دينا توفيق - الشهوانية "أو" الأيروتيكا

للأسف ما زالت قيود كثيرة تكبّل هذا النوع من الكتابة وحتى فعل قراءته سواء كان أدبا أم شعرا برغم أن تراثنا العربي ممتلئ بالكتب الجنسية التى لم يتحرج فيها الفقهاء الكبار أمثال جلال الدين السيوطى وابن حزم وغيرهما من الكتابة عن الجنس وأمره الحميم. حيث طرحوا أشد الأمور جرأة. فما بالنا بأمر الغرام حين يكون معبراً عن درجات الشهوة فى كتابة جميلة يتحرج الجميع من إعلان الاهتمام بقراءتها. برغم أن معظم الناس يقرءونها سراً.
وأنا أكتب اليوم هنا فى حكايات الغرام عن الشعر والأدب الممتلئ بالحميمية وقررت إفراد السطور لعبارات منتقاة ولكتابة متقنة لها حس وزخم ومعان إنسانية عميقة العاطفة.
أنه الحب والغرام أيروتيكياً. أى الشهوانية.
فهل نكسر التابوهات والمحرمات المدعاة والمتحجرة معاً؟
فى البدء كان إيروس إله الغرام والحب والرغبة والجنس والخصوبة والسعادة في الميثولوجيا الإغريقية.
فى البدء أكتب عن تلك الأيروتيكية أو الشهوانية التى بدأت مع الخليقة وتسجلت فى ملاحم سبقت الديانات السماوية. فتتجلى ملحمة جلجامش السومارية وبطلها الطاغية جنسياً الذي تزوج عنوة من عذراوات مدينته أوروك قبل زفافهن. تلك الأسطورة التى حكت قصة جلجامش الذى كان معجباً تيهاً بجسده، وحُسنه. وأتذكر أيضا أسطورة شونجا اليابانى الذى خصص له المتحف البريطاني جناحاً مفتوحاً للكبار فقط، ويتضمن صوراً مطبوعة على رقائق خشبية ملونة وصفت بالمضمون الفاحش وبأنها قدّمت نظرة ثاقبة للحياة الجنسية كنوع من الفنون الشعبية الأنيقة!
ولقد قرأت يوماً تصريحاً لأحد الأطباء النفسيين الكبار بأن الأيروتيك يتساوى مع الفانتازم، وهو الفكرة التي تؤدي الى إثارة لدى الإنسان، وليس لنا أن نعيشه، بدون غنى في الفانتازم.
أى أننا كبشر لابد أن نتعقب خيالنا الجنسى ونغذيه حسب فهمى للأمور. ولكن دوماً هناك فى عالمنا من عليه إحباط تلك المحاولات لاعتبارها خارجة وفاسدة. ففى عالمنا العربى لا يزال التأبوولا تزال الرقابة التى تمنع الكتب واعتبار من يكتب أيروتيكيا هو ممن ينشرون "الفسق والفجور".
وبالتأكيد نالت الكاتبات العربيات حظا أكبر من تلك الاتهامات ونلن منها الكثير برغم أن الكتابات التى قدمنها أيروتيكيا كانت إفراغاً حتمياً لمعاناة جنسية اضطهادية مجتمعية تفصل بين حقهن فى الاستمتاع والحب وأحكام اجتماعية مغرورة طاغية. ولسنا ببعيدين عن محاكمة ليلى العثمان وعالية شعيب وقائمة أخرى لأدباء وشعراء. رجالا ونساءً.
وها هى الكاتبة اللبنانية علوية صبح فى روايتها "اسمه الغرام" تروى فيها حكايات الجسد والرغبة والحب والشهوة في أواسط العمر. تلك الحكايات التى أعتبر الأيروتيكية فيها كتابة تهدف إلى الكثير من الرصد والتحليل للمرأة نفسها وأحاسيسها ورغباتها.
ومبدئيا أشير بقوة وصراحة أن كتاباتهن أعتبرها استقراء هائلا لخرائط الأجساد والرغبات الحميمة المرصودة والممنوع الحديث عنها اجتماعياً!
وفى رواية "اكتشاف الشهوة" للكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق نجدها تروى عن البطلة باني التى تتزوج زواجاً تقليدياً من رجل أجبرها أهلها على الزواج منه وتسافر معه إلى باريس. لكنها تدرك منذ الليلة الأولى أن هناك فجوة كبيرة بينهما فتكتب فضيلة الفاروق: "لم يحاول أن يفهم شيئاً من لغة جسدي". "أنهى العملية في دقائق. كان اغتيالاً لكبريائي".
هكذا تصبح علاقة بطلة الكاتبة فضيلة الجنسية مع زوجها عذاباً لا يطاق. فتدخل علاقات عاطفية عدة وتمارس الجنس عن حب فتكتشف شهوتها ورغباتها، ثم تقرر أخيرا الطلاق والعودة إلى بلدها.
وأتأمل بعمق رواية صديقتى الكاتبة د. منى برنس "إني أحدثك لترى" التى تعيش فيها البطلة عين أزمات متتالية في علاقتها مع علي الشاب المغربي الذي يعمل في القاهرة بسبب الحرية الزائدة التي تتمتع بها هي، ويرى فيها هو كسراً لما نشأ عليه. حتى كانت رواية "برهان العسل" لسلوى النعيمي وبطلتها التى تعمل أمينة مكتبة، تنغمس في قراءة كتب التراث العربي وتكتشف كمّ التحرر الجنسي الذي كان موجوداً فيها. وفي الوقت نفسه، تنشأ بينها وبين رجل تسميه "المفكر" علاقة جسدية.
وهنا نجد سلوى النعيمى تضع استشهادات كثيرة عن السيوطي والنفزاوي. وغيرهما من علماء الإسلام الذين وضعوا مؤلفات كثيرة في الجنس.
وتحلل بعمق الكاتبة العراقية "عالية ممدوح" فى روايتها " التشهي" علاقة جسد بطلها "سرمد" المترجم العراقي المقيم بلندن بالسياسة الذى لم يبلغ الخمسين بعد - وهو شيوعيّ سابق - بعد أن يفقد ذكورته بسبب سمنته المفرطة فيجد نفسه غارقاً في استعادة ذكريات حياته الجنسية السابقة التي تربطها الكاتبة مع الحياة السياسية في العراق، وكأن الجنس تحوّل لفعل انتقامي عند سرمد.
نعم إنه الـ"إيروتيزم" أى الشهوانية. فن الشهوة.
إنها قصائد الشاعر العراقى الكبير سعدى يوسف تلك الحميمة بخصوصية الصورة والكلمة الممنوعة رقابيا بسبب تابوهات الجهل الأحمق. وتدخل الرقيب ومدى استثارته الشخصية فى المنع!
المهم أنها قصائد لابد أن تبدو زاهية لنا فى مختاراتنا أو إنتولوجيتنا الخاصة لحكايات الغرام الحميم.
فيكتب سعدى يوسف مشرعاً خياله:
في فراش البارحة
حيث كان الشرشف الكتان مكوياً
وكان الليل مطوياً على خضرته في الركن
أو حمرته فيما تبقى من نبيذ الريف.
كان الصمت يعلو وتموج الأرض مستنجدة بالشرشف الكتان.
أحمل جسدين
أتسع، الليلة، شيئاً.
لا تضق بالموج بالموجة في الذروة
ولتندعك الأزهار في أطرافك.
الليلة، يعلو الصمت
والماء يرى منبعه - السر.
مصبا.
أنت في الموجة تمضين
تئنين عميقاً، داخل الجلد، وتمضين
وتعطين زهور الشرشف الكتان
ما تعطين:
قطرات الحرير.
وفى أبياته الأخرى يقول سعدى بحميمية الغرام الوهاج:
وفي المرآة الضخمة. يبدو رجل وامرأة يبتسمان
قدح الساكي في يدها. قدح الساكي في يده.
كان يحدق في عمق القدح الخزف. المرأة تعرف ما يفعل. تعرف أن امرأة ما، عارية، ترقص في الأعماق،
أتكون سواها؟
ومعاً ومن فرط الوله نتعقب فرسان الكلمة وسعدى يوسف نفسه الذى يكتب عن قصائد "الشاعر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس" والأيروتيكية قائلاً: "لقد أحسست دائماً، وأنا أقرأ شعر ريتسوس، أن وراء قصيدته جهداً عظيماً، وروحاً مصفاة، صافية، أوصلت قصيدة الحياة اليومية، لديه، إلى هذه القطعة الغريبة من البلور".
أما أشعار ريتسوس الأيروتيك الحميمة فيقول فيها:
" كيف يعيش الموتى بلا حبّ؟"
" الجسد سماء، لا ينهكه أي طيران"
"جسدك غير مرئي. قابل للّمس.
عصفوران تحت إبطيك. صليب على نهدك.
و لا موت"
"تحت السرير الحذاءان. يحتفظان بشكل قدميها. بحرارة قدميها. يـتـنفـّسان
وعصفوران بيضاوان. بعيون سود
مع خاتم من النيكل. على حنجرتهما"
.
دعكِ من ذلك
أنا من سيعدّ الطعام.
أنا من سيعدّ المائدة
لن آكل. سأرقبك وأنت تفعلين. كما لو أنك لا تدرين
سأجمع الدّبابيس. واحدا واحدا من على الأرضية الخشبية
فستانك لن أطويه. سأتركه على الأرض
برج عالٍ من الحرارة. مع عصفورين وقمر
وعلبة كبريت"
.
"شفاهي جالت أذنكِ الصغيرة والناعمة
كيف تسع لكل الموسيقى؟
تحت كل الكلمات جسدان يتحدان
وينفصلان في بضع ليالٍ
كيف للعالم أن ينخلق وينهار؟"
.
ومن الآراء التى أعجبتنى إلى حد رغبتى فى إطلاعكم عليها للكاتب الأردنى مهدى نصير حيث يقول:
هناك قصائد كثيرة في التاريخ الشِّعري تمتلك أيروتيكية الشِّعر وهي ليست قصائد أيروتيكية، وهناك قصائد كثيرة أيضاً أيروتيكية الشكل، لكنها لا تمتلك أيروتيكية الشِّعر لذلك لم تترك أثراً في خطاب التاريخ الفعلي.
والمقاربة هنا - حسبما يرى مهدى نصير - ليست مقاربة فرويدية متعلقة بالجنس باعتباره المحرك الأساسي للسلوك الإنساني، وإنما المقاربة تتحدث عن سلوك حيوي، وحي للغة وعن قيمة طبيعية، وإنسانية مجردة من حضورها السيكولوجي الذي تحدث عنه فرويد.
اللغة ككلِّ كائنات الطبيعة الحيَّة تتوالد وتتطور عبر الفعل الجنسي، فلماذا لا تكون للغة القدرة نفسها وتنتمي لهذه العائلة، وتمارس قدراتها وجيناتها. لماذا لا تزهر اللغة وتبرعم وتثمر كباقي كائنات الطبيعة؟
سؤال مشروع ويفتح الباب لمقاربات أخرى لهذا الكائن الهَش، والمفعم بالقوَّة والحيوية الذي يتعرَّض عبر دهاء التاريخ في اللعب باللغة لمحاولات تقليده واحتلال مكانه وعبر فعل.
وباستخدام لغة ابن عربي فإن القصيدة، إذا لم تكن أيروتيكية لا يُعوَّل عليها. وأيروتيكية هنا تعني منتمية للطبيعة في فعلها اللغوي، وليست إباحية أو خلاعية وليست أيروتيكية بشكلها، وإنما بمعنى قدرتها على القيام بفعل جنسي مع التاريخ.
لقد صدق بالفعل.
وأخيراً:
ما كل هذا الجمال وفيض الغرام الحميم. فى الكتابات المتهمة بالإباحية. وهى روح الأدب والشعر الإنسانى.


.
صورة مفقودة
 
أعلى