نقوس المهدي
كاتب
حمل غلاف لوماغازين ليتيرير (Le magazine Littéraire) كعنوان مثير لملف هذا الشهر، ما يمكن ترجمته حرفيا ب"جحيم الجنس". غير أن معنى ذلك لا يعود هكذا على القصد منه بصيغته الفرنسية التي أبدعها الموثقون من داخل الخزانات العامة والتي تصلها تلك الكتب غير المرغوب في تركها في متناول القراء لسبب أو لآخر. تلك الكتب تترك بالتالي في ما سميته بدوري "سراديب"، متغاضيا بذلك عن ترجمة الصيغة الفرنسية التي استعملت كذلك مثل جرد يحيل على ذلك النوع من الكتب في المكتبة الوطنية بباريس.
أعرف حقا أن هناك اختلافا بين إبداعية الكلمة الفرنسية تلك وما اقترحته، غير أن التقاءهما في عمق السر الذي تتوحدان فيه جعلني استقر على كون "سرداب" ليس أقل شأنا لو أطلقناه على ذلك الفضاء المصيري الذي يستقبل تلك الكتب التي تعتبر فضائحية.
لقد عرف على مر التاريخ أمر إحراق الكتب، وذلك في ظروف تاريخية مختلفة ولأسباب متباينة. لكن كلمة "جحيم" الفرنسية الموضوعة للدلالة على قَدَر بعض المحاولات الجريئة في عالم الفكر والفن والأدب لم تظهر، حسب إيمانويل بييرا، إلا في القرن السابع عشرة.
يبدأ جان لويس هيه مدير تحرير المجلة تقديمه بالحديث عن كون الجنس أصبح سلعة رائجة، ذلك أن كل رواية تريد الصعود إلى قبة الشهرة عليها أن تستنجد بالجنس وتوظفه. يقول أن الجنس قد صار موضوعا إلزاميا. وقد كان لزمن طويل ممنوعا وخصصت له المكتبة الوطنية، دائما حسب جان لويس، مستودعا خاصا سمته بشكل جميل "الجحيم".
لكن ماذا يمكننا أن نكتبه بعدُ عن الجنس بعدَ ساد، يتساءل جان لويس، ربما لا شيء بعدما أجاد الماركيز في كل مطارحاته. يقول إن كل هذا العالم الرائع من الكُتاب الذين تناولوا هذه الثيمة هو ما أردنا أن نكتشفه في ذلك "الجحيم"!
قبل المجازفة في منحى ذم كل تناول لموضوعة الجنس بدعاوى واهية مّا، أرى أنه يلزم توضيح الأسباب الكامنة خلف هذا النوع من الكتابة التي تسعى إلى استحضار، وبالكلمات، ممارسة جد طبيعية؛ هي الجنس. تتساءل مارزانو إن كان الحديث عن الجنس يعني (ويُعنى) فقط فهم (وبفهم) ما يدفع بأحدنا أن يمضي لملاقاة الآخر؟ فهي تحاول، من خلال طرحها لإشكاليات من ذلك القبيل، أن تفلسف الجنس. فهي تشير إلى موريس ميرلو بونتي إذ يقول في "فينومينولوجياه" بأنه من خلال الجنس والرغبة يصطدم كل فرد، في الآن نفسه، بتجربة التبعية وتجربة الاستقلالية. كلما احتاج وتعلق الكائن البشري بالآخرين إلا وسعى غير ذلك إلى التمكن من الآخر وتحويله إلى شيء.
تقول: "عندما "نشتهي" شخصا ما، فالذي نرغب فيه يتحول إلى "موضوع رغبة" (...) غير أن قولنا بأن الشخص المشتهى "موضوع رغبة" لا يعنى أن هذا الشخص مختزل أوتوماتيكيا إلى شيء. لأن كل موضوع رغبة (أو مفعول) فهو أيضا فاعل فيها".
فأهم استعمالية للجنس، حسب برنار فوكونيي، تمر عبر الكلمات وليس بغير ذلك. فلدى بيير غيوتا، كما يرى برنار، فأن نوظف الجنس روائيا، أو أن نقوله، هو بكل بساطة، إعمال تركيب بين مطلقين هما: الرغبة والكلمة. مثلما يسجل فيليب فوريست أن بين الأدب والرغبة توجد علاقة أساسية.
أما إذا عدنا إلى سرداب الكتب الممنوعة فلا مناص مرة أخرى من أن يعترضنا شخص مهم في هذا المضمار، ليس ممن منعت كتبهم وليس ينتمي إلى القرن الثامن عشرة ولكنه محامي فذ، أشرنا فيما مضى إلى صدور كتابه "كتاب الكتب الايروسية" في هذا المكان بعينه. إيمانويل بييرا مختص في الدفاع عن القضايا المتعلقة بالنشر؛ يرافع ضد الرقابة ويقف مدافعا عن الكتاب الذين تطالهم اليد إذ تُمنع وتدان كتبهم. يحب الرجل تلك الكتب الايروسية ويتوفر منها على الكثير؛ يعرف كذلك جيدا تاريخ السراديب التي هبطت إليها عناوين كثيرة في بلدان مختلفة على مر السنين.
يتحدث بييرا عن البيبليوغرافيا التي وضعها غيوم أبولينير منذ بداية العقد الأول من القرن العشرين لسرداب الخزانة الوطنية بباريس، مثلما يطلق على سرداب الفاتيكان صفة السري والغريب، مادام أحد لا يقدر أن يتسلل إليه. هناك أيضا مستودع خاص في مكتبة الأرسونال بباريس أُودعت فيه الوثائق المهمة التي نجت من هدم سجن الباستيل القريب منها آنذاك؛ وثائق مهمة توضح الكثير حول تاريخ الايروسية. وقد ضعت في غرفة كأنها زنزانة؛ خلف قضبان تليق بأفظع السجون!
هناك كذلك ما قد نطلق عليه "مكتبة لينين" التي أُنشأت في موسكو بعد وفاة لينين، وتحتوي على العديد من الكتابات السياسية المحظورة إضافة إلى جانب من الأدب الايروسي.
تحرق عبر التاريخ كل الكتب التي تحتوي ذكرا للواط، السحاق، الكوام (تعاطي الحيوان)، النيكروفيلية أو نكاح الأطفال. مثلما تخضع هذه الأصناف كلها، وحسب هوى المشرّع، لنزول إلى الجحيم الذي ينتظرها فيه لهبُ تغيبها في غيّابته. على أن هذا النوع من الكتابات تسهب فيها الأقلام أكثر وبحدة في ظروف قمعها ومطاردة كتابها. ما هو معروف على الدوام.
في حوار مع إيمانويل بييرا، أجراه ميشال دو لون، يثير فيه هذا الأخير قضية جان جاك بوفير الذي نشر أعمال الماركيز دو ساد؛ أشهر قضية "أدبية" في القرن العشرين. يشير بييرا على كون المحامي موريس غارسون قد أخذ على عاتقه آنذاك مسئولية الدفاع على الناشر، وذلك باستناده، سواء على الرسائل التي آزرته من طرف كوكتو، بولان، باطاي، بروتون، أو على تركيزه على البعد الزمني إذ مات دو ساد منذ زمن، إضافة إلى تركيزه على جمالية كتابات ساد وفرط البون الشاسع بين البورنوغرافية والأدب، كما أن الجميع قد قرأه إذ صار بالتالي كلاسيكيا أي أساسيا. أما جان بولان، في سجال دقيق مع رئيس الجلسة، فقد أجاب على سؤال هذا الأخير، ألم تكن كتابات دو ساد خطيرة؟ أجابه بالإيجاب، ذلك أنه عرف بنتا قادتها قراءتها لساد إلى الدير!
إضافة إلى مسح قليل لمظاهر الايروسية ومنعها في أمريكا وجنوبها وفي الهند والمشرق، تظل هذه السراديب، كما نقرأ في مواد المجلة، مشرعة على الدوام وفي كل مكان. غير أن شارل دونتزيغ الجميل دوما في حبه الكبير لجمال اللغة أشار بجدارة إلى أنه لو احتوت السراديب على عشرة الآف كتاب فإن الكتب الأخرى هي تربو على العشرة ملايين. فإن الأدب إذن عفيف بنسبة عالية.
يقول: لقد قرأنا جميعا تلك الكتب الممنوعة ولم تجعلنا نتخذ أذواقا لم تكن أذواقنا
.
Henry Herbert - La Thangue
أعرف حقا أن هناك اختلافا بين إبداعية الكلمة الفرنسية تلك وما اقترحته، غير أن التقاءهما في عمق السر الذي تتوحدان فيه جعلني استقر على كون "سرداب" ليس أقل شأنا لو أطلقناه على ذلك الفضاء المصيري الذي يستقبل تلك الكتب التي تعتبر فضائحية.
لقد عرف على مر التاريخ أمر إحراق الكتب، وذلك في ظروف تاريخية مختلفة ولأسباب متباينة. لكن كلمة "جحيم" الفرنسية الموضوعة للدلالة على قَدَر بعض المحاولات الجريئة في عالم الفكر والفن والأدب لم تظهر، حسب إيمانويل بييرا، إلا في القرن السابع عشرة.
يبدأ جان لويس هيه مدير تحرير المجلة تقديمه بالحديث عن كون الجنس أصبح سلعة رائجة، ذلك أن كل رواية تريد الصعود إلى قبة الشهرة عليها أن تستنجد بالجنس وتوظفه. يقول أن الجنس قد صار موضوعا إلزاميا. وقد كان لزمن طويل ممنوعا وخصصت له المكتبة الوطنية، دائما حسب جان لويس، مستودعا خاصا سمته بشكل جميل "الجحيم".
لكن ماذا يمكننا أن نكتبه بعدُ عن الجنس بعدَ ساد، يتساءل جان لويس، ربما لا شيء بعدما أجاد الماركيز في كل مطارحاته. يقول إن كل هذا العالم الرائع من الكُتاب الذين تناولوا هذه الثيمة هو ما أردنا أن نكتشفه في ذلك "الجحيم"!
قبل المجازفة في منحى ذم كل تناول لموضوعة الجنس بدعاوى واهية مّا، أرى أنه يلزم توضيح الأسباب الكامنة خلف هذا النوع من الكتابة التي تسعى إلى استحضار، وبالكلمات، ممارسة جد طبيعية؛ هي الجنس. تتساءل مارزانو إن كان الحديث عن الجنس يعني (ويُعنى) فقط فهم (وبفهم) ما يدفع بأحدنا أن يمضي لملاقاة الآخر؟ فهي تحاول، من خلال طرحها لإشكاليات من ذلك القبيل، أن تفلسف الجنس. فهي تشير إلى موريس ميرلو بونتي إذ يقول في "فينومينولوجياه" بأنه من خلال الجنس والرغبة يصطدم كل فرد، في الآن نفسه، بتجربة التبعية وتجربة الاستقلالية. كلما احتاج وتعلق الكائن البشري بالآخرين إلا وسعى غير ذلك إلى التمكن من الآخر وتحويله إلى شيء.
تقول: "عندما "نشتهي" شخصا ما، فالذي نرغب فيه يتحول إلى "موضوع رغبة" (...) غير أن قولنا بأن الشخص المشتهى "موضوع رغبة" لا يعنى أن هذا الشخص مختزل أوتوماتيكيا إلى شيء. لأن كل موضوع رغبة (أو مفعول) فهو أيضا فاعل فيها".
فأهم استعمالية للجنس، حسب برنار فوكونيي، تمر عبر الكلمات وليس بغير ذلك. فلدى بيير غيوتا، كما يرى برنار، فأن نوظف الجنس روائيا، أو أن نقوله، هو بكل بساطة، إعمال تركيب بين مطلقين هما: الرغبة والكلمة. مثلما يسجل فيليب فوريست أن بين الأدب والرغبة توجد علاقة أساسية.
أما إذا عدنا إلى سرداب الكتب الممنوعة فلا مناص مرة أخرى من أن يعترضنا شخص مهم في هذا المضمار، ليس ممن منعت كتبهم وليس ينتمي إلى القرن الثامن عشرة ولكنه محامي فذ، أشرنا فيما مضى إلى صدور كتابه "كتاب الكتب الايروسية" في هذا المكان بعينه. إيمانويل بييرا مختص في الدفاع عن القضايا المتعلقة بالنشر؛ يرافع ضد الرقابة ويقف مدافعا عن الكتاب الذين تطالهم اليد إذ تُمنع وتدان كتبهم. يحب الرجل تلك الكتب الايروسية ويتوفر منها على الكثير؛ يعرف كذلك جيدا تاريخ السراديب التي هبطت إليها عناوين كثيرة في بلدان مختلفة على مر السنين.
يتحدث بييرا عن البيبليوغرافيا التي وضعها غيوم أبولينير منذ بداية العقد الأول من القرن العشرين لسرداب الخزانة الوطنية بباريس، مثلما يطلق على سرداب الفاتيكان صفة السري والغريب، مادام أحد لا يقدر أن يتسلل إليه. هناك أيضا مستودع خاص في مكتبة الأرسونال بباريس أُودعت فيه الوثائق المهمة التي نجت من هدم سجن الباستيل القريب منها آنذاك؛ وثائق مهمة توضح الكثير حول تاريخ الايروسية. وقد ضعت في غرفة كأنها زنزانة؛ خلف قضبان تليق بأفظع السجون!
هناك كذلك ما قد نطلق عليه "مكتبة لينين" التي أُنشأت في موسكو بعد وفاة لينين، وتحتوي على العديد من الكتابات السياسية المحظورة إضافة إلى جانب من الأدب الايروسي.
تحرق عبر التاريخ كل الكتب التي تحتوي ذكرا للواط، السحاق، الكوام (تعاطي الحيوان)، النيكروفيلية أو نكاح الأطفال. مثلما تخضع هذه الأصناف كلها، وحسب هوى المشرّع، لنزول إلى الجحيم الذي ينتظرها فيه لهبُ تغيبها في غيّابته. على أن هذا النوع من الكتابات تسهب فيها الأقلام أكثر وبحدة في ظروف قمعها ومطاردة كتابها. ما هو معروف على الدوام.
في حوار مع إيمانويل بييرا، أجراه ميشال دو لون، يثير فيه هذا الأخير قضية جان جاك بوفير الذي نشر أعمال الماركيز دو ساد؛ أشهر قضية "أدبية" في القرن العشرين. يشير بييرا على كون المحامي موريس غارسون قد أخذ على عاتقه آنذاك مسئولية الدفاع على الناشر، وذلك باستناده، سواء على الرسائل التي آزرته من طرف كوكتو، بولان، باطاي، بروتون، أو على تركيزه على البعد الزمني إذ مات دو ساد منذ زمن، إضافة إلى تركيزه على جمالية كتابات ساد وفرط البون الشاسع بين البورنوغرافية والأدب، كما أن الجميع قد قرأه إذ صار بالتالي كلاسيكيا أي أساسيا. أما جان بولان، في سجال دقيق مع رئيس الجلسة، فقد أجاب على سؤال هذا الأخير، ألم تكن كتابات دو ساد خطيرة؟ أجابه بالإيجاب، ذلك أنه عرف بنتا قادتها قراءتها لساد إلى الدير!
إضافة إلى مسح قليل لمظاهر الايروسية ومنعها في أمريكا وجنوبها وفي الهند والمشرق، تظل هذه السراديب، كما نقرأ في مواد المجلة، مشرعة على الدوام وفي كل مكان. غير أن شارل دونتزيغ الجميل دوما في حبه الكبير لجمال اللغة أشار بجدارة إلى أنه لو احتوت السراديب على عشرة الآف كتاب فإن الكتب الأخرى هي تربو على العشرة ملايين. فإن الأدب إذن عفيف بنسبة عالية.
يقول: لقد قرأنا جميعا تلك الكتب الممنوعة ولم تجعلنا نتخذ أذواقا لم تكن أذواقنا
.
Henry Herbert - La Thangue
صورة مفقودة
التعديل الأخير بواسطة المشرف: