلك الرجل إلى اللوم علي والتعنيف ولج في عربدته وأنا صامت فأخذت الجارية العود وجسته فانكرت حاله وقالت: من جس عودي؟ فقالوا: ما جسه أحد منا.
قالت: بلى والله لقد جسه حاذق متقدم في الصناعة، لأنه أحكم أوتاره وأصلحه إصلاح حاذق في صنعته فقلت لها: أنا الذي أصلحته. فقالت: بالله عليك أن تأخذه وتضرب عليه فأخذته وضربت عليه طريقة عجيبة صعبة تكاد أن تميت الأحياء وتحيي الأموات وانشدت عليه هذه الأبيات:
وكان لي قلـب أعـيش بـه = فاكتوى بالنار واحـتـرقـا
أنا لم أرزق مـحـبـتـهـا = وإنما للـعـبـد مـا رزقـا
إن لم يكن ما ذقت طعم الهوى = ذاقه لا شك مـن عـشـقـا
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن إسحق بن ابراهيم الموصلي قال: لما فرغت من شعري لم يبق أحد من الجماعة إلا ووثب من موضعه وجلسوا بين يدي وقالوا: بالله عليك يا سيدنا أن تغني لنا صوتاً آخر فقلت: حباً وكرامة، ثم أحكمت الضربات وغنيت بهذه الأبيات:
ألا مـن لـقـب ذوائب بـنــوائب = أناخت به الأحزان من كل جـانـب
حرام على رامي فؤادي بسـهـمـه = دم صبه بين الـحـشـا والـتـراب
تبـين بـين الـبـين إن اقـتـرابـه = على البين من ضمن الظنون الكواذب
أراق دماً لولا الـهـوى مـا أراقـه = فهل لدمي من ثـائر ومـطـالـب
فلما فرغ من شعره لم يبق أحد منهم إلا وقام على قدميه ثم رمى بنفسه على الأرض من شدة ما اصابه من الطرب، قال: فرميت العود من يدي فقالوا: بالله عليك أن لا تفعل هذا وزدنا صوتاً آخر زادك الله من نعمته، فقلت لهم: يا قوم أزيدكم صوتاً آخر وآخر وآخر وأعرفكم من انا، أنا إسحق بن ابراهيم الموصلي والله غني لآتيه على الخليفة إذا طلبني وانتم قد أسمعتموني غليظ ما أكرهه في هذا اليوم، فوالله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا العربيد من بينكم فقال له صاحبه: من هذا حذرتك وخفت عليك.
ثم أخذوا بيده وأخرجوه فأخذت العود وغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي، ثم أسررت إلى صاحب الدار أن الجارية قد وقعت محبتها في قلبي ولا صبر لي عنها فقال الرجل: هي لك بشرط فقلت: وما هو؟ قال: أن تقيم عندي شهراً فأقمت عنده شهراً ولا يعرف أحد أين أنا والخليفة يفتش علي في كل موضع ولا يعرف لي خبراً.
فلما انقضى الشهر سلم لي الجارية وما يتعلق بها من الأمتعة النفيسة وأعطاني خادماً آخر فجئت بذلك إلى منزلي كاني حزت الدنيا باسرها من شدة فرحي بالجارية، ثم ركبت إلى المأمون من وقتي فلما حضرت بين يديه قال: ويحك يا إسحق وأين كنت فأخبرته بخبري فقال علي بذلك الرجل في هذه الساعة فدللتهم على داره فأرسل إليه الخليفة، فلما حضر سأله عن القصة فأخبره بها فقال له: أنت رجل ذو مروءة والرأي أن تعان على مروءتك فأمر له بمائة ألف درهم وقال لي: يا إسحق أحضر الجارية فأحضرتها وغنت له وأطربته فحصل له منها سرور عظيم، فقال قد جعلت عليها نوبة كل يوم خميس فتحضر وتغني من وراء الستارة، ثم أمر لها بخمسين ألف درهم فوالله لقد ربحت في تلك الركبة.
التعديل الأخير: