نقوس المهدي
كاتب
(مرثية لعذابات سيدة الخصب والتطهير الاولى )
هل يمكن ان تؤكد القصائد التراجيدية ذات الطابع الديني ـ الدرامي والطقوسي على وجود المسرح في الحضارة الرافدينية ـ العرأقية القديمة أم أن هذه أوهام غير موثقة ؟
لابد من التأكيد باننا لا نريد ان ندخل في نقاشات غير موثقة مما يجعلها غير مجدية عندما نفترض عدم وجود الفن الدرامي ـ المسرح ـ في النشاطات الطقوسية والثقافية في المجتمع الرافديني القديم وتحديدا السومري او البابلي كما يذهب بعض الفنانين او الباحثين او الدارسين لدرجة كتابة الدراسات المطولة والاطروحات الاكاديمية أحيانا ، على افتراض ان المحاكاة بدات مع الفعاليات الاولى للإنسان ، او إفتراضهم بان تعدد الاصوات في القصيدة السومرية والبابلية يثبت ذلك . وبدون ان تتكشف لنا أسرار اخرى في الحفريات الاثرية الجديدة ، وتتوضح آثار الوجود المادي للمسرح او الدراما السومرية او البابلية فان الامر يبقى ضمن الافتراضات او التأملات والتمنيات اوالعجالة في البحث غير الدقيق أو . لان وجود الدراما حتى وان كانت في شكلها البدائي او الديني ، لا يقتصر على وجود قصائد شعرية ومناحات مطولة او لوترغيات او حتى حوارات تعزية دينية ، وانما يتطلب وجود نصوص ومكان للتمثيل والاداء وكتاب دراما وملحقات اخرى كما هو الحال في الاكتشافات الاولى للدراما والمسرح الاغريقي القديم قبل زمن شاعر المسرح الاول أسخيلوس ،منذ ان بدأت الرجفة الاولى للجسد في طقوس احتفالات ديونيسيس ، او كما هو الحال بالنسبة الى نصوص مسرح النو والكابوكي الياباني الذي نشأ ماقبل الميلاد ونصوصه واماكن اقامته و وكتابه لها تواجدها المعاصر . لكن حقيقة الامر في راي هي ان الباحثين لاينتبهون الى ان تعدد اصوات القصيدة الدينية وايقاعاتها المختلفة في الشعر السومري والبابلي هي احدى ميزات النواحات الدينية والطقوسية التي كانت تقام في المعبد ، ومن الممكن القيام ببعض التغيرات واعداد للقصيدة او مجموعة القصائد ليسهل تهيئتها كنص للمسرح كما هو الحال في التعزية واحداث مأساة الامام الحسين . إذن الجوهر الذي نؤكد عليه هو أن هذه الميزات لا تجعنا نقتنع بان هنالك مسرح سبق المسرح الاغريقي إلا إذا أكد ذلك علماء الآثريات . ونخلص أيضا الى ان مايدهشنا هو ان التمايز الدرامي والتراجيدي لللشعر الطقوسي للحضارات القديمة واحتواءه على اكثر من صوت واحد او ايقاع مما يقربه من الدراما .
لذلك فان المهم لنا والاجدى هنا هو تشخيص درامية وتراجيدية النصوص والقصائد السومرية والبابلية ، والتاكيد على ان الملاحم والاساطير التي وصلتنا متداخلة مع طقوس وفعاليات فيها الكثير من الملامح التراجيدية و الدرامية اضافة الى تشخيص السرد الاسطوري والتعدد الصوتي والايقاعي في القصيدة الواحدة مما يسهل إلقائها وأدائها امام جمهور المعبد المتدين ، و يثير هذا بالتاكيد الرغبة في المشاهدة والمشاركة مما يؤثر على روح وذاكرة الانسان الذي يستجدي بركة الالهة خوفا من انفلات الظواهر الطبيعية . ويعتبر هذا من اهم أهداف الشعر و درامية القصيدة الطقوسية واسباب تراجيديتها في بلاد وادي الرافدين . ويجب أخذ هذا بالحسبان عندما تدهشنا درامية القصيدة وتعدد اصواتها فنتصورها نصا مسرحيا بدون ان يكون هنالك اثبات علمي قاطع بذلك . وبما ان الحديث عير الموثق عن ان العراق هو اول الحضارات التي وجد فيها المسرح ( مما يؤدي الامر باسبقية على الحضارة الاغريقية ) الذي ينادي به بعض الفنانين او الباحثين بدون اثبات الركائز التاريخية التي تؤكد ذلك وانما استنادا واندهاشا بتعدد اصوات القصيدة السومرية او البابلية ، أن مثل هذه الدعوات ليس لها صحة تاريخية وعلمية مادام لم يصلنا نصا واضحا بهذا الخصوص ، وليس هنالك مكانا مسرحيا تثبته المكتشفات الاثرية .
انطلاقا من هذا يمكن تتبع هذه الفرضية من خلال تحليل فضاء آت بعض الفعاليات الطقوسية وما يصاحبها من اساطير وملاحم وتراتيل ومناحات وليثورجيات وغيرها .
لم تقتصر النضج الفكري وبناء وازدهار حضارة السومرين ( تطورت الثقافة السومرية مابين 2000- 3500 قبل الميلاد ) عليهم فحسب وانما كان تأثيرها مستقبليا ، وهذا يؤكد القدرة الديناميكية الشمولية للعقل السومري الذي أُعتبر عقلا مشاكسا لانه يعتمد السؤال كمنهج لتفسير غموض الظواهر الطبيعية والحياتية ، فالسؤال بدء المعرفة ، وهذه تؤدي الى تراكمات حضارية . وينطبق مبدأ المشاكسة هذا على الروح السومرية ايضا ، لانها روح تتمثل قساوة وتناقضات الطبيعة وهارمونيتها فتحولها الى أجمل القصائد العاطفية والفلسفية كلغة للطقوس والاساطير التي تثير الخوف والرهبة في الانسان السومري ، لذلك فنحن فمازلنا نقف مذهولين امام الكثير من رموز تلك الاحلام العجائبية المدهشة التي وصلتنا .
وقد كان لآلهة الخصب السومرية (أنانا ـ دموزي ) وبعد ذلك ( عشتار ـ تموز في بابل ) أثر ومكانة خاصة في اساطير وملاحم وطقوس السومريين والبابليين والاشوريين والحضارات الاخرى ، نتيجة للتاثير المتبادل بين الحضارات التي تكاملت وانهارت في المنطقة . ( يتوسع عالم الاثاريات صموئيل نوح كرايمر بإسهاب عن العلم الكوني ـ الكوسمولوجي ، السومري في كتابه " طقوس الجنس المقدس عند السومرين " ).
من هذا المنطلق علينا ان نفهم الا همية القصوى لمشاركة انسان مابين النهرين في هذه الطقوس والمناحات الدينية الخاصة بآلهة الخصب في المعبد كما هو الحال بالنسبة الى اهمية التعزية الحسينية عند الشيعة في وقتنا الحاضر )
وأزاء مانملكه من معلومات آثارية اكثر وضوحا ودقة عن الحضارة البابلية كما يؤكد معظم الباحثين الأركولوجين مما يدفعهم الى التأكيد بحدوث تطورا في ديانة بابل والذي ينص على ان اسطورة الاله القتيل ـ تموز ـ وقيامته من جديد كانت تعاد سنويا في احتفال ديني شعبي طقوسي ضمن مهرجان السنة البابلية الجدية .
وقد لاحظ البروفسور فرانكفورت ( في كتاب ماقبل الفلسفة ، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا ) بان السومرين والبابلين لم يروون اساطيرهم وطقوسهم شفاها فحسب بل كانوا يعيدونها اما م الجمهور المتدين ، وهذا الكلام أيضا لا يفترض وجود مسرح ، وانما من الضروري ان نتذكر دائما ان الامر مشابه الى المناحة او المنقبة الدينية التي يتكفل كهنة المعبد بالقيام بها .
لقد وصلتنا بعض الطقوس الرئيسية المرتبطة بالثقافتين السومرية والبابلية وهذا التداخل بينهما يحتمه طبيعة كون الحضارة الجديدة تأخذ الكثير من اسس ديانتها وطقوسها وثقافتها وآلهتها ـ مع تغير أسمائها ، من سابقتها . لذلك فان أهم هذه الطقوس هي :
• طقوس الزواج المقدس ـ أي زواج الالهة السومرية (إنانا ودموزي ) والبابلية ( عشتار ـتموز ).
• طقوس بدء الخليقة .
• طقوس تاريخية ، مايسمى برثاء المدن ، واهمها ( رثاء أور )
وهي طقوس دينية كانت تقدم من قبل الكهنة والملوك أنفسهم ( لأسباب سياسية واجتماعية ) ( كما كان يحدث في كنسة القرون الوسطى) ، وتعتبر جزءا من التصورات الروحية والثقافية للمجتمع القديم ، وما تراجيديتها نتيجة لتراجيدية الأحداث ومصائر ابطالها من الالهة التي أقيمت من اجلها هذه الطقوس والتي تخيلها الانسان على شاكلته . ولهذا يمكن اعتبارها طقوسا دينية وتاريخية واجتماعية فيها الكثير من الدرامية والموعظة الفلسفية وهذين الجانبين هما الاكثر وضوحا في هذه الاساطير والطقوس مما يساعد على ادائها كل عام اضافة الى ان القصيدة السومرية والبابلية متعددة الاصوات والايقاع .
ان اهم الطقوس الرافدينية والتي كانت تقام سنويا هي طقوس رأس السنة البابلية ويتكون من :
• طقوس الزواج المقدس
• طقوس الحزن الجماعي لموت وقيامة الاله دموزي السومري ( تموز البابلي ).
وعادة فان هذه الطقوس كانت تؤدى كطقس متكامل على مدى أيام حيث يحل الكهنة والملوك كبديل للإله . ان تقديم طقس زواج الآلهة (إنانا) من الإله دموزي سنويا يدلل على مدى تعلق إنسان وادي الرافدين بآلهة الخصب ، ومن خلال تتبع حيثيات طقوس الزواج المقدس ، أستطيع ان أؤكد على قدسية اللغة المليئة بالرمز الجنسي الإباحي الذي استخدمه الشاعر السومري والبابلي على لسان الالهة ، وتدلل مثل هذه اللغة على قدسية ودور المواقعة المقدسة وعلاقتها بالخصب في الحياة ، لانه زواج بين اله مقدس دموزي ـ تموز ، يقوم به الملك وآلهة أكثر قدسية هي إنانا او عشتار تقوم الكاهنة نيابة عنها (التي ستصبح بعد هذا الزواج من المومسات المقدسات لتعيش حياتها في معبد الالهة وتنقطع نةهائيا لعبادتها ) . فمن خلال لغة متفجرة فيها الكثير من روح المعاصرة يعبر لنا الشاعر القديم عن جو هذا الاتحاد المقدس بكثير من القدسية ومشاعر الشبق المتدفقة كشلال من اللازورد .
وبعد ليلة الزواج المقدس تعلن الكاهنة (الالهة ) بركتها امام المدينة وتقرر مصير الملك والبلاد وتتنبأ بما ستكون عليه السنة الجديدة . وعادة فان قرار الالهة يكون بجانب الملك وسلطته ودعوة لتجديد حكمه في البلاد في المستقبل . (ايها الثور البري ، ياعين البلاد ، سوف آتي بالحياة الى اهلها ./سوف ألبي جميع حاجاتها ./ واحمل اهلها على تنفيذ العدالة ، في البيت الفخم /واجعل كلمات العدل في البلاط تنطق )
وابتهاجا بما قررت به الالهة على لسان الكاهنة فان الملوك في مختلف حضارات وادي الرافدين يقيمون احتفالات فيها الكثير من العبث و حتى يتحول الى كرنفال ، وفي بعض الاحيان تقدم مايشبه المحاورة ذات الطابع الجدي والفلسفي حول مشاكل الانسان وعلاقته بالالهة وعن اسرار الوجود الغامضة .
ويورد لنا ثوركيلد جاكبسون مقطعا مهما يدلل على التشكك بالقيم والمبادئ والخير ويدعو الى التشائم ،
( في كتاب ما قبل الفلسفة ) وقد وصلنا على شكل حوار بين ( السيد والعبد ) ( هل يمكن اعتبار حواريات اوفيد ا أو محاورات أفلاطون مسرحا ). وهذا الحوار فيه يعتمد على بساطة البناء الشعري ، فالسيد الاقطاعي يعلن لعبده عن رغبته بفعل شئ ما حتى يخرج من القرف والسأم الذي يمر به ، فيشجعه العبد على ذلك ، غير ان السيد سرعان مايكون قد سأم فكرته هذه ، فيرفضها ، ويمتدح العبد قرار الرفض هذا . وبعبثية ايضا يطرح السيد فكرة اخرى ، يوافقه العبد عليها ايضا ، وهكذا يستمران في هذه المحاورة التي تعكس التشكيك واللامبالاة بالقيم الروحية ، وينتهي صراع الافكار في داخل السيد الى هذه الخلاصة : ليس في الحياة ماهو خير حقا ، فالكل باطل
( اتفق معي ايها العبد
اجل سيدي ، أجل
مالخير إذن ؟
ان أدق عنقي وادق عنقك
ونسقط كلانا في النهر .. ذلك هو الخير )
فيجيبه العبد بحكمة قديمة تعبر عن صبره واستسلامه :
( هل ثمة من طال قامة فبلغ السماء بيديه ؟
وهل ثمة من إتسع منكبا فاحتوى الارض بذراعيه )
فيغير السيد فكرته
(لا ايها العبد ساقتلك انت وحدك ، لتسبقني )
يجيبه العبد
( أويتحمل سيدي العيش ولو اياما ثلاثة بعدي ؟ )
ان هذه المحاورة فيها الكثير من المميزات التي تشخص لنا شخصية السيد بكل تكبره واستغلاله وعبثيته وسأمه ، وكذلك شخصية باستسلامه وخذلنه وتزلفه وضعفه ، ومن السهولة ان نلمس البعد الفلسفي فيها الذي يعبر بدقة عن القيم العبثية التي يمر بها مجتمع السادة نتيجة لفقدان قيم الخير عموما .
وفي النص الطقوسي لنزول عشتار الى العالم الاسفل يستمر الشاعر السومري في وصف المشاهد المكثفة بلغة رمزية لها دلالاتها المعبرة ، لغة شرطية لاتتحمل التفصيلات الفائضة . من خلالها نفهم أن إنانا عندما تنزل الى عالم الموت ، وعند إجتيازها الأبواب السبعة تفقد جميع شاراتها الالوهية ، حتى تصبح عاجزة عن فعل أي شئ أمام ملكة " الاسفل العظيم " إختها ارشيكال ، وعندما يمسكها حراس عالم الموت ، فيبدو الشاعر السومر كأنه ساحرا وتبدو كلماته الشعرية كتعاويذ فيصف حال آلهة العالم الارضي إنانا ـ عشتار ( إنحنت خفيضة ، جئ بها عارية ) وبما انها فقدت شارات الالوهية والخلود لحظة دخولها عالم الاموات ، فان حكماء العالم الاسفل وحراسه على استعداد لتطبيق قوانين عالمهم على آلهة مثلها أيضا :
( أرشكيجال المقدسة اعتلت سدة العرش
الانوناكي القضاة السبعة ، نطقوا الحكم أمامها ،
سلطت عينيها ، عيني الموت
نطقت الكلمة بحقها ، كلمة الغضب
صدرت عنها الصيحة بوجهها ، صيحة الادانة ،
ضربتها أحالتها جثة هامدة
الجثة علقت بمسمار )
وهذا يدلل رمزيا على ان الانسان ينتقل من الحياة الى عالم الموت مستسلما ذليلا تاركا وراءه خداعه ومكره وطموحه ووحشيته وحقده وحسده وتبجحه .
إنها لغة شعرية مكثفة يرسمها خيال يفوق الزمن ويخلق خلالا حضاريا إذا لم ننتبه لذلك . أن هذه اللغة المتفوقة دلالة وشاعرية لدرجة انها توهمنا بان كل هذا يجب ان يكون مسرحا ، لكن مافائدة إثبات هذا للمسرح المعاصر ، سوى أن يكون ارشيفا في أفئدة باردة .
كوبنهاكن
شمال الكوكب
.
هل يمكن ان تؤكد القصائد التراجيدية ذات الطابع الديني ـ الدرامي والطقوسي على وجود المسرح في الحضارة الرافدينية ـ العرأقية القديمة أم أن هذه أوهام غير موثقة ؟
لابد من التأكيد باننا لا نريد ان ندخل في نقاشات غير موثقة مما يجعلها غير مجدية عندما نفترض عدم وجود الفن الدرامي ـ المسرح ـ في النشاطات الطقوسية والثقافية في المجتمع الرافديني القديم وتحديدا السومري او البابلي كما يذهب بعض الفنانين او الباحثين او الدارسين لدرجة كتابة الدراسات المطولة والاطروحات الاكاديمية أحيانا ، على افتراض ان المحاكاة بدات مع الفعاليات الاولى للإنسان ، او إفتراضهم بان تعدد الاصوات في القصيدة السومرية والبابلية يثبت ذلك . وبدون ان تتكشف لنا أسرار اخرى في الحفريات الاثرية الجديدة ، وتتوضح آثار الوجود المادي للمسرح او الدراما السومرية او البابلية فان الامر يبقى ضمن الافتراضات او التأملات والتمنيات اوالعجالة في البحث غير الدقيق أو . لان وجود الدراما حتى وان كانت في شكلها البدائي او الديني ، لا يقتصر على وجود قصائد شعرية ومناحات مطولة او لوترغيات او حتى حوارات تعزية دينية ، وانما يتطلب وجود نصوص ومكان للتمثيل والاداء وكتاب دراما وملحقات اخرى كما هو الحال في الاكتشافات الاولى للدراما والمسرح الاغريقي القديم قبل زمن شاعر المسرح الاول أسخيلوس ،منذ ان بدأت الرجفة الاولى للجسد في طقوس احتفالات ديونيسيس ، او كما هو الحال بالنسبة الى نصوص مسرح النو والكابوكي الياباني الذي نشأ ماقبل الميلاد ونصوصه واماكن اقامته و وكتابه لها تواجدها المعاصر . لكن حقيقة الامر في راي هي ان الباحثين لاينتبهون الى ان تعدد اصوات القصيدة الدينية وايقاعاتها المختلفة في الشعر السومري والبابلي هي احدى ميزات النواحات الدينية والطقوسية التي كانت تقام في المعبد ، ومن الممكن القيام ببعض التغيرات واعداد للقصيدة او مجموعة القصائد ليسهل تهيئتها كنص للمسرح كما هو الحال في التعزية واحداث مأساة الامام الحسين . إذن الجوهر الذي نؤكد عليه هو أن هذه الميزات لا تجعنا نقتنع بان هنالك مسرح سبق المسرح الاغريقي إلا إذا أكد ذلك علماء الآثريات . ونخلص أيضا الى ان مايدهشنا هو ان التمايز الدرامي والتراجيدي لللشعر الطقوسي للحضارات القديمة واحتواءه على اكثر من صوت واحد او ايقاع مما يقربه من الدراما .
لذلك فان المهم لنا والاجدى هنا هو تشخيص درامية وتراجيدية النصوص والقصائد السومرية والبابلية ، والتاكيد على ان الملاحم والاساطير التي وصلتنا متداخلة مع طقوس وفعاليات فيها الكثير من الملامح التراجيدية و الدرامية اضافة الى تشخيص السرد الاسطوري والتعدد الصوتي والايقاعي في القصيدة الواحدة مما يسهل إلقائها وأدائها امام جمهور المعبد المتدين ، و يثير هذا بالتاكيد الرغبة في المشاهدة والمشاركة مما يؤثر على روح وذاكرة الانسان الذي يستجدي بركة الالهة خوفا من انفلات الظواهر الطبيعية . ويعتبر هذا من اهم أهداف الشعر و درامية القصيدة الطقوسية واسباب تراجيديتها في بلاد وادي الرافدين . ويجب أخذ هذا بالحسبان عندما تدهشنا درامية القصيدة وتعدد اصواتها فنتصورها نصا مسرحيا بدون ان يكون هنالك اثبات علمي قاطع بذلك . وبما ان الحديث عير الموثق عن ان العراق هو اول الحضارات التي وجد فيها المسرح ( مما يؤدي الامر باسبقية على الحضارة الاغريقية ) الذي ينادي به بعض الفنانين او الباحثين بدون اثبات الركائز التاريخية التي تؤكد ذلك وانما استنادا واندهاشا بتعدد اصوات القصيدة السومرية او البابلية ، أن مثل هذه الدعوات ليس لها صحة تاريخية وعلمية مادام لم يصلنا نصا واضحا بهذا الخصوص ، وليس هنالك مكانا مسرحيا تثبته المكتشفات الاثرية .
انطلاقا من هذا يمكن تتبع هذه الفرضية من خلال تحليل فضاء آت بعض الفعاليات الطقوسية وما يصاحبها من اساطير وملاحم وتراتيل ومناحات وليثورجيات وغيرها .
لم تقتصر النضج الفكري وبناء وازدهار حضارة السومرين ( تطورت الثقافة السومرية مابين 2000- 3500 قبل الميلاد ) عليهم فحسب وانما كان تأثيرها مستقبليا ، وهذا يؤكد القدرة الديناميكية الشمولية للعقل السومري الذي أُعتبر عقلا مشاكسا لانه يعتمد السؤال كمنهج لتفسير غموض الظواهر الطبيعية والحياتية ، فالسؤال بدء المعرفة ، وهذه تؤدي الى تراكمات حضارية . وينطبق مبدأ المشاكسة هذا على الروح السومرية ايضا ، لانها روح تتمثل قساوة وتناقضات الطبيعة وهارمونيتها فتحولها الى أجمل القصائد العاطفية والفلسفية كلغة للطقوس والاساطير التي تثير الخوف والرهبة في الانسان السومري ، لذلك فنحن فمازلنا نقف مذهولين امام الكثير من رموز تلك الاحلام العجائبية المدهشة التي وصلتنا .
وقد كان لآلهة الخصب السومرية (أنانا ـ دموزي ) وبعد ذلك ( عشتار ـ تموز في بابل ) أثر ومكانة خاصة في اساطير وملاحم وطقوس السومريين والبابليين والاشوريين والحضارات الاخرى ، نتيجة للتاثير المتبادل بين الحضارات التي تكاملت وانهارت في المنطقة . ( يتوسع عالم الاثاريات صموئيل نوح كرايمر بإسهاب عن العلم الكوني ـ الكوسمولوجي ، السومري في كتابه " طقوس الجنس المقدس عند السومرين " ).
من هذا المنطلق علينا ان نفهم الا همية القصوى لمشاركة انسان مابين النهرين في هذه الطقوس والمناحات الدينية الخاصة بآلهة الخصب في المعبد كما هو الحال بالنسبة الى اهمية التعزية الحسينية عند الشيعة في وقتنا الحاضر )
وأزاء مانملكه من معلومات آثارية اكثر وضوحا ودقة عن الحضارة البابلية كما يؤكد معظم الباحثين الأركولوجين مما يدفعهم الى التأكيد بحدوث تطورا في ديانة بابل والذي ينص على ان اسطورة الاله القتيل ـ تموز ـ وقيامته من جديد كانت تعاد سنويا في احتفال ديني شعبي طقوسي ضمن مهرجان السنة البابلية الجدية .
وقد لاحظ البروفسور فرانكفورت ( في كتاب ماقبل الفلسفة ، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا ) بان السومرين والبابلين لم يروون اساطيرهم وطقوسهم شفاها فحسب بل كانوا يعيدونها اما م الجمهور المتدين ، وهذا الكلام أيضا لا يفترض وجود مسرح ، وانما من الضروري ان نتذكر دائما ان الامر مشابه الى المناحة او المنقبة الدينية التي يتكفل كهنة المعبد بالقيام بها .
لقد وصلتنا بعض الطقوس الرئيسية المرتبطة بالثقافتين السومرية والبابلية وهذا التداخل بينهما يحتمه طبيعة كون الحضارة الجديدة تأخذ الكثير من اسس ديانتها وطقوسها وثقافتها وآلهتها ـ مع تغير أسمائها ، من سابقتها . لذلك فان أهم هذه الطقوس هي :
• طقوس الزواج المقدس ـ أي زواج الالهة السومرية (إنانا ودموزي ) والبابلية ( عشتار ـتموز ).
• طقوس بدء الخليقة .
• طقوس تاريخية ، مايسمى برثاء المدن ، واهمها ( رثاء أور )
وهي طقوس دينية كانت تقدم من قبل الكهنة والملوك أنفسهم ( لأسباب سياسية واجتماعية ) ( كما كان يحدث في كنسة القرون الوسطى) ، وتعتبر جزءا من التصورات الروحية والثقافية للمجتمع القديم ، وما تراجيديتها نتيجة لتراجيدية الأحداث ومصائر ابطالها من الالهة التي أقيمت من اجلها هذه الطقوس والتي تخيلها الانسان على شاكلته . ولهذا يمكن اعتبارها طقوسا دينية وتاريخية واجتماعية فيها الكثير من الدرامية والموعظة الفلسفية وهذين الجانبين هما الاكثر وضوحا في هذه الاساطير والطقوس مما يساعد على ادائها كل عام اضافة الى ان القصيدة السومرية والبابلية متعددة الاصوات والايقاع .
ان اهم الطقوس الرافدينية والتي كانت تقام سنويا هي طقوس رأس السنة البابلية ويتكون من :
• طقوس الزواج المقدس
• طقوس الحزن الجماعي لموت وقيامة الاله دموزي السومري ( تموز البابلي ).
وعادة فان هذه الطقوس كانت تؤدى كطقس متكامل على مدى أيام حيث يحل الكهنة والملوك كبديل للإله . ان تقديم طقس زواج الآلهة (إنانا) من الإله دموزي سنويا يدلل على مدى تعلق إنسان وادي الرافدين بآلهة الخصب ، ومن خلال تتبع حيثيات طقوس الزواج المقدس ، أستطيع ان أؤكد على قدسية اللغة المليئة بالرمز الجنسي الإباحي الذي استخدمه الشاعر السومري والبابلي على لسان الالهة ، وتدلل مثل هذه اللغة على قدسية ودور المواقعة المقدسة وعلاقتها بالخصب في الحياة ، لانه زواج بين اله مقدس دموزي ـ تموز ، يقوم به الملك وآلهة أكثر قدسية هي إنانا او عشتار تقوم الكاهنة نيابة عنها (التي ستصبح بعد هذا الزواج من المومسات المقدسات لتعيش حياتها في معبد الالهة وتنقطع نةهائيا لعبادتها ) . فمن خلال لغة متفجرة فيها الكثير من روح المعاصرة يعبر لنا الشاعر القديم عن جو هذا الاتحاد المقدس بكثير من القدسية ومشاعر الشبق المتدفقة كشلال من اللازورد .
وبعد ليلة الزواج المقدس تعلن الكاهنة (الالهة ) بركتها امام المدينة وتقرر مصير الملك والبلاد وتتنبأ بما ستكون عليه السنة الجديدة . وعادة فان قرار الالهة يكون بجانب الملك وسلطته ودعوة لتجديد حكمه في البلاد في المستقبل . (ايها الثور البري ، ياعين البلاد ، سوف آتي بالحياة الى اهلها ./سوف ألبي جميع حاجاتها ./ واحمل اهلها على تنفيذ العدالة ، في البيت الفخم /واجعل كلمات العدل في البلاط تنطق )
وابتهاجا بما قررت به الالهة على لسان الكاهنة فان الملوك في مختلف حضارات وادي الرافدين يقيمون احتفالات فيها الكثير من العبث و حتى يتحول الى كرنفال ، وفي بعض الاحيان تقدم مايشبه المحاورة ذات الطابع الجدي والفلسفي حول مشاكل الانسان وعلاقته بالالهة وعن اسرار الوجود الغامضة .
ويورد لنا ثوركيلد جاكبسون مقطعا مهما يدلل على التشكك بالقيم والمبادئ والخير ويدعو الى التشائم ،
( في كتاب ما قبل الفلسفة ) وقد وصلنا على شكل حوار بين ( السيد والعبد ) ( هل يمكن اعتبار حواريات اوفيد ا أو محاورات أفلاطون مسرحا ). وهذا الحوار فيه يعتمد على بساطة البناء الشعري ، فالسيد الاقطاعي يعلن لعبده عن رغبته بفعل شئ ما حتى يخرج من القرف والسأم الذي يمر به ، فيشجعه العبد على ذلك ، غير ان السيد سرعان مايكون قد سأم فكرته هذه ، فيرفضها ، ويمتدح العبد قرار الرفض هذا . وبعبثية ايضا يطرح السيد فكرة اخرى ، يوافقه العبد عليها ايضا ، وهكذا يستمران في هذه المحاورة التي تعكس التشكيك واللامبالاة بالقيم الروحية ، وينتهي صراع الافكار في داخل السيد الى هذه الخلاصة : ليس في الحياة ماهو خير حقا ، فالكل باطل
( اتفق معي ايها العبد
اجل سيدي ، أجل
مالخير إذن ؟
ان أدق عنقي وادق عنقك
ونسقط كلانا في النهر .. ذلك هو الخير )
فيجيبه العبد بحكمة قديمة تعبر عن صبره واستسلامه :
( هل ثمة من طال قامة فبلغ السماء بيديه ؟
وهل ثمة من إتسع منكبا فاحتوى الارض بذراعيه )
فيغير السيد فكرته
(لا ايها العبد ساقتلك انت وحدك ، لتسبقني )
يجيبه العبد
( أويتحمل سيدي العيش ولو اياما ثلاثة بعدي ؟ )
ان هذه المحاورة فيها الكثير من المميزات التي تشخص لنا شخصية السيد بكل تكبره واستغلاله وعبثيته وسأمه ، وكذلك شخصية باستسلامه وخذلنه وتزلفه وضعفه ، ومن السهولة ان نلمس البعد الفلسفي فيها الذي يعبر بدقة عن القيم العبثية التي يمر بها مجتمع السادة نتيجة لفقدان قيم الخير عموما .
وفي النص الطقوسي لنزول عشتار الى العالم الاسفل يستمر الشاعر السومري في وصف المشاهد المكثفة بلغة رمزية لها دلالاتها المعبرة ، لغة شرطية لاتتحمل التفصيلات الفائضة . من خلالها نفهم أن إنانا عندما تنزل الى عالم الموت ، وعند إجتيازها الأبواب السبعة تفقد جميع شاراتها الالوهية ، حتى تصبح عاجزة عن فعل أي شئ أمام ملكة " الاسفل العظيم " إختها ارشيكال ، وعندما يمسكها حراس عالم الموت ، فيبدو الشاعر السومر كأنه ساحرا وتبدو كلماته الشعرية كتعاويذ فيصف حال آلهة العالم الارضي إنانا ـ عشتار ( إنحنت خفيضة ، جئ بها عارية ) وبما انها فقدت شارات الالوهية والخلود لحظة دخولها عالم الاموات ، فان حكماء العالم الاسفل وحراسه على استعداد لتطبيق قوانين عالمهم على آلهة مثلها أيضا :
( أرشكيجال المقدسة اعتلت سدة العرش
الانوناكي القضاة السبعة ، نطقوا الحكم أمامها ،
سلطت عينيها ، عيني الموت
نطقت الكلمة بحقها ، كلمة الغضب
صدرت عنها الصيحة بوجهها ، صيحة الادانة ،
ضربتها أحالتها جثة هامدة
الجثة علقت بمسمار )
وهذا يدلل رمزيا على ان الانسان ينتقل من الحياة الى عالم الموت مستسلما ذليلا تاركا وراءه خداعه ومكره وطموحه ووحشيته وحقده وحسده وتبجحه .
إنها لغة شعرية مكثفة يرسمها خيال يفوق الزمن ويخلق خلالا حضاريا إذا لم ننتبه لذلك . أن هذه اللغة المتفوقة دلالة وشاعرية لدرجة انها توهمنا بان كل هذا يجب ان يكون مسرحا ، لكن مافائدة إثبات هذا للمسرح المعاصر ، سوى أن يكون ارشيفا في أفئدة باردة .
كوبنهاكن
شمال الكوكب
.
صورة مفقودة