نقوس المهدي
كاتب
إنَّ تأصيل دلالات القُبلة لن يكون بلا المرور بالفَّم بأجزائه وربطه بالوجود الإنسانيّ على الأرض حيث لعب الفّم دورًا مهمًّا في الخطيئة. في وصف ديلمون، الجنَّة السَّومريَّة، يعرج الكاتب السَّومريُّ بشكل يدعو للغرابة على موضوع وجع الأسنان الَّذي لم يكن قد خُلق بعد. من السَّهل قبول موضوعة عدم الافتراس، وعدم الجوع في هذه الجنَّة، لكن وجع الأسنان يبدو غريبًا أو مقحمًا أو أنَّ محقِّق النَّص السَّومريّ أوحتْ له الكتابة على ألواح الطّين بهذه التَّرجمة. تتعدَّد الاحتمالات؛ لنقف قليلاً عند موضوعة وجع الأسنان أو التَّسوس.
التَّسوس أو السُّوس كثيرًا ما نستخدمه للتَّعبير عن وجع ملحّ أو أمر لا يغادر الذّهن وكأنّه إدمان أيّ وساوس تجيء وتروح في ذهن الشّخص، وقدَّمت المدوَّنة الدّينيَّة وصفًا تأتى للشَّيطان من وسوسته لآدم وحواء ودفعهما للخطيئة وسُمّي الوسواس الخنَّاس والخنَّس لغة تعني النَّجم السَّاقط أو الَّذي على وشك المغيب والشَّيطان هو لوسفير/ الملاك السَّاقط/ الساتان، وإلى ما ذلك من أوصاف تؤكّد أنَّه الوسواس الخنَّاس الَّذي يُلقي بوساوسه في صدور النَّاس وقبلهما آدم وحواء.
الصَّدر هو آلة فيزيولوجيَّة مسؤولة عن النُّطق وإخراج الكلام عبر الحبال الصَّوتيَّة والفَّم عبر دفع الهواء والصَّوت لا ينتقل إلّا ضمن وسائط أفضلها الهواء الَّذي ينقل الصَّوت للأذن.
والشَّيطان بذاته كائن غير مرئيّ بحكم أنّه من الجّان وبالتَّالي لا نستطيع أن نعتبر وسوسته مرئيَّة بقدر ما هي سمعيَّة لأنَّ الخطاب الإلهيَّ يأتي وحيًا أو من وراء حجاب، فالأمر الَّذي وُجّه لآدم وزوجته على شكل: لا تقربا تلك الشَّجرة سوف يؤدّي إلى أن تكون وسوسة الشَّيطان من ذات الطَّريق لتمحي أثر الأمر الأوَّل وتصبح: اُقربا هذه الشَّجرة.
هنا علينا مقاربة العضو المسمَّى “الأذن”، والأذن هو ذاته يأخذ معنى الأمر وبصيغة أخرى للُّغة “العامّيَّة” يُلفظ: “أدن”، وكأنَّه فعل الأمر“اُدنُ” لكي تستمع للأمر، فالقرب هو الَّذي يؤكّد الإصغاء للأمر، فالأذن تحمل عدَّة معان من ضمنها أنَّها عضو السَّمع، وأنّها مكان الأمر وزمنه.
نعود للصَّدر وآلته الَّتي تقتضي دفع الكلام، فالمأمور يجيب الآمر بأن يقبل هذا الأمر، وإذا كان الأمر الإلهيُّ: لا تقربا هذه الشَّجرة، فيكون الجواب: نعم لن نقرب هذه الشَّجرة، وفي حالة الشَّيطان وأمره/ وساوسه يكون الجواب: نقرب هذه الشَّجرة، فالفَّم هو الوسيط الَّذي يُظهر حسن الاستجابة أو عكسها، وقد قيل يومًا: ليس الَّذي يدخل الفَّم هو الَّذي ينجس بل الَّذي يخرج منه.
وهنا نتنبَّه أنَّ المكان الأوَّل الَّذي تظهر فيه مفاعيل الوسوسة أيّ الفَّم كونه آلة النُّطق إذ به تمَّتْ الإجابة على وسوسة الشَّيطان، ونحن نعرف أنَّ السُّوس أو تسوس الأسنان يكون بالفَّم نتيجة للجراثيم أو من تخمُّر السُّكريات وإلى ما ذلك، لكن لماذا سُمّي سوس؟، ولماذا ذكرت المدوَّنة السَّومريَّة تسوس الأسنان ووجعها فيها مع أنّه ليس أشدَّ الأمراض!؟.
لا ريب أنَّ المدوَّنة السَّومريَّة كانت هي الأصل الَّذي يتكلَّم عن الخطيئة الأساسيَّة وهي قد ألمحتْ لذلك عبر الفَّم وتسوس أسنانه البيضاء، فالمخطئ كالشَّيطان والَّذي ذُكر أنَّه كان يشعُّ نورًا أي هو كائن أبيض، ولكن بعد فعلته تلك إسودَّ كما يسودُّ السّنُّ المصاب بالسُّوس، وهكذا كان وجع الأسنان الدَّليل على وقوع الوسوسة بعدما خلق أنكي الإنسان على صورته واسكنه ديلمون، فدلالة وجع الأسنان تقع للإنسان الَّذي خالف أمر إلهه بالاستماع لوسوسة الشَّيطان والشّفاه أداة القُبلة كانت كما سنرى لحظة بدء الخطيئة. وممَّا سبق علينا التَّوقُّف عند التراث التَّاريخيّ للإنسان الَّذي يذكر قبلتين مفصليتين، قُبلة يهوذا للسَّيد المسيح، وقُبلة السَّيد المسيح لأقدام التَّلاميذ. فإذا كانت اللُّغة تقدّم لنا في جذر القُبلة “قَبَلَ” تأخذنا لظرفيَّة زمانيَّة تدلّل لنا على مقولة الشَّيطان بأسبقيته لآدم، وبتلك القبلة سلّم يهوذا المسيح إلى جلاَّديه، وكأنَّ الشَّيطان يذكره بمن له الحقّ في هذه الأرض، فالشَّيطان كان يسكن الأرض قبل أدم عليه السّلام، وبنفس الوقت تدلّل قُبلة السَّيد المسيح لحواريه أنّه قد قبّل القدم الَّتي لم تمش في غير طريقه، ونجد شاعرًا يقول بعدما خجل وتزاور المحبوب من فعلة المحبّ بأن قبّل قدمه: فقلتُ ما جئت بدعًا /ولا تجاوزت حدًّا
رجلٌ سعت بك نحوي/ حقوقها لا تؤدى.
من هذين المفصلين نجد كم هي شجرة دلالات القُبلة كبيرة، ولكي نقف أكثر لنفرد مشتقَّات جذر“قبل”.
جذر قَبَلَ:
قَبَلَ جذر شجرة القُبلة والقُبلة من القبول والقبول يفترض التَّساوي، وخاصَّة عندما تكون على الشّفاه، فالقُبلة على الرَّأس أو الخدّ أو القدم أو الفخذ لها دلالات أخرى سلطويَّة - دينيَّة - اجتماعيَّة - تراتبيَّة والسَّبب في تخصيص قُبلة الشّفاه بالتَّساوي لأنَّ الطَّلب الَّذي يقدّمه الحبيب يحتاج قبولاً تامًّا من المحبوب، وهو بذاته طلب معاكس من المحبوب للتَّقبيل، فهكذا نجد أنَّ القُبلة كانت محوريَّة في نشيد الأنشاد المذكور في التَّوراة من حيث قبول الحبيبة وطلبها بذات الوقت القُبلة من الحبيب، وقد ركَّز الشُّعراء على أنَّ التَّداوي من فرط الحبّ يكون بالتَّقبيل، فالمحّب في القُبلة يتساوى مع المحبوب الَّذي يصبح بدوره محبًّا وإلّا لن نفهم مقولة أبي نواس “.. وداوني بالَّتي كانت هي الدَّاء”، وبيولوجيًّا نجد أنَّ بعض الأمراض يتمُّ مداواتها بنفس المرض عن طريق تضعيفه والتَّضعيف للمرض أيّ جعله في مساواة مع الجسد المريض، وبالتَّالي قدرة الجسد على مكافحته والشّفاء منه كالجدري مثلاً وتأتي قصَّة الأميرة النَّائمة/ الميّتة كتدليل على قدرة القُبلة الشَّفويَّة “من شفة” على نقل حالة التَّساوي، فالأمير الممتلئ صحَّة ينقل للأميرة النَّائمة/ الميّتة عبر قبلته الحياة، فالقبلة أخذ وعطاء بطريقة متساوية، وقد عبَّر إخوان الصَّفاء عن فوائد القُبلة سواء الشَّفويَّة أو غيرها بأنَّها قادرة عبر امتزاج الرّيق والأنفاس بين المتعانقين على نقل أواصر الإيمان والحبّ بينهما ومتابعة للأمثلة نجد في الأسطورة السَّومريَّة قصَّة “أنليل وسود” فبعد أنْ أعجب أنليل بالفتاة سود وحاورها يطلب من قبلة على الشّفاه علامة القبول، كذلك في قصّة إنانا وديموزي نجد القبلة تلعب ذات الدَّور.
القبيلة:
الأصل الطوطميُّ لكلّ إنسان وهي من جذر قَبَلَ والطوطميَّة تفرض الاتّحاد بها عبر الآكل وعليه نجد التَّعبير العاطفيَّ من قبل الأمّ لابنها “أريد أن آكلك” تعبيرًا كبيرًا عن عاطفتها الهائلة به أنّها الرَّغبة بالاتّحاد والاتّحاد يفترض التَّساوي فالأمُّ لا ترى ابنها أقلَّ منها شأنًا بل أكبر لدرجة تفديه بنفسها، فالقبيلة يجد فيها الفرد أصله والقُبلة تقوم بتقديم فروض الطَّاعة والولاء حسب مكان وقوعها وكأنَّ المقبِّل يثبت للمقبَّل انتماءه له وخضوعه، وقد أنتجت الحياة السّياسيَّة في المجتمعات طرق عديدة للقبلة بمفهومها السُّلطويّ وهي غنيَّة عن التَّعريف، ولكن لنذكر قصَّة النَّبيّ إبراهيم الَّذي تمنَّى أن ينكسر كتفه أو تسقط يده لو مدَّ يده بقبلة يرفعها للشَّمس وذلك خلال مسيرته التَّوحيديَّة لله الواحد الأحد.
الطَّلل:
الأثر الدَّارس، فما علاقته بالقُبلة، فعند غياب الحبيب وتمنُّعه عن المحّب، يلجأ المحّب للبحث عن أشياء الحبيب ونجده بكثرة لدى الشُّعراء العذريين، ومنهم قيس ليلى الَّذي طفق يقبّل جدران بيت ليلى بعد ذهابها:
أمرّ على الدّيار ديار ليلى/ أقبّل ذا الجدار وذا الجدار
وما حبُّ الدّيار شغفن قلبي/ ولكن حبّ من سكن الدّيار.
وعودة على موضوع الخطيئة نجد أنَّ مبتدأها كان بنحلة غطّت لترشف من ريق أمّنا حواء فرأها أبونا آدم، وقد افترت شفة حواء لكي تسمح للنّحلة بشرب الرّيق، فاستعذب أدم ذلك وقبَّل حواء ونجد في الطَّلليَّة “من طلل” الحنين للجنَّة كتقبيل الحجر الأسود الَّذي من الجنَّة، ونجد ذات الأمر في تقبيل حافر الحمار الَّذي حمل السَّيد المسيح حنينًا له وقد ذكر ديورانت ذلك. القُبلة تحمل في طياتها دالاً حاسمًا على حنين المقبِّل إلى مكان قد يتجاوز الَّذي وقع عليه التَّقبيل إلى زمن قبل الخطيئة حيث كان الإنسان ينعم بالسّلام والخير.
التَّحريم والتَّحليل:
كانت هناك شرعة أبطلها الإسلام وهي الخدن وهي أن تتَّخذ المرأة عشيقًا ولو كانت متزوجة وهذه العادة قد تُفهمنا اللّغط الَّذي دار حول الشُّعراء العذريين والخدن كما أخمن هو طريقة دينيَّة وليس هذا موضوع البحث، فالخدن كما نستشفُّه من بعض الأبيات الشّعريَّة التَّالية كان يسمح بالقبلة بين الزَّوجة والعشيق:
وللحبّ شطرٌ مطلق من عقاله/ وللبعل شطرٌ ما يزال منيع.
وللحبّ ما ضمّت عليه نقابها/ وللبعل ما ضمت عليه المآزرُ
فالقبلة كانت محلّلة، وهنا نفهم كيف أنَّ زوجي كلٌّ من ليلى وعفراء قد سكتا على تجاوزات الشّاعرين قيس وعروة.
ومع ذلك نال القُبلة الكثير من التَّحريم وخاصَّة قبل الزَّواج أمّا بعده فالأمر مفروغ منه وخاصَّة بعد حديث الرَّسول عن ضرورة أن تكون القُبلة توطئة للعلاقة العشقيَّة بين الزَّوجين ومع ذلك سمح بعض الفقهاء بجوازها واعتبروها من اللَّمم الَّتي تُغفر على أن لا تتجاوز حدَّها المعقول بين العاشقين، واشترطوا أن تكون لحالة طارئة خاصَّة بعض مرض المحّب كما قال ابن القيم ردًا على ابن تيميَّة بأنَّها درء مفسدة كبيرة كالمرض والموت بمفسدة صغيرة كالقُبلة.
القُبلة:
عودةً لمبتدأ المقال نجد أنَّ الفَّم أداة مولّدة للدَّلالات بشكلٍ كبير والشّفاه منها، فنجد السّنَّ وعلاقته بقاعدة العين بالعين والسّنّ بالسّنّ، ونجد الأنف والقبل على الأنف وخاصَّة أنّ هناك من يعتبر الشَّم كالتَّقبيل ونجده في العديد من عادات الشُّعوب كالاسكيمو وهنا أيضًا، للشَّم والزَّفير والنّفس دلالات جمّة نذكر أنَّ الرُّوح دخلت الإنسان عبر النَّفخ، وهو فعل فميٌّ من حيث الدَّلالة البشريَّة واللّسان أيضا بغنى عن التَّعريف والبصاق على اليد ثمَّ مسح العضو المريض إذ له فعل شفائيٌّ كما ذكر التراث مارسه الرَّسول محمَّد “ص”، والسَّيد المسيح عليه السّلام، فليس غريبًا أن تحمل القُبلة كلَّ تلك الدَّلالات وأكثر لدى الكائن البشريّ.
.
التَّسوس أو السُّوس كثيرًا ما نستخدمه للتَّعبير عن وجع ملحّ أو أمر لا يغادر الذّهن وكأنّه إدمان أيّ وساوس تجيء وتروح في ذهن الشّخص، وقدَّمت المدوَّنة الدّينيَّة وصفًا تأتى للشَّيطان من وسوسته لآدم وحواء ودفعهما للخطيئة وسُمّي الوسواس الخنَّاس والخنَّس لغة تعني النَّجم السَّاقط أو الَّذي على وشك المغيب والشَّيطان هو لوسفير/ الملاك السَّاقط/ الساتان، وإلى ما ذلك من أوصاف تؤكّد أنَّه الوسواس الخنَّاس الَّذي يُلقي بوساوسه في صدور النَّاس وقبلهما آدم وحواء.
الصَّدر هو آلة فيزيولوجيَّة مسؤولة عن النُّطق وإخراج الكلام عبر الحبال الصَّوتيَّة والفَّم عبر دفع الهواء والصَّوت لا ينتقل إلّا ضمن وسائط أفضلها الهواء الَّذي ينقل الصَّوت للأذن.
والشَّيطان بذاته كائن غير مرئيّ بحكم أنّه من الجّان وبالتَّالي لا نستطيع أن نعتبر وسوسته مرئيَّة بقدر ما هي سمعيَّة لأنَّ الخطاب الإلهيَّ يأتي وحيًا أو من وراء حجاب، فالأمر الَّذي وُجّه لآدم وزوجته على شكل: لا تقربا تلك الشَّجرة سوف يؤدّي إلى أن تكون وسوسة الشَّيطان من ذات الطَّريق لتمحي أثر الأمر الأوَّل وتصبح: اُقربا هذه الشَّجرة.
هنا علينا مقاربة العضو المسمَّى “الأذن”، والأذن هو ذاته يأخذ معنى الأمر وبصيغة أخرى للُّغة “العامّيَّة” يُلفظ: “أدن”، وكأنَّه فعل الأمر“اُدنُ” لكي تستمع للأمر، فالقرب هو الَّذي يؤكّد الإصغاء للأمر، فالأذن تحمل عدَّة معان من ضمنها أنَّها عضو السَّمع، وأنّها مكان الأمر وزمنه.
نعود للصَّدر وآلته الَّتي تقتضي دفع الكلام، فالمأمور يجيب الآمر بأن يقبل هذا الأمر، وإذا كان الأمر الإلهيُّ: لا تقربا هذه الشَّجرة، فيكون الجواب: نعم لن نقرب هذه الشَّجرة، وفي حالة الشَّيطان وأمره/ وساوسه يكون الجواب: نقرب هذه الشَّجرة، فالفَّم هو الوسيط الَّذي يُظهر حسن الاستجابة أو عكسها، وقد قيل يومًا: ليس الَّذي يدخل الفَّم هو الَّذي ينجس بل الَّذي يخرج منه.
وهنا نتنبَّه أنَّ المكان الأوَّل الَّذي تظهر فيه مفاعيل الوسوسة أيّ الفَّم كونه آلة النُّطق إذ به تمَّتْ الإجابة على وسوسة الشَّيطان، ونحن نعرف أنَّ السُّوس أو تسوس الأسنان يكون بالفَّم نتيجة للجراثيم أو من تخمُّر السُّكريات وإلى ما ذلك، لكن لماذا سُمّي سوس؟، ولماذا ذكرت المدوَّنة السَّومريَّة تسوس الأسنان ووجعها فيها مع أنّه ليس أشدَّ الأمراض!؟.
لا ريب أنَّ المدوَّنة السَّومريَّة كانت هي الأصل الَّذي يتكلَّم عن الخطيئة الأساسيَّة وهي قد ألمحتْ لذلك عبر الفَّم وتسوس أسنانه البيضاء، فالمخطئ كالشَّيطان والَّذي ذُكر أنَّه كان يشعُّ نورًا أي هو كائن أبيض، ولكن بعد فعلته تلك إسودَّ كما يسودُّ السّنُّ المصاب بالسُّوس، وهكذا كان وجع الأسنان الدَّليل على وقوع الوسوسة بعدما خلق أنكي الإنسان على صورته واسكنه ديلمون، فدلالة وجع الأسنان تقع للإنسان الَّذي خالف أمر إلهه بالاستماع لوسوسة الشَّيطان والشّفاه أداة القُبلة كانت كما سنرى لحظة بدء الخطيئة. وممَّا سبق علينا التَّوقُّف عند التراث التَّاريخيّ للإنسان الَّذي يذكر قبلتين مفصليتين، قُبلة يهوذا للسَّيد المسيح، وقُبلة السَّيد المسيح لأقدام التَّلاميذ. فإذا كانت اللُّغة تقدّم لنا في جذر القُبلة “قَبَلَ” تأخذنا لظرفيَّة زمانيَّة تدلّل لنا على مقولة الشَّيطان بأسبقيته لآدم، وبتلك القبلة سلّم يهوذا المسيح إلى جلاَّديه، وكأنَّ الشَّيطان يذكره بمن له الحقّ في هذه الأرض، فالشَّيطان كان يسكن الأرض قبل أدم عليه السّلام، وبنفس الوقت تدلّل قُبلة السَّيد المسيح لحواريه أنّه قد قبّل القدم الَّتي لم تمش في غير طريقه، ونجد شاعرًا يقول بعدما خجل وتزاور المحبوب من فعلة المحبّ بأن قبّل قدمه: فقلتُ ما جئت بدعًا /ولا تجاوزت حدًّا
رجلٌ سعت بك نحوي/ حقوقها لا تؤدى.
من هذين المفصلين نجد كم هي شجرة دلالات القُبلة كبيرة، ولكي نقف أكثر لنفرد مشتقَّات جذر“قبل”.
جذر قَبَلَ:
قَبَلَ جذر شجرة القُبلة والقُبلة من القبول والقبول يفترض التَّساوي، وخاصَّة عندما تكون على الشّفاه، فالقُبلة على الرَّأس أو الخدّ أو القدم أو الفخذ لها دلالات أخرى سلطويَّة - دينيَّة - اجتماعيَّة - تراتبيَّة والسَّبب في تخصيص قُبلة الشّفاه بالتَّساوي لأنَّ الطَّلب الَّذي يقدّمه الحبيب يحتاج قبولاً تامًّا من المحبوب، وهو بذاته طلب معاكس من المحبوب للتَّقبيل، فهكذا نجد أنَّ القُبلة كانت محوريَّة في نشيد الأنشاد المذكور في التَّوراة من حيث قبول الحبيبة وطلبها بذات الوقت القُبلة من الحبيب، وقد ركَّز الشُّعراء على أنَّ التَّداوي من فرط الحبّ يكون بالتَّقبيل، فالمحّب في القُبلة يتساوى مع المحبوب الَّذي يصبح بدوره محبًّا وإلّا لن نفهم مقولة أبي نواس “.. وداوني بالَّتي كانت هي الدَّاء”، وبيولوجيًّا نجد أنَّ بعض الأمراض يتمُّ مداواتها بنفس المرض عن طريق تضعيفه والتَّضعيف للمرض أيّ جعله في مساواة مع الجسد المريض، وبالتَّالي قدرة الجسد على مكافحته والشّفاء منه كالجدري مثلاً وتأتي قصَّة الأميرة النَّائمة/ الميّتة كتدليل على قدرة القُبلة الشَّفويَّة “من شفة” على نقل حالة التَّساوي، فالأمير الممتلئ صحَّة ينقل للأميرة النَّائمة/ الميّتة عبر قبلته الحياة، فالقبلة أخذ وعطاء بطريقة متساوية، وقد عبَّر إخوان الصَّفاء عن فوائد القُبلة سواء الشَّفويَّة أو غيرها بأنَّها قادرة عبر امتزاج الرّيق والأنفاس بين المتعانقين على نقل أواصر الإيمان والحبّ بينهما ومتابعة للأمثلة نجد في الأسطورة السَّومريَّة قصَّة “أنليل وسود” فبعد أنْ أعجب أنليل بالفتاة سود وحاورها يطلب من قبلة على الشّفاه علامة القبول، كذلك في قصّة إنانا وديموزي نجد القبلة تلعب ذات الدَّور.
القبيلة:
الأصل الطوطميُّ لكلّ إنسان وهي من جذر قَبَلَ والطوطميَّة تفرض الاتّحاد بها عبر الآكل وعليه نجد التَّعبير العاطفيَّ من قبل الأمّ لابنها “أريد أن آكلك” تعبيرًا كبيرًا عن عاطفتها الهائلة به أنّها الرَّغبة بالاتّحاد والاتّحاد يفترض التَّساوي فالأمُّ لا ترى ابنها أقلَّ منها شأنًا بل أكبر لدرجة تفديه بنفسها، فالقبيلة يجد فيها الفرد أصله والقُبلة تقوم بتقديم فروض الطَّاعة والولاء حسب مكان وقوعها وكأنَّ المقبِّل يثبت للمقبَّل انتماءه له وخضوعه، وقد أنتجت الحياة السّياسيَّة في المجتمعات طرق عديدة للقبلة بمفهومها السُّلطويّ وهي غنيَّة عن التَّعريف، ولكن لنذكر قصَّة النَّبيّ إبراهيم الَّذي تمنَّى أن ينكسر كتفه أو تسقط يده لو مدَّ يده بقبلة يرفعها للشَّمس وذلك خلال مسيرته التَّوحيديَّة لله الواحد الأحد.
الطَّلل:
الأثر الدَّارس، فما علاقته بالقُبلة، فعند غياب الحبيب وتمنُّعه عن المحّب، يلجأ المحّب للبحث عن أشياء الحبيب ونجده بكثرة لدى الشُّعراء العذريين، ومنهم قيس ليلى الَّذي طفق يقبّل جدران بيت ليلى بعد ذهابها:
أمرّ على الدّيار ديار ليلى/ أقبّل ذا الجدار وذا الجدار
وما حبُّ الدّيار شغفن قلبي/ ولكن حبّ من سكن الدّيار.
وعودة على موضوع الخطيئة نجد أنَّ مبتدأها كان بنحلة غطّت لترشف من ريق أمّنا حواء فرأها أبونا آدم، وقد افترت شفة حواء لكي تسمح للنّحلة بشرب الرّيق، فاستعذب أدم ذلك وقبَّل حواء ونجد في الطَّلليَّة “من طلل” الحنين للجنَّة كتقبيل الحجر الأسود الَّذي من الجنَّة، ونجد ذات الأمر في تقبيل حافر الحمار الَّذي حمل السَّيد المسيح حنينًا له وقد ذكر ديورانت ذلك. القُبلة تحمل في طياتها دالاً حاسمًا على حنين المقبِّل إلى مكان قد يتجاوز الَّذي وقع عليه التَّقبيل إلى زمن قبل الخطيئة حيث كان الإنسان ينعم بالسّلام والخير.
التَّحريم والتَّحليل:
كانت هناك شرعة أبطلها الإسلام وهي الخدن وهي أن تتَّخذ المرأة عشيقًا ولو كانت متزوجة وهذه العادة قد تُفهمنا اللّغط الَّذي دار حول الشُّعراء العذريين والخدن كما أخمن هو طريقة دينيَّة وليس هذا موضوع البحث، فالخدن كما نستشفُّه من بعض الأبيات الشّعريَّة التَّالية كان يسمح بالقبلة بين الزَّوجة والعشيق:
وللحبّ شطرٌ مطلق من عقاله/ وللبعل شطرٌ ما يزال منيع.
وللحبّ ما ضمّت عليه نقابها/ وللبعل ما ضمت عليه المآزرُ
فالقبلة كانت محلّلة، وهنا نفهم كيف أنَّ زوجي كلٌّ من ليلى وعفراء قد سكتا على تجاوزات الشّاعرين قيس وعروة.
ومع ذلك نال القُبلة الكثير من التَّحريم وخاصَّة قبل الزَّواج أمّا بعده فالأمر مفروغ منه وخاصَّة بعد حديث الرَّسول عن ضرورة أن تكون القُبلة توطئة للعلاقة العشقيَّة بين الزَّوجين ومع ذلك سمح بعض الفقهاء بجوازها واعتبروها من اللَّمم الَّتي تُغفر على أن لا تتجاوز حدَّها المعقول بين العاشقين، واشترطوا أن تكون لحالة طارئة خاصَّة بعض مرض المحّب كما قال ابن القيم ردًا على ابن تيميَّة بأنَّها درء مفسدة كبيرة كالمرض والموت بمفسدة صغيرة كالقُبلة.
القُبلة:
عودةً لمبتدأ المقال نجد أنَّ الفَّم أداة مولّدة للدَّلالات بشكلٍ كبير والشّفاه منها، فنجد السّنَّ وعلاقته بقاعدة العين بالعين والسّنّ بالسّنّ، ونجد الأنف والقبل على الأنف وخاصَّة أنّ هناك من يعتبر الشَّم كالتَّقبيل ونجده في العديد من عادات الشُّعوب كالاسكيمو وهنا أيضًا، للشَّم والزَّفير والنّفس دلالات جمّة نذكر أنَّ الرُّوح دخلت الإنسان عبر النَّفخ، وهو فعل فميٌّ من حيث الدَّلالة البشريَّة واللّسان أيضا بغنى عن التَّعريف والبصاق على اليد ثمَّ مسح العضو المريض إذ له فعل شفائيٌّ كما ذكر التراث مارسه الرَّسول محمَّد “ص”، والسَّيد المسيح عليه السّلام، فليس غريبًا أن تحمل القُبلة كلَّ تلك الدَّلالات وأكثر لدى الكائن البشريّ.
.