نقوس المهدي
كاتب
تنطوي "الكتابة" العربية على مفارقة حادّة حيال التعامل مع المرأة، فبينما يتمحور الكثير من الشعر حولها، وترتبط بالوجود وترادف الأرض وترمز إلى الشرف في كثير من أدبيات الإبداع العربي فإننا نجد محاولة سائدة لنفي الإبداع الشعري عنها، فينأوون بالشعر عن تأنيث قائله. هل كانت عزلة نازك الملائكة في أخريات حياتها نوعاً من تسليم السلاح وإعلاء لديكتاتورية الرجل المبدع حتى لدى خاصة المثقفين، الذين لا يتخيّلون الإبداع الشعري إلا على هيئة " الفحولة "، فيكون الشارب عنواناً واللحية كالقافية والصوت الأجشّ عاملاً لرسوخ الشعر لدى المتلقّين؟
هل كان بشار بن برد يعني ما قاله حين أعلن عن نفي المرأة خارج قداسة رحاب الشعر، ورأى أنها لا تقول شعراً إلا بان فيه الضعف، فلمّا اعترضوا عليه بالخنساء قال: تلك كان لها أربع خصيّ؟!
وهل كان العقّاد - رغم حماسته الشديدة لحرية التعبير - يؤصّل ذلك حين رأى أن شعر الخنساء " بايخ "، فضلاً عن رأيه في فشل المرأة في أمور حياتها كلّها، حتى في أدقّ اهتماماتها، كالزينة وتفصيل الملابس؟!
أيضاً، هل كان المبرّد يؤصّل ذلك حين رأى أنه " رُبَّ امرأة تتقدّم في صناعة، وقلّ ما يكون ذلك "؟!
هل كان التاريخ نزيهاً حين قصر شعر ولاّدة بنت المستكفي على بيتَيْها المعروفَيْن:
"أنا والله أصلح للمعالي = وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكّن عاشقي من صحن خدّي = وأعطي قبلتي من يشتهيها"؟
وهل اقتصر - فعلاً - شعر بثينة على بيتَيْن رثت بهما جميلاً، عندما نُعي إليها، فقالت:
"وإن سلوي عن جميل لساعة = من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواءٌ علينا يا جميل بن معمر = إذا متَّ، بأساءُ الحياة ولينها"؟
وإذا كانت الأعراف القديمة قد مارست دور الكبت مع بثينة، وأضرابها، فكيف يمكن تفسيره مع البيئة الأندلسية المفتوحة؟ ولماذا كان للمرأة حضورها الكبير في شؤون أخرى؟
أغلب الظن أن الأمر مردود إلى تعامل نوعيّ (ذكر/ أنثى) التزمه النقّاد، وجامعو الأدب مع أشعار النساء، فراحوا ينظرون إلى القائل ونوعه وجنسه من دون الاهتمام العادل بما يقوله القائل، فلمجرّد أنها أنثى يقولون للمدوِّن خلفهم: " خرِّق... خرِّق "!
المحفوظ بكثرة هو الشعر الموجّه إلى الذكر، والدائر - في أغلبه - حول رثائه، والتفجّع عليه، لتلتزم الشاعرة الصمت طيلة حياتها، فإذا مات " الذكر" انبجس الشعر - فجأة - منها ليملأ السطور، وربما الدواوين. هكذا الحال مع ليلى الأخيلية، التي يحتفظ التاريخ بمراثيها لتوبة بن الحمير، أما تغزّلها فيه فالموجود نادر. هل تفرّغت النساء لنظم الدموع والولولة والرثاء، فلمْ يبرعن إلا في هذا الغرض، حتى قال صاحب " أعلام النساء " إن أجود شعرهن هو " شعر الموتورات "؟ هل الأمر حقاً على هذا الحال، أم أن اتصاله بالرجل ودورانه حوله مكّن له، وبخاصة حين نرجع إلى الحديث الكثير حول كتابة أديبات الأندلس في فنون مختلفة؟ وهل يستقيم الأمر على هذا النحو مع شعر حفصة بنت الركون على سبيل المثال؟
إشكالية اطراد الرثاء دون غيره من " الأغراض "، لا تتسق مع عدم حضور سواه، ربما داخل " الغرض " ذاته، حيث لا ذكر لرثاء المرأة من الشاعرات.
هل فُرض الصمت على النساء، أم أنها لعبة الأقوى والأضعف، وهي التي نفت شعرهنّ غير المهتم بالذكر خارج الإطار، واحتفظت بما يدور حول الرجل، وإن قلّ؟ هل كان الخوف من " الغواية " التي تمثّلها الأنثى - لدى البعض - دافعاً لطرد شعر الإناث خارج السياق الإبداعي، بالرغم من وجود شواهد " نسائية " امتدّت إلى الغزل الصريح، واختزال الأنثى في عضو الذكورة، مثلما فعلت ثواب بنت عبد الله الحنيظلة؟ هل مللتُ من الأسئلة؟ هل تعامل التاريخ - كما يبدو - بكثير من الصلف الذكوري، والاستعلاء المستغني، مع إبداعات الأنثى، كما لعبت مسألة "المذكّر والمؤنّث " - من دون تصدير التقييم الفني - دوراً أساسياً في المسألة، وظلّ الشعر " فحلاً " لا ينتسب إلى الأنثى، بل يُعاب عليها أن تقوله، ويُنقص من الرجال الاحتفاظ به (شِعرها)، ناهيك عن الاهتمام، فيقصرون المحفوظ - إلا قليلاً - على المتصل بالرجل، والممجّد له، وبخاصة شعر الرثاء. وقد وعى الشعراء ذلك فكانت النسبة إلى الأنثى في الإبداع فاصلة في القضية: " شيطانه أنثى وشيطاني ذكر"، كما قال أبو النجم الراجز مفتخراً بشيطانه، الذكر بالطبع، على العكس من ربّات الشعر لدى هوراس، وغيره.
وفي التعريف اللغوي للقصيدة نجد القصيدة " ذكراً "، ويطرد قولهم " قصيد" دون قصيدة، فكأنهم أنفوا التأنيث. ويقدّم صاحب اللسان ترادف " القصيدة " مع الناقة السمينة والعصاة والمرأة تقصد للفجور، ويليه قوله: ومن الشعر ما جاوز سبعة أبيات وقيل عشرة (هذا المعيار الكمّي مغلوط بالطبع، فالقصيدة هي المتعدّدة الأغراض، والمقطّعة هي ذات الغرض الواحد).
لا تهاجم هذه السطور الذائقة القديمة، ولا تنطلق من تحيّز للأنثى أو الهجوم على العرب، فنفي المرأة من مدائن الشعر أهون من نفيها من " المدينة الفاضلة"، لكن - وهذا هو محكّ السطور - يبدو أن الظاهرة مطردة حتى الآن. وإلا فلماذا لا تفوز الشاعرات العربيات الحاليات بجوائز الشعر؟ الجوائز ليست معياراً. أعرف. إنها مجرّد شاهد. هل هو الخوف من الغواية؟ والاستنكاف من رفع صوتها الشعري؟ ولماذا لم تبرز شاعرة بحجم نازك الملائكة، هذا إذا اتفقنا - أساساً - على أنها نالت مكانتها المناسبة لإمكاناتها الشعرية، والشعرية فحسب؟ هل يستطيع الجيل الجديد من الشاعرات الانفلات من هذه الترسّبات الأيديولوجية لقيادة حركة، أو قاطرة انقلابات تنحرف عن قضبان الموجود. المسألة بحاجة إلى أنثى متحدّية ومبدعة، أو أن الشعر سيظلّ " فحلاً ".
«الغاوون»، العدد 3، 1 أيّار 2008
.
هل كان بشار بن برد يعني ما قاله حين أعلن عن نفي المرأة خارج قداسة رحاب الشعر، ورأى أنها لا تقول شعراً إلا بان فيه الضعف، فلمّا اعترضوا عليه بالخنساء قال: تلك كان لها أربع خصيّ؟!
وهل كان العقّاد - رغم حماسته الشديدة لحرية التعبير - يؤصّل ذلك حين رأى أن شعر الخنساء " بايخ "، فضلاً عن رأيه في فشل المرأة في أمور حياتها كلّها، حتى في أدقّ اهتماماتها، كالزينة وتفصيل الملابس؟!
أيضاً، هل كان المبرّد يؤصّل ذلك حين رأى أنه " رُبَّ امرأة تتقدّم في صناعة، وقلّ ما يكون ذلك "؟!
هل كان التاريخ نزيهاً حين قصر شعر ولاّدة بنت المستكفي على بيتَيْها المعروفَيْن:
"أنا والله أصلح للمعالي = وأمشي مشيتي وأتيه تيها
أمكّن عاشقي من صحن خدّي = وأعطي قبلتي من يشتهيها"؟
وهل اقتصر - فعلاً - شعر بثينة على بيتَيْن رثت بهما جميلاً، عندما نُعي إليها، فقالت:
"وإن سلوي عن جميل لساعة = من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواءٌ علينا يا جميل بن معمر = إذا متَّ، بأساءُ الحياة ولينها"؟
وإذا كانت الأعراف القديمة قد مارست دور الكبت مع بثينة، وأضرابها، فكيف يمكن تفسيره مع البيئة الأندلسية المفتوحة؟ ولماذا كان للمرأة حضورها الكبير في شؤون أخرى؟
أغلب الظن أن الأمر مردود إلى تعامل نوعيّ (ذكر/ أنثى) التزمه النقّاد، وجامعو الأدب مع أشعار النساء، فراحوا ينظرون إلى القائل ونوعه وجنسه من دون الاهتمام العادل بما يقوله القائل، فلمجرّد أنها أنثى يقولون للمدوِّن خلفهم: " خرِّق... خرِّق "!
المحفوظ بكثرة هو الشعر الموجّه إلى الذكر، والدائر - في أغلبه - حول رثائه، والتفجّع عليه، لتلتزم الشاعرة الصمت طيلة حياتها، فإذا مات " الذكر" انبجس الشعر - فجأة - منها ليملأ السطور، وربما الدواوين. هكذا الحال مع ليلى الأخيلية، التي يحتفظ التاريخ بمراثيها لتوبة بن الحمير، أما تغزّلها فيه فالموجود نادر. هل تفرّغت النساء لنظم الدموع والولولة والرثاء، فلمْ يبرعن إلا في هذا الغرض، حتى قال صاحب " أعلام النساء " إن أجود شعرهن هو " شعر الموتورات "؟ هل الأمر حقاً على هذا الحال، أم أن اتصاله بالرجل ودورانه حوله مكّن له، وبخاصة حين نرجع إلى الحديث الكثير حول كتابة أديبات الأندلس في فنون مختلفة؟ وهل يستقيم الأمر على هذا النحو مع شعر حفصة بنت الركون على سبيل المثال؟
إشكالية اطراد الرثاء دون غيره من " الأغراض "، لا تتسق مع عدم حضور سواه، ربما داخل " الغرض " ذاته، حيث لا ذكر لرثاء المرأة من الشاعرات.
هل فُرض الصمت على النساء، أم أنها لعبة الأقوى والأضعف، وهي التي نفت شعرهنّ غير المهتم بالذكر خارج الإطار، واحتفظت بما يدور حول الرجل، وإن قلّ؟ هل كان الخوف من " الغواية " التي تمثّلها الأنثى - لدى البعض - دافعاً لطرد شعر الإناث خارج السياق الإبداعي، بالرغم من وجود شواهد " نسائية " امتدّت إلى الغزل الصريح، واختزال الأنثى في عضو الذكورة، مثلما فعلت ثواب بنت عبد الله الحنيظلة؟ هل مللتُ من الأسئلة؟ هل تعامل التاريخ - كما يبدو - بكثير من الصلف الذكوري، والاستعلاء المستغني، مع إبداعات الأنثى، كما لعبت مسألة "المذكّر والمؤنّث " - من دون تصدير التقييم الفني - دوراً أساسياً في المسألة، وظلّ الشعر " فحلاً " لا ينتسب إلى الأنثى، بل يُعاب عليها أن تقوله، ويُنقص من الرجال الاحتفاظ به (شِعرها)، ناهيك عن الاهتمام، فيقصرون المحفوظ - إلا قليلاً - على المتصل بالرجل، والممجّد له، وبخاصة شعر الرثاء. وقد وعى الشعراء ذلك فكانت النسبة إلى الأنثى في الإبداع فاصلة في القضية: " شيطانه أنثى وشيطاني ذكر"، كما قال أبو النجم الراجز مفتخراً بشيطانه، الذكر بالطبع، على العكس من ربّات الشعر لدى هوراس، وغيره.
وفي التعريف اللغوي للقصيدة نجد القصيدة " ذكراً "، ويطرد قولهم " قصيد" دون قصيدة، فكأنهم أنفوا التأنيث. ويقدّم صاحب اللسان ترادف " القصيدة " مع الناقة السمينة والعصاة والمرأة تقصد للفجور، ويليه قوله: ومن الشعر ما جاوز سبعة أبيات وقيل عشرة (هذا المعيار الكمّي مغلوط بالطبع، فالقصيدة هي المتعدّدة الأغراض، والمقطّعة هي ذات الغرض الواحد).
لا تهاجم هذه السطور الذائقة القديمة، ولا تنطلق من تحيّز للأنثى أو الهجوم على العرب، فنفي المرأة من مدائن الشعر أهون من نفيها من " المدينة الفاضلة"، لكن - وهذا هو محكّ السطور - يبدو أن الظاهرة مطردة حتى الآن. وإلا فلماذا لا تفوز الشاعرات العربيات الحاليات بجوائز الشعر؟ الجوائز ليست معياراً. أعرف. إنها مجرّد شاهد. هل هو الخوف من الغواية؟ والاستنكاف من رفع صوتها الشعري؟ ولماذا لم تبرز شاعرة بحجم نازك الملائكة، هذا إذا اتفقنا - أساساً - على أنها نالت مكانتها المناسبة لإمكاناتها الشعرية، والشعرية فحسب؟ هل يستطيع الجيل الجديد من الشاعرات الانفلات من هذه الترسّبات الأيديولوجية لقيادة حركة، أو قاطرة انقلابات تنحرف عن قضبان الموجود. المسألة بحاجة إلى أنثى متحدّية ومبدعة، أو أن الشعر سيظلّ " فحلاً ".
«الغاوون»، العدد 3، 1 أيّار 2008
.
صورة مفقودة