دينا توفيق - مى زيادة وجبران خليل جبران. "الحب السماوى"

- أعرف أنك " محبوبى". وأنى أخاف الحب. أقول هذا مع علمى بأن القليل من الحب كثير. الجفاف والقحط واللا شيء بالحب خير من النزر اليسير. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا " لأنه لو كان حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام".
مى لجبران
كانت مى زيادة تحمد الله أنها لا تتلفظ بما يموج به قلبها لجبران، بل تدونه على الأوراق. وكانت تتعجب من قدرتها على مكاتباته "ما معنى هذا الذى أكتبه؟ أنا لا أعرف ماذا أعنى به! ولكنى أعرف أنك " محبوبى". وأنى أخاف الحب. أقول هذا مع علمى بأن القليل من الحب كثير. الجفاف والقحط واللا شيء بالحب خير من النزر اليسير. كيف أجسر على الإفضاء إليك بهذا " لأنه لو كان حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام. ثم تكتب ثانية لجبران معبرة عن خجلها من كتابة مشاعرها تجاهه " ولكنت اختفيت زمناً طويلاً. فما أدعك ترانى إلا بعد أن تنسى. حتى الكتابة ألوم نفسى عليها أحياناً، لأنى بها حرة كل هذه الحرية. قل لى ما إذا كنت على ضلال أو هدى. فإنى أثق بك، وأصدق بالبداهة كل ما تقول. وسواء كنت مخطئة فإن قلبى يسير إليك، وخير ما يفعل هو أن يظل حائماً حواليك، يحرسك ويحنو عليك. غابت الشمس وراء الأفق ومن خلال الأشكال والألوان حصحصت نجمة لامعة واحدة هى الزهرة. أترى يسكنها كأرضنا بشر يحبون ويتشوقون؟. ربما وُجد فيها من هى مثلى، لها جبران واحد "
ما كل هذا الحب بين رجل وامرأة لم ير أحدهما الآخر؟!
هل هناك حب عذرى سماوى وحب آخر غير عذرى وغير سماوى؟
نعم ولقد تحدثنا عنه فى حكايتنا السابقة فى الغرام.
وحكايتنا اليوم هى الفتاة المُحبة التى سحرتها كلمات الشاعر الكبير
الفتاة اللبنانية المثقفة أحبت جبران خليل جبران فكاتبته، وهى غير مصدقة أحيانا لما يخطه قلبها له. والذى ظلت وفية لغرامه حتى وافتها المنية، وفى غضون عشرين عاما كانت الحكاية.
لقد تخطت مى المسافات البعيدة وأرسلت لكاتبها المفضل ديوانها ليقرأه. هكذا كان البدء فى حكاية غرام لم يلتق طرفاها وملأت سمع وبصر العالم.
شيء عجيب حقاً.فهل إيجاد أحدهما فى الآخر الوطن والأحلام قد خلق روحا تتشبث بذلك الغرام وتحكى حكايته؟ لا أعرف تماما ولكننى أخذت أتابع الحكاية منبهرة بكل هذا الغرام الذى دام عشرين عاماً، واستقبله جبران بفرح مستمراً فى مراسلتها عبر عالميهما اللذين يريان بعضهما فيه. كلمات غرام نابض بالصدق، وصوفية تتخطى الزمان والمكان وكانت ترفع لافتتها مقررة عدم الزواج حتى آخر يوم بعمرها، وفى غضون ما قاسته من نكران، مشيرة إلى حبها "هذه مصيبتى منذ أعوام"لقد أرهق مى الحب. ولكنها وجدت برغم ذلك فى الكتابة الحب ملاذاً. فتميزت بأنها عاشت متألقة فى حياتها الاجتماعية والأدبية على وقع رسائل جبران. حتى إن أزمتها أعقبت وفاة جبران الذى وهبت حبه حياتها كلها فى حبى سماوى عذرى. أى خيال فى خيال.
غرام جلبها الفرح والألم معاً
والأغرب فى هذا الغرام المدهش أنها أخلصت لحب جبران الذى اعترف لها فى رسالة أنه موزع المشاعر بين خيال وواقع، أى أنه يحب أخرى بجانبه. وكان نصيبها الملهمة. التى كان يكتب لها "أنت تحيين بي، وأنا أحيا بك" ذلك الجبران الذى كانت المرأة عنده ملهمة ورفيقة إبداع خارج الأطر المألوفة للمحبين.
رسائل حبه لها أجرت بعروقها دماء الحياة وألقها.
عاشت حكاية غرامها لجبران وكأنها ترضى ذاتها فى علاقة أشبه بحلم
غرام سماوى. عفيف.
الحب المدهش.
الحب الذى نشأ بين جبران ومى زيادة على قول المحللين والنقاد إنه حب لا مثيل له فى تاريخ الأدب وفى سير العشاق. حب نادر متجرد عن كل ما هو مادى وسطحى لقد دامت تلك العاطفة بينهما دون أن يلتقيا إلاّ فى الروح، والخيال الضبابى إذ كان جبران فى مغارب الأرض مقيماً وكانت مى فى مشارقها، كان فى أمريكا وكانت فى القاهرة. لم يكن حب جبران وليد نظرة فابتسامة فسلام فكلام، بل كان حباً نشأ ونما عبر مراسلة أدبية طريفة ومساجلات فكرية وروحية ألفت بين قلبين وحيدين، وروحين مغتربين.ومع ذلك كانا أقرب قريبين وأشغف حبيبين.
ورسائل الغرام تدرّجت من التحفظ إلى التودد، ومن الإعجاب إلى صداقة حميمة، ومن ثمَ إلى حب عام 1919م ما إن بلغ ذروته حتى عكرت صفوه سلسلة من الخلافات بينهما، التى عبّر عنها جبران مرةً "هى معاكسات التى تحوّل عسل القلب إلى مرارة "وقال" إن الغريب حقاً فى هذه الصلة تأرجحها بين الحب الجامح والفتور، بين التفاهم التام الذى كان يضفى عليهما شفافية روحية تغمرهما بالسعادة، وبين سوء التفاهم الذى كان يؤلمهما ويؤدى إلى القطيعة أحياناً، ولكن شدة ولع كلاهما الآخر كانت تدفعهما للتصالح مجدداً.
وبرغم كل هذا الحب كان كليهما يخشى التصريح بعواطفه، فيلجأ جبران للتلميح، ويرمز إليها ويضع عبارات وصور مبتكرة وجميلة. فلم ينادى مى قط بقوله حبيبتي" ولم يخاطبها باللغة المألوفة للعشاق، فإنه عبّر عن حبه بما هو أبلغ عندما قال أنت تحيين فيّ، وأنا أحيا فيكِ " ووصف علاقته بها " بأنها أصلب وأبقى بما لا يقاس من الروابط الدموية والأخلاقية "وبعد أن باح لها، رجاها أن تطعم النار رسالته إذا لم تجد لبوحه الصدى المرجو فى نفسها، كانت مى فى حياة جبران الصديقة، والحبيبة الملهمة، وصلة الوصل بينه وبين وطنه، وأكثر ما أحبه فيها عقلها النيّر الذى تجلى فى مقالاتها وكتبها، وأحب فيها حبها له، وإعجابها بشخصيته وإنتاجه الأدبى والفنى الذى كانت تتناوله بالتقريظ والنقد فى مقالاتها فى مصر، وعلى الرغم من كل ما كُتب عن علاقات جبران الغرامية مع أخريات.
عانت مى صراعاً نفسياً حاداً فى حبها لجبران سبّب لها الشقاء ولجبران العذاب والإرهاق. وتمنى جبران أن تتحرر مى من عقدها النفسية وشكوكها.
وبرغم كل هذا الحب كان كل منهما يخشى التصريح بعواطفه فيلجأ جبران للتلميح، ويرمز إليها ويضع عبارات وصور مبتكرة وجميلة. فلم يناد مى قط بقوله
حبيبتي" ولم يخاطبها باللغة المألوفة للعشاق، غير أنه عبّر عن حبه بما هو أبلغ عندما قال أنت تحيين فيّ، وأنا أحيا فيكِ " وهنا تشجعت مى على مداعبته فى الحديث والإفضاء إليه بأحاسيسها التى تخالجها. كان همها الأول والأخير أن يبقى جبران حبيبها الأوحد.
وقد وصفها جبران وكلماتها أنها كالنهر الرفيق الذى يتدفق من الأعالى ويسير مترنماً فى وادى أحلامى، بل باعتبارها قيثارة التى تقرّب البعيد وتُبعد القريب، وتحوّل بارتعاشاتها السحرية الحجارة إلى شعلات متقّدة، والأغصان اليابسة إلى أجنحة مضطربة.
لكن الغريب أنه بعد مرور شهر على وفاته اعترفت ميّ لقرائها بوجود مراسلة طويلة بينها وبين جبران، وذلك فى مقالة "جبران خليل جبران يصف نفسه فى رسائله" ضمتها فقرات قصيرة من رسائله إليها، وعبرت عن حزنها العميق عليه مصّورة غربتها وغربته فى الوجود بعبارات موجعة قالت فيها "حسناً فعلت بأن رحلت! فإذا كان لديك كلمة أخرى، فخير لك أن تصهرها وتثقفها، وتطهرها لتستوفيها فى عالم ربما يفضل عالمنا هذا فى أمور شتى".
وفى ختام تلك القطعة الوجدانية المؤثرة الفائضة بالحب واللوعة واليأس، أعربت ميّ عن شوقها للرحيل، لكنها عاشت بعد جبران عشر سنوات تقريباً كانت أسوأ مرحلة فى حياتها، فقد استبد بها الحزن. وعاشت فى غمرة الأحزان تمزّقها الوحدة والوحشة بعد فقده.





صورة مفقودة

Fabby, Fabio 1861 - 1946 Italian Orientalist artist. In the Harem
 
أعلى