نقوس المهدي
كاتب
لعل كتاب "طوق الحمامة في الألفة والآلاف" أجمل كتاب عن الحب في التراث العربي، وقد كتبه فقيه وعالم وشاعر أندلسي من قرطبة هو ابن حزم الأندلسي الذي عُرف بدفاعه عن المذهب الظاهري. كتاب في الحب كما هو كتاب في السيرة الذاتية، أو هو قريب منها للجانب العاطفي من حياة ابن حزم، وهادٍ إلى الحياة العاطفية لعدد من معاصريه ورفاقه ممن شغلوا مناصب رفيعة في الإدارة والقضاء والجيش على أيامه.
تتبع ابن حزم الحب في أطواره وحلل عناصره وجمع بين الفكرة المفلسفة والواقع التاريخي، وواجه أدق قضاياه في وضوح وصراحة. صدر في نظرته إلى الحب عن تجربة عميقة ذات أبعاد إنسانية، وعن إدراك لطبائع البشر وسير الحياة، ولم تفقد النتائج التي توصل إليها بريقها إلى اليوم، وهي تقف اليوم في مستوى أرقى الدراسات عن الحب .
ومنذ اكتشاف الكتاب على يد المستشرق دوزي في منتصف القرن التاسع عشر وهو يخضع - مع مؤلفه ابن حزم- لتجاذب شديد بين الباحثين العرب والباحثين الأسبان. فمن الطبيعي أن ينظر الباحثون العرب إلى ابن حزم، فقيه قرطبة العظيم، على أنه أحد رموز الأدب والفكر العربي في الأندلس مثله ابن طفيل وابن رشد وابن زيدون ورفاقهم. ولكن كان للباحثين الأسبان رأي آخر. فقد اعتبروا ابن رشد مجرد عالم أو باحث أسباني مستعرب، كما اعتبروا نوع الحب الذي يتحدث عنه في كتابه حبًا روحيًا أو عذريًا وثيق الصلة بالنصرانية ولا يمت بصلة إلى الحب العربي الذي يتميز بالشهوات الجسدية. ومن يقرأ ما كتبه هؤلاء الباحثون الأسبان حول هذا الموضوع يجد أن لهم نظرية كاملة حول "أسبانية" ابن حزم المنتشرة لا في جيناته وحسب، بل في كتابه هذا أيضًا. وقبل أن نعرض لوجهة نظر الأسبان في هذا الموضوع، وهي نظرية متهافتة برأينا للأسباب التي سنشير إليها لاحقًا، لابد من عرض وجهة نظر ابن حزم في الحب. فهذا الكتاب من أجمل ما وصلنا من نصوص الحب عند العرب القدماء، والكثير مما ورد فيه لا يزال صالحًا إلى اليوم، إن لم نقل إن ما يكتب اليوم عن الحب ليس أفضل على الإطلاق مما ورد فيه.
في بداية كتابه يحاول ابن حزم تعريف الحب فيقول: "الحب أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالته عن أن توصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبدالرحمن بن معاوية لدعجاء، والحكم بن هشام وعبدالرحمن ابن الحكم وشغفه بطروب أم عبدالله ، ومحمد بن عبدالرحمن وأمره مع غزلان أم بنيه عثمان والقاسم والمطرف معلوم، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هشام المؤيد بالله رضي الله عنه، وعن جميعهم، وامتناعه عن التعرض للولد من غيرها.. ومثل هذا كثير. ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة - وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم - لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل".
ويتابع ابن حزم تعريف الحب في فقرات أخرى: "والحب، أعزك الله، داء عياء، وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقام مستلذ، وعلة مشتهاة، لا يود سليمها البرء، ولا يتمنى عليلها الإفاقة".
وللحب علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها، فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب، وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال.
ومن علاماته أنك ترى المحب يحب أهل محبوبه وقرابته وخاصته حتى يكونوا أحظى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته.
والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه. فمنهم غزير الدمع هامل الشؤون، تجيبه عينه، وتحضره عبرته إذا شاء. ومنهم جَمود العين، عديم الدمع، وأنا منهم.
ومن علاماته أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره، ويجعلها هجيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها، ولا ينهنهه عن ذلك تخوف أن يفطن السامع، ويفهم الحاضر، وحبك الشيء يعمي ويصم. فلو أمكن ألا يكون حديث في مكان يكون فيه إلا ذكر من يحبه لما تعداه.
وحول علامات الحب يروي ابن حزم حكاية طريفة قال: "ولقد كنت يومًا بالمرية، قاعدًا في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب الإسرائيلي، وكان بصيرًا بالفراسة محسنًا لها، وكنا في لَمة، فقال له مجاهد بن الحصين القيسي: ما تقول في هذا؟ وأشار إلى رجل منتبذ عنا ناحية، اسمه حاتم، ويكنى أبا البقاء، فنظر إليه ساعة يسيرة ثم قال: هو رجل عاشق. فقال له: صدقت، فمن أين قلت هذا؟ قال: لبهت مفرط ظاهر على وجهه فقط دون سائر حركاته، فعلمت أنه عاشق وليس بمريب"!
ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسرًا إلى طباع من يحب. وترى المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة، حمي الأنف، أبي الخسف، فما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب، ويتورط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة ليانًا، والصعوبة سهولة، والمضاء كلالة، والحمية استسلامًا.
وابن حزم يُطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة، "ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حبه إلا ضربًا من الشهوة، وأما أن يكون في ظني متمكنًا من صميم الفؤاد، نافذًا في حجاب القلب، فما أقدر ذلك، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهرًا، وأخذي معه في كل جد وهزل.. وكذلك أنا في السلو والتوقي. فما نسيت ودًا لي قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء. وقد استراح من لم تكن هذه صفته.
ويتحدث عن الوصل حديثًا شيقًا: "ومن وجوه العشق الوصل، وهو خط رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة، والعيش السَني، والسرور الدائم، ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة فيه ولا حزن معه، وكمال الأماني ومنتهى الأراجي.. ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان، ولا للمال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة، ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروح على المال، من الموقع في النفس، ما للوصل بعد طول الامتناع، وحلول الهجر، حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتتضرم نار الرجاء.. وما أصناف النبات بعد غِبّ القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب الساريات، ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض وقد أحدقت بها الرياض الخضر، بأحسن من وصل حبيب قد رضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه".
ومن حميد الغرائز، وكريم الشيم، وفاضل الأخلاق في الحب وغيره الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل، وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات.
وفي باب البين، أو الفراق، يكتب فقيه قرطبة: "وقد علمنا أنه لابد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء. وتلك عادة الله في العباد والبلاد، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. وما شيء من داوهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سالت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلاً. وسمع بعض الحكماء قائلاً يقول: الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الفراق!.
تلك كلمات لابن حزم لا ينقصها لتكون قد كتبت اليوم سوى بعض التحديث في العبارات لا أكثر، لأن المعاني فيها غضة نضرة تعبر عن القلب البشري في تباريحه وشجونه، وفي كل زمن من الأزمان.
ولا يكتفي ابن حزم بالتنظير أو بالتوصيف، وإنما ينقل أخبارًا شتى عن المحبين، ومنهم هو بالذات فيحدثنا عن عشقه لبعض الجواري اللواتي عملن في بيته أو بيت أهله، وكان والده من وجهاء قرطبة، ووزيرًا لحاكمها في وقت من الأوقات، ومن بين ما يرويه حكايته مع جارية نشأت في بيته توقف الباحثون الأسبان عندها مليًا ليستخرجوا منها ما شاؤوا من التأويلات حول نزوعه العذري في حبه، وهو نزوع زعموا أنه غريب عن الروح العربية الإسلامية وعن تراث الحب عند العرب. وقبل مناقشة وجهة نظر هؤلاء الباحثين نورد حكاية ابن حزم مع جاريته كما رواها في "طوق الحمامة" نظرًا لأهميتها:
إني ألفت في أيام صباي، ألفة المحبة، جارية نشأت في دارنا، وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاما، وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخفرها ودماثتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، بديعة البشر، مُسبلة الستر، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، شديدة الحذر، نقية من العيوب، دائمة القطوب، حلوة الإعراض، مليحة الصدود، رزينة القعود، كثيرة الوقار، مستلذة النفار، موقوفة على الجد في أمرها، غير راغبة في اللهو.
على أنها كانت تحسن العود إحسانًا جيدًا، فجنحت إليها، وأحببتها حبًا مفرطًا شديدًا، فسعيت عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة، وأسمع من فيها لفظة ما غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، بأبلغ السعي فما وصلت من ذلك إلى شيء البتة!
فلعهدي بمصطنع كان في دارنا لبعض ما يصطنع له في دور الرؤساء، تجمعت فيه دخلتنا، ودخلة أخي رحمه الله، من النساء ونساء فتياننا ومن لاث بنا من خدمنا، ممن يخف موضعه، ويلطف محله، فلبثن صدرًا من النهار، ثم تنقلن إلى قصبة كانت في دارنا، مشرفة على بستان الدار، ويطلع منها على جميع قرطبة ووديانها وسهولها والجبال التي تحيط بها، مفتحة الأبواب، فصرن ينظرن من خلال الشراجيب وأنا بينهن، فإني لأذكر أني أقصد نحو الباب الذي هي فيه، أنسًا بقربها، متعرضًا للدنو منها، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب، وتقصد غيره في لطف الحركة، فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزوال إلى غيره.
وكانت قد علمت كلفي بها، ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه لأنهن كن عددًا كثيرًا. ثم نزلن إلى البستان، فرغب كرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها، فأمرتها، فأخذت العود وسوته بخفر وخجل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنه في عين مستحسنه. ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول:
إني طربت إلى شمس إذا غربت = كانت مغاربها جوف المقاصير
شمس ممثلة في خلق جارية = كأن أعطافها طي الطوامير
ليست من الإنس إلا في مناسبة = ولا من الجن إلا في التصاوير
فالوجه جوهرة والجسم عبهرة = والريح عنبرة والكل من نور
كأنها حين تخطو في مجاسدها = تخطو على البيض أو حد القوارير
فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم، ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلت إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها.
ويتابع ابن حزم وصفه الحزين الشجي لقصة حبه العذري هذا على النحو التالي:
ثم انتقل أبي رحمه الله من دورنا المحدثة بالجانب الشرقي من قرطبة، في ربض الزاهرة، إلى دورنا القديمة في الجانب الغربي من قرطبة ببلاط مغيث، في اليوم الثالث من قيام أمير المؤمنين محمد المهدي بالخلافة، وانتقلت أنا بانتقاله، ولم تنتقل هي لأمور أوجبت ذلك.
ثم شغلنا بعد ذلك إلى أن توفي أبي الوزير رحمه الله، واتصلت بنا تلك الحال بعده إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها قائمة في المأتم وسط النساء، في جملة البواكي والنوادب. فلقد أثارت وجدًا دفينًا وحركت ساكنًا، وذكرتني عهدًا قديمًا، وحبًا تليدًا، ودهرًا ماضيًا وشهورًا خوالي وأيامًا قد ذهبت وآثارًا قد دثرت، وجددت أحزاني، على أني كنت في ذلك النهار مرزأ مصابًا من وجوه، وما كنت نسيت، ولكن زاد الشجى، وتوقدت اللوعة، وتأكد الحزن، وتضاعف الأسف واستجلب لوجد ما كان منه كامنًا فلباه مجيبًا.
ثم ضرب الدهر ضربانه وأُجلينا عن منازلنا وتغلب علينا جند البربر فخرجت عن قرطبة وغابت عن بصري بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام وأكثر. ثم دخلت قرطبة في شوال سنة تسعة وأربعمائة فنزلت على بعض نسائنا فرأيتها هنالك، وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة، وقد تغير أكثر محاسنها وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة وغاض الماء الذي كان يُرى كالسيف الصقيل، وذبل ذلك النوار الذي كان البصر يقصد نحوه متنورًا ويرتاد فيه متخيرًا وينصرف عنه متحيرًا، فلم يبق إلا البعض المنبئ عن الكل، والخبر المخبر عن الجميع، وذلك لقلة اهتبالها بنفسها، وعدمها الصيانة التي كانت غذيت بها أيام دولتنا، وامتداد ظلنا، ولتبذلها في الخروج فيما لابد لها منه، مما كانت تصان وترفع عنه قبل ذلك.
وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت، وبينة متى لم يهتبل بها استهدمت، ولذلك قال من قال: إن حسن الرجال أصدق صدقًا وأثبت أصلاً وأعتق جودة لصبره على ما لو لقي بعضه وجوه النساء لتغيرت أشد التغير مثل الهجير والسموم والرياح واختلاف الهواء، وإني لو نلت منها أقل وصل وأنست لي بعض الأنس، لخولطت طربًا، أو لمت فرحًا ولكن هذا النفار الذي صبرني وأسلاني.
توقف الباحثون الأسبان وسواهم من الباحثين الغربيين عند هذه الحكاية العاطفية الحزينة في طوق الحمامة ليستنتجوا أن هذه العذرية التي تنضح منها غريبة عن الروح العربية وعن العشق عند العرب. كان المستشرق دوزي المتخصص في الدراسات الأندلسية هو أول من اكتشف نسخة "طوق الحمامة" الوحيدة المحفوظة في مكتبة جامعة ليدن بهولندا، فعكف على قراءتها ونقل منها حكاية عشق ابن حزم للجارية على النحو الذي فصلناه آنفًا، في كتابه "تاريخ مسلمي أسبانيا" وعقب على الحكاية قائلاً:
"يُلاحظ دونما شك في القصة التي انتهينا من قراءتها، ملامح عاطفية رقيقة غير شائعة بين العرب الذين يفضلون بصفة عامة الجمال المثير والعيون الفاتنة والابتسامة الآسرة، والحب الذي كان يحلم به ابن حزم يختلط دون ريب بما هو حسي جذاب، وعندما يكون الحبيب المنشود اليوم غيره بالأمس يصبح الإحساس أقل قسوة. لكن فيه أيضًا ميل إلى ما هو أخلاقي، من رقة بالغة واحترام وحماسة، وما يأسره جمال رائق وديع، فياض بالكرامة الحلوة، لكن يجب ألا ننسى أن هذا الشاعر الأكثر عفة، وأكاد أقول الأكثر مسيحية بين الشعراء المسلمين، ليس عربيًا خالص النسب، إنما هو حفيد أسباني مسيحي لم يفقد كلية طريقة التفكير والشعور الذاتية لجنسه. هؤلاء الأسبان المتعربون يستطيعون أن يهجروا دينهم، وأن يستبدلوا المسيحية بالإسلام، وأن يلاحقوا بالسخرية إخوانهم القدامى في الدين والوطن، ولكن يبقى دائمًا في أعماق أرواحهم شيء صاف رهيف وروحي غير عربي".
هذا الكلام لدوزي ليس علميًا وإنما ينتمي إلى عالم الاستشراق القديم المعروف بتحيزه ضد العرب والمسلمين والحريص بصورة خاصة على سلب العرب خصائصهم، ولكن مستشرقًا أسبانيًا نزيهًا هو ميجيل اسين بالاثيوس ناقش بالتفصيل وجهة نظر دوزي وأوجزها أولاً في النقاط التالية:
- إن الإطار الذي رسمه ابن حزم لحبه في هذه الترجمة الذاتية يظهر لنا من نفسية البطل شعورًا أشد رقة وكمالاً من الحب الحسي غير المحتشم، ويمكن اعتبار ابن حزم في هذا الجانب مثلاً استثنائيًا نموذجيًا للحب الروحي والعفيف.
- إن النفسية التي تكابد هذا الحب ليست من خصائص الجنس العربي ولا الأدب الإسلامي وكلاهما في عواطفه الغرامية يستمد إلهامه غالبًا من الرغبات الجنسية.
- إن حب ابن حزم الرومانسي، وبالتالي كل جبلته العاطفية، لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء أنها وراثة نفسية وارتداد منه لخصائص جنسه المسيحي والأسباني.
في عدد قادم نعرض لرأي المستشرق الأسباني ميجيل أسين بلاثيوس في هذه النقاط التي وردت في تعليق دوزي على حكاية الحب العذري بين ابن حزم وجاريته، وعما إذا كانت العذرية كما يزعم دوزي غريبة عن الروح العربية والتراث العربي.
.
تتبع ابن حزم الحب في أطواره وحلل عناصره وجمع بين الفكرة المفلسفة والواقع التاريخي، وواجه أدق قضاياه في وضوح وصراحة. صدر في نظرته إلى الحب عن تجربة عميقة ذات أبعاد إنسانية، وعن إدراك لطبائع البشر وسير الحياة، ولم تفقد النتائج التي توصل إليها بريقها إلى اليوم، وهي تقف اليوم في مستوى أرقى الدراسات عن الحب .
ومنذ اكتشاف الكتاب على يد المستشرق دوزي في منتصف القرن التاسع عشر وهو يخضع - مع مؤلفه ابن حزم- لتجاذب شديد بين الباحثين العرب والباحثين الأسبان. فمن الطبيعي أن ينظر الباحثون العرب إلى ابن حزم، فقيه قرطبة العظيم، على أنه أحد رموز الأدب والفكر العربي في الأندلس مثله ابن طفيل وابن رشد وابن زيدون ورفاقهم. ولكن كان للباحثين الأسبان رأي آخر. فقد اعتبروا ابن رشد مجرد عالم أو باحث أسباني مستعرب، كما اعتبروا نوع الحب الذي يتحدث عنه في كتابه حبًا روحيًا أو عذريًا وثيق الصلة بالنصرانية ولا يمت بصلة إلى الحب العربي الذي يتميز بالشهوات الجسدية. ومن يقرأ ما كتبه هؤلاء الباحثون الأسبان حول هذا الموضوع يجد أن لهم نظرية كاملة حول "أسبانية" ابن حزم المنتشرة لا في جيناته وحسب، بل في كتابه هذا أيضًا. وقبل أن نعرض لوجهة نظر الأسبان في هذا الموضوع، وهي نظرية متهافتة برأينا للأسباب التي سنشير إليها لاحقًا، لابد من عرض وجهة نظر ابن حزم في الحب. فهذا الكتاب من أجمل ما وصلنا من نصوص الحب عند العرب القدماء، والكثير مما ورد فيه لا يزال صالحًا إلى اليوم، إن لم نقل إن ما يكتب اليوم عن الحب ليس أفضل على الإطلاق مما ورد فيه.
في بداية كتابه يحاول ابن حزم تعريف الحب فيقول: "الحب أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالته عن أن توصف، فلا تُدرك حقيقتها إلا بالمعاناة. وليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل. وقد أحب من الخلفاء المهديين والأئمة الراشدين كثير، منهم بأندلسنا عبدالرحمن بن معاوية لدعجاء، والحكم بن هشام وعبدالرحمن ابن الحكم وشغفه بطروب أم عبدالله ، ومحمد بن عبدالرحمن وأمره مع غزلان أم بنيه عثمان والقاسم والمطرف معلوم، والحكم المستنصر وافتتانه بصبح أم هشام المؤيد بالله رضي الله عنه، وعن جميعهم، وامتناعه عن التعرض للولد من غيرها.. ومثل هذا كثير. ولولا أن حقوقهم على المسلمين واجبة - وإنما يجب أن نذكر من أخبارهم ما فيه الحزم وإحياء الدين، وإنما هو شيء كانوا ينفردون به في قصورهم مع عيالهم فلا ينبغي الإخبار به عنهم - لأوردت من أخبارهم في هذا الشأن غير قليل".
ويتابع ابن حزم تعريف الحب في فقرات أخرى: "والحب، أعزك الله، داء عياء، وفيه الدواء منه على قدر المعاملة، ومقام مستلذ، وعلة مشتهاة، لا يود سليمها البرء، ولا يتمنى عليلها الإفاقة".
وللحب علامات يقفوها الفطن ويهتدي إليها الذكي. فأولها إدمان النظر، والعين باب النفس الشارع، وهي المنقبة عن سرائرها، والمعبرة لضمائرها، والمعربة عن بواطنها، فترى الناظر لا يطرف، يتنقل بتنقل المحبوب، وينزوي بانزوائه، ويميل حيث مال.
ومن علاماته أنك ترى المحب يحب أهل محبوبه وقرابته وخاصته حتى يكونوا أحظى لديه من أهله ونفسه ومن جميع خاصته.
والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه. فمنهم غزير الدمع هامل الشؤون، تجيبه عينه، وتحضره عبرته إذا شاء. ومنهم جَمود العين، عديم الدمع، وأنا منهم.
ومن علاماته أنك تجد المحب يستدعي سماع اسم من يحب، ويستلذ الكلام في أخباره، ويجعلها هجيراه، ولا يرتاح لشيء ارتياحه لها، ولا ينهنهه عن ذلك تخوف أن يفطن السامع، ويفهم الحاضر، وحبك الشيء يعمي ويصم. فلو أمكن ألا يكون حديث في مكان يكون فيه إلا ذكر من يحبه لما تعداه.
وحول علامات الحب يروي ابن حزم حكاية طريفة قال: "ولقد كنت يومًا بالمرية، قاعدًا في دكان إسماعيل بن يونس الطبيب الإسرائيلي، وكان بصيرًا بالفراسة محسنًا لها، وكنا في لَمة، فقال له مجاهد بن الحصين القيسي: ما تقول في هذا؟ وأشار إلى رجل منتبذ عنا ناحية، اسمه حاتم، ويكنى أبا البقاء، فنظر إليه ساعة يسيرة ثم قال: هو رجل عاشق. فقال له: صدقت، فمن أين قلت هذا؟ قال: لبهت مفرط ظاهر على وجهه فقط دون سائر حركاته، فعلمت أنه عاشق وليس بمريب"!
ومن عجيب ما يقع في الحب طاعة المحب لمحبوبه، وصرفه طباعه قسرًا إلى طباع من يحب. وترى المرء شرس الخلق، صعب الشكيمة، جموح القيادة، ماضي العزيمة، حمي الأنف، أبي الخسف، فما هو إلا أن يتنسم نسيم الحب، ويتورط غمره، ويعوم في بحره، فتعود الشراسة ليانًا، والصعوبة سهولة، والمضاء كلالة، والحمية استسلامًا.
وابن حزم يُطيل العجب من كل من يدعي أنه يحب من نظرة واحدة، "ولا أكاد أصدقه، ولا أجعل حبه إلا ضربًا من الشهوة، وأما أن يكون في ظني متمكنًا من صميم الفؤاد، نافذًا في حجاب القلب، فما أقدر ذلك، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة الشخص لي دهرًا، وأخذي معه في كل جد وهزل.. وكذلك أنا في السلو والتوقي. فما نسيت ودًا لي قط، وإن حنيني إلى كل عهد تقدم لي ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء. وقد استراح من لم تكن هذه صفته.
ويتحدث عن الوصل حديثًا شيقًا: "ومن وجوه العشق الوصل، وهو خط رفيع، ومرتبة سرية، ودرجة عالية، وسعد طالع، بل هو الحياة المجددة، والعيش السَني، والسرور الدائم، ورحمة من الله عظيمة. ولولا أن الدنيا دار ممر ومحنة وكدر، والجنة دار جزاء وأمان من المكاره، لقلنا إن وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه، والفرح الذي لا شائبة فيه ولا حزن معه، وكمال الأماني ومنتهى الأراجي.. ولقد جربت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان، ولا للمال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة، ولا الأمن بعد الخوف، ولا التروح على المال، من الموقع في النفس، ما للوصل بعد طول الامتناع، وحلول الهجر، حتى يتأجج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتتضرم نار الرجاء.. وما أصناف النبات بعد غِبّ القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب الساريات، ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تأنق القصور البيض وقد أحدقت بها الرياض الخضر، بأحسن من وصل حبيب قد رضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه".
ومن حميد الغرائز، وكريم الشيم، وفاضل الأخلاق في الحب وغيره الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل، وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وهو يتفاضل بالتفاضل اللازم للمخلوقات.
وفي باب البين، أو الفراق، يكتب فقيه قرطبة: "وقد علمنا أنه لابد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء. وتلك عادة الله في العباد والبلاد، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. وما شيء من داوهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سالت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلاً. وسمع بعض الحكماء قائلاً يقول: الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الفراق!.
تلك كلمات لابن حزم لا ينقصها لتكون قد كتبت اليوم سوى بعض التحديث في العبارات لا أكثر، لأن المعاني فيها غضة نضرة تعبر عن القلب البشري في تباريحه وشجونه، وفي كل زمن من الأزمان.
ولا يكتفي ابن حزم بالتنظير أو بالتوصيف، وإنما ينقل أخبارًا شتى عن المحبين، ومنهم هو بالذات فيحدثنا عن عشقه لبعض الجواري اللواتي عملن في بيته أو بيت أهله، وكان والده من وجهاء قرطبة، ووزيرًا لحاكمها في وقت من الأوقات، ومن بين ما يرويه حكايته مع جارية نشأت في بيته توقف الباحثون الأسبان عندها مليًا ليستخرجوا منها ما شاؤوا من التأويلات حول نزوعه العذري في حبه، وهو نزوع زعموا أنه غريب عن الروح العربية الإسلامية وعن تراث الحب عند العرب. وقبل مناقشة وجهة نظر هؤلاء الباحثين نورد حكاية ابن حزم مع جاريته كما رواها في "طوق الحمامة" نظرًا لأهميتها:
إني ألفت في أيام صباي، ألفة المحبة، جارية نشأت في دارنا، وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاما، وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وطهارتها وخفرها ودماثتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، بديعة البشر، مُسبلة الستر، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، شديدة الحذر، نقية من العيوب، دائمة القطوب، حلوة الإعراض، مليحة الصدود، رزينة القعود، كثيرة الوقار، مستلذة النفار، موقوفة على الجد في أمرها، غير راغبة في اللهو.
على أنها كانت تحسن العود إحسانًا جيدًا، فجنحت إليها، وأحببتها حبًا مفرطًا شديدًا، فسعيت عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة، وأسمع من فيها لفظة ما غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، بأبلغ السعي فما وصلت من ذلك إلى شيء البتة!
فلعهدي بمصطنع كان في دارنا لبعض ما يصطنع له في دور الرؤساء، تجمعت فيه دخلتنا، ودخلة أخي رحمه الله، من النساء ونساء فتياننا ومن لاث بنا من خدمنا، ممن يخف موضعه، ويلطف محله، فلبثن صدرًا من النهار، ثم تنقلن إلى قصبة كانت في دارنا، مشرفة على بستان الدار، ويطلع منها على جميع قرطبة ووديانها وسهولها والجبال التي تحيط بها، مفتحة الأبواب، فصرن ينظرن من خلال الشراجيب وأنا بينهن، فإني لأذكر أني أقصد نحو الباب الذي هي فيه، أنسًا بقربها، متعرضًا للدنو منها، فما هو إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب، وتقصد غيره في لطف الحركة، فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزوال إلى غيره.
وكانت قد علمت كلفي بها، ولم يشعر سائر النسوان بما نحن فيه لأنهن كن عددًا كثيرًا. ثم نزلن إلى البستان، فرغب كرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها، فأمرتها، فأخذت العود وسوته بخفر وخجل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنه في عين مستحسنه. ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول:
إني طربت إلى شمس إذا غربت = كانت مغاربها جوف المقاصير
شمس ممثلة في خلق جارية = كأن أعطافها طي الطوامير
ليست من الإنس إلا في مناسبة = ولا من الجن إلا في التصاوير
فالوجه جوهرة والجسم عبهرة = والريح عنبرة والكل من نور
كأنها حين تخطو في مجاسدها = تخطو على البيض أو حد القوارير
فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم، ولا أنساه إلى يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلت إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها.
ويتابع ابن حزم وصفه الحزين الشجي لقصة حبه العذري هذا على النحو التالي:
ثم انتقل أبي رحمه الله من دورنا المحدثة بالجانب الشرقي من قرطبة، في ربض الزاهرة، إلى دورنا القديمة في الجانب الغربي من قرطبة ببلاط مغيث، في اليوم الثالث من قيام أمير المؤمنين محمد المهدي بالخلافة، وانتقلت أنا بانتقاله، ولم تنتقل هي لأمور أوجبت ذلك.
ثم شغلنا بعد ذلك إلى أن توفي أبي الوزير رحمه الله، واتصلت بنا تلك الحال بعده إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها قائمة في المأتم وسط النساء، في جملة البواكي والنوادب. فلقد أثارت وجدًا دفينًا وحركت ساكنًا، وذكرتني عهدًا قديمًا، وحبًا تليدًا، ودهرًا ماضيًا وشهورًا خوالي وأيامًا قد ذهبت وآثارًا قد دثرت، وجددت أحزاني، على أني كنت في ذلك النهار مرزأ مصابًا من وجوه، وما كنت نسيت، ولكن زاد الشجى، وتوقدت اللوعة، وتأكد الحزن، وتضاعف الأسف واستجلب لوجد ما كان منه كامنًا فلباه مجيبًا.
ثم ضرب الدهر ضربانه وأُجلينا عن منازلنا وتغلب علينا جند البربر فخرجت عن قرطبة وغابت عن بصري بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام وأكثر. ثم دخلت قرطبة في شوال سنة تسعة وأربعمائة فنزلت على بعض نسائنا فرأيتها هنالك، وما كدت أن أميزها حتى قيل لي هذه فلانة، وقد تغير أكثر محاسنها وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة وغاض الماء الذي كان يُرى كالسيف الصقيل، وذبل ذلك النوار الذي كان البصر يقصد نحوه متنورًا ويرتاد فيه متخيرًا وينصرف عنه متحيرًا، فلم يبق إلا البعض المنبئ عن الكل، والخبر المخبر عن الجميع، وذلك لقلة اهتبالها بنفسها، وعدمها الصيانة التي كانت غذيت بها أيام دولتنا، وامتداد ظلنا، ولتبذلها في الخروج فيما لابد لها منه، مما كانت تصان وترفع عنه قبل ذلك.
وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت، وبينة متى لم يهتبل بها استهدمت، ولذلك قال من قال: إن حسن الرجال أصدق صدقًا وأثبت أصلاً وأعتق جودة لصبره على ما لو لقي بعضه وجوه النساء لتغيرت أشد التغير مثل الهجير والسموم والرياح واختلاف الهواء، وإني لو نلت منها أقل وصل وأنست لي بعض الأنس، لخولطت طربًا، أو لمت فرحًا ولكن هذا النفار الذي صبرني وأسلاني.
توقف الباحثون الأسبان وسواهم من الباحثين الغربيين عند هذه الحكاية العاطفية الحزينة في طوق الحمامة ليستنتجوا أن هذه العذرية التي تنضح منها غريبة عن الروح العربية وعن العشق عند العرب. كان المستشرق دوزي المتخصص في الدراسات الأندلسية هو أول من اكتشف نسخة "طوق الحمامة" الوحيدة المحفوظة في مكتبة جامعة ليدن بهولندا، فعكف على قراءتها ونقل منها حكاية عشق ابن حزم للجارية على النحو الذي فصلناه آنفًا، في كتابه "تاريخ مسلمي أسبانيا" وعقب على الحكاية قائلاً:
"يُلاحظ دونما شك في القصة التي انتهينا من قراءتها، ملامح عاطفية رقيقة غير شائعة بين العرب الذين يفضلون بصفة عامة الجمال المثير والعيون الفاتنة والابتسامة الآسرة، والحب الذي كان يحلم به ابن حزم يختلط دون ريب بما هو حسي جذاب، وعندما يكون الحبيب المنشود اليوم غيره بالأمس يصبح الإحساس أقل قسوة. لكن فيه أيضًا ميل إلى ما هو أخلاقي، من رقة بالغة واحترام وحماسة، وما يأسره جمال رائق وديع، فياض بالكرامة الحلوة، لكن يجب ألا ننسى أن هذا الشاعر الأكثر عفة، وأكاد أقول الأكثر مسيحية بين الشعراء المسلمين، ليس عربيًا خالص النسب، إنما هو حفيد أسباني مسيحي لم يفقد كلية طريقة التفكير والشعور الذاتية لجنسه. هؤلاء الأسبان المتعربون يستطيعون أن يهجروا دينهم، وأن يستبدلوا المسيحية بالإسلام، وأن يلاحقوا بالسخرية إخوانهم القدامى في الدين والوطن، ولكن يبقى دائمًا في أعماق أرواحهم شيء صاف رهيف وروحي غير عربي".
هذا الكلام لدوزي ليس علميًا وإنما ينتمي إلى عالم الاستشراق القديم المعروف بتحيزه ضد العرب والمسلمين والحريص بصورة خاصة على سلب العرب خصائصهم، ولكن مستشرقًا أسبانيًا نزيهًا هو ميجيل اسين بالاثيوس ناقش بالتفصيل وجهة نظر دوزي وأوجزها أولاً في النقاط التالية:
- إن الإطار الذي رسمه ابن حزم لحبه في هذه الترجمة الذاتية يظهر لنا من نفسية البطل شعورًا أشد رقة وكمالاً من الحب الحسي غير المحتشم، ويمكن اعتبار ابن حزم في هذا الجانب مثلاً استثنائيًا نموذجيًا للحب الروحي والعفيف.
- إن النفسية التي تكابد هذا الحب ليست من خصائص الجنس العربي ولا الأدب الإسلامي وكلاهما في عواطفه الغرامية يستمد إلهامه غالبًا من الرغبات الجنسية.
- إن حب ابن حزم الرومانسي، وبالتالي كل جبلته العاطفية، لا يمكن تفسيرها إلا في ضوء أنها وراثة نفسية وارتداد منه لخصائص جنسه المسيحي والأسباني.
في عدد قادم نعرض لرأي المستشرق الأسباني ميجيل أسين بلاثيوس في هذه النقاط التي وردت في تعليق دوزي على حكاية الحب العذري بين ابن حزم وجاريته، وعما إذا كانت العذرية كما يزعم دوزي غريبة عن الروح العربية والتراث العربي.
.
صورة مفقودة