نقوس المهدي
كاتب
السّرير العربي إن حكى كتاب شيرين الفقي "الجنس والقلعة" صدر في ترجمة هولندية
فيما تسيطر صور الفوضى المسلحة والمجازر الوحشية في العالم العربي، على ذهنية المتلقي الغربي، وبعد أكثر من سنوات ثلاث على اندلاع ثورات "الربيع" الناري، صدرت مؤخراً في أمستردام الترجمة الهولندية لكتاب الباحثة البريطانية - مصرية الأصل، شيرين الفقي، المعنون "الجنس والقلعة - Seks en de citadel" عن دار نشر "ده خوس". وعلى الغلاف الأمامي للكتاب كتبت الباحثة الهولندية المتخصّصة في الشؤون العربية بترا ستينين تقول: "إقرأ هذا الكتاب لتفهم أنّنا من دون حريّات شخصية سننتظر أمداً طويلاً للحصول على الحريات السياسية"، في إشارة إلى المشاكل الأخرى التي تعصف بالعالم العربي في ظل المتغيرات السياسية الراهنة، وأهمها وضعية المرأة العربية والنظرة إليها من قبل تيارات سياسية تحكم باسم الدين.
الكتاب الذي رشّح من قبل لجائزة صحيفة "الغارديان" البريطانية المخصّصة للإصدار الأول للعام 2013، يغوص بنا في ما يمكن لنا أن نسمّيه "الرّدة" الثقافية التي يحياها العالم العربي اليوم في ما يخصّ الجنس. فالكاتبة تفتتح كتابها بالمثل الشعبي المصري القائل: "من فات قديمه تاه"، وهو المثل الذي كانت جدّتها المصرية تكرره على مسمعها حين تقارن بين حال الفتاة قديماً وما آلت إليه الأمور الآن. عبر الكتاب المثير (412 صفحة)، تأخذنا شيرين الفقي في رحلة طويلة وممتدّة عبر تاريخ العالم العربي لتبدأ من الحرية الجنسية التي عبّر عنها الشعر والنثر العربيين قبل ألف عام من الآن، حين كان شيوخ الدين هم من يكتب كتب الجنس ليهدوها للولاة والملوك. فتسترج في بحثها العديد من هذه الكتب، مثل "في العشق والباه" لابن قيم الجوزية، و"الروض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ محمد النّفزاوي، و"في المجون والسّخف" لأبي القاسم الأصبهاني، و"بلاغات النّساء" لابن طيفور، و"رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه"، وغيرها من الكتب التي أصبحت الآن تراثاً "محرّماً" و"ممنوعاً"، وصولاً إلى ما نجده اليوم في عالمنا العربي من إنغلاق وخوف وجهل يحيط بكلمة الجنس، التي أصبحت في حد ذاتها "عيباً" و"حراماً" وتستحق العقاب في أغلب المجتمعات العربية.
في "الجنس والقلعة" تكتب شيرين الفقي نتيجة رحلة بحثها الميدانية في عدد من البلدان العربية، من بينها مصر والمغرب وفلسطين وتونس ولبنان والكويت، في ما يخصّ السلوك الجنسي للأفراد وما يحدث في غرف النوم خلف الستائر المسدلة، مشيرة إلى أن اعتبار الحديث حول الجنس في العالم العربي اليوم "عيباً" و"حراماً" جعل الكثيرين لا يعرفون كيفية التواصل حول الموضوع أصلاً، خصوصاً أن غالبية البلدان العربية ترفض أي إشارة إلى الجنس في مناهج التعليم الرسمية لديها. وعلى هذا النحو يطالعنا، في كتاب الفقي، العديد من الظواهر المجتمعية المؤثرة في فكرة الجنس أو الناتجة عن عدم التسامح معه، مثل ظاهرة ختان الإناث في مصر والسودان وبلدان عربية أخرى، أو ظاهرة انتشار عمليات ترقيع غشاء البكارة التي مثّلت المنقذ الأخير للكثير من الفتيات بعدما فقدن عذريتهن، أو ظاهرة الطلاق السريع بسبب من الجهل الجنسي المتبادل بين الرجل والمرأة. كذلك تتناول الفقي في كتابها ظاهرة زواج القصّر في مجتمع مثل غزة مثلاً، وهي الزيجات التي تجمع طفلين تحت سقف واحد بموافقة الأهل خوفاً من انحراف الفتاة أو لجوئها إلى الجنس!
كنت أنتقل بين فصول الكتاب السّبعة، مستمتعاً بالحكايات التي جمعتها الكاتبة من أكثر من مئة رجل وامرأة في رحلاتها بين البلدان العربية. ومن بين سطور الكتاب، باغتتني، من وقت إلى آخر، وجوه التي عرفتها في حياتي. هنا مثلاً تباغتني حكاية سميرة بنت الجيران، التي هربت من والدها شيخ المسجد، لتعمل راقصة في شارع الهرم. وهنا يظهر وجه صديقي الفرنسي الذي جاء أوائل تسعينات القرن الماضي ليكتب عن عالم المثليين في قاهرة الألف مئذنة. وهناك أرملة زوّجت بناتها الثلاث من رجال صاروا عشّاقها. وهنا صديقة عربية ارتبطت بصديق هولندي فجاء يستفسر منّي: "ما الذي يجعل امرأة تقطع العملية الجنسية حين ينطلق الآذان من المسجد المجاور"؟!
ربّما يكون ما تكتبه شيرين الفقي عادياً بالنسبة إلينا كعرب، ولا جديد فيه. لكنّه في النهاية يكشف لنا عن أصل الداء ومكمن الوجع. فالكتاب باختصار شديد، شهادة موجعة للسّرير العربي إن تجرأ وحكى، وها هو يمتلك الجرأة عبر صفحات شيرين الفقي ليحكي ويسرد ويضعنا أمام مرآة لا تكذب ولا تتجمّل، كاشفاً ركاماً من التناقضات التي تحكم ثقافتنا الذكورية، وهوة تتّسع يوماً بعد يوم، عن تصوراتنا عن أنفسنا ورغباتنا وشهواتنا، أو ما قالته فتاة لبنانية للمؤلفة في الكتاب: "جسدي ملكي وحدي، لكنّي غير حرّة فيه"! أو كما حكت امرأة مغربية: "ماذا يريد الرجال منّا، ها أنا أمّ لطفلين وكلّ مرة أعود عذراء من جديد"! أو ما قالته فتاة فلسطينية في السادسة عشرة، تزوجت جارها ابن الخامسة والسّتين: "لا أريد جنساً، أريد أن أشعر بحنانه كأب، وأن يكفّ عن ضربي في كلّ مرة يشتهيني فيها"!
.
فيما تسيطر صور الفوضى المسلحة والمجازر الوحشية في العالم العربي، على ذهنية المتلقي الغربي، وبعد أكثر من سنوات ثلاث على اندلاع ثورات "الربيع" الناري، صدرت مؤخراً في أمستردام الترجمة الهولندية لكتاب الباحثة البريطانية - مصرية الأصل، شيرين الفقي، المعنون "الجنس والقلعة - Seks en de citadel" عن دار نشر "ده خوس". وعلى الغلاف الأمامي للكتاب كتبت الباحثة الهولندية المتخصّصة في الشؤون العربية بترا ستينين تقول: "إقرأ هذا الكتاب لتفهم أنّنا من دون حريّات شخصية سننتظر أمداً طويلاً للحصول على الحريات السياسية"، في إشارة إلى المشاكل الأخرى التي تعصف بالعالم العربي في ظل المتغيرات السياسية الراهنة، وأهمها وضعية المرأة العربية والنظرة إليها من قبل تيارات سياسية تحكم باسم الدين.
الكتاب الذي رشّح من قبل لجائزة صحيفة "الغارديان" البريطانية المخصّصة للإصدار الأول للعام 2013، يغوص بنا في ما يمكن لنا أن نسمّيه "الرّدة" الثقافية التي يحياها العالم العربي اليوم في ما يخصّ الجنس. فالكاتبة تفتتح كتابها بالمثل الشعبي المصري القائل: "من فات قديمه تاه"، وهو المثل الذي كانت جدّتها المصرية تكرره على مسمعها حين تقارن بين حال الفتاة قديماً وما آلت إليه الأمور الآن. عبر الكتاب المثير (412 صفحة)، تأخذنا شيرين الفقي في رحلة طويلة وممتدّة عبر تاريخ العالم العربي لتبدأ من الحرية الجنسية التي عبّر عنها الشعر والنثر العربيين قبل ألف عام من الآن، حين كان شيوخ الدين هم من يكتب كتب الجنس ليهدوها للولاة والملوك. فتسترج في بحثها العديد من هذه الكتب، مثل "في العشق والباه" لابن قيم الجوزية، و"الروض العاطر في نزهة الخاطر" للشيخ محمد النّفزاوي، و"في المجون والسّخف" لأبي القاسم الأصبهاني، و"بلاغات النّساء" لابن طيفور، و"رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه"، وغيرها من الكتب التي أصبحت الآن تراثاً "محرّماً" و"ممنوعاً"، وصولاً إلى ما نجده اليوم في عالمنا العربي من إنغلاق وخوف وجهل يحيط بكلمة الجنس، التي أصبحت في حد ذاتها "عيباً" و"حراماً" وتستحق العقاب في أغلب المجتمعات العربية.
في "الجنس والقلعة" تكتب شيرين الفقي نتيجة رحلة بحثها الميدانية في عدد من البلدان العربية، من بينها مصر والمغرب وفلسطين وتونس ولبنان والكويت، في ما يخصّ السلوك الجنسي للأفراد وما يحدث في غرف النوم خلف الستائر المسدلة، مشيرة إلى أن اعتبار الحديث حول الجنس في العالم العربي اليوم "عيباً" و"حراماً" جعل الكثيرين لا يعرفون كيفية التواصل حول الموضوع أصلاً، خصوصاً أن غالبية البلدان العربية ترفض أي إشارة إلى الجنس في مناهج التعليم الرسمية لديها. وعلى هذا النحو يطالعنا، في كتاب الفقي، العديد من الظواهر المجتمعية المؤثرة في فكرة الجنس أو الناتجة عن عدم التسامح معه، مثل ظاهرة ختان الإناث في مصر والسودان وبلدان عربية أخرى، أو ظاهرة انتشار عمليات ترقيع غشاء البكارة التي مثّلت المنقذ الأخير للكثير من الفتيات بعدما فقدن عذريتهن، أو ظاهرة الطلاق السريع بسبب من الجهل الجنسي المتبادل بين الرجل والمرأة. كذلك تتناول الفقي في كتابها ظاهرة زواج القصّر في مجتمع مثل غزة مثلاً، وهي الزيجات التي تجمع طفلين تحت سقف واحد بموافقة الأهل خوفاً من انحراف الفتاة أو لجوئها إلى الجنس!
كنت أنتقل بين فصول الكتاب السّبعة، مستمتعاً بالحكايات التي جمعتها الكاتبة من أكثر من مئة رجل وامرأة في رحلاتها بين البلدان العربية. ومن بين سطور الكتاب، باغتتني، من وقت إلى آخر، وجوه التي عرفتها في حياتي. هنا مثلاً تباغتني حكاية سميرة بنت الجيران، التي هربت من والدها شيخ المسجد، لتعمل راقصة في شارع الهرم. وهنا يظهر وجه صديقي الفرنسي الذي جاء أوائل تسعينات القرن الماضي ليكتب عن عالم المثليين في قاهرة الألف مئذنة. وهناك أرملة زوّجت بناتها الثلاث من رجال صاروا عشّاقها. وهنا صديقة عربية ارتبطت بصديق هولندي فجاء يستفسر منّي: "ما الذي يجعل امرأة تقطع العملية الجنسية حين ينطلق الآذان من المسجد المجاور"؟!
ربّما يكون ما تكتبه شيرين الفقي عادياً بالنسبة إلينا كعرب، ولا جديد فيه. لكنّه في النهاية يكشف لنا عن أصل الداء ومكمن الوجع. فالكتاب باختصار شديد، شهادة موجعة للسّرير العربي إن تجرأ وحكى، وها هو يمتلك الجرأة عبر صفحات شيرين الفقي ليحكي ويسرد ويضعنا أمام مرآة لا تكذب ولا تتجمّل، كاشفاً ركاماً من التناقضات التي تحكم ثقافتنا الذكورية، وهوة تتّسع يوماً بعد يوم، عن تصوراتنا عن أنفسنا ورغباتنا وشهواتنا، أو ما قالته فتاة لبنانية للمؤلفة في الكتاب: "جسدي ملكي وحدي، لكنّي غير حرّة فيه"! أو كما حكت امرأة مغربية: "ماذا يريد الرجال منّا، ها أنا أمّ لطفلين وكلّ مرة أعود عذراء من جديد"! أو ما قالته فتاة فلسطينية في السادسة عشرة، تزوجت جارها ابن الخامسة والسّتين: "لا أريد جنساً، أريد أن أشعر بحنانه كأب، وأن يكفّ عن ضربي في كلّ مرة يشتهيني فيها"!
.
صورة مفقودة