نقوس المهدي
كاتب
أستميح القرّاء المهمومين بالشأن العام عذراً: لن أكتب هذه المرة، عن القَدَر العربي. ولا عن الجوع. ولا عن الألم. ولا عن الحرب. ولا عن الثورة. ولا عن الجلاّد. ولا عن التشرّد. ولا عن اللجوء. ولا عن المرض. ولا عن الموت. ولا عن المستحيلات والممكنات العربية والشرقية. ولا عن الاستبداد والدين والتكفير. ولا عن الرئاسة اللبنانية التي ينهشها صغار أهل الدهر بأنيابهم الموبوءة. بل سأكتب في موضوع "متخلّف" للغاية. هو في حقيقته الناصعة، ليس موضوعاً، بل حالة. ففي حينٍ ما، يجد المرء نفسه مستدرَجاً إلى بئره الشخصية، مستحبّاً التأمل والتيه والغرق في مرايا النرجس، منضمّاً إلى أجواق المجروحين المعطوبين العازفين والمرنّمين ممّن ينتمون إلى أهل الهوى المذبوح!
قد لا يستسيغ أحدٌ في الحياة الحديثة الراهنة، وقوف عاشقٍ، أو شاعرٍ، في شبّاك امرأةٍ ما، ساهراً الليل بطوله، أو بعضه، لاعتقاده أن محبوبته الممتنعة عليه، لا بدّ أن يوقظها قلبها في لحظة حاسمة، فتلاقيه على غير وعدٍ وموعد، ليتبادلا جمر الوله، ويتخاطبا بعطور الجسد، وبسوى الجسد من تأوّه النظر والشفاه والكلام، وهو بعض ما يتيسر من سبل الفيض الغرامي.
أغلب الظنّ، أنها قد انقضت إلى غير رجوع، في أزمنة وسائل التواصل الافتراضي والكيتش هذه، طقوس تلك اللقاءات والمخاطبات الغرامية، التي كانت تفترضها أزمنة الوقوف الرومنطيقي وأمزجته وشروطه. وإلى أن يتثبّت شباب اليوم، والعشّاق مطلقاً، من ملذّات العودة إلى حالات ووقائع كهذه، لا أجد أيّ حرجٍ أدبي في إشهار ما كنتُ عليه، وما لا أزال منتمياً إليه، من تهيّؤ طبيعي، وأكاد أقول ما أنا عليه من تهيّؤ عائلي، لعيش طقسٍ "متخلّف" كهذا، ضارباً بعرض الحائط، ما يقال عن تغيّر الأزمنة، وما يُستحسَن من معايير العلاقات الغرامية المستحدثة، في عالم التواصل الاجتماعي هذا، الذي أحدث انقلاباً جوهرياً في حياة الناس، وأخلاقياتهم، ومفاهيمهم، وفي قوانين التلاقي بين المحبّين.
أنبّه مَن قد يعتريه التباس: هذا ليس إعلاناً، على غرار الإعلانات المبوّبة، التي تبتغي استدراج العروض. كلاّ. إنه محض تكريمٍ لمفهومٍ حياتيّ، يُرجى استمراره في العلاقات العاطفية. فليُسمَح لي بأن أزعم زعماً بحتاً، أني واحد من هذه الجماعة الرومنطيقية المنقرضة. وإذا جمح بي ادعاءٌ، في وقتٍ من أوقات الجحيم، وهي كثيرة عندي، فقد أكون، ربما، الرومنطيقي الوحيد الذي يتجرأ – الآن - هذا التجرؤ الوجداني الكتابي العلني، داعياً إلى التمسك بشيءٍ من روحية تلك اللقاءات والمخاطبات، بل إلى استعادة طقوسها برمّتها، وأمزجتها وشروطها، لتكون هذه الطريقة "الرجعية" التي ربما فات أوانها، شهادةً ملموسة ضدّ تشيئ الحياة الراهنة، وضدّ إفقادها جوهراً خالداً من أساسياتها القلبية المطلقة.
هل أجدني أستحسن في اللحظة الراهنة أن أترك لغيري أن يحيا هذا الدور، تهيّباً، أو تهرّباً من موجبات الوقوف الرومنطيقي هذا، لأسباب ذاتية وموضوعية شتى؟! لن يُحرجني سؤالٌ كهذا، ولن يردعني عن استحسان الوقوف، على طريقة العشّاق الإيطاليين السابق عهدهم، وكم بالأحرى على طريقة أسلافنا العشّاق العرب، والشعراء منهم خصوصاً. وهو الاستحسان الذي أراني أدعو أهل الهوى، الفتيات والفتيان، ومعهم الناضجون والكهول والشيوخ، إلى السير في ركابه، من دون أيّ تحفّظ أو تردّد.
لقد سبق لي، على سبيل الصدقية في تسجيل وقائع من سيرتي المكتوبة، بلغة الشعرية السردية، أن كتبتُ أني رومنطيقي أباً عن جد، وأني متورّط حتى العظم في مآلات الرومنطيقية، شرط أن تتحرّر من سذاجتها المبسّطة، وأن تتوهّج التوهّج الجحيمي، على طريقة جحيم دانتي، ما يمكّنها من أن تكون ذات فاعلية حياتية وأدبية صاعقة، لا عيب أو نقصان فيها، ولا شفاء منها. حتى لأشعر، والحال هذه، بالانتقال الفعلي إلى أزمنة ذلك الوقوف وأمزجته وشروطه. ذلك، ليس من باب التحسّر على زمن مضى، أو من باب التماهي، بل فقط من أجل الشهادة والتحريض.
فمن جهة، أشهد أني أجسّد في روحي وجسمي "الناضجَين" و"الحكيمَين"، كينونةَ الفتى، شخصه، انفعالاته، مشاعره، غرائزه، أحلامه، تابوهاته، وردود أفعاله. الفتى، الذي "يسمح" لنفسه بأن يكون مَن يكون، غير حاسبٍ حساباً لما ينجم من أحوال، عندما يشجّ رأسه بحائط، أو قلبه بسكّين، لا فرق أكان الوجع مادياً أو معنوياً. الفتى، الذي، إذا كنتُ أتحصّن بخفاءٍ لطيف، وراء متاريس التجربة والخبرة والتأمل، ممزوجةً بالمراس الأدبي، اللغوي، العقلي والثقافي، لا شيء يحول بيني وبين أن أكونه، وأن أتعلّق بأهداب لاوعيه وأفعاله، أياً كانت، ومهما كانت. أرجو أن أظلّ على هذه الحال من عدم الاغتراب عن كينونة الفتى، لسببٍ واحد وحيد، مختصره وفحواه أني لا أريد أن أكون غير ما أنا عليه في الطبع وفي التهيّؤ. ومثلما يلعب المقامر لعبته مكشوفةً، ألعب حياتي على هذا الغرار الخطير، "صولد"، محصَّناً بجموح الربع الأول من العمر، بعصفه، وبناره التي تلتهم الأخضر قبل اليابس!
من جهة ثانية، أحرّض الفتية العشّاق، الفعليين والافتراضيين، تحريضاً استفزازياً لا هوادة فيه، داعياً إياهم، الآن، فوراً، وابتداءً من هذه اللحظة، إلى أن يستعيدوا في علاقاتهم الغرامية وفي عيشهم اليومي، ما فقدناه من ألق الرومنطيقية المذهلة.
والحال هذه، قد أقترح على أحدهم أن يتلبّس دعوتي – دعوتي فحسب - وأن يكون هو الذي يقف في ذلك الشبّاك، مناجياً امرأةً عصيةً، كتلك المرأة العصية، التي تتحدث عنها قلوب المجروحين وأشعار الشعراء، والتي أعتقد أنه لم يفت أوان وجودها.
سأستخدم من أجل هذا "الآخر"، شاشة كومبيوتر، أي ما يوازي القلم والورقة، من أجل الأدب ليس إلاّ. فمن وراء الشاشة، يمكنني أن أفعل أكثر مما فعله، في القصة الشهيرة المعروفة، صاحبُ الأنف الطويل سيرانو دو برجوراك، الذي كان لسانَ الفتى العاشق، الواقف في شبّاك محبوبته، منتظراً وقوع كلماته في عقلها وقوع السهم في القلب المحموم.
فلأتابع، ودائماً من أجل هذا "الآخر" أيضاً، وعلى لسانه: ها أنا، وحيد هذا الليل الذي يستنفر الحلم، وينوّم العيون والآذان، أتسلّل إليكِ التسلّل الذي قد يفضي إلى سقوط، أو إلى افتضاح. لا يهمّني أن أسقط. فرضوضي هائلة وكسوري لا شفاء منها. كما لا يهمّني افتضاح أمري، لأني مبثوثٌ في فضيحة الحياة والكتابة والهواء. ولا خلاص. جلّ ما أبتغيه أن لا أعثر على عينيكِ لأهتدي إلى استسلام، بل لأضيع أكثر. أشهى ما أشتهيه أن أظلّ تائهاً، غير مدركٍ معنى الزمن، ومكر عبوره، وهول الغدر الذي يقيم في طيّاته، فأصل إلى نهاية عمري كما لو أني لا أزال في تيه البدايات.
فلأتابع أكثر أكثر: عجباً! إذا كنتُ فعلاً وراء شاشة كومبيوتر، وتحت هذا السقف، في حين ينبغي لي أن أكون في شبّاك امرأةٍ ما، فمن أين يأتي البلل؟! أهو فعلُ المطر أم هي حياتي تصير قابلةً للعيش كلّما تبلّلتْ بوجودكِ؟! يمكنكِ أن تتأفّفي أو تسخري لأني أحبّ الشتاء ولا أستحسن الصيف. النساء في الأعمّ الأغلب ينتظرن الصيف لتفسير الجسد واستدراجه إلى ما لا يقوله في العادة. قمرُكِ الباهر شمسُ ليلكِ والنهار، وليس ثمة حاجةٌ إلى ضوء ليطلع الضوء. شهوتُكِ تكفي ليتبلّل الصيف ويشتعل الشتاء. لكنها تمطر في الخارج، والوقت ليس ملائماً للشتاء. أزعم أن هذا المطر هو من تلك الكهرباء التي تُحدثينها في أجسام الغيوم وارتباكاتها. فلتمطر إذاً، ودائماً، لأن هذا المطر هو سبيلي إليكِ وإلى ارتباك الوقت. ثمّ إن قامتكِ عالية وممهورة بالشبق. وإذا كانت تشبه شجر السرو، فلأن شهوتها صعبة، كثيفة ومضمرة. هكذا أستطيع أن أثابر. أن أتكئ. أو أن أتساقط. هذا كلّه، يمثّل ذهول الجاذبية عن ذاتها.
كنتُ قبل قليل أطالب بعينيكِ لكي أضيع. الآن، يعفيني من النظر إليكِ أنني لا أحتاج إلى عينيَّ لأرى التيه الذي أنا فيه. يكفيني أنكِ موجودة لأتيه.
تنبيهٌ أوّل، لمَن قد يعتريه التباسٌ، من العشّاق ومن الشعراء، حول معنى الرومنطيقية: أنْ تكون رومنطيقياً، عاشقاً رومنطيقياً، وشاعراً رومنطيقياً، اليوم، الآن؛ يعني أن تتجمّع فيكَ الأزمنة كلّها، العشّاق جميعهم، والشعراء كلّهم. وأن تكون حفيد هذا الزمن، وارثه، وكيمياءه التي تستجمع كلّ المكتسبات والمسبقات، وتذهب بها إلى كيمياءات أخرى. يعني أن تكون، أكثر، أكثر؛ قادراً على أن تحمل في ذاتكَ المضرّجة، وفي لغتكَ المضرّجة، فرسان كلّ زمان ومكان، وشعراء كلّ زمان ومكان، و... أن تكون مستقبلهم.
أن تكون شاتوبريان وبودلير وريلكه والياس أبو شبكة ومحمد الماغوط وأنسي الحاج، لكنْ أن تكون أنتَ، بذاتكَ، بلغتكَ، بجحيمكَ، أي برومنطيقية هذا الزمن، شعريته، لغته، وسائط تواصله، مفاهيمه، طقوسه، وأمزجته. هذا هو المعنى في أن تكون رومنطيقياً، عاشقاً وشاعراً اليوم، مستوعباً وماحياً كلّ معنى رومنطيقي سابق؛ وفي الآن نفسه، مستوعباً وماحياً كلّ شاعر رومنطيقي سابق. فمَن في مقدوره أن يحمل هذا العبء الجليل الهائل؟!
تنبيهٌ ثانٍ: ثمة مَن قد يعتريه التباسٌ حيال المقصد والغاية، مما رأيتُ أنه يستحقّ أن يكون مادةً لهذا المقال. إنه ليس إعلاناً شخصياً، على طريقة الاعلانات المبوّبة، بهدف استدراج العروض. كلاّ. إنه فخٌّ فحسب، ألقيه في ماء البحيرة، ليعلق فيه العشّاق والشعراء الشباب، من الجنسَين. هذا الفخّ، هو وحده، في رأيي المتواضع، دواء أهل الهوى، عشّاقاً وشعراء!
.
Léon Auguste Adolphe Belly
(1827–1877)
قد لا يستسيغ أحدٌ في الحياة الحديثة الراهنة، وقوف عاشقٍ، أو شاعرٍ، في شبّاك امرأةٍ ما، ساهراً الليل بطوله، أو بعضه، لاعتقاده أن محبوبته الممتنعة عليه، لا بدّ أن يوقظها قلبها في لحظة حاسمة، فتلاقيه على غير وعدٍ وموعد، ليتبادلا جمر الوله، ويتخاطبا بعطور الجسد، وبسوى الجسد من تأوّه النظر والشفاه والكلام، وهو بعض ما يتيسر من سبل الفيض الغرامي.
أغلب الظنّ، أنها قد انقضت إلى غير رجوع، في أزمنة وسائل التواصل الافتراضي والكيتش هذه، طقوس تلك اللقاءات والمخاطبات الغرامية، التي كانت تفترضها أزمنة الوقوف الرومنطيقي وأمزجته وشروطه. وإلى أن يتثبّت شباب اليوم، والعشّاق مطلقاً، من ملذّات العودة إلى حالات ووقائع كهذه، لا أجد أيّ حرجٍ أدبي في إشهار ما كنتُ عليه، وما لا أزال منتمياً إليه، من تهيّؤ طبيعي، وأكاد أقول ما أنا عليه من تهيّؤ عائلي، لعيش طقسٍ "متخلّف" كهذا، ضارباً بعرض الحائط، ما يقال عن تغيّر الأزمنة، وما يُستحسَن من معايير العلاقات الغرامية المستحدثة، في عالم التواصل الاجتماعي هذا، الذي أحدث انقلاباً جوهرياً في حياة الناس، وأخلاقياتهم، ومفاهيمهم، وفي قوانين التلاقي بين المحبّين.
أنبّه مَن قد يعتريه التباس: هذا ليس إعلاناً، على غرار الإعلانات المبوّبة، التي تبتغي استدراج العروض. كلاّ. إنه محض تكريمٍ لمفهومٍ حياتيّ، يُرجى استمراره في العلاقات العاطفية. فليُسمَح لي بأن أزعم زعماً بحتاً، أني واحد من هذه الجماعة الرومنطيقية المنقرضة. وإذا جمح بي ادعاءٌ، في وقتٍ من أوقات الجحيم، وهي كثيرة عندي، فقد أكون، ربما، الرومنطيقي الوحيد الذي يتجرأ – الآن - هذا التجرؤ الوجداني الكتابي العلني، داعياً إلى التمسك بشيءٍ من روحية تلك اللقاءات والمخاطبات، بل إلى استعادة طقوسها برمّتها، وأمزجتها وشروطها، لتكون هذه الطريقة "الرجعية" التي ربما فات أوانها، شهادةً ملموسة ضدّ تشيئ الحياة الراهنة، وضدّ إفقادها جوهراً خالداً من أساسياتها القلبية المطلقة.
هل أجدني أستحسن في اللحظة الراهنة أن أترك لغيري أن يحيا هذا الدور، تهيّباً، أو تهرّباً من موجبات الوقوف الرومنطيقي هذا، لأسباب ذاتية وموضوعية شتى؟! لن يُحرجني سؤالٌ كهذا، ولن يردعني عن استحسان الوقوف، على طريقة العشّاق الإيطاليين السابق عهدهم، وكم بالأحرى على طريقة أسلافنا العشّاق العرب، والشعراء منهم خصوصاً. وهو الاستحسان الذي أراني أدعو أهل الهوى، الفتيات والفتيان، ومعهم الناضجون والكهول والشيوخ، إلى السير في ركابه، من دون أيّ تحفّظ أو تردّد.
لقد سبق لي، على سبيل الصدقية في تسجيل وقائع من سيرتي المكتوبة، بلغة الشعرية السردية، أن كتبتُ أني رومنطيقي أباً عن جد، وأني متورّط حتى العظم في مآلات الرومنطيقية، شرط أن تتحرّر من سذاجتها المبسّطة، وأن تتوهّج التوهّج الجحيمي، على طريقة جحيم دانتي، ما يمكّنها من أن تكون ذات فاعلية حياتية وأدبية صاعقة، لا عيب أو نقصان فيها، ولا شفاء منها. حتى لأشعر، والحال هذه، بالانتقال الفعلي إلى أزمنة ذلك الوقوف وأمزجته وشروطه. ذلك، ليس من باب التحسّر على زمن مضى، أو من باب التماهي، بل فقط من أجل الشهادة والتحريض.
فمن جهة، أشهد أني أجسّد في روحي وجسمي "الناضجَين" و"الحكيمَين"، كينونةَ الفتى، شخصه، انفعالاته، مشاعره، غرائزه، أحلامه، تابوهاته، وردود أفعاله. الفتى، الذي "يسمح" لنفسه بأن يكون مَن يكون، غير حاسبٍ حساباً لما ينجم من أحوال، عندما يشجّ رأسه بحائط، أو قلبه بسكّين، لا فرق أكان الوجع مادياً أو معنوياً. الفتى، الذي، إذا كنتُ أتحصّن بخفاءٍ لطيف، وراء متاريس التجربة والخبرة والتأمل، ممزوجةً بالمراس الأدبي، اللغوي، العقلي والثقافي، لا شيء يحول بيني وبين أن أكونه، وأن أتعلّق بأهداب لاوعيه وأفعاله، أياً كانت، ومهما كانت. أرجو أن أظلّ على هذه الحال من عدم الاغتراب عن كينونة الفتى، لسببٍ واحد وحيد، مختصره وفحواه أني لا أريد أن أكون غير ما أنا عليه في الطبع وفي التهيّؤ. ومثلما يلعب المقامر لعبته مكشوفةً، ألعب حياتي على هذا الغرار الخطير، "صولد"، محصَّناً بجموح الربع الأول من العمر، بعصفه، وبناره التي تلتهم الأخضر قبل اليابس!
من جهة ثانية، أحرّض الفتية العشّاق، الفعليين والافتراضيين، تحريضاً استفزازياً لا هوادة فيه، داعياً إياهم، الآن، فوراً، وابتداءً من هذه اللحظة، إلى أن يستعيدوا في علاقاتهم الغرامية وفي عيشهم اليومي، ما فقدناه من ألق الرومنطيقية المذهلة.
والحال هذه، قد أقترح على أحدهم أن يتلبّس دعوتي – دعوتي فحسب - وأن يكون هو الذي يقف في ذلك الشبّاك، مناجياً امرأةً عصيةً، كتلك المرأة العصية، التي تتحدث عنها قلوب المجروحين وأشعار الشعراء، والتي أعتقد أنه لم يفت أوان وجودها.
سأستخدم من أجل هذا "الآخر"، شاشة كومبيوتر، أي ما يوازي القلم والورقة، من أجل الأدب ليس إلاّ. فمن وراء الشاشة، يمكنني أن أفعل أكثر مما فعله، في القصة الشهيرة المعروفة، صاحبُ الأنف الطويل سيرانو دو برجوراك، الذي كان لسانَ الفتى العاشق، الواقف في شبّاك محبوبته، منتظراً وقوع كلماته في عقلها وقوع السهم في القلب المحموم.
فلأتابع، ودائماً من أجل هذا "الآخر" أيضاً، وعلى لسانه: ها أنا، وحيد هذا الليل الذي يستنفر الحلم، وينوّم العيون والآذان، أتسلّل إليكِ التسلّل الذي قد يفضي إلى سقوط، أو إلى افتضاح. لا يهمّني أن أسقط. فرضوضي هائلة وكسوري لا شفاء منها. كما لا يهمّني افتضاح أمري، لأني مبثوثٌ في فضيحة الحياة والكتابة والهواء. ولا خلاص. جلّ ما أبتغيه أن لا أعثر على عينيكِ لأهتدي إلى استسلام، بل لأضيع أكثر. أشهى ما أشتهيه أن أظلّ تائهاً، غير مدركٍ معنى الزمن، ومكر عبوره، وهول الغدر الذي يقيم في طيّاته، فأصل إلى نهاية عمري كما لو أني لا أزال في تيه البدايات.
فلأتابع أكثر أكثر: عجباً! إذا كنتُ فعلاً وراء شاشة كومبيوتر، وتحت هذا السقف، في حين ينبغي لي أن أكون في شبّاك امرأةٍ ما، فمن أين يأتي البلل؟! أهو فعلُ المطر أم هي حياتي تصير قابلةً للعيش كلّما تبلّلتْ بوجودكِ؟! يمكنكِ أن تتأفّفي أو تسخري لأني أحبّ الشتاء ولا أستحسن الصيف. النساء في الأعمّ الأغلب ينتظرن الصيف لتفسير الجسد واستدراجه إلى ما لا يقوله في العادة. قمرُكِ الباهر شمسُ ليلكِ والنهار، وليس ثمة حاجةٌ إلى ضوء ليطلع الضوء. شهوتُكِ تكفي ليتبلّل الصيف ويشتعل الشتاء. لكنها تمطر في الخارج، والوقت ليس ملائماً للشتاء. أزعم أن هذا المطر هو من تلك الكهرباء التي تُحدثينها في أجسام الغيوم وارتباكاتها. فلتمطر إذاً، ودائماً، لأن هذا المطر هو سبيلي إليكِ وإلى ارتباك الوقت. ثمّ إن قامتكِ عالية وممهورة بالشبق. وإذا كانت تشبه شجر السرو، فلأن شهوتها صعبة، كثيفة ومضمرة. هكذا أستطيع أن أثابر. أن أتكئ. أو أن أتساقط. هذا كلّه، يمثّل ذهول الجاذبية عن ذاتها.
كنتُ قبل قليل أطالب بعينيكِ لكي أضيع. الآن، يعفيني من النظر إليكِ أنني لا أحتاج إلى عينيَّ لأرى التيه الذي أنا فيه. يكفيني أنكِ موجودة لأتيه.
تنبيهٌ أوّل، لمَن قد يعتريه التباسٌ، من العشّاق ومن الشعراء، حول معنى الرومنطيقية: أنْ تكون رومنطيقياً، عاشقاً رومنطيقياً، وشاعراً رومنطيقياً، اليوم، الآن؛ يعني أن تتجمّع فيكَ الأزمنة كلّها، العشّاق جميعهم، والشعراء كلّهم. وأن تكون حفيد هذا الزمن، وارثه، وكيمياءه التي تستجمع كلّ المكتسبات والمسبقات، وتذهب بها إلى كيمياءات أخرى. يعني أن تكون، أكثر، أكثر؛ قادراً على أن تحمل في ذاتكَ المضرّجة، وفي لغتكَ المضرّجة، فرسان كلّ زمان ومكان، وشعراء كلّ زمان ومكان، و... أن تكون مستقبلهم.
أن تكون شاتوبريان وبودلير وريلكه والياس أبو شبكة ومحمد الماغوط وأنسي الحاج، لكنْ أن تكون أنتَ، بذاتكَ، بلغتكَ، بجحيمكَ، أي برومنطيقية هذا الزمن، شعريته، لغته، وسائط تواصله، مفاهيمه، طقوسه، وأمزجته. هذا هو المعنى في أن تكون رومنطيقياً، عاشقاً وشاعراً اليوم، مستوعباً وماحياً كلّ معنى رومنطيقي سابق؛ وفي الآن نفسه، مستوعباً وماحياً كلّ شاعر رومنطيقي سابق. فمَن في مقدوره أن يحمل هذا العبء الجليل الهائل؟!
تنبيهٌ ثانٍ: ثمة مَن قد يعتريه التباسٌ حيال المقصد والغاية، مما رأيتُ أنه يستحقّ أن يكون مادةً لهذا المقال. إنه ليس إعلاناً شخصياً، على طريقة الاعلانات المبوّبة، بهدف استدراج العروض. كلاّ. إنه فخٌّ فحسب، ألقيه في ماء البحيرة، ليعلق فيه العشّاق والشعراء الشباب، من الجنسَين. هذا الفخّ، هو وحده، في رأيي المتواضع، دواء أهل الهوى، عشّاقاً وشعراء!
.
صورة مفقودة
Léon Auguste Adolphe Belly
(1827–1877)