فلسفة أحمر الشفاه


فلسفة أحمر الشفاه
نعيم عبد مهلهل


يُغرقنا الأحمر في متاهة النار والحرب والرغبة الجامحة. ومرات مع الأحمر لا نتذكر سوى قطرات حارة على منديل أبيض والمطرقة والمنجل المرسومين على الراية الشيوعية وخد التفاحة وحبة الطماطم. وعلينا أن نضع مع هذا الجمع المبارك حرارة الشفتين. فكما يقال لن يكتمل روعة ليلة بشموع إلا مع شفتي فراشة تلبس الحرير من رأسها حتى قدميها ، عندها يكشف الذكر لماذا خلق الله المرأة لتجعلنا أكثر ثباتاً وكي لا نطير في فورة غضبنا ونشعل الأخضر في اليابس ، أو الأصح :أن المرأة مفتاح هدوءنا وأن أحمر الشفتين هو مشفرة الدخول الى الصندوق ، هناك في ذلك الدفء العسل ربما أكتشف فيثاغورس أضلاع المثلث وأنار أديسون المصباح لأول مرة وربما هناك أيضاً فكر من ملك القنبلة الذرية ليرميها على رأس هيروشيما...!
والأحمر عسل الكلام ، ورؤاه التي تعكس ما خلف الرغبة ، وما يؤشر به الأحمر يعني في عرف الأباطرة غزو لبلاد أو مؤامرة بقدح مسموم أو اغتيال في حمام جواري ، وطالما صنع هذا الأحمر الثمالة في الرأس حتى قبل كرع قدح الخمر ، وفيه يعكس الضوء شعاع الرغبة والتخيل ، فعند الشفتين تبدأ الأشياء تكتسب مشاعرها الأولى وتبدأ الحواس تشتغل الى رغبة تشتعل فينا فنقول من الكلام يبدأ المدام ، وفي المدام مسرة الروح والجسد ، وما تمر فيه الشفتان تغرق فيه الذاكرة ، وتشحذ همم الذكورة لنيل ما نعتقدهُ حقٌ ، وتعتقده أنثى الشفتين ملوكية اكتسبتها من صنع الخالق لها ومنحها الرقة والدلال والغنج وصُنعَ العظماء من الذكور.
ذات مرة كتبت فصل من التاريخ الوطني لأحمر الشفاه ونشرته ، وكانت ردود الأفعال متباينة بين قبول فضيحة الفم وصناعته لنار الشهوة والفلسفة وخطابات الساسة ، وبين من جعل الأمر مجوناً وفضيحة وتطاولاً على الستر والمستور وعباءة شرقنا المدثرُ بتقاليد العشيرة وقبو المنزل ِوالخمار الأسود. بالرغم من أنني لم أتطاول سوى على ما كنت أعده مفضوحاً علينا الجهر فيه لاكتشاف الكثير من بواطن الجوف الذي ظل يعاني الكثير من ازدواجية الفكر والحياة والثقافة ، لأن الاقتراب من المحظور لا يتطلب منا سماحاً من الآخرين بل أن طريقة الاقتحام والمجاهرة والكشف هي ما يجعل الوضوح للمستور رسالة إنسانية وشرفية تقود صاحبها الى امتلاك الشجاعة والقدرة على أن يبدع ويمضي بعيداً في رسالته حتى لو أن هذا المستور عبارة عن خواطر سرية لرغبات إنسان أو حشرجات ليل أو تأوهات واحدة من دون بعل يناغمها همس الوسادة وصرير السرير. وعليه كان أحمر الشفاه بالنسبة لرؤاي هو احمر لباطن مافي الذات البشرية وأقصد الأحمر المتقد بالثورة ضد الجوع والظلم والحاجة الى الأنوثة المعطرة لا تلك الأنوثة التي تقضي كل حياتها مع روث البقر والجواميس. فلقد صنع الله المرأة لتكون الأقرب الى عطر الوردة ،وخلقها لتنتج وتمنحنا طاقة لنمضي ونبتكر ونحيا ، ومن بين رؤى هذا الحسن الزهري يأتي احمر الشفاه ليرنا نافذة الإطلالة الساحرة لواحدة تهمس وتُقبل وتدعوك الى غرام المصاهرة أو العشق بين ما يحلله الله كزواج مقدس وبين علاقة عاشق لعشيقته أو عابر سبيل مع سرير أوتيل أو أي شكل من أشكال الغرام.
لا أعرف تاريخاً ثابتاً لتلك الصبغة العطرة والمشعة ببهاء ابتسامة الأنثى وغضبها. وأعتقد إن هذا اللون قادم من أزل بعيد وأن مكتشفتهُ واحدة لم تنل رغبتها بسهولة ، فربما كان الرجل عصي عليها فجربت كل مغريات الوصل لتصل الى هذا الاكتشاف ولتستطيع نيل المنى من خلال شفتيها. ويقال أن اختلاط همس الغزل بالحمرة الداكنة أو الفاتحة يمنح السامع طاقة تخيل هائلة وبالتالي لا يملك شيئاً سوى أن يمد روحهُ ولسانهُ وعقلهُ ويبدأ مودته ليُصبغ هو بذلك الأحمر ، وبالتالي يتحد وجود الكائنين في ذائقة الشوق والاشتياق والترابط . وهو فعل في طابعه القدسي والاجتماعي متوارث ومقدس وطبيعي. وبعضه إن خرج عن مألوف الحياة والتقليد المجتمعي عد شذوذاً ،ولكن هذا الشذوذ في الكثير من صوره يمثل حاجة إنسانية كبيرة يصفها أحد الجنود الألمان في الحرب العالمية الثانية عندما حاصرهم ثلج ستالين غراد ستة أشهر دون أن يروا امرأة واحدة ، ولكنه غادر وحشيته عندما عاد الى وطنه وذهب الى أول حانة صادفته في الطريق : فقد كانت هناك واحدة ،أحمر الشفاه الذي يضيء من فمهما أعادني الى طفولتي وبشريتي والى رحم أمي بعدما كنت مجرد حجر كبير لا يعرف سوى حشو المدفع بالبارود والتوسل الى يسوع لينجونا من هذه الحرب المدمرة.
لأحمر الشفاه مع الجنود مودة مجنونة ، فهو يعيد إليهم أزمنة الحلم والابتعاد عن هاجس الموت ، الموت الذي كان الفراعنة يسيطرون على أزليته بتزين وجه الميت وتجميله ، وحتماً كانوا يصبغون الشفاه الذابلة للشخص المسجى لكي يعود له شيئاً من بريق الحياة ،وبالرغم من أن الموت عدمٌ لكل جميل وحي ، إلا أن الإنسان كان يصنع الأخيلة من اجل حصاد الأمل الذي يتمناه ليكون هناك في فردوس المطلق حيث يصف أحدهم أن حوريات الجنة يأخذن الحمرة لشفايفهن من الندى المتساقط على أوراق الجوري الأحمر.
وحتماً عندما تسكن صورة الندى على الورد الجوري مخيلة شاعر ما وكيف تمتد إليه فرشاة الضوء لتلتقطه ثم تصبغ فيه الشفتين الناعمتين كخد الماس ، يتهيج الشعر كما الرجل الذي لم يذق خوخ الأنثى منذ ألف عام ، وقتها يتساقط حبر الكلمات كما يتساقط المطر الخريفي على معاطف العوانس في محطات الانتظار ، وكما واحدة أمام المرآة وتتخيل أن خبزها يشوى في أفران رجل يعرفُ أن يعطي جيداً.
كان الجنود يتخيلون في الأحمر كلما هو عزيز وبعيد ، ويذكرهم بحنان الأم ودفء البيت وأشواق أزمنة المدن التي ذهب شبابها الى جبهات الحرب ، وظلت تندب طلل الأثر ونحيب النساء وأختام المخاتير.
بين الختم والأحمر شفاه علاقة أزل يرتبط بالهاجس والمعنى والدالة. فقديماً كان الملوك يختمون على الطين كل ما يريدونه ويأمرون به ويشتهونه. وكان من بعض هذه الأختام ختم الشفتين الذي يضعه على خدود من يهواهن من عذارى المدن وكاهنات المعبد وسباياه ، وهذا الختم إشارة من الملك إن من طبع على خدها هذا الختم صارت من جواريه ومحظياته ، وكانت أختام سلاطين بني عثمان هي عبارة عن اسم السلطان مكتوباً بخط الطغراء المعقد ، ولكن في اغلب الأحيان كانت صورة هذه الاسم تنطبق مع شفتين مفتوحتين لقبلة ما.
في الحرب يمشي أحمر الشفاه جنباً الى جنب مع الرصاصة أو نصل السيف ، فهو مثل مفعولهما تماماً ودالته تقترب من دالة الجرح فنتاج القبلة هو ما يبقى من اللون في آثار مودة القناع ، وكذا يترك الجرح دما احمرا مثل الأثر في عناق نصل السيف أو الشظية بخاصرة الجريح فتراهم جرحى الحروب يوقدون أشواقهم على أسرة المشافي رسائل مصبوغة بذلك اللون وهو دليل على الشوق والرغبة بان يكون حضن المرأة المحطة الأولى بعد الشفاء.
كانت كليوباترا الجميلة تجذب القيصر من خلال عينيها ، وكانت تفرض عليه صمت المتأمل لكنه مع تذوقه لطعم الأحمر الذي يصبغ شفتيها يتلوا جمل هذيان القائد المنتصر ويعدها بمصر كلها من النوبة حتى الإسكندرية فكانت تتفن في إطعامه هكذا لذة لينسى نفسه وروما والعالم كله ،وربما يكون هذا الأحمر احد مسببات مؤامرة الاغتيال التي قادها بروتس صديق قيصر ليُطعنَ بعشرات من خناجر شيوخ مجلس روما.
ينحدر اللون من بقايا ضوء قوس قزح الذي ينشر ألوانه من طيف سماوي بعد نهاية فصل ماطر ، ولم يكن للأحمر فيه سوى مسحة طيفية لا تعبر عن عمقه وقدرته على خلق انطباع ما إزاء فعل أو مشاعر ، ففي دراسة اللون وتأثيره تجد أن الكثير من سلوك البشر والحيوانات يتعلق بما يعكسه منظر اللون علينا ، وحتى في مصارعة الثيران يكون الأحمر مثار انفعال الثور وهيجانه ثم الإجهاز عليه بطعنة سيف.
وكثيرا ما كنا في طفولتنا نختبئ تحت معطف لون ما لنمارس مودة رغبة نتمناها ، ويبدو أن اللجوء الى الأحمر يكاد أن يطغي على تلك المشاعر عندما تسكننا أمنية الشوق الأول ، عندما نصبغ شفاه الدمى بذلك الاحمرار الذي كان يحرك فينا الشعور الغامض للانجذاب الى ذلك الهاجس ، وعندما نُقبلُ تلك الدمى من الشفتين ينتابنا شعور تقبيل فتاة حقيقية ، وهذا ما ظل فرويد يطلق عليه ( البلوغ الطفولي المبكر ) وحتماً ينتج وينمو بتأثير من ذلك الأحمر المشع مثل قطرة دم على جبين جرحى الحروب وشجارات العشق والتظاهرات الصاخبة.
يطغي الأحمر على كل سلوك غاضب. ولا يركن لهدوء أبداً كما الزرقة أو بياض. لهذا فأن الجانب الجمالي فيه مرهون برغبة الامتلاك في اشتراط فعل قوي وعنيف وثوري. وعليه يتحاشى الكثير ارتداء الأحمر ويطلق عليه ( اللون الصارخ ) ، لكنه عندما يصبغ الشفتين بدلالة ولمعان الضوء المغري ، يصبح لوناً جنونياً وصانعاً للشهوة ولمداعبة اللسان ، فيذكر في النصوص على أنه لونٌ للإباحة والحرب والغرام . وجمع الغرام مع الحرب هو كمن يجمع فوهات المدافع مع حدائق الربيع ، لكن الأحمر بفعل سحريته وقوة تأثيره علينا ، يصبح من الألوان التي لا يمكن الاستغناء عنها ، فأصبحنا نتحاشاه في مواضع ونرغبهُ في أخرى.
أحمر الشفاه ومفردة الآه وما صنعه الله ترابط يصنع معجزة وجودية قادرة على منح الحياة ديمومتها ، فمهما يكن ، فرؤى اللون هي وسيلة جذب وخلق مشاعر مختلفة عن وضع سابق نكون فيه ، وتتغير أفعالنا وفق نتاج المؤثر الذي يصنعهُ اللون . الزرقة للهدوء ، والاصفرار للغيرة والكره ، والاخضرار للتفاؤل القادم ، والبياض للصفاء ، والسواد للحزن ، والاحمرار للغضب. ولكن في الشفتين الحمراوين يكون هذا اللون مدعاة مودة يكتمل فيها وفاق جسدين صوب ما نعتبره عملاً للخلق والديمومة وصناعة الأشياء الجميلة وبهذا يكون الأحمر ميالاً الى صنع مودة ووفاق كباقي الألوان الفاتحة بالرغم من فورته الدائمة .ومع الشفاه والاه يتضور الجسدان محنة التلاقي والوصال وصنع الوردة والليل الذي لاينتهي...........!

مدينة فوبرتال الألمانية / ابريل 2015
 
أعلى