نقوس المهدي
كاتب
خيري منصور
تجليات عُذريّة
قبل ان تصدر بالعربية اربعة كتب على الأقل حول الظاهرة العذرية في الأدب العربي هي: كتاب دورجمون ‘الحب والغرب’ و’سوسيولوجيا الحب العذري’ لعالم الإجتماع الطاهر لبيب و’في الحب العذري’ لـ’صادق جلال العظم’ وإلى حد ما كتاب يوسف سامي اليوسف حول الظاهرة ذاتها، كان الفهم السائد لهذا النمط من الحب رومانسيا بإمتياز، ولم يشأ النقد العربي على ما يبدو ان يفكك الوان الطيف لقوس قزح أو ان يعترف بحقيقة القمر البارد والحجري المظلم.
لكن هذه الدراسات إخترقت القشرة المزخرفة، ووظفت منجزات العلوم الإنسانية والاركيولوجيا لتفكيك ما كان محظورا الإقتراب منه على سبيل التبشير بالعفاف والطهرانية، واذا بهذا العفاف ماسوشية مصطنعة يجري تكريسها لإطالة أمد الحرمان والتلذذ بهذا الحرمان، ولم يطرق النقد العربي من قبل هذا الباب المطلي بالحناء وذا الصرير الأشبه بأنين الناي إلا على إستحياء، لكن المناهج العلمية تستمد قيمتها وجدواها وجدتها ايضا من كشط الرخام كي يتضح تحته الجص والطين.
لقد كان تحويل الحرمان الى مطلب، والوصال الى مضادات العشق، تعبيرا عن هذه الماسوشية، والتي تجلت في ظواهر وأبعاد اخرى في حياتنا، سنتوقف عند بعضها، لأن عدوى الماسوشية وليدة الإضطهاد المزمن بلغت السياسة ايضا، وتجلت في احزاب وتيارات إرتهنت للحلم فقط، وسعت الى اليوتوبيا خارج مدار الجاذبيات كلها، من جاذبية الواقع الى جاذبية التاريخ والإقتصاد.
تماما كما انتقلت عدوى ‘الفيتشيا’ من الجنس الى مناحي الحياة الأخرى، ومنها السياسة ايضا، بحيث اصبح وهم التعامل مع القرائن المصاحبة لشخصية أو حدث بديلا عن التعامل الواقعي، وهناك مثال واحد على الأقل قدمته الحرب على العراق، حيث اصبحت ‘الفيتشيا’ السياسية قاسما مشتركا بين عدوين، فالولايات المتحدة تعاملت فيتشياً مع تماثيل ‘صدام حسين’ والانصاب والجداريات، مثلما رسم العراقيون صورة جورج بوش الأب على مدخل فندق الرشيد، بحيث تدوسه الأقدام في الدخول والخروج.
تجليات الماسوشية في الظاهرة العذرية عندما شملت السياسة والأيديولوجيا سعت الى طهرانية من طراز آخر بحيث إمتنعت بعض الأحزاب عن العمل للوصول الى السلطة، حتى لو كان ذلك متاحا ربما لإدراكها ان البقاء في المعارضة يقيها غائلة التورط بالحكم وبالتالي الإخفاق المحتم لعدم وجود تصورات واقعية وبرامج قابلة للترجمة الميدانية.
*****
حتى الفلسفة لم تسلم من عدوى الماسوشية الناجمة عن العذرية، ومثالها هو النكوص الذي مارسه الغزالي على تخوم الشك والعودة الى الإيمان بالقلب حتى لو كان على طريقة يقين العجائز، وما السجال الذي كان بين إبن رشد والغزالي الذي كان مجاله التهافت سواء تعلق بالفلسفة او بالتهافت ذاته، الا احد تجليات العذرية الفكرية.
ما أجمع عليه الى حد ما دارسو العذرية بمناهج حديثة هو ان الحرمان كان وصفة نموذجية لمضاعفة التوتير لأن الرغبة تموت في الإشباع، وهذا ما عبر عنه بوضوح قيس بن الملوح حين قال ان الهوى يعيش بالفراق ويموت بالوصال.
والمقارنة التي عقدها الطاهر لبيب بين حكاية عروة وعفراء وبين اسطورة ترستيان وايزولدا تنتهي الى ان العذري يبحث عن العوائق وهو شغوف بإصطناعها حتى عندما لا تكون، لهذا كان الشاعر العذري يعرف ان تقاليد القبيلة تحرمه من الزواج بامرأة اذا تغزل بها او شبب بها، لكنه كان يفعل ذلك عن عمد، وهذا العصيان على تقاليد القبيلة مرادف للسيف الذي يفصل بين ترستيان وايزولدا.
يقول ‘دينس دورجمون’ في كتابه ‘الحب والغروب’ انها ثنائية لا علاج لها، بل هي مرغوبة فالعاشق شديد الحزن على فقدان الحبيبة، لهذا يتنهد ‘ترستيان’ وينتظر ظلام الليل القادم كي يؤجج حنينه بالغياب فالغياب بالنسبة لترستيان مطلب ايضا، كما ان الحرمان مطلب مجانين ليلى، ويستشهد دورجمون بواقعة تاريخية تضيف الى اسطورة العشق بعدا واقعيا، يقول ان ليكورغ مشرع اسبارطة كان يفرض على المتزوجين من الشباب امتناعا قسريا وطويلا ليكونوا افضل واقوى واشد اقبالا.
*****
اليست الصوفية بمعنى ما عذرية ايضا، لكن في مجال معبود او معشوق آخر، فالموت يصبح مطلبا ايضا لأنه الحياة الحقة، وهذا ما يقوله الحلاج:
اقتلوني يا ثقاتي
ان في موتي حياتي.
ان عذرية الصوفي تجعل الموت انعتاقا وتحررا من اعباء الجسد فالجسد هو الدابة التي تحمل الروح لكنها تنوء بهذه الحمولة احيانا كما حدث لـ’محيي الدين بن عربي’ الذي كان يجلد ساقيه ويقول انهما لم يعودا قادرين على حمل الروح.
والفلسفة ايضا لها عذريتها خصوصا المثالي والافلاطوني منها، فهو اذ ينأى عن المرئي والمحسوس ويتعالى نحو التجريد، انما يصطنع عقبات تحول دون الوصال مع الواقع الحي بمجمل كائناته، وقد تكون اسطورة الكهف او حتى اسطورة رجل بامفبليا لـ’افلاطون’ مثالا لعذرية فلسفية، وقد لا نذهب بعيدا اذا قلنا بأن للأيديولوجيا عذريتها، خصوصا عندما تكون طقوسية ومشحونة بالاسطورة، ومضادة لحركة التاريخ.
ان تجليات العذرية في الفكر والأدب وانماط السلوك البشري لا حصر لها، لأنها تعبير متفاوت عن الزّهد، او بمعنى اخر فلسفة الاستغناء، ومن تجلياتها الشعرية قصيدة كفافي الشهيرة ‘الطريق الى اثياكا’، فالطريق اهم واجمل من الوصول، لهذا يفضل بعض البشر الإقامة في المسافة، بين الرغبة والسعي الى اشباعها، لأن الاشباع تدمير للرغبة وافراغ لها من شحنتها.
وكما ان الواقعية واقعيات، والبنيوية بنيويات، فإن العذرية عذريات ايضا، لأنها تصطبغ بالبيئة الثقافية والموروث الوجداني وهناك كتاب بالغ الأهمية لـ’ناجية المرائي’ بعنوان ‘الحب بين تراثين’ تتقصى فيه هذا التباين بين انماط الحب وثقافاته.
ما يهمنا من هذه المراجعة الأولية هو الإنقلابات المعرفية التي اعادت النظر بظواهر كانت اشبه بالبدهيات، وما سمي الإهانات الثلاث للمعرفة الكلاسيكية وهي الفرويدية والداروينية والنسبية يقبل المزيد شرط ان لا تحرمنا المحظورات والتابوات من حق اعادة الكشف!.
.
.
تجليات عُذريّة
قبل ان تصدر بالعربية اربعة كتب على الأقل حول الظاهرة العذرية في الأدب العربي هي: كتاب دورجمون ‘الحب والغرب’ و’سوسيولوجيا الحب العذري’ لعالم الإجتماع الطاهر لبيب و’في الحب العذري’ لـ’صادق جلال العظم’ وإلى حد ما كتاب يوسف سامي اليوسف حول الظاهرة ذاتها، كان الفهم السائد لهذا النمط من الحب رومانسيا بإمتياز، ولم يشأ النقد العربي على ما يبدو ان يفكك الوان الطيف لقوس قزح أو ان يعترف بحقيقة القمر البارد والحجري المظلم.
لكن هذه الدراسات إخترقت القشرة المزخرفة، ووظفت منجزات العلوم الإنسانية والاركيولوجيا لتفكيك ما كان محظورا الإقتراب منه على سبيل التبشير بالعفاف والطهرانية، واذا بهذا العفاف ماسوشية مصطنعة يجري تكريسها لإطالة أمد الحرمان والتلذذ بهذا الحرمان، ولم يطرق النقد العربي من قبل هذا الباب المطلي بالحناء وذا الصرير الأشبه بأنين الناي إلا على إستحياء، لكن المناهج العلمية تستمد قيمتها وجدواها وجدتها ايضا من كشط الرخام كي يتضح تحته الجص والطين.
لقد كان تحويل الحرمان الى مطلب، والوصال الى مضادات العشق، تعبيرا عن هذه الماسوشية، والتي تجلت في ظواهر وأبعاد اخرى في حياتنا، سنتوقف عند بعضها، لأن عدوى الماسوشية وليدة الإضطهاد المزمن بلغت السياسة ايضا، وتجلت في احزاب وتيارات إرتهنت للحلم فقط، وسعت الى اليوتوبيا خارج مدار الجاذبيات كلها، من جاذبية الواقع الى جاذبية التاريخ والإقتصاد.
تماما كما انتقلت عدوى ‘الفيتشيا’ من الجنس الى مناحي الحياة الأخرى، ومنها السياسة ايضا، بحيث اصبح وهم التعامل مع القرائن المصاحبة لشخصية أو حدث بديلا عن التعامل الواقعي، وهناك مثال واحد على الأقل قدمته الحرب على العراق، حيث اصبحت ‘الفيتشيا’ السياسية قاسما مشتركا بين عدوين، فالولايات المتحدة تعاملت فيتشياً مع تماثيل ‘صدام حسين’ والانصاب والجداريات، مثلما رسم العراقيون صورة جورج بوش الأب على مدخل فندق الرشيد، بحيث تدوسه الأقدام في الدخول والخروج.
تجليات الماسوشية في الظاهرة العذرية عندما شملت السياسة والأيديولوجيا سعت الى طهرانية من طراز آخر بحيث إمتنعت بعض الأحزاب عن العمل للوصول الى السلطة، حتى لو كان ذلك متاحا ربما لإدراكها ان البقاء في المعارضة يقيها غائلة التورط بالحكم وبالتالي الإخفاق المحتم لعدم وجود تصورات واقعية وبرامج قابلة للترجمة الميدانية.
*****
حتى الفلسفة لم تسلم من عدوى الماسوشية الناجمة عن العذرية، ومثالها هو النكوص الذي مارسه الغزالي على تخوم الشك والعودة الى الإيمان بالقلب حتى لو كان على طريقة يقين العجائز، وما السجال الذي كان بين إبن رشد والغزالي الذي كان مجاله التهافت سواء تعلق بالفلسفة او بالتهافت ذاته، الا احد تجليات العذرية الفكرية.
ما أجمع عليه الى حد ما دارسو العذرية بمناهج حديثة هو ان الحرمان كان وصفة نموذجية لمضاعفة التوتير لأن الرغبة تموت في الإشباع، وهذا ما عبر عنه بوضوح قيس بن الملوح حين قال ان الهوى يعيش بالفراق ويموت بالوصال.
والمقارنة التي عقدها الطاهر لبيب بين حكاية عروة وعفراء وبين اسطورة ترستيان وايزولدا تنتهي الى ان العذري يبحث عن العوائق وهو شغوف بإصطناعها حتى عندما لا تكون، لهذا كان الشاعر العذري يعرف ان تقاليد القبيلة تحرمه من الزواج بامرأة اذا تغزل بها او شبب بها، لكنه كان يفعل ذلك عن عمد، وهذا العصيان على تقاليد القبيلة مرادف للسيف الذي يفصل بين ترستيان وايزولدا.
يقول ‘دينس دورجمون’ في كتابه ‘الحب والغروب’ انها ثنائية لا علاج لها، بل هي مرغوبة فالعاشق شديد الحزن على فقدان الحبيبة، لهذا يتنهد ‘ترستيان’ وينتظر ظلام الليل القادم كي يؤجج حنينه بالغياب فالغياب بالنسبة لترستيان مطلب ايضا، كما ان الحرمان مطلب مجانين ليلى، ويستشهد دورجمون بواقعة تاريخية تضيف الى اسطورة العشق بعدا واقعيا، يقول ان ليكورغ مشرع اسبارطة كان يفرض على المتزوجين من الشباب امتناعا قسريا وطويلا ليكونوا افضل واقوى واشد اقبالا.
*****
اليست الصوفية بمعنى ما عذرية ايضا، لكن في مجال معبود او معشوق آخر، فالموت يصبح مطلبا ايضا لأنه الحياة الحقة، وهذا ما يقوله الحلاج:
اقتلوني يا ثقاتي
ان في موتي حياتي.
ان عذرية الصوفي تجعل الموت انعتاقا وتحررا من اعباء الجسد فالجسد هو الدابة التي تحمل الروح لكنها تنوء بهذه الحمولة احيانا كما حدث لـ’محيي الدين بن عربي’ الذي كان يجلد ساقيه ويقول انهما لم يعودا قادرين على حمل الروح.
والفلسفة ايضا لها عذريتها خصوصا المثالي والافلاطوني منها، فهو اذ ينأى عن المرئي والمحسوس ويتعالى نحو التجريد، انما يصطنع عقبات تحول دون الوصال مع الواقع الحي بمجمل كائناته، وقد تكون اسطورة الكهف او حتى اسطورة رجل بامفبليا لـ’افلاطون’ مثالا لعذرية فلسفية، وقد لا نذهب بعيدا اذا قلنا بأن للأيديولوجيا عذريتها، خصوصا عندما تكون طقوسية ومشحونة بالاسطورة، ومضادة لحركة التاريخ.
ان تجليات العذرية في الفكر والأدب وانماط السلوك البشري لا حصر لها، لأنها تعبير متفاوت عن الزّهد، او بمعنى اخر فلسفة الاستغناء، ومن تجلياتها الشعرية قصيدة كفافي الشهيرة ‘الطريق الى اثياكا’، فالطريق اهم واجمل من الوصول، لهذا يفضل بعض البشر الإقامة في المسافة، بين الرغبة والسعي الى اشباعها، لأن الاشباع تدمير للرغبة وافراغ لها من شحنتها.
وكما ان الواقعية واقعيات، والبنيوية بنيويات، فإن العذرية عذريات ايضا، لأنها تصطبغ بالبيئة الثقافية والموروث الوجداني وهناك كتاب بالغ الأهمية لـ’ناجية المرائي’ بعنوان ‘الحب بين تراثين’ تتقصى فيه هذا التباين بين انماط الحب وثقافاته.
ما يهمنا من هذه المراجعة الأولية هو الإنقلابات المعرفية التي اعادت النظر بظواهر كانت اشبه بالبدهيات، وما سمي الإهانات الثلاث للمعرفة الكلاسيكية وهي الفرويدية والداروينية والنسبية يقبل المزيد شرط ان لا تحرمنا المحظورات والتابوات من حق اعادة الكشف!.
.
صورة مفقودة
.