نقوس المهدي
كاتب
الحرية الجنسية! كما تراها مجلة "الفلسفة" الفرنسية
كرس العدد السابع لمارس (آذار) من مجلة الفلسفة، التي يرأس تحريرها أليكساندر لاكروا، في الملف المخصص للجنس والأخلاق، مقاربة أخرى لهذا الموضوع الشائك، عبر أسئلة تضافر على طرحها عدد من الفلاسفة ورجال الاجتماع والقانون. فإذا كان الفيلسوف الألماني كانط من أشد المتهجمين على الجنس، على اعتبار أننا لدى ممارسته "نستهزئ كثيرا في السرير من الكرامة الإنسانية"، كما شدد لاكروا على ذلك في افتتاحية هذا العدد، فإن دو ساد، في نفس السياق، "ليس يشاركه قط نفس الرأي"، ذلك أنه يرى أن العقل والتصرف الأخلاقي ليس يتنافران. فكيف نرسم إذن الحدود الدقيقة للحرية الجنسية؟
يبدو أن الجنس قد زُجّ به في خضم الرهانات السياسية، الاقتصادية، القانونية والأخلاقية وليس بوسعه أن يركن تحديدا في ركن الحياة الخاصة للأشخاص، حسب سوزي بيرا، ذلك أن ثمة أمثلة كثيرة تشهد على ذلك، مثل ذلك الحكم بالمؤبد، بعد أخذ ورد، في ألمانيا على المثلي الذي قتل وأكل مرافقه بموافقة هذا الأخير على ذلك. ثم أيضا واقعة مركز الفنون التشكيلية المعاصرة بمدينة بوردو، الذي عرض تحت عنوان الفن المعاصر والطفولة أعمالا تم الطعن في براءتها ووصفها بالتالي بالمشبوهة على أساس تحريضها على العنف وبشكل بورنوغرافي ليس خليقا بها أن تكون في متناول الأحداث.
الأمر المثير للتأمل هو عدم إمكانية تحقيق أمرين لازمين ألا وهما الديمقراطية وتحقيق الحرية الأخلاقية. فقد شهدنا ثورات تدعو للتحرر الجنسي عبر النصف الثاني من القرن العشرين، حيث كانت المعايير القانونية محددة بخصوص الجنس حسب القيم الدينية، ذلك أنه إلى حدود سنة1975 كان الزنا (الخيانة الزوجية)، في فرنسا، يعتبر جنحة. الواقع إذن أن الضوابط الأخلاقية لما قبل لم تندثر بل غيرت فقط فضاءها. ذلك أن إسقاط الزنا والمثلية من المجال الجنائي رافقه تشديد هائل على تجريم الممارسات الجنسية. فالقانون جد صارم بخصوص أي انفلات صغير في هذا المضمار. فبأي تبرير عوضت به المعايير القانونية التي تستند على القيم الأخلاقية السالفة، لتحديد الضوابط الجنسية الجديدة؟
الذي حصل إذن هو تسييس الجنس. ذلك أن الذين يدافعون عن "دمقرطة" الجنس، أصبح همهم الشاغل في التحكم في الجنس، هو من صميم إرادة حماية بعض الفئات الخاصة من الناس. ذلك أنه لم يعد أحد يدين بعض الممارسات أو المظاهر الجنسية لأنها تسئ إلى نظام أخلاقي معين ولكن لأنها تمس استقامة أشخاص معينين.
حري إذن أن يطرح السؤال التالي: مالفرق بين فصلٍ من رفعِ السيقان إلى السماء (مضاجعة) وبين مباراة التنس؟ كثير من الفلاسفة الأمريكيين أمثال ألان غولدمان، مارثا نوسبوم، توماس مابس، يرون أن لا فرق بينهما، غير أن الأمر لا يخلو من بعض توضيحات وشروط يلزم التقيد بها وإن اعتبرنا الجنس، شيئا جد عادي، مثله مثل أية رياضة أخرى، حسب مقالة جان كاسييه بيلليه.
ألان غولدمان هذا يرسي أخلاقا أخرى، ماسماه الحل "الجواني"، للعلاقة الجنسية التي يدرسها معزولة عن كل الملابسات والإطارات، ذلك أنه يرى أن ثمة أمورا لازم الانتباه إليها خلال المضاجعة، أولها الوقوف على قبول الآخر ورضاه، ثانيهما التأكيد على لزوم التفكير في كون المتعة ليست أحادية كما يلزم بالتالي أن نحرص على لذة مشتركة.
أما مارثا نوسبوم وتوماس مابس فهما يقترحان حلا "برانيا" لكيف يمكن أن تكون عليه أخلاق الممارسة الجنسية، فإذا كان رأيهما ليس يذهب أكثر في وضع إكراهات مثل الحل الأول فلأنهما يجدان أن الممارسة الجنسية محكومة بسياقها العام، فإذا كانت العلاقة متشبعة بالحب والاحترام، يمكننا أن ننخرط في مرونة كبيرة في سلوكنا الجنسي، بطبيعة الحالة بشرط قبول الآخر. ويمكن حتى أن نعتبره مثل متاع متى تحقق الشرط الأول والأهم.
أما الرأي الثالث فيرى هو دون أن يحيد عن فحوى الرأي الأول، أنه ليس من السهل وضع معايير الكمال والسمو الأخلاقي بهذا الشأن. ليست ثمة مثلا أدلة تؤكد أن جماع الرجل والمرأة أفضل من المثلية. أو، السؤال الجميل الذي يطرحه بيلليه، ما الذي يسمح أن نصرح بأن نكاحا عابرا أحط من وجهة نظر أخلاقية من ممارسة جنسية في إطار علاقة قارة؟
أما الفيلسوف روين أوجيان فهو يثير إشكال الاستمناء، الذي شدد كانط مرة أخرى على كونه "جريمة أخلاقية" أفظع من الانتحار! لماذا، يستنكر أوجيان، كل هذا التهافت إذن؟
العادة السرية إذن قد خلّفتها الثورة الجنسية وأغفلتها، ألم تتحقق أمور إيجابية بالنسبة للمثلية، ثم بالنسبة لممارسة الجنس خارج إطار الزوجية وفي أمور أخرى؟ أما طريق الدفاع عن الاستمناء فما يزال طويلا، ألم تُفصل إحدى سكرتيرات بيل كلينتون في الصحة عن وظيفتها يوم نصحت بالاستمناء في إطار محاربة الأمراض الجنسية المعدية؟
"يلزم زمن طويل قبل أن يتم الاعتراف بأفكار ديوجين دو سينوب، الذي قيل عنه أنه أثنى مثلا على العادة السرية إذ لاحظ أنه ليث يمكننا أن نشبع الجوع بطريقة جد سهلة مثلها!"
أتوجد ثمة أخلاق تقنن مجال السينما البورنوغرافية؟ مادامت الشاشة العنكبوتية قد فاقت الممارسة الكلاسيكية السالفة. إذ ظهرت اليوم أفلام كثيرة خاصة في الممارسات التي تسمى "بالغونزو" الاغتصاب الجماعي والضرب مع جروح متفاوتة، خاصة مع ممثلات هاويات. لقد أصبح الإنسان مجرد صور. أوفيدي التي تحولت إلى مخرجة أفلام البورنوغراف بعدما اشتغلت فيها ممثلة من قبل، رأت أنه يمكن أن نشرع أخلاقا للمهنة، كأن يتم التشديد على وضع العازل الطبي ثم إجراء كل الفحوصات اللازمة والمتعلقة بعدم الإصابة بالأمراض الجنسية.
أسئلة أخرى ليست أقل أهمية، سواء بخصوص الاعتراف بالخيانات الجنسية، هل يلزم ذلك أم لا؟ ما عواقب البوح وما الذي يترتب عن الكتمان؟ وهل صدق كانط الذي ندد مرة أخرى بقوله: "لا يجب أن نكذب أبدا!"
هل يلزم خلاف ذلك ضرب الشريك بالسوط متى طلب منا ذلك (أثناء الجماع)؟ الإجابة بالنفي واضحة في هذا الصدد. ليس لنا ضرب الشريك حتى لو كان ذلك يمتعنا، يكتب الحقوقي دانيال بوريلو. القضاة الفرنسيون لم يشرعوا بعد في هذا المضمار، غير أن التشريع الوطني والقضاء الأوروبي يمكنها أن تفيد في هذا الشأن.
يمكن لوكيل الدولة أن يلتجئ إلى العدالة، دون أن يقدم أي من الشريكين أية شكاية، لكن ليس على أساس جنحة مازوشية، لأن ذلك غير مسطر في القانون الجنائي، ولكن بسبب العنف. البند 13ـ222 مثلا يقول ما مفاده أن الممارسات العنيفة التي توقع على شريك والتي لم تصدر عنها أية إعاقة عن العمل يحكم عنها بثلاث سنوات سجنا وخمس وأربعين ألف يورو غرامة.
الواقع إذن أن الحق ليس من يحكم في أمور الجنس بل الأخلاق السائدة. لقد أصبحت الحياة الجنسية إذن شأنا سياسيا كبيرا.
* عبدالله كرمون
.
Daniel Israel
كرس العدد السابع لمارس (آذار) من مجلة الفلسفة، التي يرأس تحريرها أليكساندر لاكروا، في الملف المخصص للجنس والأخلاق، مقاربة أخرى لهذا الموضوع الشائك، عبر أسئلة تضافر على طرحها عدد من الفلاسفة ورجال الاجتماع والقانون. فإذا كان الفيلسوف الألماني كانط من أشد المتهجمين على الجنس، على اعتبار أننا لدى ممارسته "نستهزئ كثيرا في السرير من الكرامة الإنسانية"، كما شدد لاكروا على ذلك في افتتاحية هذا العدد، فإن دو ساد، في نفس السياق، "ليس يشاركه قط نفس الرأي"، ذلك أنه يرى أن العقل والتصرف الأخلاقي ليس يتنافران. فكيف نرسم إذن الحدود الدقيقة للحرية الجنسية؟
يبدو أن الجنس قد زُجّ به في خضم الرهانات السياسية، الاقتصادية، القانونية والأخلاقية وليس بوسعه أن يركن تحديدا في ركن الحياة الخاصة للأشخاص، حسب سوزي بيرا، ذلك أن ثمة أمثلة كثيرة تشهد على ذلك، مثل ذلك الحكم بالمؤبد، بعد أخذ ورد، في ألمانيا على المثلي الذي قتل وأكل مرافقه بموافقة هذا الأخير على ذلك. ثم أيضا واقعة مركز الفنون التشكيلية المعاصرة بمدينة بوردو، الذي عرض تحت عنوان الفن المعاصر والطفولة أعمالا تم الطعن في براءتها ووصفها بالتالي بالمشبوهة على أساس تحريضها على العنف وبشكل بورنوغرافي ليس خليقا بها أن تكون في متناول الأحداث.
الأمر المثير للتأمل هو عدم إمكانية تحقيق أمرين لازمين ألا وهما الديمقراطية وتحقيق الحرية الأخلاقية. فقد شهدنا ثورات تدعو للتحرر الجنسي عبر النصف الثاني من القرن العشرين، حيث كانت المعايير القانونية محددة بخصوص الجنس حسب القيم الدينية، ذلك أنه إلى حدود سنة1975 كان الزنا (الخيانة الزوجية)، في فرنسا، يعتبر جنحة. الواقع إذن أن الضوابط الأخلاقية لما قبل لم تندثر بل غيرت فقط فضاءها. ذلك أن إسقاط الزنا والمثلية من المجال الجنائي رافقه تشديد هائل على تجريم الممارسات الجنسية. فالقانون جد صارم بخصوص أي انفلات صغير في هذا المضمار. فبأي تبرير عوضت به المعايير القانونية التي تستند على القيم الأخلاقية السالفة، لتحديد الضوابط الجنسية الجديدة؟
الذي حصل إذن هو تسييس الجنس. ذلك أن الذين يدافعون عن "دمقرطة" الجنس، أصبح همهم الشاغل في التحكم في الجنس، هو من صميم إرادة حماية بعض الفئات الخاصة من الناس. ذلك أنه لم يعد أحد يدين بعض الممارسات أو المظاهر الجنسية لأنها تسئ إلى نظام أخلاقي معين ولكن لأنها تمس استقامة أشخاص معينين.
حري إذن أن يطرح السؤال التالي: مالفرق بين فصلٍ من رفعِ السيقان إلى السماء (مضاجعة) وبين مباراة التنس؟ كثير من الفلاسفة الأمريكيين أمثال ألان غولدمان، مارثا نوسبوم، توماس مابس، يرون أن لا فرق بينهما، غير أن الأمر لا يخلو من بعض توضيحات وشروط يلزم التقيد بها وإن اعتبرنا الجنس، شيئا جد عادي، مثله مثل أية رياضة أخرى، حسب مقالة جان كاسييه بيلليه.
ألان غولدمان هذا يرسي أخلاقا أخرى، ماسماه الحل "الجواني"، للعلاقة الجنسية التي يدرسها معزولة عن كل الملابسات والإطارات، ذلك أنه يرى أن ثمة أمورا لازم الانتباه إليها خلال المضاجعة، أولها الوقوف على قبول الآخر ورضاه، ثانيهما التأكيد على لزوم التفكير في كون المتعة ليست أحادية كما يلزم بالتالي أن نحرص على لذة مشتركة.
أما مارثا نوسبوم وتوماس مابس فهما يقترحان حلا "برانيا" لكيف يمكن أن تكون عليه أخلاق الممارسة الجنسية، فإذا كان رأيهما ليس يذهب أكثر في وضع إكراهات مثل الحل الأول فلأنهما يجدان أن الممارسة الجنسية محكومة بسياقها العام، فإذا كانت العلاقة متشبعة بالحب والاحترام، يمكننا أن ننخرط في مرونة كبيرة في سلوكنا الجنسي، بطبيعة الحالة بشرط قبول الآخر. ويمكن حتى أن نعتبره مثل متاع متى تحقق الشرط الأول والأهم.
أما الرأي الثالث فيرى هو دون أن يحيد عن فحوى الرأي الأول، أنه ليس من السهل وضع معايير الكمال والسمو الأخلاقي بهذا الشأن. ليست ثمة مثلا أدلة تؤكد أن جماع الرجل والمرأة أفضل من المثلية. أو، السؤال الجميل الذي يطرحه بيلليه، ما الذي يسمح أن نصرح بأن نكاحا عابرا أحط من وجهة نظر أخلاقية من ممارسة جنسية في إطار علاقة قارة؟
أما الفيلسوف روين أوجيان فهو يثير إشكال الاستمناء، الذي شدد كانط مرة أخرى على كونه "جريمة أخلاقية" أفظع من الانتحار! لماذا، يستنكر أوجيان، كل هذا التهافت إذن؟
العادة السرية إذن قد خلّفتها الثورة الجنسية وأغفلتها، ألم تتحقق أمور إيجابية بالنسبة للمثلية، ثم بالنسبة لممارسة الجنس خارج إطار الزوجية وفي أمور أخرى؟ أما طريق الدفاع عن الاستمناء فما يزال طويلا، ألم تُفصل إحدى سكرتيرات بيل كلينتون في الصحة عن وظيفتها يوم نصحت بالاستمناء في إطار محاربة الأمراض الجنسية المعدية؟
"يلزم زمن طويل قبل أن يتم الاعتراف بأفكار ديوجين دو سينوب، الذي قيل عنه أنه أثنى مثلا على العادة السرية إذ لاحظ أنه ليث يمكننا أن نشبع الجوع بطريقة جد سهلة مثلها!"
أتوجد ثمة أخلاق تقنن مجال السينما البورنوغرافية؟ مادامت الشاشة العنكبوتية قد فاقت الممارسة الكلاسيكية السالفة. إذ ظهرت اليوم أفلام كثيرة خاصة في الممارسات التي تسمى "بالغونزو" الاغتصاب الجماعي والضرب مع جروح متفاوتة، خاصة مع ممثلات هاويات. لقد أصبح الإنسان مجرد صور. أوفيدي التي تحولت إلى مخرجة أفلام البورنوغراف بعدما اشتغلت فيها ممثلة من قبل، رأت أنه يمكن أن نشرع أخلاقا للمهنة، كأن يتم التشديد على وضع العازل الطبي ثم إجراء كل الفحوصات اللازمة والمتعلقة بعدم الإصابة بالأمراض الجنسية.
أسئلة أخرى ليست أقل أهمية، سواء بخصوص الاعتراف بالخيانات الجنسية، هل يلزم ذلك أم لا؟ ما عواقب البوح وما الذي يترتب عن الكتمان؟ وهل صدق كانط الذي ندد مرة أخرى بقوله: "لا يجب أن نكذب أبدا!"
هل يلزم خلاف ذلك ضرب الشريك بالسوط متى طلب منا ذلك (أثناء الجماع)؟ الإجابة بالنفي واضحة في هذا الصدد. ليس لنا ضرب الشريك حتى لو كان ذلك يمتعنا، يكتب الحقوقي دانيال بوريلو. القضاة الفرنسيون لم يشرعوا بعد في هذا المضمار، غير أن التشريع الوطني والقضاء الأوروبي يمكنها أن تفيد في هذا الشأن.
يمكن لوكيل الدولة أن يلتجئ إلى العدالة، دون أن يقدم أي من الشريكين أية شكاية، لكن ليس على أساس جنحة مازوشية، لأن ذلك غير مسطر في القانون الجنائي، ولكن بسبب العنف. البند 13ـ222 مثلا يقول ما مفاده أن الممارسات العنيفة التي توقع على شريك والتي لم تصدر عنها أية إعاقة عن العمل يحكم عنها بثلاث سنوات سجنا وخمس وأربعين ألف يورو غرامة.
الواقع إذن أن الحق ليس من يحكم في أمور الجنس بل الأخلاق السائدة. لقد أصبحت الحياة الجنسية إذن شأنا سياسيا كبيرا.
* عبدالله كرمون
.
Daniel Israel
صورة مفقودة