القاضي التنوخي - الفرج بعد الشدة

الباب الثالث عشر
فيمن نالته شدة في هواه فكشفها الله عنه وملكه من يهواه

رأى القطع خيرا من فضيحة عاتق

حدثنا أبو بكر محمد بن بكر البسطامي، غلام ابن دريد وصهره، قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن دريد، قال: حدثنا أحمد بن عثمان العلى عن أبي خالد عن الهيثم بن عدي، قال: كان لعمرو بن دويرة السحيمي أخ قد كلف بابنة عم له كلفا شديدا، وكان أبوها يكره ذلك ويأباه.
فشكاه إلى خالد بن عبد الله القسري، أمير العراق، أنه يسيء جواره، فحبسه، ثم سئل خالد في أمر الفتى، فأطلقه، فبقي الفتى كلفا بابنة عمه، وهو ناء عنها مدة.
ثم زاد ما في نفسه، فحمله الحب على أن تسور الجدار عليها، وحصل معها.
فأحس به أبوها، فقبض عليه، وأتى به خالد بن عبد الله، وادعى عليه اللصوصية، وأتاه بجماعة شهدوا على أنهم وجدوه في بيته ليلا، قد دخل للتلصص.
فسأل خالد الفتى، فاعترف أنه دخل ليسرق، وما سرق شيئا، يدفع بذلك الفضيحة عن ابنة عمه، فأراد خالد أن يقطعه.
فرفع عمرو أخوه إلى خالد رقعة فيها:
أخالد قد والله أوطيت عشوة ... وما العاشق المظلوم فينا بسارق
أقر بما لم يأته غير أنه ... رأى القطع خيرا من فضيحة، عاتق
ومثل الذي في قلبه حل قلبها ... فمن لتجلو الهم عن قلب عاشق
ولولا الذي قد خفت من قطع كفه ... لألفيت في أمريهما غير ناطق
إذا مدت الغايات للسبق في العلى ... فأنت أبن عبد الله أول سابق
قال: فأرسل خالد مولى له يسأل عن الخبر، ويفحص جلية الأمر، فأتاه بصحيح ما قاله عمرو في شعره.
فأحضر أبا الجارية، وأمره بتزويجها من الفتى، فامتنع، وقال: ليس هو كفء لها.
فقال له خالد: والله، إنه لكفء لها، إذ بذل يده عنها، وإن لم تزوجه طائعا لأزوجنه وأنت كاره.
فزوجه العم، وساق خالد المهر من عنده، فكان يسمى العاشق، إلى أن مات.
وجدت في كتاب العمرين، لمحمد بن داود الجراح الكاتب، وهو رسالة كتب بها إلى أبي أحمد يحيى بن علي بن المنجم، فيمن يسمى من الشعراء: عمرا، فقال: عمرو بن دويرة البجلي، سحيمي، كوفي، أخبرني أحمد بن أبي علقمة، عن دعيل بن علي، وذكر أبو طالب بن سوادة، عن محمد بن الحسن الجعفري، عن الحسن بن يزيد القرشي، عن أبي بكر الوالبي، قال: كان لعمرو بن دويرة، أخ قد كلف بابنة عم له .. وذكر نحوه، إلا أنه أتى في الشعر بزيادة بيت، وهو بعد البيت الذي أوله: أقر بما لم يأته:
ومثل الذي في قلبه حل قلبها ... فكن أنت تجلو الهم عن قلب وامق
وأخبرنيه محمد بن الحسن بن المظفر، قال: أخبرني محمد بن الحسن القرشي، قال: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، عن الزبير بن بكار، فذكره مع البيت الزيادة.
من مكارم المقتدر
حدثني أبو العلاء صاعد بن ثابت بن إبراهيم بن علي بن خداهي النصراني الكاتب، الذي كان خليفة الوزراء، قال: حدثني أبو الحسين بن ميمون الأفطس، الذي كان وزير المتقي، ولما دخل أبو عبد الله البريدي بغداد، متقلدا الوزارة الثانية للمتقي، قبض عليه وأحدره للبصرة.
فلما وردها البريدي منهزما، أطلقه، وأحسن إليه، وأمرني بإنزاله بالقرب مني، وإيناسه بملازمتي، وأفتقاده بالدعوات، ففعلت، فكنا متلازمين لا نكاد نفترق.
ووجدته أحلى الناس حديثا، وأحسنهم أدبا، وأعمهم فضلا، ولم أر قط أشد تغزلا، ولا تهالكا في العشق منه.
فحدثني يوما، قال: عشقت مغنية في القيان عشقا شديدا، فراسلت مولاتها في بيعها، فاستامت فيها ثلاثة آلاف دينار.
وكنت أعرف من نفسي الملل، فخشيت أن أشتريها فأملها، فدافعت بذلك، ومضت أيام، وكانت هي تأتي إلى عندي، وكان يمضي لي معها أطيب عيش.
فانصرفت من عندي يوما، وكان المقتدر بالله أمر أن تشترى له مغنيات، وأنا لا أعلم، وكانت الجارية حسنة الوجه جيدة الغناء، فحملت إلى المقتدر في جملة جوار، فأمر بشرائهن كلهن، فاشتريت في جملتهن.
وأنفذت من غد أستدعيها من سيدتها، فأخبرت بالخبر، فقامت علي القيامة، ودخل إلى قلبي من الألم، والاحتراق، والقلق، أمر ما دخل مثله قط في قلبي، فضلا عن عشق.
وزاد الأمر علي، حتى انتهى بي إلى حد الوسواس، فامتنعت عن النظر في أمر داري، وتشاغلت بالبكاء، ولم يكن لي سبيل إلى العزاء.
وكنت أكتب - حينئذ - لأم المتقي لله، وهو حدث، فتأخرت عنهم أياما، وأخللت بأمرهما، وأنا متوفر تلك الأيام على الطواف في الصحاري، لا آكل، ولا أشرب، ولا أتشاغل بأكثر من البكاء والهيمان.
فأنكر المتقي وأمه تأخري، فاستدعاني المتقي، وخاطبني في شيء من أمره، فوجدني لا أعقل ولا أحصل ما يقوله، ولا أفهمه.
فسألني عن سبب اختلالي، فصدقته، وبكيت بين يديه، وسألته أن يسأل أباه بيع الجارية علي، أو هبتها لي.
فقال: ما أجسر على هذا.
قال: وزاد علي الأمر، وبطلت.
وبلغ أم المتقي الخبر، فراسلتها أسألها مثلما سألت أبنها، فرثت لي، وحملت نفسها على أن خاطبت السيدة أم المقتدر في أمري.
فقالت لها أم المقتدر: ما العجب من الرجل، فإن الذي في قلبه من العشق قد أعماه عن الرأي بل العجب منك، كيف وقع لك أنه يجوز أن يقول أحد للخليفة: إنزل عن جاريتك لرجل يعشقها.
فراسلتني أم المتقي بما جرى، فزاد ما بي من القلق.
وكنت لا ألقى أحدا من الرؤساء في الدولة، كالوزير، وحاشية الخليفة، إلا وأقصدهم، وأبكي بين أيديهم، وأحدثهم حديثي، وأسألهم مسألة الخليفة في تسليم الجارية إلي، إما ببيع، أو هبة.
فمنهم من ينكر علي ويوبخني، ومنهم من يرثي لي ويعذرني، ومنهم من يشير علي بالإمساك، ومنهم من يقول: إذا علم الخليفة هذا، وأنك تتعرض لحرمه، كان في هذا إتلاف نفسك، وأنا ملازم أبوابهم، وتركت خدمة صاحبي.
إلى أن طال علي الأمر وعلى المتقي وأمه، لعدم ملازمتي الباب ووضعت من محلي، وبطل أمر داري وضيعتي، وأمور صاحبي.
إلى أن طال هذا على المتقي وأمه، فطلبا كاتبا يصرفاني به.
وبلغني الخبر، وقد كنت أيست من الجارية، فعذلت نفسي، وقلت: ليس بعد هذا الصرف إلا الفقر والنكبة، وذهاب الخير والنفس، ولو كنت اشتريت هذه الجارية، لكنت الآن قد مللتها، فلم أفقر نفسي، ولم أقطع تصرفي ؟ وأقبلت أعظ نفسي، وأسليها ليلتي كلها، إلى أن طاوعتني على الصبر.
وباكرت دار المتقي، وبدأت في النظر في أموره، ورأوا مني خلاف ما تقدم، فسروا بذلك، وقالوا: أنت أحب إلينا من الغريب نستأنفه، فضمنت لهم الملازمة وتمشية الأمور.
فأقمت على ذلك مدة، ثم اشتقت إلى الشرب، وقد كنت فقدته وهجرته منذ فقدت الجارية إلى ذلك اليوم.
فقلت للغلام: قم، أمض، وأصلح لنا مجلسا للشرب، وأدع أصحابنا أعني أصدقائي الذين يعاشرونني، للرواح إلي، ولا تدع غناء، فلما انقضى شغلي عدت إلى داري، واجتمع أصدقائي، فصوبوا رأيي، وجلسنا نشرب، ونتحدث، ونلعب بالشطرنج.
فقالوا: لو دعوت لنا مغنيا.
فقلت: أخاف أن أذكر به أمري مع الجارية.
فجلسوا عندي إلى أن صليت العشاء الآخرة، وانصرفوا، وجلست وحدي أشرب القدح بعد القدح إلى أن مضت قطعة من الليل، وإذا أنا ببابي يدق دقا عنيفا.
فقال بوابي: من هذا ؟ قالوا: خدم من دار الخليفة أمير المؤمنين.
فقلمت، ولم أشك أن حديثي قد اتصل به فأنكره، وقال: مثل هذا لا يصلح أن يكون كاتبا لحرمة، ولا مدبرا أمر غلام حدث، وقد أمر بالقبض علي.
فقمت أمشي لأخرج من باب آخر كان لي، وأستتر، فإذا الخدم قد دخلوا، ومعهم بغلة عليها عمارية، وشموع، وإذا قد أنزلوا من العمارية جاريتين، إحداهما عشيقتي، فبهت.
فقال لي أحد الخدم، وهو كالرئيس عليهم: مولانا أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويقول: عرفت خبرك مع الجارية في هذه الساعة، فرحمتك، وقد وهبتها لك مع جميع مالها، وتركها الخادم ومضى.
ودخلت معها عدة أحمال عليها الأثقال من صنوف الثياب، والفرش، والآلات، والقماش، وعدة جوار، وتركوا ذلك عندي، وانصرفوا.
فأخذت بيد معشوقتي، وأدخلتها المجلس، فلما رأت الشراب والمجلس معبأ، قالت: سلوت عني، وشربت بعدي.
فحلفت لها أني ما شربت نبيذا منذ فارقتها إلا في هذا اليوم، وحدثتها حديثي بطوله.
وقلت لها: ما السبب في مجيئك ؟ وما جرى ؟ فقال: إعلم أن الخليفة لم يرني - منذ اعترضني وأمر بشرائي - إلا الليلة، وكان قد اتصل مزح السيدة معي، فأنها كانت استدعتني منذ مدة، وسألتني عن خبري معك، فأخبرتها.
ثم قالت: هل تحبينه ؟ فقلت: نعم، حبا شديدا.
فتعجبت من ذلك، وقالت: ثقلنا عليك وعلى محبوبك، ولكن يكون الخير إن شاء الله تعالى، ووعدتني الجميل التام، والوعد الحسن.
فلما كان هذه الليلة، قعد الخليفة يشرب مع الجواري والسيدة حاضرة، فاستدعيت، وغنيت.
فقال لي الخليفة: إن كنت تحسنين الصوت الفلاني، فغنيه، وكان صوتك علي، فغنيته، وتمثلت لي صورتك، وذكرت شربي معك، فلم أملك دموعي، حتى جرت.
فقال المقتدر: ما هذا ؟ فتحيرت، وجزعت، ونظرت إلى السيدة، فضحكت، وضحك الجواري.
فقال المقتدر: ما القصة ؟ فدافعته السيدة.
فقال: بحياتي أصدقيني.
فقالت: على أن لا تؤذي الجارية، ولا غيرها.
فقال: نعم، وحياتك.
فحدثته الحديث، فلما استوفاه، قال لي: يا جارية، الأمر هكذا ؟ إنما بكيت من عشق ابن ميمون؟ فسكت.
فقال: إن صدقتني وهبتك له.
فقلت: نعم.
فأقبل على أمه، فقال: ما هو بكثير إن وهبتها لخادم لنا.
فقالت: قد - والله - أردت أن أسألك هذا، ولكن إن تفضلت به ابتداء منك، كان أحسن.
فقال لبعض الخدم: خذ هذه الجارية، وجميع ما كان سلم إليها في حجرتها من جوار، وقماش، واحمله إلى دار ابن ميمون، كاتب ابني إبراهيم، وأقره سلامي، وعرفه أني قد وهبت ذلك كله له.
فلما قمت، تصايحوا: قد جاء فرجك، وبلغت مناك، فقمت إلى حجرتي، وجمعت ما ترى، وحملته إليك.
قال: فشكرت الله عز وجل على ذلك، وجلست معها، وما شيل ما في مجلسي، حتى اجتمعنا، وجلست معها فيه، وغنت.
وبكرت من غد نشيطا، مسرورا، أشكر السيدة، وأم المتقي، وأدعو لهما، وأقامت الجارية عندي، إلى أن ماتت.
فارق جاريته ثم أجتمع شملهما
حدثني عبيد الله بن محمد بن الحسن الصروي، قال: حدثني أبي، قال: كان ببغداد رجل من أولاد النعم، ورث من أبيه مالا جليلا، وكان يتعشق جارية، وأنفق عليها شيئا كثيرا، ثم اشتراها، وكانت تحبه ويحبها، فلم يزل ينفق ماله عليها إلى أن أفلس.
فقالت له الجارية: يا هذا، قد بقينا كما ترى، فلو طلبت معاشا نقتات منه.
قال: فلم يجد له صناعة غير الغناء، إذ كان الفتى من محبته للجارية، وإحضاره المغاني إليها، ليزيدوها في صنعتها، قد تعلم الضرب والغناء، وخرج صالحا في طبقة الغناء والحذق فيه.
فشاور بعض معارفه، فقال: ما أعرف لك معاشا أصلح من أن تغني للناس، وتحمل جاريتك إليهم فتأخذ على هذا الكثير، ويطيب عيشك.
فأنف من ذلك، وعاد إليها، فأخبرها بما أشير عليه به، وأعلمها أن الموت أشهى عنده من هذا، فصبرت معه على الشدة مدة.
ثم قالت: قد رأيت لك رأيا.
فقال: قولي.
قالت: تبيعني، فإنه يحصل لك من ثمني ما تعيش به عيشا صالحا، وتخلص من هذه الشدة، وأحصل أنا في نعمة، فإن مثلي لا يشتريها إلا ذو نعمة.
فحملها إلى سوق النخاسين، فكان أول من اعترضها فتى هاشمي من أهل البصرة، ظريف، قد ورد بغداد للعب والتمتع، فاشتراها بألف وخمسمائة دينار عينا.
قال الرجل: فحين لفظت بالبيع، وقبضت الثمن، ندمت، واندفعت في بكاء عظيم، وحصلت الجارية في أقبح من صورتي، وجهدت في الإقالة، فلم يكن إلى ذلك سبيل.
فأخذت الدنانير في الكيس، وأنا لا أدري إلى أين أذهب، لأن بيتي موحش منها، وورد علي من اللطم والبكاء ما هوسني.
فدخلت مسجدا، وجلست فيه أبكي، وأفكر فيما أعمل، فحملتني عيني، فتركت الكيس تحت رأسي كالمخدة، ونمت.
فما شعرت إلا بإنسان قد جذبه من تحت رأسي فانتبهت فزعا، فإذا بإنسان قد أخذ الكيس، ومر يعدو، فقمت لعدو وراءه، فإذا رجلي مشدودة بخيط في وتد مضروب في آخر المسجد، فإلى أن تخلصت من ذلك، غاب الرجل عن عيني.
فبكيت، ولطمت، ونالني أمر أشد من الأول، وقلت: قد فارقت من أحب، وبعته، لأستغني بثمنه عن الصدقة، فقد صرت الآن فقيرا، مفارقا لمن أحب.
فجئت إلى دجلة، ولففت وجهي برداء كان على راسي، ولم أكن أحسن أسبح، ورميت بنفسي في الماء لأغرق.
فظن الحاضرون أن ذلك لغلط وقع علي، فطرح قوم نفوسهم خلفي، فأخذوني، وسألوني عن أمري، فأخبرتهم، وبقيت منهم بين راحم ومستجهل.
إلى أن خلا بي شيخ منهم، فأخذ يعظني، ويقول: يا هذا، ذهب مالك، فكان ماذا حتى تتلف نفسك، أو ما علمت أن فاعل هذا في نار جهنم، ولست أول من افتقر بعد غنى، فلا تفعل وثق بالله تعالى.
ثم قال لي: أين منزلك ؟ فقلت: في الموضع الفلاني.
فقال: قم معي إليه، وما فارقني حتى حملني إلى منزلي، وما زال يؤنسني، ويعظني، إلى أن بان له السكون في، فشكرته.
وانصرف، فكدت أن أقتل نفسي لوحشة منزلي علي، ثم ذكرت النار والآخرة، فخرجت من بيتي هاربا، إلى بعض أصدقائي القدماء في حال سعادتي، فأخبرته خبري، فبكى رقة لي، وأعطاني خمسين درهما.
وقال: أقبل رأيي، وأخرج الساعة من بغداد، وأجعل هذه نفقة لك إلى حيث وجدت قلبك يساعدك إلى قصده، وأنت من أولاد الكتاب، وخطك جيد، وأدبك صالح، فأقصد بعض العمال، وأطرح نفسك عليه، فأقل ما في الأمر أن تصير محررا بين يديه، وتعيش معه، ولعل الله أن يصنع لك صنعا.
فعملت على هذا، وجئت إلى الكتبيين، وقد قوي في نفسي أن أقصد واسط، وكان لي فيها أقارب، فأجعلهم ذريعة لي إلى التصرف مع بعض عمالها.
فحين جئت إلى الكتبيين، إذا بزلال مقدم، وخزانة كبيرة، وقماش كثير ينقل إلى الزلال، وإلى الخزانة.
فسألت: من يحملني إلى واسط ؟ فقال أحد ملاحي الزلال: نحن نحملك بدرهمين إلى واسط، ولكن هذا الزلال لرجل هاشمي من أهل البصرة، ولا يمكنا من حملك معه على هذه الصورة، ولكن تلبس ثياب الملاحين، وتجلس معنا كأنك واحد منا.
فحين رأيت الزلال، وسمعت أنه لرجل هاشمي، من أهل البصرة، طمعت أن يكون مشتري جاريتي، فأتفرج بسماعها إلى واسط.
فدفعت الدرهمين إلى الملاح، وعدت فاشتريت لي جبة من جباب الملاحين فلبستها، وبعت تلك الثياب التي كانت علي، وأضفتها إلى ما معي من النفقة، واشتريت خبزا وإداما، وجلست في الزلال.
فما كان إلا ساعة حتى رأيت جاريتي بعينها، ومعها جاريتان تخدمانها، فحين رأيتها سهل علي ما كان بي، وما أنا عليه.
وقلت: أسمع غناءها، وأراها، من ها هنا إلى البصرة، واعتمدت على أن أجعل قصدي إلى البصرة، وطمعت في أن أداخل مولاها، فأصير أحد ندمائه.
وقلت: ولا تخليني هي من المواد، فإني واثق بها.
ولم يكن بأسرع من أن جاء الفتى الذي اشتراها راكبا، ومعه عدة ركبان، فنزلوا في الزلال وانحدروا.
فلما صاروا بكلواذى، أخرج الطعام، فأكل هو والجارية، وأكل الباقون على سطح الزلال، وأطعموا الملاحين.
ثم أقبل على الجارية، فقال لها: إلى كم هذه المدافعة عن الغناء، وهذا الحزن والبكاء، ما أنت أول من فارق مولاه، فعلمت ما عندها من أمري.
ثم ضربت ستارة في جانب الزلال، واستدعى الذين في سطحه، وجلس معهم خارج الستارة، فسألت عنهم، فإذا هم إخوته، وأخرجوا الصواني، ففرقوها عليهم، وأحضروا النبيذ.
وما زالوا يترفقون بالجارية، إلى أن استدعت العود، فأصلحته، وجست أوتاره، ثم اندفعت تغني، من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
بان الخليط بمن عرفت فأدلجوا ... عمدا لقتلك ثم لم يتحرجوا
وغدت كأن على ترائب نحرها ... جمر الغضا في ساجة يتأجج
قال: ثم غلبها البكاء، وقطعت الغناء، وتنغص على الفتية سرورهم.
ووقعت أنا مغشيا علي، فظن القوم أني قد صرعت، فأذن بعضهم في أذني، وصب علي الماء، فأفقت بعد ساعة.
وما زالوا يداورونها، ويرفقون بها، ويسألونها الغناء، إلى أن أصلحت العود، واندفعت تغني في الثقيل التاني:
فوقفت أنسب بالذين تحملوا ... وكأن قلبي بالشفار يقطع
فدخلت دارهم أسائل عنهم ... والدار خالية المنازل بلقع
ثم شهقت فكادت تتلف، وارتفع لها بكاء عظيم، وصعقت أنا، فتبرم بي الملاحون، وقالوا: كيف حملنا هذا المجنون معنا.
فقال بعضهم: إذا بلغتم بعض القرى فأخرجوه وأريحونا منه.
فجاءني أمر عظيم، أعظم من كل شيء دفعت إليه، ووضعت في نفسي التصبر، والحيلة في أن أعلمها بمكاني من الزلال، لتمنع من إخراجي.
وبلغنا إلى قرب المدائن، فقال صاحب الزلال: اصعدوا بنا إلى الشط، فطرحوا إلى الشط، وخرج الجماعة، وقد كان المساء قد قرب، وصعد أكثر الملاحين يتغوطون، فخلا الزلال، وكان الجواري فيمن صعد إلى مستراح ضرب لهن.
فمضيت سارقا نفسي حتى صرت خلف الستارة، فغيرت طريقة العود عما كانت عليه، إلى طريقة أخرى، ورجعت إلى موضعي من الزلال.
وفرغ القوم من حاجاتهم في الشط، ودافعوا والقمر منبسط.
فقالوا لها: بالله يا ستي غنينا شيئا، ولا تنغصي علينا عيشنا.
فأخذت العود فجسته، فشهقت شهقة كادت تتلف، وقالت: والله، قد أصلح هذا العود مولاي، على طريقة من الضرب كان بها معجبا، وكان يضربها معي، ووالله إنه معنا في الزلال.
فقال لها صاحبها: والله، لو كان معنا ما امتنعنا من عشرته، فلعله أن يخف بعض ما بك، فننتفع بغنائك.
فقالت: ما أدري ما تقولون، هو - والله - معنا.
فقال الرجل للملاحين: ويحكم، حملتم معنا إنسانا غريبا ؟ فقالوا: لا.
فأشفقت أن ينقطع السؤال، فصحت: نعم، هوذا أنا.
فقالت: كلام مولاي، والله، وجاء بي الغلمان إلى الرجل.
فلما رآني عرفني، وقال: ويحك، ما هذا الذي أصابك ؟ وما أداك إلى هذه الحال ؟ فصدقته عن أمري، وبكيت، وعلا نحيب الجارية من خلف الستارة، وبكا هو وإخوته بكاء شديدا، رقة لنا.
ثم قال: يا هذا، والله، ما وطئت هذه الجارية، ولا سمعت منها غناء قبل هذا اليوم، وأنا رجل موسع علي والحمد لله، وقدمت إلى بغداد لسماع الغناء، وطلب أرزاقي من الخليفة، وقد بلغت من الأمرين ما أردت.
فلما عولت على الرجوع إلى وطني، أحببت أن أستصحب معي مغنية من بغداد، فاشتريت هذه الجارية، لأضمها إلى عدة مغنيات عندي بالبصرة.
وإذ كنتما على هذه الحالة، فأنا - والله - أغتنم المكرمة والثواب فيكما، وأشهد الله تعالى على أني إذا صرت إلى البصرة أعتقها وأزوجك إياها، وأجري عليكما ما يكفيكما، على شريطة إن أجبتني إليها.
قلت: وما هي ؟ قال: أن تحضرها عندي متى أردنا الغناء، تغني بحضورك وتنصرف بانصرافك إلى دار أفرغها لكما، وقماش أعطيكما إياه.
قلت: يا سيدي، وكيف أمنع من هو المعطي، وأبخل على من يرد حياتي علي، بهذا المقدار، وأخذت أقبل يده، فمنعني.
ثم أدخل رأسه إلى الجارية، وقال: يرضيك هذا ؟ فأخذت تدعو له، وتشكره.
فاستدعى غلاما له، وقال له: خذ بيد هذا الرجل، وغير ثيابه، وبخره، وقدم له ما يأكله، وجئنا به، فأخذني الغلام، وفعل بي ذلك، وعدت، فتركت بين يدي صينية.
فاندفعت الجارية تغني بنشاط، واستدعت النبيذ، وشربت، وشربنا، وأخذت أقترح عليها الأصوات الجياد، فتضاعف سرور الرجل بها.
وما زلنا على ذلك أياما، حتى وصلنا نهر معقل، ونحن سكارى، فشد الزلال في الشط.
وأخذتني بولة الماء في الليل، فصعدت على ضفة نهر معقل لأبول، فحملني السكر على النوم.
ودفع الزلال وأنا لا أعلم، وأصبحوا فلم يجدوني، ودخلوا البصرة، ولم أنتبه أنا إلا بحمي الشمس، فجئت إلى الشط، فلم أر لهم عينا ولا أثرا.
وكنت قد أجللت الرجل أن أسأله بمن يعرف ؟ وأين داره من البصرة ؟ واحتشمت غلمانه أن أسألهم، فبقيت على شاطئ نهر معقل، كأول يوم بدأت بي المحنة، وكأن ما كنت فيه منام.
فاجتازت بي سمارية، فقعدت فيها، ودخلت إلى البصرة، وما كنت دخلتها قط، فنزلت خانا، وبقيت متحيرا، لا أدري ما أعمل، ولم يتوجه لي معاش.
إلى أن اجتاز بي إنسان أعرفه، فتبعته لأكشف له حالي، ثم أنفت من ذلك، ودخل الرجل إلى منزله، فعرفته، وجئت إلى بقال كان على باب الخان الذي نزلته، فأعطيته دانقا، وأخذت منه ورقة، وجلست أكتب رقعة إلى الرجل.
فاستحسن البقال خطي، ورأى رثاثة زيي، فسألني عن أمري، فأخبرته أني رجل ممتحن فقير، قد تعذر علي التصرف، وما بقي معي شيء، ولم أشرح له أكثر من هذا.
فقال لي: تعمل معي كل يوم بنصف درهم، وطعامك وكسوتك علي، وتضبط حساب دكاني ؟ فقلت: نعم.
فقال: اصعد.
فخرقت الرقعة، وصعدت، فجلست معه، أدبر أمره، وضبطت دخله وخرجه، وكان غلمانه يسرقونه، فأديت له الأمانة.
فلما كان بعد شهر، رأى الرجل دخله زائدا، وخرجه ناقصا، فحمدني.
وبقيت معه كذلك شهرا آخر، ثم جعل رزقي في كل يوم درهما.
ولم يزل حالي معه يقوى، إلى أن حال الحول، وقد بان له الصلاح في أمره، فدعاني إلى أن أتزوج بابنته، ويشاركني، ففعلت.
ودخلت بزوجتي، ولزمت الدكان، وحالي يقوى، إلا أنني في خلال ذلك، منكسر النفس، ميت النشاط، ظاهر الحزن.
وكان البقال ربما شرب فيجرني إلى مساعدته، فأمتنع، وأظهر له أن ذلك بسبب حزني على موتى لي.
واستمرت بي الحال على هذا سنتين وأكثر.
فلما كان في بعض الأيام، رأيت الناس يجتازون بفاكهة، ولحم، ونبيذ، اجتيازا متصلا، فسألت عن ذلك ؟ فقيل لي: اليوم الشعانين، يخرج فيه أهل الظرف واللعب، بالطعام والشراب، والقيان إلى الأبلة، فيرون النصارى، ويشربون، ويفرحون.
فدعتني نفسي إلى التفرج، وقلت: لعلي أصل إلى أصحابي، أو أقف لهم على خبر، فإن هذا من مظانهم.
فقلت لحمي: أريد أن أنظر إلى هذا المنظر.
فقال: شأنك وما تريد، فأصلح لي طعاما، وشرابا، وسلم إلي غلاما وسفينة.
فخرجت وركبت السفينة، وبدأت بالأكل، ثم قدمت آنية الشراب، وجلست أشرب حتى وصلت البلة، وأبصرت الناس وقد ابتدأوا ينصرفون.
فإذا بالزلال بعينه، في أوساط الناس، سائرا في نهر الأبلة، فتأملته، فإذا أصحابي على سطحه، ومعهم عدة مغنيات.
فحين رأيتهم لم أتمالك فرحا، فطرحت إليهم، فحين رأوني عرفوني، فكبروا، وأخذوني إليهم، وسلموا علي.
وقالوا: ويحك، أنت حي ؟ وعانقوني، وفرحوا بي، وسألوني عن قصتي، فأخبرتهم بها، من أولها إلى آخرها، على أتم شرح.
فقالوا: إنا لما فقدناك في الحال، وقع لنا أنك بالسكر وقعت في الماء فغرقت، ولم نشك في ذلك، فخرقت الجارية ثيابها، وكسرت العود، وجزت شعرها، وبكت، ولطمت، فما منعناها من شيء من هذا.
ووردنا البصرة، فقلنا لها: ما تحبين أن نعمل معك ؟ فقد كنا وعدنا مولاك وعدا، تمنعنا المروءة من استخدامك بعده في حال أو سماع.
فقالت: يا مولاي لا تمنعني من القوت اليسير، ولبس الثياب السواد، وأن أصنع قبرا في بيت من الدار، وأجلس عنده، وأتوب من الغناء، فمكناها من ذلك، فهي جالسة عنده إلى الآن.
وأخذوني معهم، فحين دخلت، ورأيتها بتلك الصورة، ورأتني، شهقت شهقة عظيمة، فما شككت في تلفها، وأعتنقتها، فما افترقنا ساعة طويلة.
ثم قال لي مولاها: خذها.
فقلت: بل تعتقها وتزوجني بها، كما وعدتني.
ففعل ذلك، ودفع لنا ثيابا كثيرة، وفرشا، وقماشا، وحمل إلي خمسمائة دينار.
وقال: هذا قدر ما أردت أن أجريه عليكم في كل شهر من أول شهر دخولي إلى البصرة، وقد اجتمع في طول هذه المدة، والجراية في كل شهر غير هذا، وشيء آخر لكسوتك، وكسوة الجارية، والشرط في المنادمة وسماع الجارية من وراء الستارة باق، وقد وهبت لك الدار الفلانية، وهذه مفاتيحها.
فأخذت المفاتيح، وأتيت إلى الدار، فوجدتها مفروشة بأنواع الفرش، وإذا بذلك الفرش والقماش الذي أعطيته فيها، والجارية.
فسررت بذلك سرورا عظيما، وجئت إلى البقال، فحدثته حديثي، وطلقت ابنته، ووفيتها صداقها.
وأقمت مع الجارية سنين، وصرت رب ضيعة ونعمة، وصار حالي إلى قريب مما كنت عليه أولا.
وأنا أعيش كذلك مع جاريتي، إلى الآن.

أمير البصرة يجمع بين متحابين

روى أبو روق الهزاني، عن الرياشي: أن بعض أهل النعم بالبصرة، اشترى جارية، وأحسن تأديبها وتعليمها، وأحبها حبا شديدا، وأنفق عليها حتى أملق، ومسهما الضر الشديد، والفقر المبيد.
فقال لها يوما: قد ترين ما صرنا إليه من الفقر، ووالله، لموتي وأنت معي، أهون علي مما أذكره لك، ويسوءني أن أراك على غير الحالة التي تسرني فيك، ونهاية الأمر بنا، أن تحل بأحدنا منيته، فيقتل الآخر نفسه عليه، فإن رأيت أن أبيعك لمن يحسن إليك، فيغسل عنك ما أنت فيه، وأتفرج أنا بما لعله يصير إلي من الشيء من ثمنك، ولعلك تحصلين عند من تتوصلين إلى نفعي معه.
فقالت: والله لموتي وأنا على تلك الحالة، أهون علي من انتقالي إلى غيرك، ولكن أفعل ما بدا لك.
وقالت له الجارية: إني لأرثي لك يا مولاي، مما أرى بك من سوء الحال، فلو بعتني فانتفعت بثمني، فلعل الله أن يصنع لك صنعا جميلا، وأقع أنا بحيث يحسن حالي، فيكون ذلك أصلح لكل واحد منا.
فخرج، وعرضها للبيع، فأشار عليه أحد أصدقائه، ممن له رأي، أن يحملها إلى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وكان أمير البصرة يومئذ، فأعجبته.
فقال لمولاها: كم شراؤها عليك ؟ قال: بألف دينار، وقد أنفقت عليها أكثر من مائة ألف درهم.
قال: أما ما أنفقت عليها، فغير محتسب لك، لأنك أنفقته في لذاتك، وأما ثمنها، فقد أمرنا لك بمائة ألف درهم، وعشرة سفاط ثياب، وعشرة رؤوس من الخيل، وعشرة من الرقيق، أرضيت؟ قلت: نعم، رضيت، فأمر بالمال فأحضر.
فلما قبض المولى الثمن، وأراد الانصراف، استعبر كل واحد منهما إلى صاحبه باكيا، وأنشأت الجارية تقول:
هنيئا لك المال الذي قد حويته ... ولم يبق في كفي إلا التفكر
أقول لنفسي وهي في كرباتها ... أقلي فقد بان الحبيب أو أكثري
إذا لم يكن للأمر عندي حيلة ... ولم تجدي شيئا سوى الصبر فاصبري
قال: فاشتد بكاء المولى، وعلا نحيبه، ثم أنشأ يقول:
فلولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
أروح بهم في الفؤاد مبرح ... أناجي به قلبا طويل التفكر
عليك سلام، لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
فقال له ابن معمر: قد شئت يا هذا، خذ جاريتك، بارك الله لك فيها وفيما صار إليك من المال، وانصرفا راشدين، فوالله، لا كنت سببا في فرقة محبين.
فأخذها وأخذ المال والخيل والرقيق والثياب، وأثرى وحسنت حاله.
وأخبرني الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، خليفة أبي رحمه الله على القضاء بها، قال: حدثنا أحمد بن سعيد، أن الزبير حدثهم، قال: حدثني ابن أبي بكر المؤملي، قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: كانت لفتى من العرب جارية جميلة، وكان بها معجبا، يجد بها وجدا شديدا، فلم يزل ينفق عليها حتى أملق واحتاج، وجعل يسأل إخوانه، فقالت الجارية ... وذكر بقية الخبر على قريب مما رواه الرياشي، والألحان في الشعر على ما رواه الزبير.
ووجدت هذا الخبر مذكورا بقريب من هذه الألفاظ، في كتاب أخبار المتيمين للمدائني، وقد زاد فيه، أن الجارية كانت قينة، ولم يذكر الشعر الأول.
من مكارم جعفر بن يحيى البرمكي
وحدثني أبو الفرج علي بن الحسين المعروف بالأصبهاني، إملاء من حفظه، قال: حدثني الحسين بن يحيى المرداسي، قال: حدثنا حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: حدثني أبي، قال: لما دخل الرشيد البصرة حاجا، كنت معه، فقال لي جعفر بن يحيى: يا أبا محمد، قد وصفت لي جارية مغنية حسناء محسنة، تباع، وذكر أن مولاها ممتنع من عرضها إلا في داره، وقد عزمت على أن أركب مستخفيا، فأعترضها، أفتساعدني ؟ فقلت: السمع والطاعة.
فلما كان في نصف النهار حضر النخاس، فأعلم بحضوره، فخرج جعفر بعمامة وطيلسان ونعل عربية، وأمرني فلبست مثل ذلك، وركبنا حمارين قد أسرجا بسروج التجار، وركب النخاس معنا، وطلبنا الطريق.
فلم يزل النخاس يسير بين أيدينا، حتى أتينا بابا شاهقا يدل على نعمة قديمة، فقرع النخاس الباب، وإذا بشاب حسن الوجه، عليه أثر ضر باد، وقميص غليظ خشن، ففتح لنا الباب، وقال لنا: انزلوا يا سادة، فدخلنا.
فأخرج لنا الرجل قطعة حصير خلق، ففرشها لنا، فجلسنا عليها.
فقال له النخاس: أخرج الجارية، فقد حضر المشتري.
فدخل البيت، وإذا الجارية قد خرجت في القميص الغليظ الذي كان على الفتى بعينه، وهي فيه - مع خشونته - كأنها في الحلي والحلل، لحسن وجهها، وفي يدها عود.
فأمرها جعفر بالغناء، فجلست، وضربت ضربا حسنا، واندفعت تغني:
إن يمس حبلك بعد طول تواصل ... خلقا ويصبح بيتكم مهجورا
فلقد أراني والجديد إلى بلى ... دهرا بوصلك راضيا مسرورا
جذلا بمالي عندكم لا أبتغي ... بدلا بوصلك خلة وعشيرا
كنت المنى وأعز من وطئ الحصى ... عندي وكنت بذاك منك جديرا
ثم غلبها البكاء حتى منعها من الغناء، وسمعنا من البيت نحيب الفتى، وقامت الجارية تتعثر في أذيالها، حتى دخلت البيت، وارتفعت لهما ضجة بالبكاء والشهيق، حتى ظننا أنهما قد ماتا، وهممنا بالانصراف.
فإذا بالفتى قد خرج وعليه ذلك القميص بعينه، فقال: أيها القوم، أعذروني فيما أفعله وأقوله.
فقال له جعفر: قل.
فقال: أشهد الله تعالى، وأشهدكم، أن هذه الجارية حرة لوجه الله تعالى، وأسألكم أن تزوجوني بها.
قال: فتحير جعفر أسفا على الجارية، ثم قال لها: أتحبين أن أزوجك. من مولاك ؟ قالت: نعم.
فقرر الصداق، وخطب، وزوجها به، ثم أقبل على الفتى، وقال له: ما حملك على هذا ؟ فقال: حديثي طويل، إن نشطت له حدثتك به.
فقال: لا أقل من أن نسمعه، فلعلنا أن نبسط عذرك.
فقال: أنا فلان ابن فلان، وكان أبي من وجوه أهل هذا البلد، ومياسيره، وهذا عارف بذلك، وأومأ إلى النخاس.
وأسلمني أبي إلى الكتاب، وكانت لأمي صبية قريب سني من سنها، وهي جاريتي هذه، وكانت معي في المكتب، تتعلم ما أتعلم، وتنصرف معي.
فبلغت، ثم بطلت من الكتاب، وتعلمت الغناء، فكنت لمحبتي لها أتعلمه معها، وتعلق قلبي بها، وأحببتها حبا شديدا.
وبلغت أنا أيضا، فخطبني وجوه أهل البصرة لبناتهن، فخيرني أبي، فأظهرت له الزهد في التزويج، ونشأت متوفرا على الأدب، متقلبا في نعم أبي، غير متعرض لما يتعرض له الأحداث، لتعلق قلبي بالصبية، ورغبة أهل البلد تزداد في، وعندهم أن عفتي لصلاح، وما كانت إلا لتعلق قلبي بالجارية، وأن شهوتي لا تتعداها لأحد.
وبلغ حذقها في الغناء إلى ما قد سمعتموه، فعزمت أمي على بيعها، وهي لا تعلم ما في نفسي منها، فأحسست بالموت، واضطررت إلى أن حدثت أمي عن الصورة، فحدثت أبي، فاجتمع رأيهما على أن وهبا لي الجارية، وجهزاها كما يجهز أهل البيوتات بناتهن، وجليت علي، وعمل لنا عرس حسن، ونعمت معها دهرا طويلا.
ثم مات أبي، وخلف لي مالا كثيرا، فلم أحسن أن أرب نعمته، وأسأت التدبير فيها، وأسرعت في الأكل والشرب والقيان، وأنا مع ذلك أجذر في اليوم الواحد بخمسين دينارا أو أكثر.
فأوجب ذلك أن تلفت النعمة، وأفضت الحال إلى نقض الدار وبيع ما فيها، حتى صرت إلى ما ترى، وأنا على هذا منذ سنين.
فلما كان في هذا الوقت، وبلغني دخول الخليفة، ووزيره، وأهل مملكته، البصرة، قلت لها: يا ستي، إعلمي أن شبابك قد بلي، وأن عمرك في الشقاء ينقضي، وبالله، إن نفسي تالفة من فراقك، ولكني أؤثر تلفها مع وصولك إلى نعمة ورفاهية، فدعيني أعرضك، لعل أن يشتريك بعض هؤلاء الأكابر، فتحصلي معه في رغد عيش، فإن مت بعدك فذاك الذي أوثر، ويكون كل واحد منا قد تخلص من الشقاء، وإن حكم الله تعالى علي بالبقاء، صبرت على قضائه.
فبكت من ذلك، وقلقت، ثم قالت: إفعل ما تحب.
فخرجت إلى هذا النخاس، فأطلعته على أمري، وقد كان يسمع غناءها أيام نعمتي، وعرف حالها وحالي، وأعلمته أني لا أعرضها إلا عندي، فإنها - والله - ما طرقت رجلها خارج باب الدار قط، وقصدت بذلك أن يراها المشتري، ولا تدخل بيوت الناس، ولا إلى السوق، وإنها لم يكن لها ما تلبسه إلا قميصي هذا، وهو مشترك بيننا، ألبسه أنا إذا خرجت لأبتاع القوت، وتتشح هي بأزارها، وإذا جئت إلى البيت، ألبستها إياه، وأتشح أنا بالأزار.
فلما حصل من يعترضها، وخرجت فغنتكم، لحقني من القلق والبكاء لفراقها أمر عظيم، فدخلت إلي، وقالت: يا هذا، ما أعجب أمرك، أنت مللتني، وأردت بيعي وفراقي، وتبكي هذا البكاء ؟ فقلت لها: يا هذه، إن فراق نفسي أسهل علي من فراقك، وإنما أردت أن تتخلصي من هذا الشقاء.
فقالت: والله، لو ملكت منك ما ملكت مني، ما بعتك أبدا، وأموت جوعا وعريا، فيكون الموت هو الذي يفرق بيننا.
فقلت: أتريدين أن تعلمي صدق قولي ؟ قالت: نعم.
قلت: هل لك أن أخرج الساعة إلى المشتري فأعتقك بين يديه وأتزوجك، ثم أصبر معك على ما نحن فيه إلى أن يأذن الله تعالى بفرج أو موت ؟ فقالت: إن كان قولك صادقا، فافعل ما بدا لك من هذا، فما أريد غيره.
فخرجت إليكم فكان مني ما قد علمتم، فاعذروني.
فقال جعفر الوزير: أنت معذور، ونهض، ونهضت معه، والنخاس معنا.
فلما قدم حماره ليركب، دنوت منه، وقلت: يا سبحان الله، مثلك في جودك، يرى مثل هذه المكرمة، فلا ينتهز الفرصة فيها ؟ والله، لقد تقطع قلبي عليهما.
فقال: ويحك، وقلبي - والله - كذلك، ولكن غيظي من فوت الجارية إياي يمنعني من التكرم عليه.
فقلت: وأين الرغبة في الثواب ؟ فقال: صدقت والله.
ثم التفت إلى النخاس فقال: كم كان الخادم سلم إليك عند ركوبنا، لتشتري به الجارية ؟ فقال: ثلاثة آلاف دينار.
فقال: أين هي ؟ فقال: مع غلامي.
فقال لي وللنخاس: خذاها وادفعاها إلى الفتى، وقولا له: يكتسي ويركب ويجيئني، لأحسن إليه وأستخدمه.
فرجعنا إلى الفتى، فإذا هو يبكي، فقلت له: قد عجل الله فرجك، إعلم أن الذي خرج من عندك هو الوزير جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، وقد أمر لك بهذا، وهو يقول لك كذا وكذا.
قال: فصعق، حتى قلت قد تلف، ثم أفاق، فأقبل يدعو لجعفر، ويشكرني.
وكنت قد ركبت فلحقت بالوزير، وأعلمته، فحمد الله عز وجل على ما وهبه له، وعاد إلى داره وأنا معه.
فلما كان وقت العشاء، جئنا إلى الرشيد، فأقبل يسأل جعفر خبره في يومه، وهو يخبره، إلى أن قص عليه حديث الفتى والجارية.
فقال له الرشيد: فما عملت معه ؟ فأخبره.
فاستصوب رأيه، وقال: وقع له برزق سلطاني في رسم أرباب النعم، في كل شهر كذا وكذا، واعمل به بعد ذلك ما شئت.
فلما كان من الغد، جاءنا الفتى راكبا بثياب حسنة، وهيأة جميلة، فإذا به من أحلى الناس كلاما، وأتمهم أدبا.
فحملته إلى جعفر، وأوصلته إلى مجلسه، فأمر بتسهيل وصوله إليه، وخلطه بحاشيته، ووقع له عن الخليفة بما رسم له، وعن نفسه بشيء آخر.
وشاع حديثه في البصرة، وفي أهل العسكر، فلم يبق فيهم متغزل، ولا متظرف، إلا أهدى له شيئا جليلا، فما خرجنا من البصرة إلا وهو رب نعمة صالحة.
ووجدت هذا الخبر، على خلاف هذا، ما ذكره أبو علي محمد بن الحسن ابن جمهور العمي البصري الكاتب، في كتاب السمار والندامى: أن الرشيد لما حج ومعه إبراهيم الموصلي، ... فأخبرنا بالخبر على قريب ما رويناه وذكرناه، وأن الجارية بدأت وغنت بصوت من صناعة إبراهيم، وهو:
نمت علي الزفرة الصاعدة ... وملني العائد والعائدة
يا رب كم فرجت من كربة ... عني فهذي المرة الواحدة
وأن الذي حضر لتقليب الجارية، الرشيد وجعفر بن يحيى متنكرين، ومعهما إبراهيم الموصلي والنخاس، وأنهم انصرفوا، وقطعوا الثمن بمائة ألف درهم، ثم عادوا والمال معهم، فأمروا بإعادة التقليب، فخرجت الجارية، فغنت بصوت، الغناء فيه لإبراهيم، وهو:
ومن عادة الدنيا بأن صروفها ... إذا سر منها جانب ساء جانب
وما أعرف الأيام إلا ذميمة ... ولا الدهر إلا وهو للثأر طالب
ثم ذكر بقية الحديث على قريب من هذا، وفي الخبر الأول زيادات، ليست في خبر ابن جمهور.
من مكارم يحيى بن خالد البرمكي
وبلغني خبر لجعفر بن يحيى، مع جارية، يقارب هذا الخبر، أخبرني به أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي، خليفة أبي رضي الله عنه، على القضاء بها، قال: أخبرني أحمد بن الصلت الحماني، قال: حدثنا مفلح وسنبر النخاسان، قالا: أرسل إلينا جعفر بن يحيى البرمكي، يطلب جارية قوالة، ذات أدب وظرف، على صفة ذكرها وحدها، فما زلنا نحرص على طلبها، ونتواصف من يعرف عنها مثل ذلك.
وإلى جانبنا شيخ من أهل الكوفة يسمع كلامنا، فأقبل علينا، وقال: عندي بغية الوزير، فانهضوا إن شئتم لتنظروا إليها.
قال: فنهضنا معه، حتى إذا وصلنا إلى داره، وجدناها ظاهرة الإختلال، ووجدنا فيها مسحا خلقا، وثلاث قصبات عليها مسرجة، فارتبنا بقوله لنا، لما ظهر من سوء حاله.
ثم أخرج إلينا جارية كأنها - والله - فلقة قمر، تتثنى كالقضيب، فاستقرأناها، فقرأت آيات من القرآن، حركت منا ما كان ساكنا، وأتبعتها بقصيدة مليحة، شوقتنا، وأطربتنا.
فقلنا لها: أصانعة ؟ وأشرنا إلى يدها.
فقالت: نعم، تعلمت العمل بالعود وأنا صغيرة.
فقلنا: فغنينا به.
فقالت: سبحان الله، هل يصلح أن أستجيب لذلك إلا لمولى مالك إن دعاني إليه أجبته.
قال: وراح الرسول إلى جعفر، فأخبره بما شاهده.
فلم يتمالك جعفر، لما سمع بصفة الجارية، حتى استنهض الرسول إلى مجلس الشيخ، وهو يتبعه، حتى عاينه، وسأله إخراجها إليه.
فلما رآها جعفر أعجب بها قبل أن يستنطقها، ثم إنه استنطقها، فأخذت بمجامع قلبه.
فقال لمولاها: قل ما شئت ؟ فقال الشيخ: لست أحدث أمرا حتى أستأذنها، ولولا الضر الذي نحن فيه لما عرضتها، لكن حالي كما يشاهده الوزير من فقر، وضر، ودين كثير قد فدحني، ومن أجله فارقت وطني، وعرضت على البيع ثمرة فؤادي.
فقال له جعفر: ما مقدارها في نفسك إن أردت بيعها ؟ فقال: ثلاثون ألف دينار.
فقال جعفر: فهل لك أن تأمرها بأن تغنينا ؟ فأقبل الشيخ عليها فاستدناها، وأمرها أن تغني، فأخذت العود، وأصلحته، ثم استعبرت، وغنت بصوت، الغناء من صنعة إبراهيم:
ومن عادة الأيام أن صروفها ... إذا سر منها جانب ساء جانب
وما أعرف الأيام إلا ذميمة ... ولا الدهر إلا وهو بالثأر طالب
قال: ثم أنها ألقت العود من يدها، وصرخت، وصرخ الشيخ، وجعلا ينتحبان.
ثم إن الشيخ أقبل على جعفر ومن معه، وقال: أشهدكم أني قد أعتقتها، وجعلت عتقها صداقها، والله، لا ملكها أحد أبدا.
فغضب جعفر، وأقبل من حضر على الشيخ يؤنبونه ويستجهلونه، ويقولون له: ضيعت هذا المال الجليل، وعجلت، وجهلت.
فقال الشيخ: النفس أولى أن يبقى عليها من المال، والرازق الله سبحانه وتعالى، وعاد جعفر إلى أبيه فأخبره بما كان من الرجل والجارية.
فقال له أبوه: فما صنعت بهما ؟ قال: تركتهما وانصرفت.
فقال له: ويحك، ما أنصفت يا ولدي، أو ما أنفت على نفسك أن تفرق بين متحابين مثلهما، مقترين، فقيرين، أو تنصرف عنهما، ولا تجبر حالهما ؟ أرضيت أن يكون الكوفي أسمح منك.
ودعا بغلام، فحمل معه إلى الشيخ ثلاثين ألف دينار على بغال.
فلما وصل المال إلى الشيخ قبله وأخذه، وحمد الله عز وجل، ودعا لجعفر ولوالده، وعاد بالمال والجارية إلى منزله بالكوفة، وهو فرح مسرور، وقد فرج الله عنه.
أين نوال ابن جعفر من نوال ابن معمر
ووجدت في بعض كتبي: أن عمر بن شبة، قال: حدثني أبو غسان، قال: أخبرني بعض أصحابنا، قال: إشترى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما جارية من مولدات أهل مكة، كان يتعشقها غلام من أهلها، وقدم في أمرها إلى المدينة، فنزل قريبا من منزل عبد الله بن جعفر، ثم جعل يلطف عبد الله بطرائف مكة، حتى عرفت الجارية أنه ورد.
وجعلت الجارية تراسله، فأدخلته ليلة في إصطبل دواب عبد الله بن جعفر، فعثر عليه السائس، فأعلم عبد الله بن جعفر، وأتاه به.
فقال له: مالك، قبحك الله، أبعد تحرمك بنا تصنع مثل هذا ؟ فقال له: إنك ابتعت الجارية، وكنت لها محبا، وكانت تجد بي مثل ذلك.
قال: فدعا بالجارية، وسألها، فجاءت بمثل قصة الفتى.
فقال له: خذها، فهي لك.
فلما كان بعد ذلك بقريب، عشق عبد السلام بن أبي سليمان، مولى مسلم، جارية لآل طلحة، يقال لها: رواح، ورجا أن يفعلوا به مثلما فعل ابن جعفر بالفتى المكي، فلم يفعل الطلحيون ذلك، فسأل في ثمنها، حتى اجتمع له، فاشتراها منهم.
فقال عبد السلام في ذلك:
وأين فلا تعدل نوال ابن جعفر ... وأين لعمري من نوال ابن معمر
يطير لدى الجنات هذا لفضله ... ويرفض هذا في الجحيم المسعر
ابن أبي حامد صاحب بيت المال يحسن إلى رجل من المتفقهة
وقد كان فيما يقارب عصرنا مثل هذا، وهو ما حدثني به أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ، قال: حدثني أبو أحمد محمد بن أحمد الجرجاني الفقيه، قال: كنا ندرس على أبي إسحاق المروزي الشافعي، وكان يدرس عليه معنا فتى من أهل خراسان، له والد هناك، وكان يوجه إليه في كل سنة، مع الحاج، قدر نفقة السنة.
فاشترى جارية، فوقعت في نفسه، وألفها، وألفته، وكانت معه سنين.
وكان رسمه أن يستدين في كل سنة، دينا، بقدر ما يعجز من نفقته، فإذا جاء ما أنفذه أبوه إليه، قضى دينه، وأنفق الباقي مدة ثم عاد إلى الاستدانة.
فلما كان سنة من السنين، جاء الحاج، وليس معهم نفقة من أبيه.
فسألهم عن سبب ذلك، فقالوا له: إن أباك أعتل علة عظيمة صعبة، واشتغل بنفسه، فلم يتمكن من إنفاذ شيء إليك.
قال: فقلق الفتى قلقا شديدا، وجعل غرماؤه يطالبونه كالعادة، في قضاء الدين وقت الموسم، فاضطر، وأخرج الجارية إلى النخاسين، فعرضها.
وكان الفتى ينزل بالقرب من منزلي، وكنا نصطحب إلى منزل الفقيه، ولا نكاد نتفارق.
فباع الجارية بألف درهم وكسر، وعزم على أن يفرق منها على غرمائه قدر مالهم، ويتمون بالباقي.
وكان قلقا، موجعا، متحيرا، عند رجوعنا من النخاسين.
فلما كان الليل إذا ببابي يدق، فقمت ففتحته، فإذا بالفتى.
فقلت: مالك ؟ فقال: قد امتنع علي النوم، وقد غلبتني وحشة الجارية، والشوق إليها.
ووجدته من القلق على أمر عظيم، حتى أنكرت عقله، فقلت: ما تشاء ؟ فقال: لا أدري، وقد سهل علي أن ترجع الجارية إلى ملكي، وأبكر غدا فأقر لغرمائي بمالهم، وأحبس في حبس القاضي، إلى أن يفرج الله تعالى عني، ويجيئني من خراسان ما أقضي به ديني في العام المقبل، وتكون الجارية في ملكي.
فقلت له: أنا أكفيك ذلك في غد إن شاء الله، وأعمل في رجوع الجارية إليك، إذا كنت قد وطنت نفسك على هذا.
قال: فبكرنا إلى السوق، فسألنا عمن اشترى الجارية.
فقالوا: أمرأة من دار أبي بكر بن أبي حامد، صاحب بيت المال.
فجئنا إلى مجلس الفقيه، فشرحت لأبي إسحاق المروزي بعض حديث الفتى، وسألته أن يكتب رقعة إلى أبي بكر بن أبي حامد، يسأله فيها فسخ البيع، والإقالة، وأخذ الثمن، ورد الجارية، فكتب رقعة مؤكدة في ذلك.
فقمت، وأخذت بيد الخراساني صديقي، وجئنا إلى أبي بكر بن أبي حامد، فإذا هو في مجلس حافل، فأمهلنا حتى خف، ثم دنوت أنا والفتى، فعرفني، وسألني عن أبي إسحاق المروزي، فقلت: هذه رقعته خاصة في حاجة له.
فلما قرأها، قال لي: أنت صاحب الجارية ؟ قلت: لا، ولكنه صديقي هذا، وأومأت إلى الخراساني، وقصصت عليه القصة، وسبب بيع الجارية.
فقال: والله، ما أعلم أني ابتعت جارية في هذه الأيام، ولا ابتيعت لي.
فقلت: إن امرأة جاءت وابتاعتها، وذكرت أنها من دارك.
قال: يجوز.
ثم قال: يا فلان، فجاءه خادم، فقال له: امض إلى دور الحرم، فاسأل عن جارية اشتريت أمس، فلم يزل يدخل ويخرج من دار إلى دار، حتى وقع عليها، فرجع إليه.
فقال له: أعثرت عليها ؟ فقال: نعم، فقال: أحضرها، فأحضرها.
فقال لها: من مولاك ؟ فأومأت إلى الخراساني.
فقال لها: أفتحبين أن أردك عليه ؟ فقالت: والله، ليس مثلك يا مولاي من يختار عليه، ولكن لمولاي علي حق التربية.
فقال: هي كيسة عاقلة، خذها.
قال: فأخرج الخراساني الكيس من كمه، وتركه بحضرته.
فقال للخادم: إمض إلى الحرم، وقل لهن: ما كنتن وعدتن به هذه الجارية من إحسان، فعجلنه الساعة.
قال: فجاء الخادم بأشياء لها قدر وقيمة، فدفعها إليها.
ثم قال للخراساني: خذ كيسك فاقض منه دينك، ووسع بباقيه على نفسك وعلى جاريتك، والزم العلم، فقد أجريت عليك في كل شهر قفيز دقيق، ودينارين، تستعين بها على أمرك.
قال: فوالله ما انقطعت عن الفتى، حتى مات أبو بكر بن أبي حامد.
ابن أبي حامد صاحب بيت المال يحسن إلى صيرفي
قال مؤلف هذا الكتاب: وجدت هذا الخبر مستفيضا ببغداد، وأخبرت به على جهات مختلفة، وهذا أبينها، وأصحها إسنادا، إلا أنني أذكر بعض الطرق الأخرى التي بلغتني: حدثني أحمد بن عبد الله، قال: حدثني شيخ من دار القطن ببغداد، قال: كان لأبي بكر بن أبي حامد مكرمة طريفة، وهي أن رجلا يعرف بعبد الواحد ابن فلان الصيرفي،



* القاضي التنوخي / الفرج بعد الشدة

.

http://blog.traoumad.fr/public/Peintres/Gauguin-Arearea-Joyeusetes-1892.jpg
.
 
أعلى