نقوس المهدي
كاتب
لم أجد من الكتاب سوى نسختين، سألت العاملة الفلبّينية في المكتبة عن نسخات أخرى قد تتوفّر عندهم من الكتاب ذاته. نظرتْ إليّ بعينيها الحياديتين الباردتين الغريبتين عن أي إغواء قد يوجد في عيني امرأة، وجاوبتني بإنجليزيتها ذات اللكنة الآسيوية المخفَّفة، والصحيحة لغوياً، وبفتور يلائم “الشادو” الأزرق المشعّ على جفنيها دون أي شعور بضرورة إخفائه عن صاحب الشعر الأشعث الذي يسأل عن كتاب يمحله بين يديه. جاوبتني: لا أعتقد.
كأني فهمت من هذه الـ “لا أعتقد”، من كيفيّة “لا اعتقادها”، استغرابها لسؤالي عن نسخة ثالثة، مسكتُ نسخة “أوكسفورد” الإنجليزية بيد، وبالأخرى نسخة “ذا مودرن لايبراري” النيويوركية. وسألت: عفواً، هل من نسخة ثالثة للكتاب ذاته؟ العاملة بزيّها الأسود المحتشم وجسدها الضئيل وشذوذ “الشادو” على جفنيها المغمضين أو يكادان، وأنفها المنبسط على وجهها والموصولة نهاياته بخدّيها الممتلئين، وشفتيها الرقيقتين وأحمر الشفاه الوردي اللامع بخطه الرقيق على شفتها العلوية، وشعيرات فوقها لم تُحلق جيداً ولم تُشقّر حتى، ورائحة حادة لعطر يقتحم منخريّ كأقلام رصاص مسنّنة، كل ذلك أجهز على محاولاتي لإيجاد نسخة ثالثة عن طريق هذه السيدة صاحبة الأثداء المنكمشة تحت جاكيت “اليونيفورم”، كأن المرأة الأولى التي أكلّمها هذا الصباح لا أثداء لها. العاملة المهذبة النزقة هذه لم تجب بغير: لا سيدي، لا أعتقد.
سألتها: هل أنت متأكّدة بأن لا نسخ أخرى للكتاب ذاته، أعني كتاباً آخر للكتاب ذاته، للعنوان ذاته.. شككت بأن تكون قد فهمت ما عنيت، إلا أني سألتها مجدداً: هناك عند المحاسبة.. لعلّهم يبحثون في “السيستيم” فيجدون لي نسخة ثالثة. أوعزتْ لي بأن ألحقها. مشت بسرعة أوتوماتيكية، إلا أني لم أر الردفين الضئيلين يترجرجان، كأن جسدها قطعة واحدة من الخشب الأبيض، مفلوق أسفله إلى نصفين كأنهما ساقان، لا تكوّرات لحميّة تعلوهما.
ذهبتْ بي إلى الصف الأخير من قسم الآداب في المكتبة، والمقسّم حسب “الألفا بيت”، نظرتْ مجدداً إلى الكتابين في يدي، وقفت تنظر باحثة بين الرفوف متمتمة: واهايتمان.. أخبرتها بأنه ويتمان، وولت ويتمان سيدتي، وأشرت لها إلى بضعة من النسختين على الرف كأني أشكوهما إليها: انظري سيدتي، ليس هنالك نسخاً أخرى. فكرّرتْ بملل: نعم ليس هنالك نسخ أخرى كما ترى. شكرتها، إلا أن شكر هذا الأحمق الذي يسأل، عند أول الصباح، عن كتاب يحمل بيديه نسختين منه، لم يجد غير ظهرها ليرتطم به.
وقفتُ ما يقارب النصف ساعة أمام الرف أتأكد أن لا كتب أو نسخ أخرى لوولت ويتمان، وماسكاً النسختين أتفحصهما تباعاً، أضع نسخة لأُرجع الأخرى، وهكذا إلى أن اخترت إحداهما. حملت نسختي ومشيت أفكّر في الأخرى وفي احتمالات أن أكون آسفاً لعدم اختيارها.
اخترت النسخة حيث الغلاف الأجمل، حيث المقدمة المطوّلة للشاعر الأميركي ويليام كارلوس ويليامز، حيث النصوص النقدية في مؤخرة الكتاب، حيث صورة ويتمان على الغلاف، حيث الخط أكبر، حيث الورق أقرب إلى ورق الجرائد، حيث عدد الصفحات أزيد بـ 284 صفحة. حيث الهوامش الوفيرة المرفقة بالنصوص. رأيت كل ذلك في النسخة التي اخترتها إلا أني لم أعرف، بحميمية كهذه، ما قد تحويه النسخة الأخرى، أو أي نسخة ثالثة تصدر عن دار ثالثة قد تتواجد في المكتبة الأكبر التي عرفت، الواقعة في الطابق الأخير للمركز التجاري الأكبر الذي عرفت.
حملت “أوراق العشب” وتركت قسم الآداب في المكتبة.
الكتاب في يدي. العاملة الفلبينية تمشي كالروبوت، تمرّ من جانبي وتشتمني بعينيها ثم تؤذيني برائحة عطرها. أقف عند رفوف قسمَي الدراسات الثقافية والسايكولوجيا المتجاورين، “أوراق العشب” في يد وبالأخرى أستند على الرفوف، ثم أهبط إلى الرفوف السفلى، فالعليا، أمر على الرفوف حيث الكتب المترجمة إلى الانجليزية من العربية واليابانية وغيرها، أرجع إلى قسم الآداب، كتاب صغير لألبير كامو هو “المرأة الزانية”، لا بأس في الأسعار هنا، لكني أرجعت الكتاب إلى الرف كونه ترجمة، سأكون آسفاً على ذلك. بعد ساعة كنت أتناول غدائي وقد كلّف ما مجموعه أسعار “المرأة الزانية” و”أوراق العشب” مضافاً إليهما الأعمال الكاملة لأوسكار وايلد، ولستُ آسفاً على ذلك.
صباحاً، في “دبي مول”، أمشي مسرعاً إلى المكتبة، متحاشياً احتمال أن يراني أحدهم في مثل هذه الساعة في “شوارع” “المول”، ولوحدي. أسرعت إلى المكتبة، إلى قسم الآداب فيها، مسكت القسم من أوله، مضى من الوقت القليل، النساء لم تأت بعد لا إلى المكتبة ولا إلى “المول” أصلاً. أتفحّص الأسماء، العناوين، أتذكّر الكثير منها، معظمها “يرنّ جرساً” في رأسي لم يُرن بهذه القوّة منذ أنهيت دراستي الجامعية في كلية الآداب. أنظر إلى الأغلفة، اطمأنيت إلى أن أغلفةً بنساء عارية قد تصل المكتبة وتعرض من دون ممارسة رقابية بتشطيبات سوداء غليظة عفيفة، الأجساد العارية تغلّف الكثير من الكتب هنا، اطمأنيت إلى أن كتابي العتيد، بالعارية الشقراء الجالسة على غلافه، قد يجد مكانه هنا. ثم قفزت إلى رفوف حرف W لأجد نسختين فقط لكتاب ويتمان، وأشرتُ إلى عاملة فلبّينية كانت الأقرب إلي، وكان “الشادو” يشعّ من جفنيها..
إحدى النسختين من “أوراق العشب” صارت في يدي. وأنا أدور بين الرفوف و”الستاندات” بينما تقترب تلك المرأة الواقفة عند قسم المجلات المحاذي لقسم الآداب، والتي ستتسلّل لتقف أمام رفوفي ذاتها لأنصحها بكتاب ما، ثم أخبرها بأني أكتب، علّ ذلك يثيرها، وتحديداً أخبرها بكتابي العتيد، وعن ثيمة الحب والإيروتيك فيه، علّي أستزيدها إثارة، ثم أحكي لها عن وولت ويتمان وأنه مثليٌ جنسياً، علّي أكسب ثقتها، ثم أرجع بخبث لكتابي والإيروتيكا دون ذكر قصص الحب فيه هذه المرة، ثم عن مقالات لي عن المواضيع ذاتها، ودائماً في الفنون والآداب لتصدّق جدّيتي المدّعية، ثم عن حريّة التعبير والإبداع، ثم عن الحرية الجنسية، ثم ننهي حديثنا وقد أنهينا قهوتينا في مقهى المكتبة المطل على بركة ماء وبرج هو الأطول من بين ما عرفت، ثم أنسى “أوراق العشب” على الطاولة ونسرع إلى أحد الفنادق الرخيصة في المدينة.
في اليوم التالي، حاولت الكتابة عنها، إلا أني لم أنتبه إلى أن المرأة لم تقترب فعلاً إلا في هذه الأسطر، لم أصدّق أن شيئاً من ذلك لم يحصل إلا هنا. كأني كنت أكتب ما خلته حصل، أو ما حصل حسبما أذكر..
سأستعيد الشريط من جديد، أو جزءاً منه: بعد أن قرّرتُ أي نسخة من “أوراق العشب” سأحمل معي، ذهبت إلى قسمَي السايكولوجيا والدراسات الثقافية، ثم، على ما أذكر، عدت إلى قسم الآداب متفحّصاً ما فلت منّي من العناوين، ثم مرّت امرأة من خلفي كي لا تقطع استغراقي. انتشلتُ أحد الكتب، تصفحته، رجعت نصف خطوة إلى الخلف، تقدمت المرأة لتمرّر يدها على ظهري، لا ليس هذا ما حصل. رجعتُ إلى الخلف، المرأة أكملت طريقها، مشت إلى الجهة المقابلة، تفصلنا الرفوف، أذكر أني رأيتها تنظر إلي.. لا ولا هذا الذي حصل.
حسناً لم يكن هنالك أي امرأة غير تلك الفلبّينية. تمشّيت قليلاً في المكتبة، عند قسم السياسة، ثم ابتعدت إلى قسم السينما، اشتريت كتاباً عن المخرج جون كازافيت، اتصلت بامرأة أحبها أخبرها بأني اشتريت لها كتاباً ستحبه، بأني، أخيراً، قررت شراء “أوراق العشب”، بأني سأشرب الاسبرسّو معها بعد قليل في مقهى المكتبة، وأنْ تأتي لذلك، وأنّ مآل حديثنا سينتهي، كالعادة، إلى أني سأضاجعها الليلة في أحد الفنادق الرخيصة، بأن رفوف قسم الآداب مقفرة دون أن نمرّ عليها وذراعها خلف ظهري تحت قميصي، بأني أنتظر رجوعها لأشتري حقيبة الكتف الجلدية معها، بأني اشتقت لأن أدخل محلات “اللانجري” معها، بأني رأيتها أكثر من مرة على أغلفة الكتب وفي الأقسام وبين الرفوف وعند طاولات المقهى، وأن مكتبتي باتت تغصّ بكتب عن السينما لم تُمس، تنتظر مثلي رجوعها، وأني أكاد أسمع صوتها من هاتفي، إذ اتصلتُ لأخبرها بكل ذلك.
* الغاوون
كأني فهمت من هذه الـ “لا أعتقد”، من كيفيّة “لا اعتقادها”، استغرابها لسؤالي عن نسخة ثالثة، مسكتُ نسخة “أوكسفورد” الإنجليزية بيد، وبالأخرى نسخة “ذا مودرن لايبراري” النيويوركية. وسألت: عفواً، هل من نسخة ثالثة للكتاب ذاته؟ العاملة بزيّها الأسود المحتشم وجسدها الضئيل وشذوذ “الشادو” على جفنيها المغمضين أو يكادان، وأنفها المنبسط على وجهها والموصولة نهاياته بخدّيها الممتلئين، وشفتيها الرقيقتين وأحمر الشفاه الوردي اللامع بخطه الرقيق على شفتها العلوية، وشعيرات فوقها لم تُحلق جيداً ولم تُشقّر حتى، ورائحة حادة لعطر يقتحم منخريّ كأقلام رصاص مسنّنة، كل ذلك أجهز على محاولاتي لإيجاد نسخة ثالثة عن طريق هذه السيدة صاحبة الأثداء المنكمشة تحت جاكيت “اليونيفورم”، كأن المرأة الأولى التي أكلّمها هذا الصباح لا أثداء لها. العاملة المهذبة النزقة هذه لم تجب بغير: لا سيدي، لا أعتقد.
سألتها: هل أنت متأكّدة بأن لا نسخ أخرى للكتاب ذاته، أعني كتاباً آخر للكتاب ذاته، للعنوان ذاته.. شككت بأن تكون قد فهمت ما عنيت، إلا أني سألتها مجدداً: هناك عند المحاسبة.. لعلّهم يبحثون في “السيستيم” فيجدون لي نسخة ثالثة. أوعزتْ لي بأن ألحقها. مشت بسرعة أوتوماتيكية، إلا أني لم أر الردفين الضئيلين يترجرجان، كأن جسدها قطعة واحدة من الخشب الأبيض، مفلوق أسفله إلى نصفين كأنهما ساقان، لا تكوّرات لحميّة تعلوهما.
ذهبتْ بي إلى الصف الأخير من قسم الآداب في المكتبة، والمقسّم حسب “الألفا بيت”، نظرتْ مجدداً إلى الكتابين في يدي، وقفت تنظر باحثة بين الرفوف متمتمة: واهايتمان.. أخبرتها بأنه ويتمان، وولت ويتمان سيدتي، وأشرت لها إلى بضعة من النسختين على الرف كأني أشكوهما إليها: انظري سيدتي، ليس هنالك نسخاً أخرى. فكرّرتْ بملل: نعم ليس هنالك نسخ أخرى كما ترى. شكرتها، إلا أن شكر هذا الأحمق الذي يسأل، عند أول الصباح، عن كتاب يحمل بيديه نسختين منه، لم يجد غير ظهرها ليرتطم به.
وقفتُ ما يقارب النصف ساعة أمام الرف أتأكد أن لا كتب أو نسخ أخرى لوولت ويتمان، وماسكاً النسختين أتفحصهما تباعاً، أضع نسخة لأُرجع الأخرى، وهكذا إلى أن اخترت إحداهما. حملت نسختي ومشيت أفكّر في الأخرى وفي احتمالات أن أكون آسفاً لعدم اختيارها.
اخترت النسخة حيث الغلاف الأجمل، حيث المقدمة المطوّلة للشاعر الأميركي ويليام كارلوس ويليامز، حيث النصوص النقدية في مؤخرة الكتاب، حيث صورة ويتمان على الغلاف، حيث الخط أكبر، حيث الورق أقرب إلى ورق الجرائد، حيث عدد الصفحات أزيد بـ 284 صفحة. حيث الهوامش الوفيرة المرفقة بالنصوص. رأيت كل ذلك في النسخة التي اخترتها إلا أني لم أعرف، بحميمية كهذه، ما قد تحويه النسخة الأخرى، أو أي نسخة ثالثة تصدر عن دار ثالثة قد تتواجد في المكتبة الأكبر التي عرفت، الواقعة في الطابق الأخير للمركز التجاري الأكبر الذي عرفت.
حملت “أوراق العشب” وتركت قسم الآداب في المكتبة.
الكتاب في يدي. العاملة الفلبينية تمشي كالروبوت، تمرّ من جانبي وتشتمني بعينيها ثم تؤذيني برائحة عطرها. أقف عند رفوف قسمَي الدراسات الثقافية والسايكولوجيا المتجاورين، “أوراق العشب” في يد وبالأخرى أستند على الرفوف، ثم أهبط إلى الرفوف السفلى، فالعليا، أمر على الرفوف حيث الكتب المترجمة إلى الانجليزية من العربية واليابانية وغيرها، أرجع إلى قسم الآداب، كتاب صغير لألبير كامو هو “المرأة الزانية”، لا بأس في الأسعار هنا، لكني أرجعت الكتاب إلى الرف كونه ترجمة، سأكون آسفاً على ذلك. بعد ساعة كنت أتناول غدائي وقد كلّف ما مجموعه أسعار “المرأة الزانية” و”أوراق العشب” مضافاً إليهما الأعمال الكاملة لأوسكار وايلد، ولستُ آسفاً على ذلك.
صباحاً، في “دبي مول”، أمشي مسرعاً إلى المكتبة، متحاشياً احتمال أن يراني أحدهم في مثل هذه الساعة في “شوارع” “المول”، ولوحدي. أسرعت إلى المكتبة، إلى قسم الآداب فيها، مسكت القسم من أوله، مضى من الوقت القليل، النساء لم تأت بعد لا إلى المكتبة ولا إلى “المول” أصلاً. أتفحّص الأسماء، العناوين، أتذكّر الكثير منها، معظمها “يرنّ جرساً” في رأسي لم يُرن بهذه القوّة منذ أنهيت دراستي الجامعية في كلية الآداب. أنظر إلى الأغلفة، اطمأنيت إلى أن أغلفةً بنساء عارية قد تصل المكتبة وتعرض من دون ممارسة رقابية بتشطيبات سوداء غليظة عفيفة، الأجساد العارية تغلّف الكثير من الكتب هنا، اطمأنيت إلى أن كتابي العتيد، بالعارية الشقراء الجالسة على غلافه، قد يجد مكانه هنا. ثم قفزت إلى رفوف حرف W لأجد نسختين فقط لكتاب ويتمان، وأشرتُ إلى عاملة فلبّينية كانت الأقرب إلي، وكان “الشادو” يشعّ من جفنيها..
إحدى النسختين من “أوراق العشب” صارت في يدي. وأنا أدور بين الرفوف و”الستاندات” بينما تقترب تلك المرأة الواقفة عند قسم المجلات المحاذي لقسم الآداب، والتي ستتسلّل لتقف أمام رفوفي ذاتها لأنصحها بكتاب ما، ثم أخبرها بأني أكتب، علّ ذلك يثيرها، وتحديداً أخبرها بكتابي العتيد، وعن ثيمة الحب والإيروتيك فيه، علّي أستزيدها إثارة، ثم أحكي لها عن وولت ويتمان وأنه مثليٌ جنسياً، علّي أكسب ثقتها، ثم أرجع بخبث لكتابي والإيروتيكا دون ذكر قصص الحب فيه هذه المرة، ثم عن مقالات لي عن المواضيع ذاتها، ودائماً في الفنون والآداب لتصدّق جدّيتي المدّعية، ثم عن حريّة التعبير والإبداع، ثم عن الحرية الجنسية، ثم ننهي حديثنا وقد أنهينا قهوتينا في مقهى المكتبة المطل على بركة ماء وبرج هو الأطول من بين ما عرفت، ثم أنسى “أوراق العشب” على الطاولة ونسرع إلى أحد الفنادق الرخيصة في المدينة.
في اليوم التالي، حاولت الكتابة عنها، إلا أني لم أنتبه إلى أن المرأة لم تقترب فعلاً إلا في هذه الأسطر، لم أصدّق أن شيئاً من ذلك لم يحصل إلا هنا. كأني كنت أكتب ما خلته حصل، أو ما حصل حسبما أذكر..
سأستعيد الشريط من جديد، أو جزءاً منه: بعد أن قرّرتُ أي نسخة من “أوراق العشب” سأحمل معي، ذهبت إلى قسمَي السايكولوجيا والدراسات الثقافية، ثم، على ما أذكر، عدت إلى قسم الآداب متفحّصاً ما فلت منّي من العناوين، ثم مرّت امرأة من خلفي كي لا تقطع استغراقي. انتشلتُ أحد الكتب، تصفحته، رجعت نصف خطوة إلى الخلف، تقدمت المرأة لتمرّر يدها على ظهري، لا ليس هذا ما حصل. رجعتُ إلى الخلف، المرأة أكملت طريقها، مشت إلى الجهة المقابلة، تفصلنا الرفوف، أذكر أني رأيتها تنظر إلي.. لا ولا هذا الذي حصل.
حسناً لم يكن هنالك أي امرأة غير تلك الفلبّينية. تمشّيت قليلاً في المكتبة، عند قسم السياسة، ثم ابتعدت إلى قسم السينما، اشتريت كتاباً عن المخرج جون كازافيت، اتصلت بامرأة أحبها أخبرها بأني اشتريت لها كتاباً ستحبه، بأني، أخيراً، قررت شراء “أوراق العشب”، بأني سأشرب الاسبرسّو معها بعد قليل في مقهى المكتبة، وأنْ تأتي لذلك، وأنّ مآل حديثنا سينتهي، كالعادة، إلى أني سأضاجعها الليلة في أحد الفنادق الرخيصة، بأن رفوف قسم الآداب مقفرة دون أن نمرّ عليها وذراعها خلف ظهري تحت قميصي، بأني أنتظر رجوعها لأشتري حقيبة الكتف الجلدية معها، بأني اشتقت لأن أدخل محلات “اللانجري” معها، بأني رأيتها أكثر من مرة على أغلفة الكتب وفي الأقسام وبين الرفوف وعند طاولات المقهى، وأن مكتبتي باتت تغصّ بكتب عن السينما لم تُمس، تنتظر مثلي رجوعها، وأني أكاد أسمع صوتها من هاتفي، إذ اتصلتُ لأخبرها بكل ذلك.
* الغاوون
صورة مفقودة