نقوس المهدي
كاتب
كان العباس بن الأحنف يميل إلى عنان جارية الناطفي، فجاءني يوماً، فقال لي: إمض بنا إلى عنان، فصرنا إليها، فرأيتها كالمهاجرة له، فجلسنا قليلاً، ثم إبتدأ عباس فقال:
قال عباس وقد أج ... هد من وجد شديد:
ليس لي صبر على الهج ... ر ولا لذع الصدود
لا ولا يصبر للهج ... ر فؤاد من حديد
فقالت:
من تراه كان أغنى ... منك عن هذا الصدود
بعد وصل لك مني ... فيه إرغام الحسود!
فآتخذ للهجر إن شئت فؤاداً من حديد
ما رأيناك على ما ... كنت تجني بجليد
فقال العباس:
أو تجودين لصب ... راح ذا هم شديد
وأخي جهل بما قد ... كان يجني بالصدود
ليس من أحدث هجراً ... لصديق بسديد
ليس منه الموت إن لم ... تصليه ببعيد
فقلت للعباس: وعلى م هذا الأمر؟! قال: أنا جنيت على نفسي بتتايهي عليها، فلم أبرح حتى ترضيتها له.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال حدثني عبد الله بن أبي سعيد قال حدثني مسعود بن عيسى، قال أخبرني موسى بن عبد الله التميمي قال: دخل أبو نواس على الناطفي وعنان جالسة تبكي وخدها على رزة في مصراع الباب، وقد كان الناطفي ضربها، فأومأ إلى أبي نواس: أن جربها بشيء، فقال أبو نواس:
عنان لو جدت لي فإني من ... عمري في أمن الرسول بما
أي في آخر عمري، لأن أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، آخر آية في البقرة.
فردت عليه:
فإن تمادى ولا تماديت في ... قطعك حبلي أكن كمن ختما
فرد عليها:
علقت من لو أتى على أنف ... س الماضين والغابرين ما ندما
فردت عليه:
أو نظرت عينه إلى حجر ... ولد فيه فتورها سقما
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال حدثني: محمد بن القاسم بن مهرويه، قال حدثني: محمد بن أبي مروان الكاتب، قال: لما أخذ أبو نواس من عنان جارية الناطفي خاتماً فصه ياقوت أحمر، أخذه أحمد بن خالد حيلويه منه فطلبته منه عنان، فبعث إليها مكانه خاتماً فصه أخضر، وإتهمته في ذلك، وكتب إلى أحمد بن خالد:
فدتك نفسي يا أبا جعفر ... جارية كالقمر الأنور
تعلقتني وتعلقتها ... طفلين في المهد إلى المكبر
كنت وكانت نتهادى الهوى ... بخاتمينا غير مستنكر
حنت إلى الخاتم منى وقد ... سألتني إياه مذ أشهر
فأرسلت فيه فغالطتها ... بخاتم وجهته أخضر
قالت لقد كان لنا خاتم ... أحمر أهداه إلينا سري
لكنه علق غيري فقد ... أهدى لها الخاتم لا أمتري
كفرت بالله وآياته ... إن أنا لم أهجره فليصبر
أو يظهر المخرج من تهمتى ... إياه في خاتمنا الأحمر
فاردده تردد وصلها إنها ... قرة عيني يا أبا جعفر
فإنني متهم عندها ... وأنت قد تعلم أنى بري
فرد الخاتم ووجهه إليه بألفي درهم.
وقرأت في كتاب لجعفر بن قدامة: بلغني أن عنان جارية الناطفي، دخل عليها بعض الشعراء، فقال لها الناطفي: عاييه! فقالت:
سقياً لقا طول لا أرى بلداً ... يسكنه الساكنون يشبهها
فقال:
كأنها فضة مموهة ... أخلص تمويهها مموهها
فقالت:
أمن وخفض وما كبهجتها ... أرغد أرض عيشاً وأرفهها
فانقطع الرجل.
حدثني عمي: الحسن بن محمد والحسن بن علي، قالا: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال حدثني: محمد بن هارون عن يعقوب بن إبراهيم قال: كان أبو نواس بعد أن هجرته عنان وهجته، يذكرها في شعره، ويشبب بها، فقال في قصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد:
عنان يا من تشبه العينا ... أنت على الحب تلومينا
حبك حب لا أرى مثله ... قد ترك الناس مجانينا!
فقال له يزيد بن مزيد هذه جارية، قد عرض فيها الخليفة، وعلقت بقلبه فأله عنها، ولا تعرض نفسك له، فقال: صدقت أيها الأمير، ونصحتني، وقطع ذكرها!
أخبرني جعفر بن قدامة، قال حدثني أبو العيناء، عن العباس إبن رستم قال: دخلت أنا وأبان اللاحقي على جارية الناطفي في يوم صائف، وهي جالسة في الخيش فقال لها أبان.
لذة عيش الصيف في الخيش فقالت: لا في لقاء الجيش بالجيش.
فقلت لها معرضاً لها: ما أحسن ما قال جرير:
ظللت أراعي صاحبي تجلداً ... وقد علقتني من هواك علوق
فقالت غير متوقفة:
إذا عقل الخوف اللسان تكلمت ... بأسراره عين عليه نطوق
ثم عرضت على الرشيد، فدخلت عليه تتبختر، فقال لها: أتحبين أن أشتريك؟ قالت: ولم لا أحب ذلك يا أحسن الناس خلقاً وخلقاً؟ فقال لها: أما الخلق فظاهر فما علمك بالخلق؟ قالت: رأيت شرارة، قد طاحت على ثوبك من المجمر، لما جاء الخادم بالبخور إليك فسقطت على ثوبك فأحرقته، فو الله ما قطبت لها وجهاً، ولا راجعت من جناها حرفاً! فقال لها: والله لولا أن العيون قد ابتذلتك إبتذالاً، مشتركاً كبيراً، لاشتريتك ولكنه لا يصح للخليفة، من هذه سبيله! وردها إلى مولاها، فاشتراها طاهر بن الحسين بعد ذلك، وجعلها على خزانة طيبه، فقالت: عرضتني للغيرة! فاعفني من ذلك، وأجعل إلي كسوتك، ففعل.
وحدثني محمد بن القاسم الأنباري، قال حدثني أبي قال: قال أبو الحسن بن الاعرابي: إجتمع أبو نواس وداود بن رزين الواسطي وحسين بن الضحاك وفضل الرقاشي وعمرو الوراق وحسين بن الخياط في منزل عنان جارية الناطفي، فتحدثوا وتناشدوا أشعار الماضين وأشعارهم في أنفسهم، حتى انتصف النهار، فقال بعضهم: عند من نحن اليوم؟ فقال كل واحد: عندي! قالت عنان: قولوا في هذا المعنى أبياتاً وتضمنوا إجازة حكمي عليكم، بعد ذلك.
فبدأ داود بن رزين الواسطي فقال:
قوموا إلى قصف لهو ... وظل بيت كنين
فيه من الورد والمرم زجوش والياسمين
وريح مسك ذكي ... بجيد الزرجون
وقينة ذات غنج ... وذات دل رصين
تشدو بكل ظريف ... من صنعة ابن رزين
فقال أبو نواس:
لا بل إلى ثقاتي ... قوموا بنا يا حياتي
قوموا نلذ جميعاً ... بقول هاك وهات
فإن أردتم فتاة ... أتحفتكم بفتاة
وإن أردتم غلاماً ... أتيتكم بمؤاتي
فبادروه مجوناً ... في وقت كل صلاة
وقال حسين بن الضحاك الخليع:
أنا الخليع فقوموا ... إلى شراب الخليع
إلى شراب لذيذ ... من بعد جدى رضيع
وذي دلال رخيم ... بالخندريس صريع
في روضة جادها ... صوب غاديات الربيع
قوموا تنالوا جميعاً ... منال ملك رفيع
وقال الرقاشي:
لله در عقار ... حلت ببيت الرقاشي
عذراء ذات احمرار ... أتى بها لا أحاشي
قوموا نداماي رووا ... مشاشكم ومشاشي
وناطحوني باقدا ... حكم نطاح الكباش
فإن نكلت فحل ... لكم دمى ورياشي
وقال عمرو الوراق:
قوموا إلى بيت عمرو ... إلى سماع وخمر
وبيشكار علينا ... يطاع في كل أمر
وشادن ذي دلال ... يزهى بطرف ونحر
فذاك بر وإن شئ ... تم أتينا ببحر
وقال حسين الخياط:
قضت عنان عليكم ... بأن تزوروا حسينا
وأن تقروا لديه ... بالقصف واللهو عينا
فما رأينا كظرف الحمين فيما رأينا
قد قرب الله منه ... زيناً وباعد شينا
قوموا وقولوا أجزنا ... ما قد قضيت علينا
وقالت عنان:
مهلاً فديتك مهلاً ... عنان أحرى وأولى
بأن تنالوا لديها ... أشهى الطعام وأحلى
فإن عندي حراماً ... من الشراب وحلا
لا تطمعوا في سوى ذا ... من البرية كلا
كم أصدقوا: بحياتي ... أجاز حكمي أم لا؟
فقالوا جميعاً: قد جاز حكمك، فاحتبستهم ثلاثاً، يقصفون عندها.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال حدثني عمي: عبيد الله، عن أخيه أحمد، قال: لما غاب أبو نواس إلى مصر، تشوقه الناس وذكروه، وإتصل تفاوضهم ذكره حتى بلغ وصفه عناناً، فتشوقته، ثم قدم بعد ذلك من مصر، فلما كان بعد قدومه بأيام جاء إلى النطافي، فقال له أبو نواس، فاستأذن لي على عنان! فقال له: أما والله، لقد أهديت إليها من زيارتك هدية، كانت إليها مشتاقة، ودخل، فأعلمها وأذن له، فدخل عليها، فقامت فتلقته إلى باب الدار، فسلمت عليه، ووصفت له شوقها إليه، واحتبسته عندها يومه وليلته، وإتصل إجتماعهما، فوجهت إليه يوماً، وصيفة لها، تدعوه إلى الصبوح معها، وكتبت إليه تقول:
زرنا لتأكل معنا ... ولا تغيبن عنا
فقد عزمنا على الش ... رب صبحة وإجتمعنا
فجاءته الوصيفة بالرقعة، فقرأها، واحتال على الوصيفة حتى طاوعته على ما أراده، وقال في ذلك:
نكنا رسول عنان ... والرأى فيما فعلنا!
فكان خبزاً بملح ... قبل الشواء أكلنا
جاذبتها فتحانت ... كالغصن لما تثنى
فقلت ليس على ذا ... الفعال كنا إتفقنا
قالت فكم تتجنى ... طولت: نكنا ودعنا!
فبلغ عناناً ذلك، فكان سبب التباعد بينهما، والمهاجاة، مرت.
وذكر أبو هفان عن الجماز، أن سبب المهاجاة بينهما، أنه كتب إليها وهو سكران:
إن لي أيراً خبيثاً ... لونه يحكي الكميتا
لو رأى في الجو صدعاً ... لنزا حتى يموتا
أو يراه وسط بحر ... صار للغلمة حوتا
أو يراه جوف صدع ... لتحول عنكبوتا
فغضبت من ذلك، وكتبت إليه:
زوجوا هذا بإلف ... وأظن الإلف قوتا
إنني أخشى عليه ... غلمة من أن يموتا
قبل أن ينتكس الدا ... ء فلا يأتى فيوتى
وقال لها يوماً:
ما تأمرين لصب ... يرضيه منك قطيره؟
فأجابته:
إياى تعنى بهذا؟ ... عليك فاجلد عميره!
فأجابها:
أريد ذاك وأخشى ... على يدى منك غيره
فخجلت وقالت: عليك وعلى من يغار عليك..
فقالت عنان:
عليك أمك نكها ... فإنها كندبيره
وقال فيها أبو نواس:
إن عنان النطاف جارية ... قد صار حرها للنيك ميدانا
ما يشتريها إلا إبن زانية ... وقلطبان يكون من كانا!
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني - صهر المبرد - قال حدثني أبو هفان - عن سليمان أخي جحظة أنها حجبه وهجرته، فلم تأذن له، فبعث إليها رسولاً يعتذر، فقالت له: قل له دعنا منك، يا مخنث، يا حلقي! فرجع الرسول إليه فسأله عن الجواب، فأخبره به فقال أبو نواس:
وأتاني من إذا ذكرت له ... خنثني ظالماً وحلقني!
لو سألوه عن وجه حجته ... وشتمه لقال يعشقني
نعم إلى الحشر والحساب نعم! ... أعشقه أو ألف في كفني!
أهجر هجراً لا أستسر به ... عنفني فيه من يعنفني:
يأيها الناس مني إستمعوا ... إن عناناً صديقة الحسن!
أخبرني عمي الحسن بن محمد، قال أنشدني أحمد بن أبي طاهر، لعنان تهجو أبا نواس:
أبو نواس بدائه كلف ... يسخر من نفسه يخادعها
أمسى بروس الحملان شهر في الناس وإضماره أكارعها
وقالت فيه أيضاً:
يا نواس، يا نفاية خلق الله قد نلت بي سناء وفخرا
مت متى شئت، قد ذكرتك في الشعر، وجرر أذيال ثوبك كبرا
رب ذي خلة تلبس من لفظك سلحاً ومنك عرا وشرا
ونديم سقاك كأساً من الخمر فأفضلت في الزجاجة حبرا
وإذا ما كلمتني فاتق الله وعلق دوني على فيك سترا
وإذا ما أردت أن تحمد الله على ما أبلى وأولاك شكرا
فليكن ذاك بالضمير وبالإيماء لا تذكرن ربك جهرا
أنت تفسق إن نطقت ومن يسبح بالفسق نال إثماً ووزرا
إحمد الله ما عليك جناح ... جعل حذف الله بين لحييك جحرا
إن تأملته فبوم خراب ... وإذا ما شممته كان صقرا!
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني إبراهيم بن سليمان بن وهب، قال: قال عمي الحسن بن وهب: دخلت يوماً إلى عنان جارية الناطفي، فسألتني أن أقيم عندها ففعلت، وأتينا بالطعام والشراب، فأكلنا وشربنا، وغنتني فكان غناؤها دون شعرها، فشربت ستة أرطال ونكتها خمسة وضجرت فقالت لي: ما أنصفت: شربت ستة، ونكت خمسة؟ فتغافلت، وقلت: غني صوتي، في شعر سلم الخاسر:
خليلي ما للعاشقين قلوب ... ولا لعيون الناظرين ذنوب
فيا معشر العشاق ما أبغض الهوى ... إذا كان لا يلقى المحب حبيب!
فغنت:
خليلي ما للعاشقين أيور ... ولا لحبيبب لا ينال سرور
فيا معشر العشاق ما أبغض الهوى ... إذا كان في أير المحب فتور!
فانصرفت خجلاً!.
حدثني جعفر بن قدامة، وجحظة قالا: أنشدنا هبة الله بن إبراهيم بن المهدي، قال أنشدني أبي لعنان جارية النطافي، وفيه لحن لعلية من خفيف الثقيل.
حدثني بذلك بعض عجائزنا، قال: كنت أسمع هذا الصوت في درانا منسوباً إلى أبي، حتى غنته ريق يوماً، وأخبرتني أنها أخذته من علية بنت المهدي:
نفسي على حسراتها موقوفة ... فوددت لو خرجت مع الحسرات
لو في يدي حساب أيامي إذاً ... خطرفتهن تعجلا لوفاتي
لا خير بعدك في الحياة وإنما ... أبكي مخافة أن تطول حياتي!
أخبرني بذلك أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي، وأخبرني جعفر بن قدامة، قال حدثني أبو العيناء عن الأصمعي، قال: بعثت الي أم جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج يذكر عنان جارية النطافي، فإن أنت صرفته عنها فلك حكمك!.
قال: فكنت ألتمس أن أجد موضعاً للقول فيها فلا أجد، ولا أقدم عليه هيبة له. إذ دخلت يوماً فرأيت في وجهه أثر الغضب فانخزلت فقال لي: ما لك يا أصمعي؟! قلت: رأيت على وجه أمير المؤمنين أثر الغضب، فعلى من أغضبه لعنة الله! فقال: هذا الناطفي، أما والله، لولا أنني لم أجر في حكم قط متعمداً لجعلت على كل جبل منه قطعة! وما لي في جاريته أرب غير الشعر فذكرت رسالة أم جعفر، فقلت: أجل والله ما فيها غير الشعر، أفيسر أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق؟! فضحك من قولي حتى إستلقى على قفاه، وعدل عنها، وبلغ قولي أم جعفر فأجزلت لي الجائزة.
أخبرني عمي الحسن بن محمد والحسن بن علي قالا: حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال حدثني محمد بن هارون، عن يعقوب بن إبراهيم: أن الرشيد طلب من الناطفي جاريته، فأبى أن يبيعها بأقل من مائة ألف دينار، فقال له: على أن أعطيكها على ضرب سبعة دراهم بدينار، فيصح لك سبع مائة درهم فامتنع عليه فأمر بأن تحضر، فأحضرت، فذكر أنها جلست في مجلسها على حالها تنتظره، فدخل إليها، فقال لها: إن هذا قد إعتاص علي في أمرك، فقالت: فما يمنعك أن ترضيه وتوفيه؟ قال: ليس يقنع بما أعطيته، وأمرها بالإنصراف.
فتصدق الناطفي بثلاثين ألف درهم حين رجعت إليه، ولم تزل في قلب الرشيد، حتى مات مولاها، فبعث مسرور الخادم، حتى أخرجها إلى باب الكرخ، وأقامها على سرير، وعليها رداء رشيدي، قد جللها، فنودي عليها فيمن يزيد؟، بعد أن شاور الفقهاء فيها، وقال: هذه كبد رطبة، وعلى الرجل دين، فأفتوا ببيعها، فبلغني أنها كانت تقول على المصطبة: أهان الله من أهانني ورذل من رذلني! فلكرها مسرور، فبلغت في النداء مائتي ألف درهم، فجاء رجل فزاد فيها خمسة وعشرين ألف درهم، فلطمه مسرور، وقال: أتزيد على أمير المؤمنين؟! ثم بلغ بها مائتين وخمسين ألف درهم، فأخذها له، ولم يكن فيها شيء يعاب، فطلبوا فيها عيباً لئلا تصيبها العين، فأوقعوا في خنصر رجلها شيئاً في ظفرها، فأولدها الرشيد ولدين ماتا صغيرين، ثم خرج بها إلى خراسان، فمات هناك، وماتت عنان بعده بمدة يسيرة.
قال أبو الفرج: وروى إبن عمار هذا الخبر عن محمد بن القاسم بن مهرويه، وذكر أنه أوقف إبن مهرويه على أنه خطأ، وأن عنان خرجت إلى مصر، وماتت بها حين أعتقها النطافي، وقالت ترثيه بمصر:
يا دهر أفنيت القرون ولم تزل ... حتى رميت بسهمك النطافا
يا ناطفي وأنت عنا نازحما كنت أول من دعوه فوافى
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وعلي بن سليمان الأخفش عن المبرد عن المازني، عن الأصمعي: وقال إبن عمار عن بعض أصحابه، أظنه المازني، عن الأصمعي، قال: ما رأيت أثر النبيذ في وجه الرشيد قط، إلا مرة واحدة!، فاني دخلت إليه أنا وأبو حفص الشطرنجي فرأيته خائراً - وفي أصل باثراً فقال: استبقا إلى بيت، بل إلى أبيات، فمن أصاب ما في نفسي، فله عشرة آلاف درهم! فوقع في نفسي أنه يريد جارية الناطفي، قال: فأشفقت ومنعتني هيبته وبدر الشطرنجي بجرأة العميان، فقال:
من لقلب متيم بك صب ... ما له همة سوى ذكراك
كلما دارت الزجاجة زادته م إشتياقاً وحرقة فبكاك
فقال: أحسنت، لك عشرة الآف درهم، فزالت الهيبة عني، فقلت:
لم ينلك الرجاء أن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواك
فقال: أحسنت، لك عشرة الآف درهم، فزالت الهيبة عني، فقلت:
لم ينلك الرجاء أن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواك
فقال: أحسنت! لك عشرون الفاً أخرى، وأطرق ثم قال: أنا والله أشعر منكما، ثم قال:
قد تمنيت أن يغشيني الله ... نعاساً لعل عيني تراك!
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال حدثني أحمد بن المعلى الراوية، قال: كتبت عنان جارية الناطفي إلى جعفر بن يحيى البرمكي تسأله أن يسأل أباه، أن يكلم الرشيد في أن يشتريها - أو يشير عليه بذلك - فقالت:
يا لائمي جهلاً ألا تقصر ... من ذا على حر الهوى يصبر
لا تلحني أني شربت الهوى ... صرفاً، فممزوج الهوى يسكر
أحاط بي الحب، فخلفي له ... بحر وقدامي له أبحر
تخفق رايات الهوى بالردى ... فوقي، وحولي للردى عسكر
سيان عندي في الهوى لائم ... أقل فيه، والذي يكثر
أنت المصفى من بني برمك ... يا جعفر الخيرات، يا جعفر
لا يبلغ الواصف في وصفه ... ما فيه من فضل، ولا يحصر
من وفر العرض بأمواله ... فجعفر أعراضه أوفر
ديباجة الملك على وجهه ... وفي يديه العارض الممطر
سحت علينا منهم ديمة ... ينهل منها الذهب الأحمر
لو مسحت كفاه جلمودة ... أنضر فيها الورق الأخضر
لا يستتم المجد إلا فتى ... يصبر للبذل كما يصبر
يهتز تاج الملك من فوقه ... فخراً، ويزهى تحته المنبر
أشبهه البدر إذا ما بدا ... وغرة في وجهه تزهر
والله ما أدري أبدر الدجى ... في وجهه أم وجهه أنور؟
يستمطر الزوار منك الغنى ... وأنت بالزوار تستبشر
عودت طلاب الندى عادة ... إن قصروا عنك فما تقصر
وكتبت تحت الأبيات تسأله حاجتها، فركب من ساعته إلى أبيه فكلمه في أمرها، فكلم الرشيد في ذلك، وأشار عليه فلم يقبل، وإمتنع من شرائها لشهرتها وما قيل فيها من هجاء الشعراء، وقال له: أشتريها بعد قول أبي نواس:
ما يشتريها إلا ابن زانية ... أو قلطبان يكون من كانا!؟
دنانير جارية محمد بن كناسة
مولدة، من مولدات الكوفة، رباها محمد بن كناسة، وأدبها، وخرجت: شاعرة، أديبة، فصيحة، وقيل أنها كانت تغني، وذلك باطل! كان محمد بن كناسة، رجلاً زاهداً، نبيلاً، وهو إبن خالة إبراهيم بن أدهم وليس مثله من يعلم جارية له: الغناء! أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال حدثني إبن أبي الدنيا، قال: كتب الي الزبير بن بكار، يذكر أن علي بن عثام الكلابي حدثه، قال: جئت يوماً إلى منزل محمد بن كناسة، وكانت جاريته دنانير جالسة، فقالت لي: مالك محزوناً يا أبا الحسن؟ قلت: رجعت من دفن أخ لي من قريش، فسكتت شيئاً، ثم قالت:
بكيت على أخ لك من قريش ... فأبكانا بكاؤك يا علي!
وما كنا عرفناه ولكن ... طهاره صحبه: الخبر الجلي
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق، قال حدثنا الزبير بن بكار، قال أخبرني علي بن عثام الكلابي، قال:
كانت لابن كناسة، جارية، شاعرة، مغنية، يقال لها: دنانير، وكان له صديق يكنى أبا الشعثاء، وكان عفيفاً، مزاحاً، وكان يدخل الى إبن كناسة يسمع غناء جاريته، ويعرض لها بأنه يهواها، فقالت فيه هذه الأبيات:
لأبي الشعثاء حب ظاهر ... ليس فيه مطعن للمتهم
يا فؤادي فازدجر عنه ويا ... عبث الحب به فاقعد وقم
راقني منه كلام فاتن ... ورسالات المحبين الكلم
قانص تأمنه غزلانه ... مثل ما تأمن غزلان الحرم
صل إن أحببت أن تعطى المنى ... يا أبا الشعثاء لله وصم
ثم ميعادك يوم الحشر في ... جنة الخلد إن الله رحم
حيث القاك غلاماً ناشئاً ... يافعاً قد كملت فيك النعم
أخبرني وكيع، قال أخبرني إبن أبي الدنيا، قال حدثني محمد بن علي بن عثام الكلابي عن أبيه، قال: كنت يوماً عند إبن كناسة، فقال أعرفكم شيئاً من فهم دنانير؟ يعني جاريته، قلنا: نعم، فكتب إليها: إنك أمة ضعيفة، ورهاء، خرفاء، فاذا أتاك كتابي هذا فعجلي جوابي، فكتبت إليه: قد ساءني تهجينك عند أبي الحسن، وإن أعيا العي: الجواب عما لا جواب له، والسلام.
حدثني أحمد بن العباس العسكري المؤدب، قال حدثني به: الحسن بن عليل العنزي، قال حدثنا أحمد بن محمد الأسدي، قال حدثنا خالي موسى بن صالح قال: ماتت دنانير جارية محمد بن كناسة، وكانت أديبة شاعرة، فقال يرثيها:
الحمد لله لا شريك له ... يا ليت ما كان منك لم يكن
إن يكن القول قل فيك فما ... أفحمني غير شدة الحزن
فضل الشاعرة اليمامية
جارية المتوكل
توفيت257ه، وقيل 260 جمع المستشرق هوار شعرها في المجلة الآسيوية: 1881مج - 17.
قال ابن النديم ان شعرها يقع في عشرين ورقة: الفهرست: ط. طهران.
ترجمتها وأخبارها في: الأغاني19: 300 - 314.
أمالي القالي.
طبقات ابن المعتز.
الأربعة في أخبار الشعراء لابي هفان. جمع وتحقيق هلال ناجي مجلة المورد.
المحاسن والاضداد: 198.
الاماء من شواعر النساء: 53 - 54.
بدائع البدائة: 50، 150.
نساء الخلفاء: 84 - 90.
المنتظم: حوادث 257ه فوات الوفيات نشرة إحسان عباس.
المستظرف للسيوطي.
الوافي.
سيدات البلاط العباسي.
النجوم الزاهرة.
سمط اللألي.
تاريخ الأدب العربي لبروكلمان الطبعة الأروبية.
تاريخ التراث العربي لسزكين بالألمانية قسم الشعر.
كانت فضل مولدة، من مولدات البصرة، وبها نشأت، وكان مولدها باليمامة، وذكرها محمد بن داود بن الجراح فقال: أنها عبدية، وكذلك كانت تزعم هي وتقول أن أمها علقت بها من مولى لها من عبد القيس وأنه مات وهي حامل بها، فباعها إبنه، فولدت على سبيل الرق، وذكر عنها من جهة أخرى أن أمها ولدتها في حياة أبيها فرباها وأدبها فلما توفى، تواطأ بنوه على بيعها، فبيعت، فاشتراها محمد بن الفرج الرخجي - أخو عمو بن الفرج - وأهداها الى المتوكل.
وكانت سمراء، حسنة الوجه، والقد والجسم - شكلة، حلوة، أديبة، فصيحة، سريعة الهاجس مطبوعة في قول الشعر، متقدمة لسائر نساء زمانها فيه.
أخبرني محمد بن المرزبان وجعفر بن قدامة، قالا: حدثنا أحمد بن أبي طاهر، واللفظ لجعفر، قال: جلبت فضل الشاعرة، من البصرة، فاشتراها رجل من النخاسين يقال له: حسنوية بعشرة الآف درهم، وبلغ خبرها محمد بن الفرج الرخجي أخو عمر بن الفرج الرخجي، فاشتراها وأهداها الى المتوكل.
قال جعفر بن قدامة وقال محمد بن خلف أن الذي إبتاعها محمد أخوه، فأهداها إلى المتوكل، فكانت تجلس في مجلسه على كرسي، تقارض الشعراء والشعر بحضرته، فألقى عليها يوماً أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطى إلي ما لم يركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب
فقالت فضل مجيبة له:
إن المطية لا يلذ ركوبها ... حتى تذلل بالزمام وتركب
والدر ليس بنافع أربابه ... حتى يؤلف بالنظام ويثقب
وفي رواية جعفر حتى تذلل بالزمام وتركبا.
والبيت الثاني: حتى تؤلف بالنظام وتثقبا.
حدثني عمي الحسن بن محمد ومحمد بن خلف وكيع وجعفر بن قدامة، قالوا: حدثنا أبو العيناء، قال: لما دخلت فضل الشاعرة على المتوكل يوم أهديت إليه، قال لها: أشاعرة أنت؟ قالت هكذا يزعم من باعني وإشتراني!، فضحك وقال: أنشدينا شيئاً من شعرك، فأنشدته هذه الأبيات:
إستقبل الملك إمام الهدى ... عام ثلاث وثلاثينا
خلافة أفضت إلى جعفر ... وهو إبن سبع بعد عشرينا
إنا لنرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الملك ثمانينا
لا قدس الله إمرأ لم يقل ... على دعائي لك: آمينا
فاستحسن الأبيات، وأمر لها بخمسين ألف درهم، وأمر عريباً فغنت بها.
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني أحمد بن حمدون: أبو عبد الله، قال: عرضت على المعتمد جارية تباع، في خلافة المتوكل، يقال لها علم الحسن، مغنية، حسنة الوجه، - وهو يومئذ غلام حديث السن - وأخرجها مولاها إلى إبن الأغلب، فبيعت هناك، فلما ولي المعتمد الخلافة، سأل عنها، وقد ذكرها وأعلم أنها بيعت بالقيروان، وأولدها سيدها، فقال لفضل الشاعرة،: قولي فيها شيئاً! فقالت فيها هذه الأبيات:
علم الجمال تركتني ... في الحب أشهر من علم
ونصبتني يا منيتي ... غرض المظنة والتهم
فارقتني بعد الدنو م فصرت عندي كالحلم
فلو أن نفسي فارقت ... جسمي لفقدك لم تلم
ما كان ضرك لو وصل ... ت فخف عن قلبي الألم
برسالة تهدينها ... أو زورة تحت الظلم
أو لا فطيفي في المنا ... م فلا أقل من اللمم
صلة المحب حبيبه ... الله يعلمه كرم
قال أبو الفرج: وقد حدثني بهذا الحديث علي بن صالح، عن أحمد بن أبي طاهر؛ إنه ألقى على فضل الشاعرة:
علم الجمال تركتني ... في الحب أشهر من علم
فقالت:
وأبحتني يا سيدي ... سقماً يحل عن السقم
وتركتني غرضاً فديتك للهوان وللتهم!
حدثني محمد بن العباس اليزيدي، قال كتب بعض أهلنا الى فضل الشاعرة:
أصبحت صباً هائم العقل ... الى غزال حسن الشكل
أضنى فؤادي بعد عهدي به ... وبعده مني ومن وصلي
منية نفسي في هوى فضل ... أن يجمع الله بها شملي
أهواك يا فضل هوى خالصاً ... فما لقلبي عنك من شغل
فأجابته:
الصبر ينقص والسقام يزيد ... والدار دانية وأنت بعيد
أشكوك أم أشكو إليك فإنه ... لا يستطيع سواهما المجهود
إني أعوذ بحرمتي لك في الهوى ... من أن تطاوع في قول حسود
في هذه الأبيات رمل طنبوري وأظنه لجحظة.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال أخبرني الحسن بن عيسى إبن الكوفي، قال حدثني أبو دهمان، قال محمد بن خلف، وأخبرني بهذا الخبر: عبد الله بن نصر المرزوي، قالا: كانت فضل الشاعرة من أحسن الناس وجهاً وخلقاً وخلقاً، وأرق شعراً، فكتب إليها بعض من كان يجمعه وإياها مجلس الخليفة، وكان يهواها ولا يطلعها على حبه لها:
ألا ليت شعري عنك هل تذكرينني ... فذكرك في الدنيا الي حبيب
وهل لي نصيب في فؤادك ثابت ... كما لك عندي في الفؤاد نصيب
ولست بمتروك فأحيا بزورة ... ولا النفس عند اليأس عنك تطيب
فكتبت إليه هذه الأبيات:
نعم وإلهي إنني بك صبة ... فهل أنت يا من لا عدمت مثيب
لمن أنت منه في الفؤاد مصور ... وفي العين نصب العين حين تغيب
فثق بوداد أنت مظهر فضله ... على أن بي سقماً وأنت طبيب!
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال حدثني أبو العباس المرزوي قال: قال المتوكل لعلي بن الجهم، قل بيتاً، وقل لفضل الشاعرة تجيزه، فقال علي: أجيزي يا فضل:
لاذ بها يشتكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا
فأطرقت هنيئة، ثم قالت:
فلم يزل ضارعاً إليها ... تهطل أجفانه رذاذا
فعاتبوه فزاد عشقا ... فمات وجداً فكان ماذا؟
فأطرب المتوكل، وقال أحسنت وحياتي يا فضل وأمر لها بألفي دينار، وأمر عريباً، فغنت فيه صوتها: الهزج.
قال أبو الفرج ونسخت من كتاب جعفر بن قدامة: حدثني: علي بن يحيى المنجم، وقد حدثني بعض أصحابنا عن رجل، عن علي بن يحيى قال: دخلت الى المتوكل يوماً، فدفع الي رقعة وأمرني بقراءتها، فقرأتها فإذا فيها:
قد بدا شبهك يا مو ... لاي يحدو بالظلام
قم بنا نقض لبانا ... ت التثام والتزام
قبل أن تفضحنا عو ... دة أرواح النيام
فقلت ملح والله قائلها!، فمن هو؟ قال: واعدت فضلاً البارحة، أن تبيت عندي، فسكرت سكراً شديداً منعني من ذلك، فلما أصبحت وجدت هذه الرقعة في كمي وهي بخطها.
حدثني جحظة، قال حدثني إبن الدهقانة النديم عن عبد الله بن عمر بن المرزبان قال: قالت لي فضل: وعدني أمير المؤمنين أن أبيت عنده، وأشرب فسكرت، وخرجت مع العتمة، فجلست أغمز رجله ملياً، ثم قمت إلى جنبه فلم يتحرك من نومه، فكتبت في رقعة وجعلتها في كمه، وذكرت الأبيات، فلما أصبح قرأها، وضحك ثم دعاني، فوهب لي ألف دينار، وتكون الليلة عوض البارحة!.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال: خرجت قبيحة إلى المتوكل في يوم نيروز، وفي يدها كأس بلور شراب فقال لها: ما هذا؟ قالت: هديتي إليك من هذا النيروز عرفك الله بركته، فشرب الكأس، وقبل خدها، فقالت فضل:
سلافة كالقمر الباهر ... في قدح كالكوكب الزاهر
يديرها خشف كبدر الدجى ... فوق قضيب أهيف ناضر
على فتى أروع من هاشم ... مثل الحسام المرهف الباتر
أخبرني محمد بن خلف، قال حدثني أبو الفضل المرزوي قال: اجتمعت فضل الشاعرة وسعيد بن حميد في مجلس، فأخذت دواة ودرجاً وكتبت إليه:
بثثت هواك في جسدي وروحي ... فألف فيهما طمعاً بيأس
فكتب إليها تحت البيت:
كفانا الله شر اليأس إني ... لخوف اليأس أبغض كل آسى
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال ألقى بعض أصحابنا على فضل الشاعرة:
ومستفتح باب البلاء بنظرة ... تزود منها قلبه حسرة الدهر
قالت:
فو الله ما يدري أتدري ما جنت ... على قلبه أم أهلكته وما يدري؟
أخبرني محمد بن خلف، قال حدثني أبو يوسف الضرير المعروف بابن الدقاق، قال: صرت أنا وأبو منصور الباخرزي الى فضل الشاعرة، فحجبنا، وما علمت بنا، ثم بلغها خبرنا بعد إنصرافنا فغمها ذلك، وكرهته، فكتبت إلينا تعتذر، فقالت:
وما كنت أخشى أن تروا لي زلة ... ولكن أمر الله ما عنه مذهب
أعوذ بحسن الصفح منكم وقبلنا ... بصفح وعفو ما تعوذ مذنب
فكتب إليها أبو منصور الباخرزي:
لئن أهديت عتباك لي ولأخوتي ... لمثلك يا فضل الفضائل يعتب
إذا إعتذر الجاني، محا العذر ذنبه ... وكل إمرىء لا يقبل العذر مذنب
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال حدثني محمد بن الوليد قال حدثني علي بن الجهم، قال: كنت يوماً عند فضل الشاعرة، فألحظتها لحظة إسترابت بها، فقالت:
يا رب رام حسن تعرضه ... يرمي ولا يشعر أني غرضه
فقلت:
أي فتى لحظك ليس يمرضه؟ ... وأي عقد محكم لا ينقضه!
فضحكت وقالت: خذ في غير هذا الحديث.
حدثني جعفر بن قدامة، قال حدثني إبن حميد، قال: قلت لفضل الشاعرة أجيزي:
من لمحب أحب في صغره؟
فقالت:
فصار أحدوثة على كبره!
فقلت:
من نظر شفه وأرقه
فقالت:
فكان مبدا هواه من صبره!
ثم شغلت بالشراب هنيئة، ثم قالت:
لولا الأماني لمات من كمد ... مر الليالي يزيد في فكره
ليس له مسعد يساعده ... بالليل في طوله وفي قصره
الجسم يبلى فلا حراك بهوالروح فيما أرى على أثره!
حدثني الحسن بن محمد، والحسن بن علي قالا: أخبرنا إبن أبي الدنيا، قال حدثني ميسرة بن محمد، قال حدثني عبيد بن محمد قال: قلت لفضل الشاعرة ماذا نزل بكم البارحة؟! وذلك صبيحة قتل المنتصر أو المعتز فقالت وهي تبكي:
(1/9)
إن الزمان بذحل كان يطلبنا ... ما كان أغفلنا عنه وأسهانا!
ما لي وللدهر قد أصبحت همته ... ما لي وللدهر ما للدهر لا كانا!
قال أبو الفرج: قرأت في بعض الكتب عن عبد الله بن المعتز قال: قال لي إبراهيم بن المدبر: كانت فضل الشاعرة من أحسن خلق الله خطاً وأفصحهم كلاماً، وأبلغهم في مخاطبة، وأثبتهم في محاورة فقلت يوماً لسعيد بن حميد، أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل، رقاعها، وتفيدها وتخرجها، فقد أخذت تجول في الكلام، وسلكت سبيلك، فقال وهو يضحك: ما تحسن ظنك! ليتها تسلم مني، لا آخذ كلامها ورسائلها! والله يا أخي لو أن أحد أفاضل الكتاب وكبراءهم وأماثلهم أخذ عنها، لما إستغنوا عن ذلك!.
وكانت فضل تهوى سعيد بن حميد ويهواها ولكل واحد منهما في صاحبه أشعار - ذكرتها في أماكنها - ثم عدلت عنه إلى بنان المغني فعشقته.
حدثني جحظة، قال حدثني علي بن يحيى المنجم، قال: أمر المتوكل بأن تضرب مضاربة على القاطول، وتحدر هناك ويقيم شتوية على القاطول، فقالت فضل الشاعرة:
قالوا لنا أن بالقاطول مشتانا ... ونحن نأمل صنع الله مولانا
والناس يأتمرون الغيب بينهم ... والله في كل يوم محدث شانا
رب يرى فوق ملك العالمين له ... ملكاً وفوق ذوي السلطان سلطانا
وغنت فيه عريب، فلما أخذ النبيذ في المتوكل غنته بهذا الصوت فطرب، وأمر بإبطال ما كان عزم عليه، وقال: إذا كرهتم هذا كرهناه.
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني عبد الله بن أبي سعيد قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود، قال: وقع بين سعيد بن حميد وبين فضل الشاعرة، مشاجرة لشيء بلغها عنه، فكتب إليها:
تعالي نجدد عهود الصبا ... ونصفح عن الذنب فيما مضى
ونجري على سنة العاشقين ... ونضمن عني وعنك الرضا
ويبذل هذا لهذا رضاه ... ويصبر في حبه للقضا
ونخضع ذلاً خضوع العبيد ... لمولى عزيز إذا أعرضا
فإنى مذلج هذا العتاب ... كأنى أبطنت جمر الغضى
فصارت إليه، وصالحته.
قال أبو الفرج: ولهاشم بن سليمان في هذا الشعر لحن من ثقيل الأول بالوسطى، ذكره لي عمي وإبن بانة.
حدثني جعفر بن قدامة، قال حدثني ميمون بن إبراهيم، قال: كنت أنا وسعيد بن حميد، نشرب عند الحسن بن مخلد فجاء سعيد برقعة، عن فضل الشاعرة فدفعها إليه فقرأها، ولحظه الحسن، فقال له بحياتي هذه رقعة فضل الشاعرة؟! فشور ثم صدقه، فقال هاتها: فأعطاه إياها، وقرأناها فإذا فيها مكتوب:
نفسي فداؤك طال العهد وإتصلت ... منك المواعيد والليان والخلف
والله يعلم أني فيك ساهرة ... ودمع عيني منها بارق يكف
فان تكن خنت عهدي فو آاسفاً ... وقل مني فيك الهم والأسف
وإن تبدلت مني غادراً خلفاً ... فليس منك ورب العرش لي خلف
فكتب اليها:
يا واصف الشوق عندي فوق ما تجد ... دمع يفيض وقلب خافق يجف
فكن على ثقة مني وبينة ... إني على ثقة من كل ما تصف
ق94 أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة، قال حدثني محمد بن السري، أنه صار إلى سعيد بن حميد، وهو في دار الحسن بن مخلد في حاجة له، قال: بينما أنا عنده، إذ جاءته رقعة لفضل الشاعرة وفيها هذان البيتان:
الصبر ينقص والسقام يزيد ... والدار دانية وأنت
بعيد أشكوك أم أشكو إليك فإنه ... لا يستطيع سواهما المجهود
أنا يا أبا عثمان قد مت قبلك، في حال التلف، وما عدتني ولا سألت عن خبري فأخذ بيدي، ومضينا إليها عايدين، فقالت له: هو ذا أموت وتستريح مني!، فانشأ يقول:
لا مت قبلك بل أحيا وأنت معاً ... ولا أعيش إلى يوم تموتينا
حتى نعيش كما نهوى ونأمله ... ويرغم الله فينا أنف شانينا
حتى إذا ما قضى الرحمن منيتنا ... وحل من أمرنا ما ليس يعدونا
متنا جميعاً كغصني بانة ذبلاً ... من بعد ما نضرا واستوسقا حينا
(1/10)
ثم السلام علينا في مضاجعنا ... حتى يعود إلى تدبير منشينا
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني ميمون بن هارون قال: أن سعيد بن حميد كان مشغوفاً بفضل الشاعرة، ولم يزل بكاتبها ويراسلها، ويشكو هواه إليها حتى واصلته.
قال ميمون، وأقرأني رقعة منها إليه، تعاتبه على حصوله مع مغنية، وتجميشه لها، وفي آخرها:
خنت عهدي وليس ذاك جزاء ... يا صناع اللسان مر الفعال
وتبدلت بي بديلاً فلا يهن م ك ما إخترته من الأبدال
فأجابها بحضرتي، باعتذار طويل، وكتب في آخر الرقعة:
تظنون أني قد تبدلت بعدكم ... بديلاً وبعض الظن إثم ومنكر
إذا كان قلبي في يديك رهينة ... فكيف بلا قلب أصافي وأهجر؟!
وفي هذين البيتين لسليمان بت الفضل القصار، رمل وخفيف رمل محدث.
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني عبد الله بن أبي سعيد، قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود: أن أباه كان يستحسن قول سعيد بن حميد:
تظنون أني قد تبدلت بعدكم ... بديلا، وبعض الظن إثم ومنكر
ويقول: لئن عاش هذا الغلام ليكونن له شأن من الشؤون.
حدثني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب، قال إسحاق بن مسافر: إنه كان عند سعيد بن حميد يوماً، فدخلت عليه فضل الشاعرة على غفلة، فوثب إليها وسلم عليها، وسألها أن تقيم عنده، فقالت: قد جاءني وحياتك رسول الخليفة، وليس يمكنني الجلوس عندك، وكرهت أن أمر ببابك ولا أراك، فقال سعيد على البديهة:
قربت ولم نرج اللقاء ولا نرى ... لنا حيلة يدنيك منا إحتيالها
فأصبحت كالشمس المنيرة ضوؤها ... قريب ولكن أين منا منالها؟
كظاعنة ضنت بها غربة النوى ... علينا ولكن قد يلم خيالها
تقل بها الآمال ثم تعوقها ... مماطلة الدنيا بها وإعتلالها
ولكنها أمنية فلعلها ... يجود بها صرف النوى وإنفتالها
حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون، قال: غضبت فضل الشاعرة على سعيد بن حميد فكتب إليها:
يا أيها الظالم مالي ولك ... أهكذا تهجر من واصلك!
لا تصرف الرحمة عن أهلها ... قد يعطف المولى على من ملك
ظلمت نفساً فيك علقتها ... فدار بالظلم عليها الفلك
تبارك الله فما أعلم الله ... بما ألقى وما أغفلك!
فراجعته وواصلته، وصارت إليه جواباً عن رقعته. ولعريب في هذا الأبيات لحنان: ثقيل ثاني، وهوج ذكرهما لها إبن المعتز.
حدثني علي بن العباس بن أبي طلحة، قال حدثني: أبو العباس بن أبي المدور، قال: كان سعيد بن حميد صديقاً لأبي العباس بن ثوابة فدعاه يوماً، وجاءه رسول لفضل الشاعرة يسأله المصير إليها، فمضى معه، وتأخر عن أبي العباس، فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها عتاباً فيه توبيخ وتعنيف فكتب إليه سعيد:
أقلل عتابك فالزمان قليل ... والدهر يعدل مرة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه حين يزول
ولكل نائبة المت مدة ... ولكل حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الأخاء جماعة ... إن حصلوا أفناهم التحصيل
ولعل أحداث الليالي والردى ... يوماً ستصدع شملنا وتحول
فلئن سبقت لتبكين بحسرة ... وليكثرن علي منك عويل
ولتفجعن بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين من لا يشاكله لدي عديل
وليذهن جمال كل مروءة ... وليعفون فناؤها المأهول
وأراك تكلف بالعتاب وودنا ... باق عليه من الوفاء دليل
ود بدا لذوي الإخاء صفاؤه ... وبدت عليه بهجة وقبول
ولعل أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول؟!
حدثني عمي، قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال: كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد أيام كانت بينهما محبة وتواصل ق30.
وعيشك لو صرحت باسمك في الهوى ... لأقصرت عن أشياء في الهزل والجد
(1/11)
ولكنني أبدي لهذا مودة ... وذاك وأخلو فيك بالبث والوجد
مخافة أن يغرى بنا قول كاشح ... عدومً فيسعى بالوصال إلى الصد
فكتب إليها سعيد بن حميد:
تنامين عن ليلي وأسهره وحدي ... فأنهى جفوني أن تبثك ما عندي
فإن كنت لا تدرين ما قد فعلته ... بنا فانظري ماذا على قاتل العمد؟
هكذا ذكر إبن مهرويه، قال عمي، وهكذا حدثني به علي بن الحسين بن عبد الأعلى الأسكافي، قال: حضر سعيد بن حميد مجلساً حضرته فضل الشاعرة وبنان، وكان سعيد، يهواها، وكانت تظهر له هوى، ويتهمها سعيد مع ذلك ببنان، فرأى فيها إقبالاً شديداً على بنان، فغضب، وإنصرف، فكتبت إليه فضل هذه الأبيات المذكورة آنفاً، وأجابها سعيد بالأبيات المذكورة.
وحدثني عمي، قال حدثني ميمون بن هارون قال: رأيت فضل الشاعرة وسعيد بن حميد ليلة، بوعد سبق بينهما، فلما حصلت عنده، جاءتها جاريتها، فبادرت وأعلمتها أن رسول الخليفة قد جاء يطلبها فقامت من وقتها ق31 فمضت، فلما كان من الغد كتب إليها سعيد بن حميد:
ضن الزمان بها فلما نلتها ... ورد الفراق فكان أقبح وارد
والدمع ينطق بالضمير مصدقا ... قول المقر مكذباً للجاحد
حدثني إبراهيم بن القاسم بن زرزور قال حدثني أبي، قال: فصد سعيد بن حميد العرق لحمى كان يلحقه في كبده، فسألتني فضل الشاعرة، وسألت عربياً أن تساعدها في المسير إليه، وأهدت له: هدايا فيها ألف جدي وألف دجاجة فائقة وألف طبق فاكهة وريحان، وطيباً كثيراً وشراباً وتحفاً حساناً، فكتب إليها سعيد: سروري لا يتم إلا بحضورك! قال فجاءته في آخر النهار، وجلسنا لنشرب، فاستأذن غلامه لبنان، فأذن له - فدخل إلينا - وهو يومئذ شاب طرير، حسن الوجه، حسن الغناء، سري الملبوس، عطر الشكل، فذهب بها كل مذهب، وبان فيها ذلك: بإقبالها عليه، ينظرها وحديثها، فتنمر سعيد وأستطير غضباً، وتبين بنان القصة، فانصرف، وأقبل سعيد يعذلها ساعة ويوبخها، ويؤنبها أخرى وهي تعتذر ثم سكت، فكتبت إليه فضل ق32:
يا من أطلت تفرسي ... في وجهه وتنفسي
أفديك من متدلل ... يزهى بقتل الأنفس
هبني أسأت وما أسأت بلى أقول أنا المسى
أحلفتني أن لا أسا ... رق نظرة في مجلس
فنظرت نظرة مخطئ ... ووصلتها بتفرس
ونسيت أني قد حلفت فما عقوبة من نسي؟
يا من حكاه الياسمين وطيب ريح النرجس
إغفر لعبدك ما جنا ... ه من اللحاظ الخلس!
وزادت فيه عريب:
قالوا عقوبته الجفا ... ويسا إليه كما يسى!
فقام سعيد وقبل رأسها، وقال لا عقوبة عليك، بل يحتمل هفوتك، ويتجاوز عن إساءتك، وغنت عريب في هذا الشعر، رملاً وهزجاً، وشربنا عليه بقية يومنا ثم إفترقنا وقد أثر في قلبها، وعلقته، ولم يزل يواصلها سراً حتى ظهر أمرهما.
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني ابن أبي المدور الوراق، وكان في جملة سعيد بن حميد، قال: كنت عند سعيد يوماً وقد ق33 إبتداء ما بينه وبين فضل الشاعرة يتشعب، لما بلغه ميلها إلى بنان وهو بين المصدق لذلك والمكذب، ثم أقبل على صديق له فقال: أصبحت والله من فضل في غرور، أخادع نفسي بتكذيب العيان!، وأمنيها ما قد حيل دونه!. والله إن إرسالي إليها - بعد ما قد بان لي منها - لذل وإن عدولي عنها وفي أمرها شبهة - لعجز وغبن، وإن صبري عنها لمن دواعي التلف، ولله در محمد بن أمية حيث يقول:
يا ليت شعري ما يكون جوابي ... أما الرسول فقد مضى بكتابي
وتقسمت نفسي الظنون وأشعرت ... طمع الحريص وخيفة المرتاب
وتروعني حركات كل محرك ... للباب يطرقه وليس ببابي
كم نحو باب الدار لي من وثبة ... أرجو الرسول بمطمع كذاب!
والويل لي من بعد هذا كله ... إن كان ما أخشاه رجع جوابي!
حدثني جحظة، قال حدثني ميمون بن هارون، قال: لما إتصل ما بين بنان وفضل الشاعرة وعدلت عن سعيد بن حميد أسف عليها، وجزع جزعاً: إمتنع من الشراب، وعشرة الأخوان، وهو مع ذلك يظهر التجلد ثم قال فيها ق34:
قالوا تعز فقد بانوا فقلت لهم: ... بان العزاء على آثار من بانا
وكيف يملك سلواناً لحبهم ... من لم يطق للهوى سراً وإعلانا
كانت عزائم صبري أستعين بها ... صارت علي بحمد الله أعوانا
لا خير في الحب لا تبدو شواهده ... ولا ترى منه في العينين عنوانا
قال جحظة: وغنى بعض المحدثين في هذا الشعر لحناً حسناً رملاً وهو مشهور، وعني نفسه. حدثني جحظة، قال حدثني علي بن يحيى المنجم، قال: كانت فضل الشاعرة تميل إلى بنان وتكاتم المتوكل بحبه، وكانت تجلس مع الندماء، بارزة على كرسي، فقال لها المتوكل: إقترحي صوتك على بنان، فقالت ما لي عليه صوت، فقال له: بحياتي غن صوتها عليك! فغنى بشعر سلم الخاسر:
إسمعي أو خبرينا ... يا ديار الظاعنينا
إن قلبي لك رهن ... بالذي قد تعلمينا
فأمر أن يسقى رطلاً، فسقيته، وأمره بإعادته فغناه، فسقيته ثانياً ثم أعاده فسقيته ثالثاً.
قال علي بن يحيى: وقمت إلى الخلاء، وإذا بفضل قد عارضتني، وقالت إسمع يا أبا الحسن ق35 ما قلت، فقلت: هات، فأنشدتني هذه الأبيات:
قد تغني لي بنان ... إسمعي أو خبرينا
وشربت الراح فارتح ... ت وأبدت لي شجونا
ثم أظهرت لجلا ... سي من السر مصونا
قل لمولاي ولا تخ ... شى وقل قولاً مبينا
رب صوت حسن قد ... ألبس الراس قرونا!
أنت قواد نبيل ... يا أمير المؤمنينا!
وقد قال علي بن الجهم في ذلك:
كلما غنى بنان ... إسمعي أو خبرينا
أنشدت فضل ألا حيت عنا يا مدينا
رب صوت حسن قد ... أورث الرأس قرونا
ولعل جحظة وهم في إدخال هذا البيت في أبيات فضل وحدثني علي بن صالح الهيثمي، قال حدثني أحمد بن الهيثم المادرائي، قال: لما إنكشف لسعيد بن حميد عشق فضل الشاعرة لبنان، واصل جارية من جواري القيان، فكتبت إليه فضل:
يا عالي السن سيء الأدب ... شبت وأنت الغلام في الطرب
ويحك إن القيان كالشرك المنصوب بين الغرور والعطب
لا يتصدين للفقير، ولا ... يطلبن إلا معادن الذهب
بينا تشكى هواك إذ عدلت ... عن زفرات الشكوى إلى الطلب
تلحظ هذا وذا وذاك وذا ... لحظ محب ولحظ مكتسب
حدثني جحظة، قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال: غضب بنان على فضل الشاعرة في أمر أنكره عليها فاعتذرت إليه فلم يقبل عذرها فكتبت إليه:
يا فضل صبراً إنها ميتة ... يجرعها الكاذب والصادق
ظن بنان أنني خنته ... روحي إذا من جسدي طالق!
تيماء جارية خزيمة بن خازم
حدثني عمي الحسن بن محمد وأحمد بن عبيد الله بن عمار، قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال حدثني: أبو همام محمد بن سعيد الخطيب قال: كانت لخزيمة بن خازم: جارية، مدنية شاعرة، يقال لها: تيماء وكان بها مشغوفاً، وهي القائلة وقد خرج إلى الشام ق37:
تفديك نفسي من سوء تحاذره ... فأنت بهجتها والسمع والبصر
لئن رحلت، لقد أبقيت لي حزناً ... لم يبق لي معه في لذة وطر
فهل تذكرت عهدي في المغيب كما ... قد شفني الهم والأحزان والذكر
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني عبد الله بن أبي سعيد قال حدثني عبد الله بن عمر الهيثمي، قال حدثني أحمد بن إبراهيم قال: حدثتني تيماء جارية خزيمة بن خازم، قالت: عرضت على حزيمة بن خازم، جارية، مليحة، بكر، حلوة القد والوجه، فمال إليها وأقبل إلي كالمعتذر فقال:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطى إلي ما لم يركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... بذلت وحبة لؤلؤ لم تثقب
.
قال عباس وقد أج ... هد من وجد شديد:
ليس لي صبر على الهج ... ر ولا لذع الصدود
لا ولا يصبر للهج ... ر فؤاد من حديد
فقالت:
من تراه كان أغنى ... منك عن هذا الصدود
بعد وصل لك مني ... فيه إرغام الحسود!
فآتخذ للهجر إن شئت فؤاداً من حديد
ما رأيناك على ما ... كنت تجني بجليد
فقال العباس:
أو تجودين لصب ... راح ذا هم شديد
وأخي جهل بما قد ... كان يجني بالصدود
ليس من أحدث هجراً ... لصديق بسديد
ليس منه الموت إن لم ... تصليه ببعيد
فقلت للعباس: وعلى م هذا الأمر؟! قال: أنا جنيت على نفسي بتتايهي عليها، فلم أبرح حتى ترضيتها له.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال حدثني عبد الله بن أبي سعيد قال حدثني مسعود بن عيسى، قال أخبرني موسى بن عبد الله التميمي قال: دخل أبو نواس على الناطفي وعنان جالسة تبكي وخدها على رزة في مصراع الباب، وقد كان الناطفي ضربها، فأومأ إلى أبي نواس: أن جربها بشيء، فقال أبو نواس:
عنان لو جدت لي فإني من ... عمري في أمن الرسول بما
أي في آخر عمري، لأن أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، آخر آية في البقرة.
فردت عليه:
فإن تمادى ولا تماديت في ... قطعك حبلي أكن كمن ختما
فرد عليها:
علقت من لو أتى على أنف ... س الماضين والغابرين ما ندما
فردت عليه:
أو نظرت عينه إلى حجر ... ولد فيه فتورها سقما
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال حدثني: محمد بن القاسم بن مهرويه، قال حدثني: محمد بن أبي مروان الكاتب، قال: لما أخذ أبو نواس من عنان جارية الناطفي خاتماً فصه ياقوت أحمر، أخذه أحمد بن خالد حيلويه منه فطلبته منه عنان، فبعث إليها مكانه خاتماً فصه أخضر، وإتهمته في ذلك، وكتب إلى أحمد بن خالد:
فدتك نفسي يا أبا جعفر ... جارية كالقمر الأنور
تعلقتني وتعلقتها ... طفلين في المهد إلى المكبر
كنت وكانت نتهادى الهوى ... بخاتمينا غير مستنكر
حنت إلى الخاتم منى وقد ... سألتني إياه مذ أشهر
فأرسلت فيه فغالطتها ... بخاتم وجهته أخضر
قالت لقد كان لنا خاتم ... أحمر أهداه إلينا سري
لكنه علق غيري فقد ... أهدى لها الخاتم لا أمتري
كفرت بالله وآياته ... إن أنا لم أهجره فليصبر
أو يظهر المخرج من تهمتى ... إياه في خاتمنا الأحمر
فاردده تردد وصلها إنها ... قرة عيني يا أبا جعفر
فإنني متهم عندها ... وأنت قد تعلم أنى بري
فرد الخاتم ووجهه إليه بألفي درهم.
وقرأت في كتاب لجعفر بن قدامة: بلغني أن عنان جارية الناطفي، دخل عليها بعض الشعراء، فقال لها الناطفي: عاييه! فقالت:
سقياً لقا طول لا أرى بلداً ... يسكنه الساكنون يشبهها
فقال:
كأنها فضة مموهة ... أخلص تمويهها مموهها
فقالت:
أمن وخفض وما كبهجتها ... أرغد أرض عيشاً وأرفهها
فانقطع الرجل.
حدثني عمي: الحسن بن محمد والحسن بن علي، قالا: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال حدثني: محمد بن هارون عن يعقوب بن إبراهيم قال: كان أبو نواس بعد أن هجرته عنان وهجته، يذكرها في شعره، ويشبب بها، فقال في قصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد:
عنان يا من تشبه العينا ... أنت على الحب تلومينا
حبك حب لا أرى مثله ... قد ترك الناس مجانينا!
فقال له يزيد بن مزيد هذه جارية، قد عرض فيها الخليفة، وعلقت بقلبه فأله عنها، ولا تعرض نفسك له، فقال: صدقت أيها الأمير، ونصحتني، وقطع ذكرها!
أخبرني جعفر بن قدامة، قال حدثني أبو العيناء، عن العباس إبن رستم قال: دخلت أنا وأبان اللاحقي على جارية الناطفي في يوم صائف، وهي جالسة في الخيش فقال لها أبان.
لذة عيش الصيف في الخيش فقالت: لا في لقاء الجيش بالجيش.
فقلت لها معرضاً لها: ما أحسن ما قال جرير:
ظللت أراعي صاحبي تجلداً ... وقد علقتني من هواك علوق
فقالت غير متوقفة:
إذا عقل الخوف اللسان تكلمت ... بأسراره عين عليه نطوق
ثم عرضت على الرشيد، فدخلت عليه تتبختر، فقال لها: أتحبين أن أشتريك؟ قالت: ولم لا أحب ذلك يا أحسن الناس خلقاً وخلقاً؟ فقال لها: أما الخلق فظاهر فما علمك بالخلق؟ قالت: رأيت شرارة، قد طاحت على ثوبك من المجمر، لما جاء الخادم بالبخور إليك فسقطت على ثوبك فأحرقته، فو الله ما قطبت لها وجهاً، ولا راجعت من جناها حرفاً! فقال لها: والله لولا أن العيون قد ابتذلتك إبتذالاً، مشتركاً كبيراً، لاشتريتك ولكنه لا يصح للخليفة، من هذه سبيله! وردها إلى مولاها، فاشتراها طاهر بن الحسين بعد ذلك، وجعلها على خزانة طيبه، فقالت: عرضتني للغيرة! فاعفني من ذلك، وأجعل إلي كسوتك، ففعل.
وحدثني محمد بن القاسم الأنباري، قال حدثني أبي قال: قال أبو الحسن بن الاعرابي: إجتمع أبو نواس وداود بن رزين الواسطي وحسين بن الضحاك وفضل الرقاشي وعمرو الوراق وحسين بن الخياط في منزل عنان جارية الناطفي، فتحدثوا وتناشدوا أشعار الماضين وأشعارهم في أنفسهم، حتى انتصف النهار، فقال بعضهم: عند من نحن اليوم؟ فقال كل واحد: عندي! قالت عنان: قولوا في هذا المعنى أبياتاً وتضمنوا إجازة حكمي عليكم، بعد ذلك.
فبدأ داود بن رزين الواسطي فقال:
قوموا إلى قصف لهو ... وظل بيت كنين
فيه من الورد والمرم زجوش والياسمين
وريح مسك ذكي ... بجيد الزرجون
وقينة ذات غنج ... وذات دل رصين
تشدو بكل ظريف ... من صنعة ابن رزين
فقال أبو نواس:
لا بل إلى ثقاتي ... قوموا بنا يا حياتي
قوموا نلذ جميعاً ... بقول هاك وهات
فإن أردتم فتاة ... أتحفتكم بفتاة
وإن أردتم غلاماً ... أتيتكم بمؤاتي
فبادروه مجوناً ... في وقت كل صلاة
وقال حسين بن الضحاك الخليع:
أنا الخليع فقوموا ... إلى شراب الخليع
إلى شراب لذيذ ... من بعد جدى رضيع
وذي دلال رخيم ... بالخندريس صريع
في روضة جادها ... صوب غاديات الربيع
قوموا تنالوا جميعاً ... منال ملك رفيع
وقال الرقاشي:
لله در عقار ... حلت ببيت الرقاشي
عذراء ذات احمرار ... أتى بها لا أحاشي
قوموا نداماي رووا ... مشاشكم ومشاشي
وناطحوني باقدا ... حكم نطاح الكباش
فإن نكلت فحل ... لكم دمى ورياشي
وقال عمرو الوراق:
قوموا إلى بيت عمرو ... إلى سماع وخمر
وبيشكار علينا ... يطاع في كل أمر
وشادن ذي دلال ... يزهى بطرف ونحر
فذاك بر وإن شئ ... تم أتينا ببحر
وقال حسين الخياط:
قضت عنان عليكم ... بأن تزوروا حسينا
وأن تقروا لديه ... بالقصف واللهو عينا
فما رأينا كظرف الحمين فيما رأينا
قد قرب الله منه ... زيناً وباعد شينا
قوموا وقولوا أجزنا ... ما قد قضيت علينا
وقالت عنان:
مهلاً فديتك مهلاً ... عنان أحرى وأولى
بأن تنالوا لديها ... أشهى الطعام وأحلى
فإن عندي حراماً ... من الشراب وحلا
لا تطمعوا في سوى ذا ... من البرية كلا
كم أصدقوا: بحياتي ... أجاز حكمي أم لا؟
فقالوا جميعاً: قد جاز حكمك، فاحتبستهم ثلاثاً، يقصفون عندها.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال حدثني عمي: عبيد الله، عن أخيه أحمد، قال: لما غاب أبو نواس إلى مصر، تشوقه الناس وذكروه، وإتصل تفاوضهم ذكره حتى بلغ وصفه عناناً، فتشوقته، ثم قدم بعد ذلك من مصر، فلما كان بعد قدومه بأيام جاء إلى النطافي، فقال له أبو نواس، فاستأذن لي على عنان! فقال له: أما والله، لقد أهديت إليها من زيارتك هدية، كانت إليها مشتاقة، ودخل، فأعلمها وأذن له، فدخل عليها، فقامت فتلقته إلى باب الدار، فسلمت عليه، ووصفت له شوقها إليه، واحتبسته عندها يومه وليلته، وإتصل إجتماعهما، فوجهت إليه يوماً، وصيفة لها، تدعوه إلى الصبوح معها، وكتبت إليه تقول:
زرنا لتأكل معنا ... ولا تغيبن عنا
فقد عزمنا على الش ... رب صبحة وإجتمعنا
فجاءته الوصيفة بالرقعة، فقرأها، واحتال على الوصيفة حتى طاوعته على ما أراده، وقال في ذلك:
نكنا رسول عنان ... والرأى فيما فعلنا!
فكان خبزاً بملح ... قبل الشواء أكلنا
جاذبتها فتحانت ... كالغصن لما تثنى
فقلت ليس على ذا ... الفعال كنا إتفقنا
قالت فكم تتجنى ... طولت: نكنا ودعنا!
فبلغ عناناً ذلك، فكان سبب التباعد بينهما، والمهاجاة، مرت.
وذكر أبو هفان عن الجماز، أن سبب المهاجاة بينهما، أنه كتب إليها وهو سكران:
إن لي أيراً خبيثاً ... لونه يحكي الكميتا
لو رأى في الجو صدعاً ... لنزا حتى يموتا
أو يراه وسط بحر ... صار للغلمة حوتا
أو يراه جوف صدع ... لتحول عنكبوتا
فغضبت من ذلك، وكتبت إليه:
زوجوا هذا بإلف ... وأظن الإلف قوتا
إنني أخشى عليه ... غلمة من أن يموتا
قبل أن ينتكس الدا ... ء فلا يأتى فيوتى
وقال لها يوماً:
ما تأمرين لصب ... يرضيه منك قطيره؟
فأجابته:
إياى تعنى بهذا؟ ... عليك فاجلد عميره!
فأجابها:
أريد ذاك وأخشى ... على يدى منك غيره
فخجلت وقالت: عليك وعلى من يغار عليك..
فقالت عنان:
عليك أمك نكها ... فإنها كندبيره
وقال فيها أبو نواس:
إن عنان النطاف جارية ... قد صار حرها للنيك ميدانا
ما يشتريها إلا إبن زانية ... وقلطبان يكون من كانا!
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني - صهر المبرد - قال حدثني أبو هفان - عن سليمان أخي جحظة أنها حجبه وهجرته، فلم تأذن له، فبعث إليها رسولاً يعتذر، فقالت له: قل له دعنا منك، يا مخنث، يا حلقي! فرجع الرسول إليه فسأله عن الجواب، فأخبره به فقال أبو نواس:
وأتاني من إذا ذكرت له ... خنثني ظالماً وحلقني!
لو سألوه عن وجه حجته ... وشتمه لقال يعشقني
نعم إلى الحشر والحساب نعم! ... أعشقه أو ألف في كفني!
أهجر هجراً لا أستسر به ... عنفني فيه من يعنفني:
يأيها الناس مني إستمعوا ... إن عناناً صديقة الحسن!
أخبرني عمي الحسن بن محمد، قال أنشدني أحمد بن أبي طاهر، لعنان تهجو أبا نواس:
أبو نواس بدائه كلف ... يسخر من نفسه يخادعها
أمسى بروس الحملان شهر في الناس وإضماره أكارعها
وقالت فيه أيضاً:
يا نواس، يا نفاية خلق الله قد نلت بي سناء وفخرا
مت متى شئت، قد ذكرتك في الشعر، وجرر أذيال ثوبك كبرا
رب ذي خلة تلبس من لفظك سلحاً ومنك عرا وشرا
ونديم سقاك كأساً من الخمر فأفضلت في الزجاجة حبرا
وإذا ما كلمتني فاتق الله وعلق دوني على فيك سترا
وإذا ما أردت أن تحمد الله على ما أبلى وأولاك شكرا
فليكن ذاك بالضمير وبالإيماء لا تذكرن ربك جهرا
أنت تفسق إن نطقت ومن يسبح بالفسق نال إثماً ووزرا
إحمد الله ما عليك جناح ... جعل حذف الله بين لحييك جحرا
إن تأملته فبوم خراب ... وإذا ما شممته كان صقرا!
أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني إبراهيم بن سليمان بن وهب، قال: قال عمي الحسن بن وهب: دخلت يوماً إلى عنان جارية الناطفي، فسألتني أن أقيم عندها ففعلت، وأتينا بالطعام والشراب، فأكلنا وشربنا، وغنتني فكان غناؤها دون شعرها، فشربت ستة أرطال ونكتها خمسة وضجرت فقالت لي: ما أنصفت: شربت ستة، ونكت خمسة؟ فتغافلت، وقلت: غني صوتي، في شعر سلم الخاسر:
خليلي ما للعاشقين قلوب ... ولا لعيون الناظرين ذنوب
فيا معشر العشاق ما أبغض الهوى ... إذا كان لا يلقى المحب حبيب!
فغنت:
خليلي ما للعاشقين أيور ... ولا لحبيبب لا ينال سرور
فيا معشر العشاق ما أبغض الهوى ... إذا كان في أير المحب فتور!
فانصرفت خجلاً!.
حدثني جعفر بن قدامة، وجحظة قالا: أنشدنا هبة الله بن إبراهيم بن المهدي، قال أنشدني أبي لعنان جارية النطافي، وفيه لحن لعلية من خفيف الثقيل.
حدثني بذلك بعض عجائزنا، قال: كنت أسمع هذا الصوت في درانا منسوباً إلى أبي، حتى غنته ريق يوماً، وأخبرتني أنها أخذته من علية بنت المهدي:
نفسي على حسراتها موقوفة ... فوددت لو خرجت مع الحسرات
لو في يدي حساب أيامي إذاً ... خطرفتهن تعجلا لوفاتي
لا خير بعدك في الحياة وإنما ... أبكي مخافة أن تطول حياتي!
أخبرني بذلك أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي، وأخبرني جعفر بن قدامة، قال حدثني أبو العيناء عن الأصمعي، قال: بعثت الي أم جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج يذكر عنان جارية النطافي، فإن أنت صرفته عنها فلك حكمك!.
قال: فكنت ألتمس أن أجد موضعاً للقول فيها فلا أجد، ولا أقدم عليه هيبة له. إذ دخلت يوماً فرأيت في وجهه أثر الغضب فانخزلت فقال لي: ما لك يا أصمعي؟! قلت: رأيت على وجه أمير المؤمنين أثر الغضب، فعلى من أغضبه لعنة الله! فقال: هذا الناطفي، أما والله، لولا أنني لم أجر في حكم قط متعمداً لجعلت على كل جبل منه قطعة! وما لي في جاريته أرب غير الشعر فذكرت رسالة أم جعفر، فقلت: أجل والله ما فيها غير الشعر، أفيسر أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق؟! فضحك من قولي حتى إستلقى على قفاه، وعدل عنها، وبلغ قولي أم جعفر فأجزلت لي الجائزة.
أخبرني عمي الحسن بن محمد والحسن بن علي قالا: حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال حدثني محمد بن هارون، عن يعقوب بن إبراهيم: أن الرشيد طلب من الناطفي جاريته، فأبى أن يبيعها بأقل من مائة ألف دينار، فقال له: على أن أعطيكها على ضرب سبعة دراهم بدينار، فيصح لك سبع مائة درهم فامتنع عليه فأمر بأن تحضر، فأحضرت، فذكر أنها جلست في مجلسها على حالها تنتظره، فدخل إليها، فقال لها: إن هذا قد إعتاص علي في أمرك، فقالت: فما يمنعك أن ترضيه وتوفيه؟ قال: ليس يقنع بما أعطيته، وأمرها بالإنصراف.
فتصدق الناطفي بثلاثين ألف درهم حين رجعت إليه، ولم تزل في قلب الرشيد، حتى مات مولاها، فبعث مسرور الخادم، حتى أخرجها إلى باب الكرخ، وأقامها على سرير، وعليها رداء رشيدي، قد جللها، فنودي عليها فيمن يزيد؟، بعد أن شاور الفقهاء فيها، وقال: هذه كبد رطبة، وعلى الرجل دين، فأفتوا ببيعها، فبلغني أنها كانت تقول على المصطبة: أهان الله من أهانني ورذل من رذلني! فلكرها مسرور، فبلغت في النداء مائتي ألف درهم، فجاء رجل فزاد فيها خمسة وعشرين ألف درهم، فلطمه مسرور، وقال: أتزيد على أمير المؤمنين؟! ثم بلغ بها مائتين وخمسين ألف درهم، فأخذها له، ولم يكن فيها شيء يعاب، فطلبوا فيها عيباً لئلا تصيبها العين، فأوقعوا في خنصر رجلها شيئاً في ظفرها، فأولدها الرشيد ولدين ماتا صغيرين، ثم خرج بها إلى خراسان، فمات هناك، وماتت عنان بعده بمدة يسيرة.
قال أبو الفرج: وروى إبن عمار هذا الخبر عن محمد بن القاسم بن مهرويه، وذكر أنه أوقف إبن مهرويه على أنه خطأ، وأن عنان خرجت إلى مصر، وماتت بها حين أعتقها النطافي، وقالت ترثيه بمصر:
يا دهر أفنيت القرون ولم تزل ... حتى رميت بسهمك النطافا
يا ناطفي وأنت عنا نازحما كنت أول من دعوه فوافى
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وعلي بن سليمان الأخفش عن المبرد عن المازني، عن الأصمعي: وقال إبن عمار عن بعض أصحابه، أظنه المازني، عن الأصمعي، قال: ما رأيت أثر النبيذ في وجه الرشيد قط، إلا مرة واحدة!، فاني دخلت إليه أنا وأبو حفص الشطرنجي فرأيته خائراً - وفي أصل باثراً فقال: استبقا إلى بيت، بل إلى أبيات، فمن أصاب ما في نفسي، فله عشرة آلاف درهم! فوقع في نفسي أنه يريد جارية الناطفي، قال: فأشفقت ومنعتني هيبته وبدر الشطرنجي بجرأة العميان، فقال:
من لقلب متيم بك صب ... ما له همة سوى ذكراك
كلما دارت الزجاجة زادته م إشتياقاً وحرقة فبكاك
فقال: أحسنت، لك عشرة الآف درهم، فزالت الهيبة عني، فقلت:
لم ينلك الرجاء أن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواك
فقال: أحسنت، لك عشرة الآف درهم، فزالت الهيبة عني، فقلت:
لم ينلك الرجاء أن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواك
فقال: أحسنت! لك عشرون الفاً أخرى، وأطرق ثم قال: أنا والله أشعر منكما، ثم قال:
قد تمنيت أن يغشيني الله ... نعاساً لعل عيني تراك!
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال حدثني أحمد بن المعلى الراوية، قال: كتبت عنان جارية الناطفي إلى جعفر بن يحيى البرمكي تسأله أن يسأل أباه، أن يكلم الرشيد في أن يشتريها - أو يشير عليه بذلك - فقالت:
يا لائمي جهلاً ألا تقصر ... من ذا على حر الهوى يصبر
لا تلحني أني شربت الهوى ... صرفاً، فممزوج الهوى يسكر
أحاط بي الحب، فخلفي له ... بحر وقدامي له أبحر
تخفق رايات الهوى بالردى ... فوقي، وحولي للردى عسكر
سيان عندي في الهوى لائم ... أقل فيه، والذي يكثر
أنت المصفى من بني برمك ... يا جعفر الخيرات، يا جعفر
لا يبلغ الواصف في وصفه ... ما فيه من فضل، ولا يحصر
من وفر العرض بأمواله ... فجعفر أعراضه أوفر
ديباجة الملك على وجهه ... وفي يديه العارض الممطر
سحت علينا منهم ديمة ... ينهل منها الذهب الأحمر
لو مسحت كفاه جلمودة ... أنضر فيها الورق الأخضر
لا يستتم المجد إلا فتى ... يصبر للبذل كما يصبر
يهتز تاج الملك من فوقه ... فخراً، ويزهى تحته المنبر
أشبهه البدر إذا ما بدا ... وغرة في وجهه تزهر
والله ما أدري أبدر الدجى ... في وجهه أم وجهه أنور؟
يستمطر الزوار منك الغنى ... وأنت بالزوار تستبشر
عودت طلاب الندى عادة ... إن قصروا عنك فما تقصر
وكتبت تحت الأبيات تسأله حاجتها، فركب من ساعته إلى أبيه فكلمه في أمرها، فكلم الرشيد في ذلك، وأشار عليه فلم يقبل، وإمتنع من شرائها لشهرتها وما قيل فيها من هجاء الشعراء، وقال له: أشتريها بعد قول أبي نواس:
ما يشتريها إلا ابن زانية ... أو قلطبان يكون من كانا!؟
دنانير جارية محمد بن كناسة
مولدة، من مولدات الكوفة، رباها محمد بن كناسة، وأدبها، وخرجت: شاعرة، أديبة، فصيحة، وقيل أنها كانت تغني، وذلك باطل! كان محمد بن كناسة، رجلاً زاهداً، نبيلاً، وهو إبن خالة إبراهيم بن أدهم وليس مثله من يعلم جارية له: الغناء! أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال حدثني إبن أبي الدنيا، قال: كتب الي الزبير بن بكار، يذكر أن علي بن عثام الكلابي حدثه، قال: جئت يوماً إلى منزل محمد بن كناسة، وكانت جاريته دنانير جالسة، فقالت لي: مالك محزوناً يا أبا الحسن؟ قلت: رجعت من دفن أخ لي من قريش، فسكتت شيئاً، ثم قالت:
بكيت على أخ لك من قريش ... فأبكانا بكاؤك يا علي!
وما كنا عرفناه ولكن ... طهاره صحبه: الخبر الجلي
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق، قال حدثنا الزبير بن بكار، قال أخبرني علي بن عثام الكلابي، قال:
كانت لابن كناسة، جارية، شاعرة، مغنية، يقال لها: دنانير، وكان له صديق يكنى أبا الشعثاء، وكان عفيفاً، مزاحاً، وكان يدخل الى إبن كناسة يسمع غناء جاريته، ويعرض لها بأنه يهواها، فقالت فيه هذه الأبيات:
لأبي الشعثاء حب ظاهر ... ليس فيه مطعن للمتهم
يا فؤادي فازدجر عنه ويا ... عبث الحب به فاقعد وقم
راقني منه كلام فاتن ... ورسالات المحبين الكلم
قانص تأمنه غزلانه ... مثل ما تأمن غزلان الحرم
صل إن أحببت أن تعطى المنى ... يا أبا الشعثاء لله وصم
ثم ميعادك يوم الحشر في ... جنة الخلد إن الله رحم
حيث القاك غلاماً ناشئاً ... يافعاً قد كملت فيك النعم
أخبرني وكيع، قال أخبرني إبن أبي الدنيا، قال حدثني محمد بن علي بن عثام الكلابي عن أبيه، قال: كنت يوماً عند إبن كناسة، فقال أعرفكم شيئاً من فهم دنانير؟ يعني جاريته، قلنا: نعم، فكتب إليها: إنك أمة ضعيفة، ورهاء، خرفاء، فاذا أتاك كتابي هذا فعجلي جوابي، فكتبت إليه: قد ساءني تهجينك عند أبي الحسن، وإن أعيا العي: الجواب عما لا جواب له، والسلام.
حدثني أحمد بن العباس العسكري المؤدب، قال حدثني به: الحسن بن عليل العنزي، قال حدثنا أحمد بن محمد الأسدي، قال حدثنا خالي موسى بن صالح قال: ماتت دنانير جارية محمد بن كناسة، وكانت أديبة شاعرة، فقال يرثيها:
الحمد لله لا شريك له ... يا ليت ما كان منك لم يكن
إن يكن القول قل فيك فما ... أفحمني غير شدة الحزن
فضل الشاعرة اليمامية
جارية المتوكل
توفيت257ه، وقيل 260 جمع المستشرق هوار شعرها في المجلة الآسيوية: 1881مج - 17.
قال ابن النديم ان شعرها يقع في عشرين ورقة: الفهرست: ط. طهران.
ترجمتها وأخبارها في: الأغاني19: 300 - 314.
أمالي القالي.
طبقات ابن المعتز.
الأربعة في أخبار الشعراء لابي هفان. جمع وتحقيق هلال ناجي مجلة المورد.
المحاسن والاضداد: 198.
الاماء من شواعر النساء: 53 - 54.
بدائع البدائة: 50، 150.
نساء الخلفاء: 84 - 90.
المنتظم: حوادث 257ه فوات الوفيات نشرة إحسان عباس.
المستظرف للسيوطي.
الوافي.
سيدات البلاط العباسي.
النجوم الزاهرة.
سمط اللألي.
تاريخ الأدب العربي لبروكلمان الطبعة الأروبية.
تاريخ التراث العربي لسزكين بالألمانية قسم الشعر.
كانت فضل مولدة، من مولدات البصرة، وبها نشأت، وكان مولدها باليمامة، وذكرها محمد بن داود بن الجراح فقال: أنها عبدية، وكذلك كانت تزعم هي وتقول أن أمها علقت بها من مولى لها من عبد القيس وأنه مات وهي حامل بها، فباعها إبنه، فولدت على سبيل الرق، وذكر عنها من جهة أخرى أن أمها ولدتها في حياة أبيها فرباها وأدبها فلما توفى، تواطأ بنوه على بيعها، فبيعت، فاشتراها محمد بن الفرج الرخجي - أخو عمو بن الفرج - وأهداها الى المتوكل.
وكانت سمراء، حسنة الوجه، والقد والجسم - شكلة، حلوة، أديبة، فصيحة، سريعة الهاجس مطبوعة في قول الشعر، متقدمة لسائر نساء زمانها فيه.
أخبرني محمد بن المرزبان وجعفر بن قدامة، قالا: حدثنا أحمد بن أبي طاهر، واللفظ لجعفر، قال: جلبت فضل الشاعرة، من البصرة، فاشتراها رجل من النخاسين يقال له: حسنوية بعشرة الآف درهم، وبلغ خبرها محمد بن الفرج الرخجي أخو عمر بن الفرج الرخجي، فاشتراها وأهداها الى المتوكل.
قال جعفر بن قدامة وقال محمد بن خلف أن الذي إبتاعها محمد أخوه، فأهداها إلى المتوكل، فكانت تجلس في مجلسه على كرسي، تقارض الشعراء والشعر بحضرته، فألقى عليها يوماً أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطى إلي ما لم يركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب
فقالت فضل مجيبة له:
إن المطية لا يلذ ركوبها ... حتى تذلل بالزمام وتركب
والدر ليس بنافع أربابه ... حتى يؤلف بالنظام ويثقب
وفي رواية جعفر حتى تذلل بالزمام وتركبا.
والبيت الثاني: حتى تؤلف بالنظام وتثقبا.
حدثني عمي الحسن بن محمد ومحمد بن خلف وكيع وجعفر بن قدامة، قالوا: حدثنا أبو العيناء، قال: لما دخلت فضل الشاعرة على المتوكل يوم أهديت إليه، قال لها: أشاعرة أنت؟ قالت هكذا يزعم من باعني وإشتراني!، فضحك وقال: أنشدينا شيئاً من شعرك، فأنشدته هذه الأبيات:
إستقبل الملك إمام الهدى ... عام ثلاث وثلاثينا
خلافة أفضت إلى جعفر ... وهو إبن سبع بعد عشرينا
إنا لنرجو يا إمام الهدى ... أن تملك الملك ثمانينا
لا قدس الله إمرأ لم يقل ... على دعائي لك: آمينا
فاستحسن الأبيات، وأمر لها بخمسين ألف درهم، وأمر عريباً فغنت بها.
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني أحمد بن حمدون: أبو عبد الله، قال: عرضت على المعتمد جارية تباع، في خلافة المتوكل، يقال لها علم الحسن، مغنية، حسنة الوجه، - وهو يومئذ غلام حديث السن - وأخرجها مولاها إلى إبن الأغلب، فبيعت هناك، فلما ولي المعتمد الخلافة، سأل عنها، وقد ذكرها وأعلم أنها بيعت بالقيروان، وأولدها سيدها، فقال لفضل الشاعرة،: قولي فيها شيئاً! فقالت فيها هذه الأبيات:
علم الجمال تركتني ... في الحب أشهر من علم
ونصبتني يا منيتي ... غرض المظنة والتهم
فارقتني بعد الدنو م فصرت عندي كالحلم
فلو أن نفسي فارقت ... جسمي لفقدك لم تلم
ما كان ضرك لو وصل ... ت فخف عن قلبي الألم
برسالة تهدينها ... أو زورة تحت الظلم
أو لا فطيفي في المنا ... م فلا أقل من اللمم
صلة المحب حبيبه ... الله يعلمه كرم
قال أبو الفرج: وقد حدثني بهذا الحديث علي بن صالح، عن أحمد بن أبي طاهر؛ إنه ألقى على فضل الشاعرة:
علم الجمال تركتني ... في الحب أشهر من علم
فقالت:
وأبحتني يا سيدي ... سقماً يحل عن السقم
وتركتني غرضاً فديتك للهوان وللتهم!
حدثني محمد بن العباس اليزيدي، قال كتب بعض أهلنا الى فضل الشاعرة:
أصبحت صباً هائم العقل ... الى غزال حسن الشكل
أضنى فؤادي بعد عهدي به ... وبعده مني ومن وصلي
منية نفسي في هوى فضل ... أن يجمع الله بها شملي
أهواك يا فضل هوى خالصاً ... فما لقلبي عنك من شغل
فأجابته:
الصبر ينقص والسقام يزيد ... والدار دانية وأنت بعيد
أشكوك أم أشكو إليك فإنه ... لا يستطيع سواهما المجهود
إني أعوذ بحرمتي لك في الهوى ... من أن تطاوع في قول حسود
في هذه الأبيات رمل طنبوري وأظنه لجحظة.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال أخبرني الحسن بن عيسى إبن الكوفي، قال حدثني أبو دهمان، قال محمد بن خلف، وأخبرني بهذا الخبر: عبد الله بن نصر المرزوي، قالا: كانت فضل الشاعرة من أحسن الناس وجهاً وخلقاً وخلقاً، وأرق شعراً، فكتب إليها بعض من كان يجمعه وإياها مجلس الخليفة، وكان يهواها ولا يطلعها على حبه لها:
ألا ليت شعري عنك هل تذكرينني ... فذكرك في الدنيا الي حبيب
وهل لي نصيب في فؤادك ثابت ... كما لك عندي في الفؤاد نصيب
ولست بمتروك فأحيا بزورة ... ولا النفس عند اليأس عنك تطيب
فكتبت إليه هذه الأبيات:
نعم وإلهي إنني بك صبة ... فهل أنت يا من لا عدمت مثيب
لمن أنت منه في الفؤاد مصور ... وفي العين نصب العين حين تغيب
فثق بوداد أنت مظهر فضله ... على أن بي سقماً وأنت طبيب!
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال حدثني أبو العباس المرزوي قال: قال المتوكل لعلي بن الجهم، قل بيتاً، وقل لفضل الشاعرة تجيزه، فقال علي: أجيزي يا فضل:
لاذ بها يشتكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا
فأطرقت هنيئة، ثم قالت:
فلم يزل ضارعاً إليها ... تهطل أجفانه رذاذا
فعاتبوه فزاد عشقا ... فمات وجداً فكان ماذا؟
فأطرب المتوكل، وقال أحسنت وحياتي يا فضل وأمر لها بألفي دينار، وأمر عريباً، فغنت فيه صوتها: الهزج.
قال أبو الفرج ونسخت من كتاب جعفر بن قدامة: حدثني: علي بن يحيى المنجم، وقد حدثني بعض أصحابنا عن رجل، عن علي بن يحيى قال: دخلت الى المتوكل يوماً، فدفع الي رقعة وأمرني بقراءتها، فقرأتها فإذا فيها:
قد بدا شبهك يا مو ... لاي يحدو بالظلام
قم بنا نقض لبانا ... ت التثام والتزام
قبل أن تفضحنا عو ... دة أرواح النيام
فقلت ملح والله قائلها!، فمن هو؟ قال: واعدت فضلاً البارحة، أن تبيت عندي، فسكرت سكراً شديداً منعني من ذلك، فلما أصبحت وجدت هذه الرقعة في كمي وهي بخطها.
حدثني جحظة، قال حدثني إبن الدهقانة النديم عن عبد الله بن عمر بن المرزبان قال: قالت لي فضل: وعدني أمير المؤمنين أن أبيت عنده، وأشرب فسكرت، وخرجت مع العتمة، فجلست أغمز رجله ملياً، ثم قمت إلى جنبه فلم يتحرك من نومه، فكتبت في رقعة وجعلتها في كمه، وذكرت الأبيات، فلما أصبح قرأها، وضحك ثم دعاني، فوهب لي ألف دينار، وتكون الليلة عوض البارحة!.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال: خرجت قبيحة إلى المتوكل في يوم نيروز، وفي يدها كأس بلور شراب فقال لها: ما هذا؟ قالت: هديتي إليك من هذا النيروز عرفك الله بركته، فشرب الكأس، وقبل خدها، فقالت فضل:
سلافة كالقمر الباهر ... في قدح كالكوكب الزاهر
يديرها خشف كبدر الدجى ... فوق قضيب أهيف ناضر
على فتى أروع من هاشم ... مثل الحسام المرهف الباتر
أخبرني محمد بن خلف، قال حدثني أبو الفضل المرزوي قال: اجتمعت فضل الشاعرة وسعيد بن حميد في مجلس، فأخذت دواة ودرجاً وكتبت إليه:
بثثت هواك في جسدي وروحي ... فألف فيهما طمعاً بيأس
فكتب إليها تحت البيت:
كفانا الله شر اليأس إني ... لخوف اليأس أبغض كل آسى
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال ألقى بعض أصحابنا على فضل الشاعرة:
ومستفتح باب البلاء بنظرة ... تزود منها قلبه حسرة الدهر
قالت:
فو الله ما يدري أتدري ما جنت ... على قلبه أم أهلكته وما يدري؟
أخبرني محمد بن خلف، قال حدثني أبو يوسف الضرير المعروف بابن الدقاق، قال: صرت أنا وأبو منصور الباخرزي الى فضل الشاعرة، فحجبنا، وما علمت بنا، ثم بلغها خبرنا بعد إنصرافنا فغمها ذلك، وكرهته، فكتبت إلينا تعتذر، فقالت:
وما كنت أخشى أن تروا لي زلة ... ولكن أمر الله ما عنه مذهب
أعوذ بحسن الصفح منكم وقبلنا ... بصفح وعفو ما تعوذ مذنب
فكتب إليها أبو منصور الباخرزي:
لئن أهديت عتباك لي ولأخوتي ... لمثلك يا فضل الفضائل يعتب
إذا إعتذر الجاني، محا العذر ذنبه ... وكل إمرىء لا يقبل العذر مذنب
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال حدثني محمد بن الوليد قال حدثني علي بن الجهم، قال: كنت يوماً عند فضل الشاعرة، فألحظتها لحظة إسترابت بها، فقالت:
يا رب رام حسن تعرضه ... يرمي ولا يشعر أني غرضه
فقلت:
أي فتى لحظك ليس يمرضه؟ ... وأي عقد محكم لا ينقضه!
فضحكت وقالت: خذ في غير هذا الحديث.
حدثني جعفر بن قدامة، قال حدثني إبن حميد، قال: قلت لفضل الشاعرة أجيزي:
من لمحب أحب في صغره؟
فقالت:
فصار أحدوثة على كبره!
فقلت:
من نظر شفه وأرقه
فقالت:
فكان مبدا هواه من صبره!
ثم شغلت بالشراب هنيئة، ثم قالت:
لولا الأماني لمات من كمد ... مر الليالي يزيد في فكره
ليس له مسعد يساعده ... بالليل في طوله وفي قصره
الجسم يبلى فلا حراك بهوالروح فيما أرى على أثره!
حدثني الحسن بن محمد، والحسن بن علي قالا: أخبرنا إبن أبي الدنيا، قال حدثني ميسرة بن محمد، قال حدثني عبيد بن محمد قال: قلت لفضل الشاعرة ماذا نزل بكم البارحة؟! وذلك صبيحة قتل المنتصر أو المعتز فقالت وهي تبكي:
(1/9)
إن الزمان بذحل كان يطلبنا ... ما كان أغفلنا عنه وأسهانا!
ما لي وللدهر قد أصبحت همته ... ما لي وللدهر ما للدهر لا كانا!
قال أبو الفرج: قرأت في بعض الكتب عن عبد الله بن المعتز قال: قال لي إبراهيم بن المدبر: كانت فضل الشاعرة من أحسن خلق الله خطاً وأفصحهم كلاماً، وأبلغهم في مخاطبة، وأثبتهم في محاورة فقلت يوماً لسعيد بن حميد، أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل، رقاعها، وتفيدها وتخرجها، فقد أخذت تجول في الكلام، وسلكت سبيلك، فقال وهو يضحك: ما تحسن ظنك! ليتها تسلم مني، لا آخذ كلامها ورسائلها! والله يا أخي لو أن أحد أفاضل الكتاب وكبراءهم وأماثلهم أخذ عنها، لما إستغنوا عن ذلك!.
وكانت فضل تهوى سعيد بن حميد ويهواها ولكل واحد منهما في صاحبه أشعار - ذكرتها في أماكنها - ثم عدلت عنه إلى بنان المغني فعشقته.
حدثني جحظة، قال حدثني علي بن يحيى المنجم، قال: أمر المتوكل بأن تضرب مضاربة على القاطول، وتحدر هناك ويقيم شتوية على القاطول، فقالت فضل الشاعرة:
قالوا لنا أن بالقاطول مشتانا ... ونحن نأمل صنع الله مولانا
والناس يأتمرون الغيب بينهم ... والله في كل يوم محدث شانا
رب يرى فوق ملك العالمين له ... ملكاً وفوق ذوي السلطان سلطانا
وغنت فيه عريب، فلما أخذ النبيذ في المتوكل غنته بهذا الصوت فطرب، وأمر بإبطال ما كان عزم عليه، وقال: إذا كرهتم هذا كرهناه.
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني عبد الله بن أبي سعيد قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود، قال: وقع بين سعيد بن حميد وبين فضل الشاعرة، مشاجرة لشيء بلغها عنه، فكتب إليها:
تعالي نجدد عهود الصبا ... ونصفح عن الذنب فيما مضى
ونجري على سنة العاشقين ... ونضمن عني وعنك الرضا
ويبذل هذا لهذا رضاه ... ويصبر في حبه للقضا
ونخضع ذلاً خضوع العبيد ... لمولى عزيز إذا أعرضا
فإنى مذلج هذا العتاب ... كأنى أبطنت جمر الغضى
فصارت إليه، وصالحته.
قال أبو الفرج: ولهاشم بن سليمان في هذا الشعر لحن من ثقيل الأول بالوسطى، ذكره لي عمي وإبن بانة.
حدثني جعفر بن قدامة، قال حدثني ميمون بن إبراهيم، قال: كنت أنا وسعيد بن حميد، نشرب عند الحسن بن مخلد فجاء سعيد برقعة، عن فضل الشاعرة فدفعها إليه فقرأها، ولحظه الحسن، فقال له بحياتي هذه رقعة فضل الشاعرة؟! فشور ثم صدقه، فقال هاتها: فأعطاه إياها، وقرأناها فإذا فيها مكتوب:
نفسي فداؤك طال العهد وإتصلت ... منك المواعيد والليان والخلف
والله يعلم أني فيك ساهرة ... ودمع عيني منها بارق يكف
فان تكن خنت عهدي فو آاسفاً ... وقل مني فيك الهم والأسف
وإن تبدلت مني غادراً خلفاً ... فليس منك ورب العرش لي خلف
فكتب اليها:
يا واصف الشوق عندي فوق ما تجد ... دمع يفيض وقلب خافق يجف
فكن على ثقة مني وبينة ... إني على ثقة من كل ما تصف
ق94 أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة، قال حدثني محمد بن السري، أنه صار إلى سعيد بن حميد، وهو في دار الحسن بن مخلد في حاجة له، قال: بينما أنا عنده، إذ جاءته رقعة لفضل الشاعرة وفيها هذان البيتان:
الصبر ينقص والسقام يزيد ... والدار دانية وأنت
بعيد أشكوك أم أشكو إليك فإنه ... لا يستطيع سواهما المجهود
أنا يا أبا عثمان قد مت قبلك، في حال التلف، وما عدتني ولا سألت عن خبري فأخذ بيدي، ومضينا إليها عايدين، فقالت له: هو ذا أموت وتستريح مني!، فانشأ يقول:
لا مت قبلك بل أحيا وأنت معاً ... ولا أعيش إلى يوم تموتينا
حتى نعيش كما نهوى ونأمله ... ويرغم الله فينا أنف شانينا
حتى إذا ما قضى الرحمن منيتنا ... وحل من أمرنا ما ليس يعدونا
متنا جميعاً كغصني بانة ذبلاً ... من بعد ما نضرا واستوسقا حينا
(1/10)
ثم السلام علينا في مضاجعنا ... حتى يعود إلى تدبير منشينا
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني ميمون بن هارون قال: أن سعيد بن حميد كان مشغوفاً بفضل الشاعرة، ولم يزل بكاتبها ويراسلها، ويشكو هواه إليها حتى واصلته.
قال ميمون، وأقرأني رقعة منها إليه، تعاتبه على حصوله مع مغنية، وتجميشه لها، وفي آخرها:
خنت عهدي وليس ذاك جزاء ... يا صناع اللسان مر الفعال
وتبدلت بي بديلاً فلا يهن م ك ما إخترته من الأبدال
فأجابها بحضرتي، باعتذار طويل، وكتب في آخر الرقعة:
تظنون أني قد تبدلت بعدكم ... بديلاً وبعض الظن إثم ومنكر
إذا كان قلبي في يديك رهينة ... فكيف بلا قلب أصافي وأهجر؟!
وفي هذين البيتين لسليمان بت الفضل القصار، رمل وخفيف رمل محدث.
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني عبد الله بن أبي سعيد، قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود: أن أباه كان يستحسن قول سعيد بن حميد:
تظنون أني قد تبدلت بعدكم ... بديلا، وبعض الظن إثم ومنكر
ويقول: لئن عاش هذا الغلام ليكونن له شأن من الشؤون.
حدثني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب، قال إسحاق بن مسافر: إنه كان عند سعيد بن حميد يوماً، فدخلت عليه فضل الشاعرة على غفلة، فوثب إليها وسلم عليها، وسألها أن تقيم عنده، فقالت: قد جاءني وحياتك رسول الخليفة، وليس يمكنني الجلوس عندك، وكرهت أن أمر ببابك ولا أراك، فقال سعيد على البديهة:
قربت ولم نرج اللقاء ولا نرى ... لنا حيلة يدنيك منا إحتيالها
فأصبحت كالشمس المنيرة ضوؤها ... قريب ولكن أين منا منالها؟
كظاعنة ضنت بها غربة النوى ... علينا ولكن قد يلم خيالها
تقل بها الآمال ثم تعوقها ... مماطلة الدنيا بها وإعتلالها
ولكنها أمنية فلعلها ... يجود بها صرف النوى وإنفتالها
حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون، قال: غضبت فضل الشاعرة على سعيد بن حميد فكتب إليها:
يا أيها الظالم مالي ولك ... أهكذا تهجر من واصلك!
لا تصرف الرحمة عن أهلها ... قد يعطف المولى على من ملك
ظلمت نفساً فيك علقتها ... فدار بالظلم عليها الفلك
تبارك الله فما أعلم الله ... بما ألقى وما أغفلك!
فراجعته وواصلته، وصارت إليه جواباً عن رقعته. ولعريب في هذا الأبيات لحنان: ثقيل ثاني، وهوج ذكرهما لها إبن المعتز.
حدثني علي بن العباس بن أبي طلحة، قال حدثني: أبو العباس بن أبي المدور، قال: كان سعيد بن حميد صديقاً لأبي العباس بن ثوابة فدعاه يوماً، وجاءه رسول لفضل الشاعرة يسأله المصير إليها، فمضى معه، وتأخر عن أبي العباس، فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها عتاباً فيه توبيخ وتعنيف فكتب إليه سعيد:
أقلل عتابك فالزمان قليل ... والدهر يعدل مرة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه ... إلا بكيت عليه حين يزول
ولكل نائبة المت مدة ... ولكل حال أقبلت تحويل
والمنتمون إلى الأخاء جماعة ... إن حصلوا أفناهم التحصيل
ولعل أحداث الليالي والردى ... يوماً ستصدع شملنا وتحول
فلئن سبقت لتبكين بحسرة ... وليكثرن علي منك عويل
ولتفجعن بمخلص لك وامق ... حبل الوفاء بحبله موصول
ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين من لا يشاكله لدي عديل
وليذهن جمال كل مروءة ... وليعفون فناؤها المأهول
وأراك تكلف بالعتاب وودنا ... باق عليه من الوفاء دليل
ود بدا لذوي الإخاء صفاؤه ... وبدت عليه بهجة وقبول
ولعل أيام الحياة قصيرة ... فعلام يكثر عتبنا ويطول؟!
حدثني عمي، قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال: كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد أيام كانت بينهما محبة وتواصل ق30.
وعيشك لو صرحت باسمك في الهوى ... لأقصرت عن أشياء في الهزل والجد
(1/11)
ولكنني أبدي لهذا مودة ... وذاك وأخلو فيك بالبث والوجد
مخافة أن يغرى بنا قول كاشح ... عدومً فيسعى بالوصال إلى الصد
فكتب إليها سعيد بن حميد:
تنامين عن ليلي وأسهره وحدي ... فأنهى جفوني أن تبثك ما عندي
فإن كنت لا تدرين ما قد فعلته ... بنا فانظري ماذا على قاتل العمد؟
هكذا ذكر إبن مهرويه، قال عمي، وهكذا حدثني به علي بن الحسين بن عبد الأعلى الأسكافي، قال: حضر سعيد بن حميد مجلساً حضرته فضل الشاعرة وبنان، وكان سعيد، يهواها، وكانت تظهر له هوى، ويتهمها سعيد مع ذلك ببنان، فرأى فيها إقبالاً شديداً على بنان، فغضب، وإنصرف، فكتبت إليه فضل هذه الأبيات المذكورة آنفاً، وأجابها سعيد بالأبيات المذكورة.
وحدثني عمي، قال حدثني ميمون بن هارون قال: رأيت فضل الشاعرة وسعيد بن حميد ليلة، بوعد سبق بينهما، فلما حصلت عنده، جاءتها جاريتها، فبادرت وأعلمتها أن رسول الخليفة قد جاء يطلبها فقامت من وقتها ق31 فمضت، فلما كان من الغد كتب إليها سعيد بن حميد:
ضن الزمان بها فلما نلتها ... ورد الفراق فكان أقبح وارد
والدمع ينطق بالضمير مصدقا ... قول المقر مكذباً للجاحد
حدثني إبراهيم بن القاسم بن زرزور قال حدثني أبي، قال: فصد سعيد بن حميد العرق لحمى كان يلحقه في كبده، فسألتني فضل الشاعرة، وسألت عربياً أن تساعدها في المسير إليه، وأهدت له: هدايا فيها ألف جدي وألف دجاجة فائقة وألف طبق فاكهة وريحان، وطيباً كثيراً وشراباً وتحفاً حساناً، فكتب إليها سعيد: سروري لا يتم إلا بحضورك! قال فجاءته في آخر النهار، وجلسنا لنشرب، فاستأذن غلامه لبنان، فأذن له - فدخل إلينا - وهو يومئذ شاب طرير، حسن الوجه، حسن الغناء، سري الملبوس، عطر الشكل، فذهب بها كل مذهب، وبان فيها ذلك: بإقبالها عليه، ينظرها وحديثها، فتنمر سعيد وأستطير غضباً، وتبين بنان القصة، فانصرف، وأقبل سعيد يعذلها ساعة ويوبخها، ويؤنبها أخرى وهي تعتذر ثم سكت، فكتبت إليه فضل ق32:
يا من أطلت تفرسي ... في وجهه وتنفسي
أفديك من متدلل ... يزهى بقتل الأنفس
هبني أسأت وما أسأت بلى أقول أنا المسى
أحلفتني أن لا أسا ... رق نظرة في مجلس
فنظرت نظرة مخطئ ... ووصلتها بتفرس
ونسيت أني قد حلفت فما عقوبة من نسي؟
يا من حكاه الياسمين وطيب ريح النرجس
إغفر لعبدك ما جنا ... ه من اللحاظ الخلس!
وزادت فيه عريب:
قالوا عقوبته الجفا ... ويسا إليه كما يسى!
فقام سعيد وقبل رأسها، وقال لا عقوبة عليك، بل يحتمل هفوتك، ويتجاوز عن إساءتك، وغنت عريب في هذا الشعر، رملاً وهزجاً، وشربنا عليه بقية يومنا ثم إفترقنا وقد أثر في قلبها، وعلقته، ولم يزل يواصلها سراً حتى ظهر أمرهما.
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني ابن أبي المدور الوراق، وكان في جملة سعيد بن حميد، قال: كنت عند سعيد يوماً وقد ق33 إبتداء ما بينه وبين فضل الشاعرة يتشعب، لما بلغه ميلها إلى بنان وهو بين المصدق لذلك والمكذب، ثم أقبل على صديق له فقال: أصبحت والله من فضل في غرور، أخادع نفسي بتكذيب العيان!، وأمنيها ما قد حيل دونه!. والله إن إرسالي إليها - بعد ما قد بان لي منها - لذل وإن عدولي عنها وفي أمرها شبهة - لعجز وغبن، وإن صبري عنها لمن دواعي التلف، ولله در محمد بن أمية حيث يقول:
يا ليت شعري ما يكون جوابي ... أما الرسول فقد مضى بكتابي
وتقسمت نفسي الظنون وأشعرت ... طمع الحريص وخيفة المرتاب
وتروعني حركات كل محرك ... للباب يطرقه وليس ببابي
كم نحو باب الدار لي من وثبة ... أرجو الرسول بمطمع كذاب!
والويل لي من بعد هذا كله ... إن كان ما أخشاه رجع جوابي!
حدثني جحظة، قال حدثني ميمون بن هارون، قال: لما إتصل ما بين بنان وفضل الشاعرة وعدلت عن سعيد بن حميد أسف عليها، وجزع جزعاً: إمتنع من الشراب، وعشرة الأخوان، وهو مع ذلك يظهر التجلد ثم قال فيها ق34:
قالوا تعز فقد بانوا فقلت لهم: ... بان العزاء على آثار من بانا
وكيف يملك سلواناً لحبهم ... من لم يطق للهوى سراً وإعلانا
كانت عزائم صبري أستعين بها ... صارت علي بحمد الله أعوانا
لا خير في الحب لا تبدو شواهده ... ولا ترى منه في العينين عنوانا
قال جحظة: وغنى بعض المحدثين في هذا الشعر لحناً حسناً رملاً وهو مشهور، وعني نفسه. حدثني جحظة، قال حدثني علي بن يحيى المنجم، قال: كانت فضل الشاعرة تميل إلى بنان وتكاتم المتوكل بحبه، وكانت تجلس مع الندماء، بارزة على كرسي، فقال لها المتوكل: إقترحي صوتك على بنان، فقالت ما لي عليه صوت، فقال له: بحياتي غن صوتها عليك! فغنى بشعر سلم الخاسر:
إسمعي أو خبرينا ... يا ديار الظاعنينا
إن قلبي لك رهن ... بالذي قد تعلمينا
فأمر أن يسقى رطلاً، فسقيته، وأمره بإعادته فغناه، فسقيته ثانياً ثم أعاده فسقيته ثالثاً.
قال علي بن يحيى: وقمت إلى الخلاء، وإذا بفضل قد عارضتني، وقالت إسمع يا أبا الحسن ق35 ما قلت، فقلت: هات، فأنشدتني هذه الأبيات:
قد تغني لي بنان ... إسمعي أو خبرينا
وشربت الراح فارتح ... ت وأبدت لي شجونا
ثم أظهرت لجلا ... سي من السر مصونا
قل لمولاي ولا تخ ... شى وقل قولاً مبينا
رب صوت حسن قد ... ألبس الراس قرونا!
أنت قواد نبيل ... يا أمير المؤمنينا!
وقد قال علي بن الجهم في ذلك:
كلما غنى بنان ... إسمعي أو خبرينا
أنشدت فضل ألا حيت عنا يا مدينا
رب صوت حسن قد ... أورث الرأس قرونا
ولعل جحظة وهم في إدخال هذا البيت في أبيات فضل وحدثني علي بن صالح الهيثمي، قال حدثني أحمد بن الهيثم المادرائي، قال: لما إنكشف لسعيد بن حميد عشق فضل الشاعرة لبنان، واصل جارية من جواري القيان، فكتبت إليه فضل:
يا عالي السن سيء الأدب ... شبت وأنت الغلام في الطرب
ويحك إن القيان كالشرك المنصوب بين الغرور والعطب
لا يتصدين للفقير، ولا ... يطلبن إلا معادن الذهب
بينا تشكى هواك إذ عدلت ... عن زفرات الشكوى إلى الطلب
تلحظ هذا وذا وذاك وذا ... لحظ محب ولحظ مكتسب
حدثني جحظة، قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال: غضب بنان على فضل الشاعرة في أمر أنكره عليها فاعتذرت إليه فلم يقبل عذرها فكتبت إليه:
يا فضل صبراً إنها ميتة ... يجرعها الكاذب والصادق
ظن بنان أنني خنته ... روحي إذا من جسدي طالق!
تيماء جارية خزيمة بن خازم
حدثني عمي الحسن بن محمد وأحمد بن عبيد الله بن عمار، قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال حدثني: أبو همام محمد بن سعيد الخطيب قال: كانت لخزيمة بن خازم: جارية، مدنية شاعرة، يقال لها: تيماء وكان بها مشغوفاً، وهي القائلة وقد خرج إلى الشام ق37:
تفديك نفسي من سوء تحاذره ... فأنت بهجتها والسمع والبصر
لئن رحلت، لقد أبقيت لي حزناً ... لم يبق لي معه في لذة وطر
فهل تذكرت عهدي في المغيب كما ... قد شفني الهم والأحزان والذكر
حدثني عمي الحسن بن محمد، قال حدثني عبد الله بن أبي سعيد قال حدثني عبد الله بن عمر الهيثمي، قال حدثني أحمد بن إبراهيم قال: حدثتني تيماء جارية خزيمة بن خازم، قالت: عرضت على حزيمة بن خازم، جارية، مليحة، بكر، حلوة القد والوجه، فمال إليها وأقبل إلي كالمعتذر فقال:
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم ... أشهى المطى إلي ما لم يركب
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة ... بذلت وحبة لؤلؤ لم تثقب
.
صورة مفقودة