نعيم عبد مهلهل
كاتب
أنوثة الغرام وأحمر الشفاه
نعيم عبد مهلهل
يجد الشعر ذاته في آخر مفترض تصنعه اخيلة الليل والمرايا والشعور في لحظة نضوج عندما ندرك درجة الشهوة في عطر الوردة.
والشهوة في تعشق الشعر لا يعني توهانا في بحر الليل والوسائد والهمس السري بين الروح والجسد ، فقد يوفر الشعر اكثر من هذا ، عندما تشعر المرأة إن الخلايا التكوينية في اعماقها تبحث عن خدر لعناء التفكير بشيء. ولهذا كان المتصوفة يرون في بهجة الوصال صناعة لأنوثة الضوء ، وهي عندهم لاتعني انوثة حواء ، فهم يضعون الرغبة في ادراك التشوق ،وليس بالضرورة أن يكون هذا التشوق واحدة تعرف من خلال حركة الرمش إن تفسر كل غموض كوني يلفنا في المحاولة الدائمة لإثبات اننا نتمتع بالحس والرجولة وامكانية خلق السعادة لمن نهواه...!
وكانت رابعة العدوية ترى في توهان الشعر غياب للموجود القائم .اما الموجود الباطن فهو من يسحرنا عند مجيء غفوة الليل وركون ضوئه تحت الهدب والشفتين. وعليه كان الشعر بالنسبة لبعضهن ايصال الرغبة بالمرغوب ،واتمام مودة الداخل بمن ينتظر في خارج المكان متربصا بلحظة الجمال التي تشع في وجدان الانثى يوم كان بريق الصلصال الذي خُلقت منه يختلف كثيرا عن الصلصال الذي خلق منه الرجل ،فقد كان طين الانوثة الاولى مائلاً الى الاحمرار ،فيما لم يكن طين الرجل يحمل لونا ثابتا ،ولهذا كان مكتشف ضوء الشفتين يركن الى الاحمر ليكون الصبغة المشعة التي تجلب اي شيء عندما ترغب واحدة بآتيان من تريده.
البعض وانا منهم يعتقد ان الأحمر شفاه هو القصيدة الدائمة التي تحملها المرأة على ثغرها اينما تكون .في العمل ،في الحفل الموسيقى ، في سرير الزوجية او المودة ، حتى في ساحة المعركة ، كانت هيلانة في طروادة عندما تريد ان تطل على مشهد من مشاهد العراك بين اثينا واسبرطة تضع الاحمر المغري ،وعندما يشاهدها الجنود يفيض فيهم شعور الشوق الى سماع القصائد بالرغم من صليل السيوف.
والملكة المصرية كليوباترا ، كانت تصبغ شفتيها بدم حمامة مذبوحة لتزيد من اغراء قيصر ، ولما ذبح سكين بروتس خاصرة قيصر ، وتمنى عليها حبيبها الثاني مارك انطونيو أن تضع دم صقر ، لكنها كانت ترى في احمرار هاجس الحمام على شفتين اكثر قدرة على صناعة الغرام الحقيقي.
و( الحاجة الكاثوليكية ) ماري انطوانيت تضع الاحمر شفاه من اجل خلق الرعشة اللذيذة لملكها المرتجف من رغبة ان تكون هي اكثر حنانا في المخدع ، كانت قاسية وصارمة وقلقة ،وعندما تعزف الموسيقى في الحفل الملكي كانت تبحث في الوجوه عن الذي يُسكن فيها قلقها من المقصلة بعد أن استخفت بسكان باريس الجائعين عندما طلبوا منها خبزا .قالت :كلوا كعكاً بدلا عنه...
وفي مراهقتنا القديمة ، في سبعينيات القرن الماضي ، كنا نرى في ضوء احمر شفاه المصبوغ برقة الكلام العذب على شفتي ( القبطية الفاتنة ) نادية لطفي ، طاقة هائلة للأغراء والدعوة لتصدير البضاعة الشعرية من داخل ارواحنا الى سطور الورق.
واتذكر انها في غزلها المجنون مع عبد الحليم حافظ في فيلم ابي فوق الشجرة ، واغنيته الساحرة ( جان الهوى جانا ، ورمانا الهوى رمانا ) .كان الخصر الراقص لنادية لطفي يثير فيها هاجس تكوين شيء ويدفعها لتنتج لخيال الرائي الف رغبة حسية تصلح لتكون امنية وشعارا ضد الجوع او لهزيمة اسرائيل التي اخذت منا سيناء والجولان وغور الاردن .
وعليه كنا لحظة الخروج من قاعة العرض السينمائي ،لنذهب الى ابواب وحيطان بيوت من نهواهن لندون شجن تلك الشهوة التي صنعتها في جوفنا الشاعرة الجميلة نادية لطفي.
لم اتذكر من قال : جسد المرأة قصيدة بلغز لا يُحل.
وربما انا من قال ، لكنني اعتقد ان الاغريق في تماثيلهم الاولى لآلهة الجمال افروديت كانوا يبحثون عن مثل هذا اللغز .لقد كانت الآلهة الانثى عند كل الشعوب تمثل الرغبة الجمعية لحلم البشر.
ويمكن ان نقارن هذا بزيادة حجم التعشق والمودة بين آدم وبعله حواء حتى بعد ان حرمته من الفردوس الخالد لحظة قضمها التفاحة.
في الشعر ظلت المرأة ترى ان هناك رابطاً حسياً وجمالياً بين احمرار التفاحة وذلك اللون الذي تصبغ فيه شفتيها قبل فصل عرض ازياء الخريف في قاعة باريسية ، وربما الأنسان يأخذ شيئاً من جسد التفاحة تحت تأثير الجوع ، لكنه مع احمر الشفاه يخضع لتأثير الجوع والحاجة الروحية لكي يتوازن فيه إلا عندما تُكملنا في اللحظة المناسبة هذه التي جعلها الله صنوا لنا والضفة الاخرى.
وربما علماء النفس كانوا يرون المبادلة الحسية والوجدانية بين الانثى والذكر تبدا بألقاء شعري اسمه التقبيل .
والقبلة هي مفتتح النص في كل ابداع وجداني ، ودائما هي اول السطر في قصيدة المودة الازلية التي ظلت قائمة بين الذكر والانثى منذ أن كان عشب الارض سريرهما وحتى اسرة العولمة التي يقال إنها مصنوعة من المرايا واجنحة العصافير وشاشات البلازما التلفزيونية.
القبلة هي روح القصيدة عند المرأة وهاجسها .وكان النفري المتصوف يراها شحنٌ للبهجة عندما تبارز العقل. وهذا كلام صعب لكنه حقيقي بالرغم من ان المؤمنين بالذات السماوية في الكتب المقدسة يرونه جنوحا وشذوذا ، لكنه فسر هذا بعد ذلك: إن الله جميل ويحب الجمال.
بين القبلة والقصيدة واحمر الشفاه يصنع الرجل غرامه المفترض. يغور بألف تيه ، والف مصيبة ، والف حرب. ولن يخرج سالما معافى من كل هذا إلا عندما يحرسه خيال واحدة تصلي من اجله تراويح عمرها واحلامها وما ولدت من اجله.
ان ثنائية الرجل والمرأة تجد في الشعر اكثر الروابط شدا لذلك التجاذب الذي يقع بين الوردة والفراشة الملونة. وسيظل هذا الازل قائما حتى في اقسى ظروف الخجل الذي يصبغ خدود النساء لحظة تعرضهن لإباحية ومكاشفة هكذا هاجس.
ان قدر المرأة مع الشعر وتلك الصبغة الحمراء توازي ذلك القدر الذي جمع الشيخ سقراط مع كأس السم. تَجرعهُ لينال خلوده .
والمرأة ايضا عليها ان تتجرع مشاعر الرجل وقصائده لتكون خالدة.
باريس 2015