نقوس المهدي
كاتب
أتاحت لنا دار مينوي التي أعادت مؤخرا نشر كتابين لجورج باطاي فرصة إعادة قراءتهما. سوف نتحدث هذه المرة عن كتاب "الإيروسية" الذي نشر لأول مرة في نهاية خمسينيات القرن الماضي. سنقف على أن إهداءه لميشيل ليريس هو نوع من الاعتراف بفضل هذا الأخير، أو بالأحرى فضل علم الإثنولوجيا عليه، والذي يسعى، على طريقته، إلى الانتماء إلى رحابه.
لم يدّع باطاي السبق في هذا المضمار، كما أنه أشار إلى أن الموضوعات التي يتحدث عنها ليست مجهولة تماما، وإن ما يسعى إليه بخصوصها هو البحث عن تواؤم في الأفكار، بخصوص مناحي حياتية مختلفة منظورا إليها من زاوية الإيروسية.
سنصادف على طول الكتاب أسماء أعلام مثل ليريس، بلانشو، كايوا، الذين يشبههم باطاي، مقتفيا أثارهم في إخضاع الدرس الإثنولوجي إلى المنزع الذاتي في تناول الظواهر المدروسة، رغم عدم انتماء أي واحد من هؤلاء جميعهم إليه بشكل صارم. لأن باطاي يرى، وهو محق في ذلك، أن النفاذ إلى عمق موضوع مدروس لا يتم تماما إلا بإقحام التجربة الذاتية فيه، وتفحصه من خلالها.
قسّم باطاي كتابه إلى قسمين رئيسيين، خصص أولهما لتناول الإيروسية باعتبارها تجربة باطنية وذلك في علاقاتها المتشعبة مع التجارب الحياتية الأخرى كالموت مثلا. ذلك أن مجال الإيروسية هو ميدان العنف والخرق بامتياز. وينطوي القسم الثاني على دراسات متفرقة حول نفس الموضوع، جمعها باطاي وضمها إلى كتابه.
يرى جورج باطاي أن الإيروسية هي النشاط الجنسي للإنسان. ويكون النشاط الجنسي بالتالي إيروسيا متى لم يكن حيوانيا، إلا أن باطاي أكد بأن الانتقال الذي مكن الإنسان من الافتراق عن الحيوان ظلت تفاصيله مجهولة بالنسبة إلينا، فلم نعرف بالضبط متى حدث ذلك وكيف، نعرف فقط أن الإنسان عندما صنع الأدوات غادر بذلك العالم الحيواني بفضل العمل، والذي مكنه بالتأكيد من تحصيل قوت يومه، ومن توفير بعض الكماليات. لكن عالم العمل اتسم بالتعقل ضدا على العالم الذي كان يحيا فيه الإنسان قبل الانخراط في نشاطات الإنتاج، الشيء الذي جرّ معه سلسلة من المحظورات لابد من مراعاتها. من بين ما مسته الممنوعات نجد الحياة الجنسية. إذا كنا نعرف تقريبا، استنادا إلى الدراسات التي تناولت حقبة ما قبل التاريخ، الفترة التي اخترع فيها الإنسان الأدوات، وتمكنا من الإطلاع على الرسومات والتجسيدات التي تعود إلى ذلك الوقت، والتي تدل على كون الطابو المرتبط بالموت كان فارضا نفسه منذ تلك الفترة، فإن الطابو الجنسي لم يكن واردا التأكيد على قدمه، بالرغم من كونه لا يمكن إلا أن يظهر في ظل تلك الظروف التي بدأ الإنسان يتهيأ فيها للدخول إلى عالم منظم تقننه الضوابط والممنوعات التي كان لزاما أن تسيّج عالم العمل وتجنبه الفوضى التي تتأتى من العنف الذي يتجسد في الجنس، كما يتخذ الموت أكثر نتائجه بشاعة.
يرتبط الطابو إذن بما يثير الفزع ويغرينا في الآن نفسه، كان ذلك حالي الجنس والموت، من هنا استرعت انتباه الإنسان، الحركة الفوضوية المدمرة التي يحدثها الموت، ووعى، خلافا للحيوان، وليس دون ألم، بأنه سوف يموت.
دفعه إحساسه المبهم تجاه الموت بأن يلفه بكثير من المحاذير والطقوس. وكان تحريم القتل مظهرا خاصا من مظاهر تحريم العنف. إن الدفن الذي مارسه الإنسان النيودرتالي، إبان العصر الحجري، والذي لم يكن يتخذ بعد الوضعية المستقيمة في وقوفه، راجع في تبرير أولي إلى الحيلولة دون التهام الحيوان للأموات، غير أن السلوك الحذر تجاه الموت، والخوف من انتقال عدواها إلى الأحياء هو ما كان في العمق وراء تلك المراسيم كلها. ألم يشر فرويد نفسه إلى أن المحظور الذي يُضرب على الميت يحميه أيضا من الرغبة التي قد يستشعرها البعض في إرادة أكله؟
تأتت الممنوعات المتعلقة بالتناسل والتوالد من كون النشاط الجنسي يعتبر عنفا بالمقارنة مع العمل، كما ذكرنا من قبل، لأن بوسعه أن يربك المجرى العادي والسليم لهذا الأخير، لهذا يمكن أن نجزم بأن الحرية الجنسية قد وضعت لها حدود منذ القدم، هي المحرمات.
من هنا طُرح أيضا منع نكاح الأقرباء الذي سبق لكلود ليفي ستراوس أن درسه من منطلق توزيع النساء، وبالتالي تزويج النساء المتوفرات، وما يترتب عن ذلك من جهة القرابة والنشاط الاقتصادي لمن يقدمون على تبادل النساء.
ركز باطاي على الحمولة الرمزية التي يكتسبها التحريم، وأشار إلى أن الوجه الآخر للمنع هو بالتحديد خرقه، ذلك أن مجرد المنع لا يوقف نهائيا حركة المحظور، لأنه في حالات كثيرة، سواء تعلق الأمر بالجنس أم بالموت أي القتل، فإن استحداث الكفارة يمتص كتعويض الضرر الملحق بكسر حاجز المحرم، كما تسمح الطقوس الإباحية أثناء الاحتفالات بالممارسات الجنسية المحرمة خارج ذلك السياق المحدد، مثلما يصير القتل في إطار الحروب مباحا، أو على الأقل أثناء الأضحية.
حاول باطاي عبر تتبعه لمفاصل إيروسية كثيرة، من إيروسية الجسد، وإيروسية القلب مرورا بالإيروسية المقدسة إلى أن يلامس سر العنف الكامن في العملية الجنسية وما يحيط بها، خاصة في اعتباره بأن الإيروسية هي "دين ليس بدين" تماما.
تتضافر ممنوعات كثيرة، متعلقة بدمي الحيض والنفاس، بالغثيان، للتأكيد، مرة أخرى، على مركزية درء شر العنف الكامن في الجنس، في التمزق الذي ينطبق على الولادة، وفي التعفن الذي يعقب الموت.
لكن باطاي لم يكتف بذلك، بل طاف بموضوعات البغاء والبغاء المقدس، متجاوزا إلى التعالي الصوفي، في طلب السمو الإلهي، مقارنا ولع الصوفية وانتشائهم الرباني بالرعشة الجنسية، ذاكرا أمثلة القديسين الذين كاد يتماهى لديهم الأمران، ونموذج سانت تيريز دأفيلا بارز في هذا المضمار.
ليس لنا أن نورد، ولو مختصرا كل العناصر الكثيفة التي ذكرها باطاي، لأن أغلبها عسير على الاختزال. سنشير فقط إلى أنه أفرد مبحثا مهما لدراسة نكاح الأقرباء، انتهج فيه منهج الأنتربولوجيين، مع إضافة مسحته الشخصية لصرامة المقاربة العلمية. كما أفرد دراسة كاملة لانتقاد تقارير كينزي الشهيرة حول التجربة الجنسية للرجال والنساء، مشيرا إلى أن الجهد الهائل المبذول في إنجاز تلك الإحصائيات، التي بنيت عليها تلك التقارير، لا تشفع لها النتائج، لأنها هزيلة، وغير كافية في نظره.
أما ما كتبه عن الماركيز دو ساد، فلن نجد مرافعة أجمل وأقوى منها في سياق الدفاع عن الرجل. ألم ينسب إلى ساد فضيلة إسهامه في تشكيل المعرفة، التي ما فتئ الإنسان يبنيها عن ذاته، أو بالأحرى الوعي الذي يؤسسه رويدا حول أناه.
إن تعدد مضامين الكتاب، رغم كونها تصب جميعها في نفس المسعى تقريبا، يعلي في عين بصرنا الطريقة الذاتية في تناول باطاي لها، إضافة إلى ما للغته وأسلوبه من جمال، ثم أن اللوحات المزينة له لها دور التأكيد على الأفكار كأمثلة مرجّحة، وفرصة ترسيخها في الأذهان.
يبقى القول بأن الجمال هو الذي أحدث، من جهة، القطيعة التامة مع العالم الحيواني المنفر، ضدا، ولو في البدء على التدنيس الذي يساهم في عنف الفعل الجنسي، الذي يستدعي بالتالي كل صنوف التحريم: أورد باطاي نقلا عن كراسات ليوناردو دافينشي أن الجماع والأعضاء التناسلية التي تدخل في ممارسته، تصمها الدمامة، ولو لم تكن هناك وسامة الوجوه، وزينة المشاركين فيها، ثم الاندفاع الجامح، ستفقد الطبيعةُ النوع البشري!
.
لم يدّع باطاي السبق في هذا المضمار، كما أنه أشار إلى أن الموضوعات التي يتحدث عنها ليست مجهولة تماما، وإن ما يسعى إليه بخصوصها هو البحث عن تواؤم في الأفكار، بخصوص مناحي حياتية مختلفة منظورا إليها من زاوية الإيروسية.
سنصادف على طول الكتاب أسماء أعلام مثل ليريس، بلانشو، كايوا، الذين يشبههم باطاي، مقتفيا أثارهم في إخضاع الدرس الإثنولوجي إلى المنزع الذاتي في تناول الظواهر المدروسة، رغم عدم انتماء أي واحد من هؤلاء جميعهم إليه بشكل صارم. لأن باطاي يرى، وهو محق في ذلك، أن النفاذ إلى عمق موضوع مدروس لا يتم تماما إلا بإقحام التجربة الذاتية فيه، وتفحصه من خلالها.
قسّم باطاي كتابه إلى قسمين رئيسيين، خصص أولهما لتناول الإيروسية باعتبارها تجربة باطنية وذلك في علاقاتها المتشعبة مع التجارب الحياتية الأخرى كالموت مثلا. ذلك أن مجال الإيروسية هو ميدان العنف والخرق بامتياز. وينطوي القسم الثاني على دراسات متفرقة حول نفس الموضوع، جمعها باطاي وضمها إلى كتابه.
يرى جورج باطاي أن الإيروسية هي النشاط الجنسي للإنسان. ويكون النشاط الجنسي بالتالي إيروسيا متى لم يكن حيوانيا، إلا أن باطاي أكد بأن الانتقال الذي مكن الإنسان من الافتراق عن الحيوان ظلت تفاصيله مجهولة بالنسبة إلينا، فلم نعرف بالضبط متى حدث ذلك وكيف، نعرف فقط أن الإنسان عندما صنع الأدوات غادر بذلك العالم الحيواني بفضل العمل، والذي مكنه بالتأكيد من تحصيل قوت يومه، ومن توفير بعض الكماليات. لكن عالم العمل اتسم بالتعقل ضدا على العالم الذي كان يحيا فيه الإنسان قبل الانخراط في نشاطات الإنتاج، الشيء الذي جرّ معه سلسلة من المحظورات لابد من مراعاتها. من بين ما مسته الممنوعات نجد الحياة الجنسية. إذا كنا نعرف تقريبا، استنادا إلى الدراسات التي تناولت حقبة ما قبل التاريخ، الفترة التي اخترع فيها الإنسان الأدوات، وتمكنا من الإطلاع على الرسومات والتجسيدات التي تعود إلى ذلك الوقت، والتي تدل على كون الطابو المرتبط بالموت كان فارضا نفسه منذ تلك الفترة، فإن الطابو الجنسي لم يكن واردا التأكيد على قدمه، بالرغم من كونه لا يمكن إلا أن يظهر في ظل تلك الظروف التي بدأ الإنسان يتهيأ فيها للدخول إلى عالم منظم تقننه الضوابط والممنوعات التي كان لزاما أن تسيّج عالم العمل وتجنبه الفوضى التي تتأتى من العنف الذي يتجسد في الجنس، كما يتخذ الموت أكثر نتائجه بشاعة.
يرتبط الطابو إذن بما يثير الفزع ويغرينا في الآن نفسه، كان ذلك حالي الجنس والموت، من هنا استرعت انتباه الإنسان، الحركة الفوضوية المدمرة التي يحدثها الموت، ووعى، خلافا للحيوان، وليس دون ألم، بأنه سوف يموت.
دفعه إحساسه المبهم تجاه الموت بأن يلفه بكثير من المحاذير والطقوس. وكان تحريم القتل مظهرا خاصا من مظاهر تحريم العنف. إن الدفن الذي مارسه الإنسان النيودرتالي، إبان العصر الحجري، والذي لم يكن يتخذ بعد الوضعية المستقيمة في وقوفه، راجع في تبرير أولي إلى الحيلولة دون التهام الحيوان للأموات، غير أن السلوك الحذر تجاه الموت، والخوف من انتقال عدواها إلى الأحياء هو ما كان في العمق وراء تلك المراسيم كلها. ألم يشر فرويد نفسه إلى أن المحظور الذي يُضرب على الميت يحميه أيضا من الرغبة التي قد يستشعرها البعض في إرادة أكله؟
تأتت الممنوعات المتعلقة بالتناسل والتوالد من كون النشاط الجنسي يعتبر عنفا بالمقارنة مع العمل، كما ذكرنا من قبل، لأن بوسعه أن يربك المجرى العادي والسليم لهذا الأخير، لهذا يمكن أن نجزم بأن الحرية الجنسية قد وضعت لها حدود منذ القدم، هي المحرمات.
من هنا طُرح أيضا منع نكاح الأقرباء الذي سبق لكلود ليفي ستراوس أن درسه من منطلق توزيع النساء، وبالتالي تزويج النساء المتوفرات، وما يترتب عن ذلك من جهة القرابة والنشاط الاقتصادي لمن يقدمون على تبادل النساء.
ركز باطاي على الحمولة الرمزية التي يكتسبها التحريم، وأشار إلى أن الوجه الآخر للمنع هو بالتحديد خرقه، ذلك أن مجرد المنع لا يوقف نهائيا حركة المحظور، لأنه في حالات كثيرة، سواء تعلق الأمر بالجنس أم بالموت أي القتل، فإن استحداث الكفارة يمتص كتعويض الضرر الملحق بكسر حاجز المحرم، كما تسمح الطقوس الإباحية أثناء الاحتفالات بالممارسات الجنسية المحرمة خارج ذلك السياق المحدد، مثلما يصير القتل في إطار الحروب مباحا، أو على الأقل أثناء الأضحية.
حاول باطاي عبر تتبعه لمفاصل إيروسية كثيرة، من إيروسية الجسد، وإيروسية القلب مرورا بالإيروسية المقدسة إلى أن يلامس سر العنف الكامن في العملية الجنسية وما يحيط بها، خاصة في اعتباره بأن الإيروسية هي "دين ليس بدين" تماما.
تتضافر ممنوعات كثيرة، متعلقة بدمي الحيض والنفاس، بالغثيان، للتأكيد، مرة أخرى، على مركزية درء شر العنف الكامن في الجنس، في التمزق الذي ينطبق على الولادة، وفي التعفن الذي يعقب الموت.
لكن باطاي لم يكتف بذلك، بل طاف بموضوعات البغاء والبغاء المقدس، متجاوزا إلى التعالي الصوفي، في طلب السمو الإلهي، مقارنا ولع الصوفية وانتشائهم الرباني بالرعشة الجنسية، ذاكرا أمثلة القديسين الذين كاد يتماهى لديهم الأمران، ونموذج سانت تيريز دأفيلا بارز في هذا المضمار.
ليس لنا أن نورد، ولو مختصرا كل العناصر الكثيفة التي ذكرها باطاي، لأن أغلبها عسير على الاختزال. سنشير فقط إلى أنه أفرد مبحثا مهما لدراسة نكاح الأقرباء، انتهج فيه منهج الأنتربولوجيين، مع إضافة مسحته الشخصية لصرامة المقاربة العلمية. كما أفرد دراسة كاملة لانتقاد تقارير كينزي الشهيرة حول التجربة الجنسية للرجال والنساء، مشيرا إلى أن الجهد الهائل المبذول في إنجاز تلك الإحصائيات، التي بنيت عليها تلك التقارير، لا تشفع لها النتائج، لأنها هزيلة، وغير كافية في نظره.
أما ما كتبه عن الماركيز دو ساد، فلن نجد مرافعة أجمل وأقوى منها في سياق الدفاع عن الرجل. ألم ينسب إلى ساد فضيلة إسهامه في تشكيل المعرفة، التي ما فتئ الإنسان يبنيها عن ذاته، أو بالأحرى الوعي الذي يؤسسه رويدا حول أناه.
إن تعدد مضامين الكتاب، رغم كونها تصب جميعها في نفس المسعى تقريبا، يعلي في عين بصرنا الطريقة الذاتية في تناول باطاي لها، إضافة إلى ما للغته وأسلوبه من جمال، ثم أن اللوحات المزينة له لها دور التأكيد على الأفكار كأمثلة مرجّحة، وفرصة ترسيخها في الأذهان.
يبقى القول بأن الجمال هو الذي أحدث، من جهة، القطيعة التامة مع العالم الحيواني المنفر، ضدا، ولو في البدء على التدنيس الذي يساهم في عنف الفعل الجنسي، الذي يستدعي بالتالي كل صنوف التحريم: أورد باطاي نقلا عن كراسات ليوناردو دافينشي أن الجماع والأعضاء التناسلية التي تدخل في ممارسته، تصمها الدمامة، ولو لم تكن هناك وسامة الوجوه، وزينة المشاركين فيها، ثم الاندفاع الجامح، ستفقد الطبيعةُ النوع البشري!
.