نقوس المهدي
كاتب
يتموضع الوشم كممارسة عاداتية، بين الفردي والجماعي، فهو عادة تقليدية ذات طابع «جماعي»، له غايات وطقوسية تتجاوز الجمالي إلى الهوياتي، في الوقت نفسه يمتدد في الزمن الحاضر كعادة حداثية ذات طابع «فردي» تقترب من الموضة والتقليعة التي يقبل عليها الشباب كنوع من التّعبير عن القلق الهوياتي، الباحث عن اِنتماء ما يمكن التعبير عنه من خلال الجسد (corps)، الذي يتحوّل وهو يستقبل الوشم إلى متن (corpus) يخبر عن تصوّرات تتجاوز الفردي إلى الجماعي سواء في المجتمعات التقليدية أم الحديثة، لهذا يصر بيير بورديو(1930-2002) على أن الاجتماعي هو الذي يصنع الجسد.
الوشم باعتباره وصما
إن الجسد الموشوم، رغم الغاية الجمالية للوشم في الكثير من المجتمعات التّقليدية، هو جسد موصوم ومنتهك وممتحن بشكل من الأشكال، إنه جسد جعله الوشّام ملاذا وسكنًا لمجموعة تصوّرات، خارجة عنه وغير أصيلة في تشكيله البدئي، اِلتصقت به عبر الوشم بشكل لم يعد ممكنا إخفاؤه بفعالية، لهذا يتجلى الوشم كانتهاك للجسد ورفض للطبيعة خاصة في المجتمعات ذات الثّقافة التقليدية والتي تعتبر الوشم، بالنسبة للنّساء خاصة، وسيلة تثبيت في الجماعة وأداة تعبير طقوسية، إنه وبالإضافة لكونه أداة تثبيث للفرد في الجماعة من خلال «ترسيمات الجسد» التي تتم وفق الهوى الاجتماعي، فهو وسيلة نفي ومقاومة، إنه يمنع انسراب «الغير» في «النحن» من خلال وصم النحن بوشم ظاهر يخبر عن اِنتماء عرقي وديني، ولغوي أحيانا، تعبر عنه رموز وأيقونات وحروف يتعارف أفراد الجماعة على مدلولاتها الرّمزية، خاصة بالنّسبة للمجتمعات الفسيفسائية التي تشكل نقاط التماس الهوياتي فيها نقاط توتر حادة. يمكن تقديم مثال عن المرأة الهندية في كشمير والتي يوشم اِسمها على يدها بمجرد زواجها ليكون دليل انتماء، وهي في حالة قدومها من فئة/ طائفة مغايرة لطائفة الزوج غالبا ما يتم تغيير اسمها ليكون دليلا على انتمائها الطائفي الجديد، وفي الوقت نفسه إقامة قطيعة هوياتية مع طائفتها السّابقة عبر تغيير الاسم، وعبر ترسيم الجسد بما يتلاءم مع الهوية الجديدة، بما أن الإسم في مثل هذه المجتمعات يحمل بدوره شحنة هوياتية تجعل الفرد معروف الانتماء بمجرد النّطق باسمه.
لم يكن الوشم عبر تاريخه الطّويل تعبيرًا عن الهوية فحسب، إنه وسيلة إذلال أيضا، حيث هناك الوشم/الوصم الذي يقع على فئات فاقدة لحريتها، فقد كان العبيد والمساجين في جلّ الحضارات القديمة يوصمون بالحديد المحمى بعلامات أبدية، في مناطق ظاهرة من الجسد أو يمكن الكشف عنها بسهولة، من أجل توكيد تبعيتهم كعبيد، أو بغية إمعان الإذلال والإهانة المضاعفة للسجين حتى بعد خروجه أو فراره من السجن، لكن الوشم كوسيلة إهانة ظل على هامش الممارسة الوشمية التي اِتخذت طابعًا إيجابيًا في غالبية المجتمعات التي اعتبرتها وسيلة تعبير وأداة زينة.
جداتنا الموشومات
سواء في منطقة القبائل، أو في جبال الأوراس، أو عند نساء الطوارق في الصّحراء، كان الوشم، إلى سنوات قليلة قبل الاستقلال، جزء من جسد المرأة الجزائرية، صاغه وشكّله وفق تصوّرات معينة، تلتقي في جزئيات وتفترق عند أخرى باختلاف المناطق والانتماءات العرقية أو اللّسانية(عرب وأمازيغ)، ولكن يظل الوشم عادة أصيلة وشديدة التجذر في الثقافة الشعبية الجزائرية، وكون الحديث محصور حول المرأة لا يعني بأن الرّجل الجزائري كان بعيدًا عن تعاطي هذه الممارسة، وعن كون جسده هو الآخر كان فضاء للوشم، لكن اِرتباط الوشم بالمرأة كان أشد بروزا، وأكثر تعبيرا عن مدلولات اجتماعية تشكل موضوعا خصبا لمقاربات أنثروبولوجية حيث إن الوشم كما الثياب وطقوس الطهارة والتمثلات الجنسية، سواء كفعل أو كتخيل، هي ما ينقل الجسد من مفهومه البيولوجي إلى مفهومه الأنثروبولوجي، والوشم بهذا المعنى، كممارسة ثقافية متعددة الوظائف (هوياتية، جمالية، علاجية، شعوذة..) يدخل ضمن عمليات ترسيم الجسد بالمعنى الأنثروبولوجي لهذه الكلمة والتي تحتوي أيضا على عمليات ذات هدف جمالي أو حمائي كثقب الأذن والأنف من أجل إدخال أدوات الزينة، تصفيح الفتاة حفاظا على عذريتها، الختان.. وهي غالبا عمليات تتم بشكل طقوسي ضمن الاحتفاليات الجماعية التي تسم مراحل العبور المختلفة التي يمر بها الفرد المتجه نحو اِندماج أكثر في الجماعة.
لم تكن رموز الجمال الموشومة على وجه المرأة الجزائرية واحدة، رغم اِشتراكها في طريقتين للوشم: الوشم المتصل، والوشم المنقطع، وهو عبارة عن كتابة أو رسم بالنقاط وليس خطا ملحتم الأجزاء كما في النوع الأول. وكون الوشم يتم بطريقين لا يعني أن كل طريقة تختص بها منطقة أو فئة معينة، إنما يمكن نجد ضمن القبيلة نفسها أو المنطقة ذاتها على الطريقتين معا، بل إن المرأة نفسها قد توشّم الوجه بطريقة واليد بطريقة أخرى، خاصة في حالة الوشم التزيني ذو الوظيفة الجمالية، فأشكال الوشم على جبين المرأة وخديها وذقنها ويديها سواء على الكف أو المرفق أو الكتف، هي أشكال معروفة ومكررة وتحظى بمقبولية اجتماعية تجعلها أنموذجا للواشمة التي تحفظ تلك الأشكال وتتقن رسمها بشكل يعطي تشابها مبهرا لتلك الأوشام ضمن المجال القبلي أو اللغوي نفسهم، وهذا رغم اختلاف المناطق وتباعد الزمن الذي تتم فيه هذه العملية الموغلة في القدم كعادة مجتمعية، حيث كان الوشم يتجسد في أشكال شهيرة، مثل عين الحجل، الذي يعد رمزا للجمال، وشكل البرنوس الموشوم على جبين المرأة كرمز ذكوري يعبر على سلطة الرجل التي هي على العين والرأس بالنسبة للمرأة في المجتمع التقليدي، وحروف التيفيناغ، بالإضافة إلى أشكال الحيوانات والخطوط التزينية حول المعصم أو الرقبة، أو أسفل الذقن. هذه الأشكال كانت ترسم بطقوسية، وغالبا ما كان يتم اِختيار الوقت المناسب للوشم، وقد كانت بعض القبائل تختار كأداة للوشم السكين الذي ارتكبت به جريمة قتل، وبعضها يمعن في طقوسية الوشم وعلاقته بالحياة والموت من خلال جعل القاتل نفسه يقوم بدور الوشّام، ولو أن هذه الممارسة محصورة في قبائل قليلة في بلاد الشاوية، وغالبا ما تستعمل في حالة الأوشام العلاجية، والتي تختلط بممارسات ذات طابع سحري تجعل الوشم تكملة لجملة طقوس ترتبط بحركة القمر وأيام الأسبوع التي غالبا ما يكون يوم السّبت أفضلها للقيام بهذه الطقوس العلاجية التي تضم الوشم، وتتجاوزه. وكثيرًا ما ترتبط هذه الممارسة العلاجية ذات الطابع السحري للوشم بالخصوبة والإنجاب، حيث تُزيّن الفتاة في مرحلة البلوغ، أو قبيل الزواج بأوشام تبدو للناظر ذات طبيعة جمالية غير أنها حاملة ، حسب اِعتقاد الجماعة وتحديدًا فئة النّساء، لطلاسم تجعل المرأة ذات جسد خصب ومنتج، والوشم بهذا المعنى يهيء جسد المرأة لسرير مسيّج بالتوقعات الثقافية المبثوثة في وعي رجل لم ينكشف بعد على جسد المرأة ولم يتكشّف له، قبل الزواج، الجسد الأنثوي المهيء للتشارك أو الانتهاك، حسب التصور الفحولي لليلة الدخلة.
ترسيمات الهوية التي لا قالب لها
الوشم كعملية تجميل ذو وظيفة تزينية تساهم في قولبة الجسد وصناعته وفق تصورات الفرد، أو ما يعتقد أنها تصوراته، إنه يتحول إلى موضة في الأزمنة الحديثة، وعبره كما عبر الثياب وتقليعات الحلاقة صار ممكنا الحديث عن صناعة الجسد، حيث التصاميم (الرسومات) تقدم نفسها كمنتجات تجارية معروضة ضمن كاتالوغ الوشّام الذي لم يذخر جهدا في تطوير تقنياته وأدواته التي تؤمّن له إقبالا متزايد خاصة من فئات الشباب كفئة قلقة تجد في الوشم تنفيسا عن ضيق وجودي أو قلق هوياتي دائم البحث عن انتماء جديد يقطع مع الانتماءات القديمة سواء الإثنية، القبلية أو الدينية، لهذا ينتشر التاتو في الأزمنة الحديثة حيث تنشأ وتزدهر التجمعات البشرية الهجينة التي تكون المدن الكبيرة فضاء لها وملاذا لانبثاقات هوياتية تمعن في الهدم والبناء بشكل يجعل من الوشم، كعادة حداثية، ذو وظيفة شديدة الاختلاف والتّعارض مع الوشم لدى المجتمعات التقليدية؛ حيث هذه الأخيرة تتخذ منه وسيلة لتثبيت الهوية وإدماج الفرد في الجماعة، في حين أنه في المجتمعات الحديثة المتسمة بفرادنية شديدة يعد بمثابة رمز للبحث عن الهوية، مع اختلاف في النظرة للهوية ذاتها، حيث أنها في حالة المجتمعات التقليدية تتسم بكونها معطى سابق ويتسم بثبات كبير، وبمعيارية تجعل من السرديات التي تبنى حولها تحظى بمقبولية من أفراد الجماعة، أما في حالة المجتمعات الحديثة وخاصة حيث التجمعات الهجينة دينيا وعرقيا ولغويا، تعتبر الهوية موضوع بحث ومجال بناء وتشكيل لا يكتمل إلا بمقدار ما يفتح المجال أمام تشكلات هوياتية جديدة، وهذا ما يعطي للقلق الوجودي واللايقين الذين يسم المجتمعات الحديثة مبررا وتفسيرا، باعتباره بحث لا ينتهي، أو بحث شيطاني بتعبير لوكاتش.
.
الفنان التشكيلي عبد الناصر عامر
الوشم باعتباره وصما
إن الجسد الموشوم، رغم الغاية الجمالية للوشم في الكثير من المجتمعات التّقليدية، هو جسد موصوم ومنتهك وممتحن بشكل من الأشكال، إنه جسد جعله الوشّام ملاذا وسكنًا لمجموعة تصوّرات، خارجة عنه وغير أصيلة في تشكيله البدئي، اِلتصقت به عبر الوشم بشكل لم يعد ممكنا إخفاؤه بفعالية، لهذا يتجلى الوشم كانتهاك للجسد ورفض للطبيعة خاصة في المجتمعات ذات الثّقافة التقليدية والتي تعتبر الوشم، بالنسبة للنّساء خاصة، وسيلة تثبيت في الجماعة وأداة تعبير طقوسية، إنه وبالإضافة لكونه أداة تثبيث للفرد في الجماعة من خلال «ترسيمات الجسد» التي تتم وفق الهوى الاجتماعي، فهو وسيلة نفي ومقاومة، إنه يمنع انسراب «الغير» في «النحن» من خلال وصم النحن بوشم ظاهر يخبر عن اِنتماء عرقي وديني، ولغوي أحيانا، تعبر عنه رموز وأيقونات وحروف يتعارف أفراد الجماعة على مدلولاتها الرّمزية، خاصة بالنّسبة للمجتمعات الفسيفسائية التي تشكل نقاط التماس الهوياتي فيها نقاط توتر حادة. يمكن تقديم مثال عن المرأة الهندية في كشمير والتي يوشم اِسمها على يدها بمجرد زواجها ليكون دليل انتماء، وهي في حالة قدومها من فئة/ طائفة مغايرة لطائفة الزوج غالبا ما يتم تغيير اسمها ليكون دليلا على انتمائها الطائفي الجديد، وفي الوقت نفسه إقامة قطيعة هوياتية مع طائفتها السّابقة عبر تغيير الاسم، وعبر ترسيم الجسد بما يتلاءم مع الهوية الجديدة، بما أن الإسم في مثل هذه المجتمعات يحمل بدوره شحنة هوياتية تجعل الفرد معروف الانتماء بمجرد النّطق باسمه.
لم يكن الوشم عبر تاريخه الطّويل تعبيرًا عن الهوية فحسب، إنه وسيلة إذلال أيضا، حيث هناك الوشم/الوصم الذي يقع على فئات فاقدة لحريتها، فقد كان العبيد والمساجين في جلّ الحضارات القديمة يوصمون بالحديد المحمى بعلامات أبدية، في مناطق ظاهرة من الجسد أو يمكن الكشف عنها بسهولة، من أجل توكيد تبعيتهم كعبيد، أو بغية إمعان الإذلال والإهانة المضاعفة للسجين حتى بعد خروجه أو فراره من السجن، لكن الوشم كوسيلة إهانة ظل على هامش الممارسة الوشمية التي اِتخذت طابعًا إيجابيًا في غالبية المجتمعات التي اعتبرتها وسيلة تعبير وأداة زينة.
جداتنا الموشومات
سواء في منطقة القبائل، أو في جبال الأوراس، أو عند نساء الطوارق في الصّحراء، كان الوشم، إلى سنوات قليلة قبل الاستقلال، جزء من جسد المرأة الجزائرية، صاغه وشكّله وفق تصوّرات معينة، تلتقي في جزئيات وتفترق عند أخرى باختلاف المناطق والانتماءات العرقية أو اللّسانية(عرب وأمازيغ)، ولكن يظل الوشم عادة أصيلة وشديدة التجذر في الثقافة الشعبية الجزائرية، وكون الحديث محصور حول المرأة لا يعني بأن الرّجل الجزائري كان بعيدًا عن تعاطي هذه الممارسة، وعن كون جسده هو الآخر كان فضاء للوشم، لكن اِرتباط الوشم بالمرأة كان أشد بروزا، وأكثر تعبيرا عن مدلولات اجتماعية تشكل موضوعا خصبا لمقاربات أنثروبولوجية حيث إن الوشم كما الثياب وطقوس الطهارة والتمثلات الجنسية، سواء كفعل أو كتخيل، هي ما ينقل الجسد من مفهومه البيولوجي إلى مفهومه الأنثروبولوجي، والوشم بهذا المعنى، كممارسة ثقافية متعددة الوظائف (هوياتية، جمالية، علاجية، شعوذة..) يدخل ضمن عمليات ترسيم الجسد بالمعنى الأنثروبولوجي لهذه الكلمة والتي تحتوي أيضا على عمليات ذات هدف جمالي أو حمائي كثقب الأذن والأنف من أجل إدخال أدوات الزينة، تصفيح الفتاة حفاظا على عذريتها، الختان.. وهي غالبا عمليات تتم بشكل طقوسي ضمن الاحتفاليات الجماعية التي تسم مراحل العبور المختلفة التي يمر بها الفرد المتجه نحو اِندماج أكثر في الجماعة.
لم تكن رموز الجمال الموشومة على وجه المرأة الجزائرية واحدة، رغم اِشتراكها في طريقتين للوشم: الوشم المتصل، والوشم المنقطع، وهو عبارة عن كتابة أو رسم بالنقاط وليس خطا ملحتم الأجزاء كما في النوع الأول. وكون الوشم يتم بطريقين لا يعني أن كل طريقة تختص بها منطقة أو فئة معينة، إنما يمكن نجد ضمن القبيلة نفسها أو المنطقة ذاتها على الطريقتين معا، بل إن المرأة نفسها قد توشّم الوجه بطريقة واليد بطريقة أخرى، خاصة في حالة الوشم التزيني ذو الوظيفة الجمالية، فأشكال الوشم على جبين المرأة وخديها وذقنها ويديها سواء على الكف أو المرفق أو الكتف، هي أشكال معروفة ومكررة وتحظى بمقبولية اجتماعية تجعلها أنموذجا للواشمة التي تحفظ تلك الأشكال وتتقن رسمها بشكل يعطي تشابها مبهرا لتلك الأوشام ضمن المجال القبلي أو اللغوي نفسهم، وهذا رغم اختلاف المناطق وتباعد الزمن الذي تتم فيه هذه العملية الموغلة في القدم كعادة مجتمعية، حيث كان الوشم يتجسد في أشكال شهيرة، مثل عين الحجل، الذي يعد رمزا للجمال، وشكل البرنوس الموشوم على جبين المرأة كرمز ذكوري يعبر على سلطة الرجل التي هي على العين والرأس بالنسبة للمرأة في المجتمع التقليدي، وحروف التيفيناغ، بالإضافة إلى أشكال الحيوانات والخطوط التزينية حول المعصم أو الرقبة، أو أسفل الذقن. هذه الأشكال كانت ترسم بطقوسية، وغالبا ما كان يتم اِختيار الوقت المناسب للوشم، وقد كانت بعض القبائل تختار كأداة للوشم السكين الذي ارتكبت به جريمة قتل، وبعضها يمعن في طقوسية الوشم وعلاقته بالحياة والموت من خلال جعل القاتل نفسه يقوم بدور الوشّام، ولو أن هذه الممارسة محصورة في قبائل قليلة في بلاد الشاوية، وغالبا ما تستعمل في حالة الأوشام العلاجية، والتي تختلط بممارسات ذات طابع سحري تجعل الوشم تكملة لجملة طقوس ترتبط بحركة القمر وأيام الأسبوع التي غالبا ما يكون يوم السّبت أفضلها للقيام بهذه الطقوس العلاجية التي تضم الوشم، وتتجاوزه. وكثيرًا ما ترتبط هذه الممارسة العلاجية ذات الطابع السحري للوشم بالخصوبة والإنجاب، حيث تُزيّن الفتاة في مرحلة البلوغ، أو قبيل الزواج بأوشام تبدو للناظر ذات طبيعة جمالية غير أنها حاملة ، حسب اِعتقاد الجماعة وتحديدًا فئة النّساء، لطلاسم تجعل المرأة ذات جسد خصب ومنتج، والوشم بهذا المعنى يهيء جسد المرأة لسرير مسيّج بالتوقعات الثقافية المبثوثة في وعي رجل لم ينكشف بعد على جسد المرأة ولم يتكشّف له، قبل الزواج، الجسد الأنثوي المهيء للتشارك أو الانتهاك، حسب التصور الفحولي لليلة الدخلة.
ترسيمات الهوية التي لا قالب لها
الوشم كعملية تجميل ذو وظيفة تزينية تساهم في قولبة الجسد وصناعته وفق تصورات الفرد، أو ما يعتقد أنها تصوراته، إنه يتحول إلى موضة في الأزمنة الحديثة، وعبره كما عبر الثياب وتقليعات الحلاقة صار ممكنا الحديث عن صناعة الجسد، حيث التصاميم (الرسومات) تقدم نفسها كمنتجات تجارية معروضة ضمن كاتالوغ الوشّام الذي لم يذخر جهدا في تطوير تقنياته وأدواته التي تؤمّن له إقبالا متزايد خاصة من فئات الشباب كفئة قلقة تجد في الوشم تنفيسا عن ضيق وجودي أو قلق هوياتي دائم البحث عن انتماء جديد يقطع مع الانتماءات القديمة سواء الإثنية، القبلية أو الدينية، لهذا ينتشر التاتو في الأزمنة الحديثة حيث تنشأ وتزدهر التجمعات البشرية الهجينة التي تكون المدن الكبيرة فضاء لها وملاذا لانبثاقات هوياتية تمعن في الهدم والبناء بشكل يجعل من الوشم، كعادة حداثية، ذو وظيفة شديدة الاختلاف والتّعارض مع الوشم لدى المجتمعات التقليدية؛ حيث هذه الأخيرة تتخذ منه وسيلة لتثبيت الهوية وإدماج الفرد في الجماعة، في حين أنه في المجتمعات الحديثة المتسمة بفرادنية شديدة يعد بمثابة رمز للبحث عن الهوية، مع اختلاف في النظرة للهوية ذاتها، حيث أنها في حالة المجتمعات التقليدية تتسم بكونها معطى سابق ويتسم بثبات كبير، وبمعيارية تجعل من السرديات التي تبنى حولها تحظى بمقبولية من أفراد الجماعة، أما في حالة المجتمعات الحديثة وخاصة حيث التجمعات الهجينة دينيا وعرقيا ولغويا، تعتبر الهوية موضوع بحث ومجال بناء وتشكيل لا يكتمل إلا بمقدار ما يفتح المجال أمام تشكلات هوياتية جديدة، وهذا ما يعطي للقلق الوجودي واللايقين الذين يسم المجتمعات الحديثة مبررا وتفسيرا، باعتباره بحث لا ينتهي، أو بحث شيطاني بتعبير لوكاتش.
.
الفنان التشكيلي عبد الناصر عامر