فاروق وادي - في مديح النساء الأكثر بدانة

لا بدّ، بين الفينة والأخرى، من إسداء المديح لتلك الكائنات الجميلة التي لا تصلح دونها الحياة، حضوراً وروحاً وجسداً.
لا بدّ من مديحِ مُتجددٍ.. للنساء!
ومديحنا الآن هو للنساء الأكثر بدانة. ليس عن غيرهن، ولكن عن النمط العصري السائد.
عنوان هذا المديح، قد يكون مصدره قراءة، وربما استثمار وتحوير، عنوان رواية إيروتيكيّة ناعمة للهنغاري "ستيفن فيزينتشي" حملت عنوان "في مديح النساء الأكبر سناً". وما أغواني على قراءة الرواية، ليس عنوانها الاعترافي الجريء وحسب، ولكن أيضاً رغبتي المزمنة في الدخول إلى أسرار ذائقة بعض أصدقائي من الشعراء الذين افتتنوا بالنساء الأكبر سناً، ومحاولة فهمها واستيعابها!
على أي حال، فقد اكتشفتُ من خلال قراءة الرواية أن ثمّة علاقة كبيرة بين النساء الأكبر سناً والنساء الأكثر بدانة. وهي علاقة سوف تغدو واضحة ومفهومة إذا ما أتيحت لنا فرصة الاطلاع على عرضٍ للدراسة التي أجرتها إحدى المؤسسات الأكاديميّة في القاهرة، والتي انطوت على إشارة واضحة بأن النساء الأكبر سناً يملن في قناعتهن الجماليّة إلى الاعتقاد بأن الذائقة الذكوريّة العربيّة تفضِّل النساء الأكثر بدانة (بالتأكيد دون إفراط). ولذلك، فإن أهمّ الوصايا التي يعممنها على الأجيال الأنثويّة الطالعة، تتضمّن رفضاً مطلقاً لاستجابة الفتيات الصغيرات لمواصفات الجسد المُعولم الأكثر نحولاً، وتأكيد قناعتهن التي لا تلين بالقيمة الجماليّة الراسخة للمرأة البدينة. فكأنما حكمة العقل وحكمة الجسد تظل تكمن في تلك الحقيقة الشعبيّة البسيطة التي تُشير إلى أن "الدهن" هو دائماً.. في "العتاقي".
مثل تلك الحكمة، قد تكون هي التي جعلت إيزابيل أليندي تناوئ الحمية باستبسال يستحق التحيّة، فتعلن عن ندمها على أطباق طعام مرّت في حياتها وفاتتها فرصة التهامها. نحييها لمعارضتها "النظام" (ريجيم)، مُطلق نظام.. حتّى لو كان القمع فيه بحجم شقّ تمرة.
وربما يقتضي الأمر هنا تحيّة امرأة أخرى نافحت عن الحقّ في البدانة. فعندما أصدرت مديرة التلفزيون المصري قراراً إلى المذيعات بإنقاص أوزانهن ومنع ظهور المذيعات البدينات على الشاشة، تصدّت لها إحدى المذيعات "العتقيات"، مؤكدة أن: هذا هو قوام المصريات.. وهذه هي الذائقة الجماليّة للمصريين!
ربما لا تكون هذه هي ذائقة المصريين فقط، وإنما ذائقة تراثيّة عربيّة أيضاً. فالكاتب عبد الكبير الخطيبي ينقل لنا عن "ياقوت الحموي" عن الشعبيّ قوله: "حُليّ الرجال العربيّة وحُلي النساء الشّحم". ومع أننا نناوئ مثل هذه التقسيمات الجماليّة الفادحة التي تجعل من البلاغة والمحسنات البديعيّة حكراً على الجمال الذكوري، وتحديد العنصر الجمالي للمرأة بما تمتلكه من شحوم، فإن المسألة تظلّ تشير إلى ذائقة تراثيّة قد نعجز عن إنكارها.
ولكن يبدو أن النساء الأكثر بدانة (في الجزء الأسفل على الأقلّ) لسن مجرّد ذائقة عربيّة محضة، وردت مواصفاتها في التراث الشعري والحكائي السردي، وخاصّة في حكايات "ألف ليلة وليلة" والكتب الأيروتيكيّة العربيّة، التي لم تُفرِّط شيئاً في مديح الشحم والدسم والأرداف الثقيلة التي تقعد المرأة إذا قامت، دون أن تكفّ عن الإشادة بالخصر النحيل (رقّة الخصر مع ثقل الأرداف ولين الأعطاف)، أو تلك الكتب التي تحكي عن مواصفات الجواري الحسان، والتي بلغ الشطط في أحد مصادر ديوان العرب أن رسم المواصفات الجماليّة الجسديّة للمرأة ببيت من الشعر لا يعدم المبالغة في طلب النساء الأكثر بدانة في المواقع الخلفيّة على وجه التحديد، يقول: "من رأى مثل حبّتي/ تشبه البدر إذا بدا /تدخُـــل اليوم ثم/ تدخل أردافها غدا"!
لكن جبور عبد النور، الذي يورد هذا البيت من الشعر في كتابة حول "الجواري"، لا يلبث أن يستخف به كمثالٍ يُحتذى، لينتقل إلى شرح مُسهب للمواصفات الجماليّة والحسيّة للذائقة العربيّة الأكثر أصالة، والتي يمكن تلخيصها بإيثار العبلاء (الضخمة المفتولة) دون الزلاّء (الرقيقة النحيلة خفيفة الوركين). مؤكداً أن العرب كانوا يؤثرون الناحلات من أعلى الجسد والجسيمات من أدناه، أو بحسب التعبير العربي القديم "اللواتي أعلاهن قضيب وأسفلهن كثيب".
وعلى أي حال، وتأكيداً بأن المرأة البدينة ليست مجرّد ذائقة عربيّة بامتياز، يمكن لمن أتيحت له فرصة التجوال في متاحف "اللوفر" أو "الأرميتاج" أو "البرادو" وربما غيرها من متاحف أوروبا، أن يشهد على الحسّ الجمالي للذين رسموا الأجساد النسائيّة البدينة، وربما المبالغ في سمنتها، ليس في العصور الوسطى المتخلِّفة، أو اللوحات الباروكيّة التي أفرطت في كلّ شيء حتّى في تحديد حجم أجساد النساء، ولكن ربما أيضاً في عصر التنوير الذي لم يتنازل عن أنوار المرأة البدينة.
ولن نذهب بعيداً في الأمر. ففي الفصل الثاني من رواية ماريو بارغاس ليوسا "في امتداح زوجة الأب"، ما يجمع بين الكلام والصورة. فعندما تُصغي إلى كلام "قنداولس" ملك ليديا، وهو يصف لوزيره جمال جسد زوجته وفخره بردفها الاستثنائي الذي يفوق فخره بجبال بلاده الشمّاء ورجالها المقاتلين الأشاوس، يتيح لك خيالك الخصب أن ترسم على هواك تفاصيل ذلك الجسد الموصوف بمديح ما بعده مديح وانبهار ما بعده انبهار. غير أن لوحة "جاكوب جورداننس" حول الموضوع، القابعة في متحف استوكهولم الوطني، والتي يثبتها المؤلف في نهاية الرواية، تصيب القارئ العصري بالذعر والخيبة. فثمة امرأة عارية، مترامية الأرداف، تصدمك بجسدها المفرط الذي لم ينتبه لبدانته قنداولس، بحيث ينطبق على الجسد الموصوف مديح الشاعر العربي القديم لتلك المرأة الأكثر بدانة، التي تدخل اليوم.. الخ.. الخ!
أمّا مديحنا هذا، فهو نوع من الهجاء لنمط من الجمال الجسدي الذي تعممه العولمة، حيث تبثُّ علينا نساءها اللواتي يتخطّرن في أجهزتنا التلفزيونيّة، سلعاً عصريّة لا تعدم الرّواج. فيتحركن أمام عيوننا الذابلة المستجيبة باستفزاز مريع لذائقتنا، إذ لا يبدين لنا أكثر من أطياف نساء صاغتهن العولمة من جلد وعظم.
نمتدح النساء الأكثر بدانة من تلك الأجساد التي يبثها لنا التدفُّق الهائل للصورة image، لنستعيد ذائقتنا المُعرّضة للفقدان، ولنثبت قدرتنا على مخالفة تعميم النحول المفرط الذي تروِّجه الصور المعولمة، عبر فتيات الفيديو كليب والممثلات الحداثيات وعارضات الأزياء، بأجسادهن الناحلة الهشّة التي لا تصلح إلاّ ..للعرض فقط!



.

صورة مفقودة
 
أعلى