نقوس المهدي
كاتب
الشعر العذري، كالشعر المنسوب الى المجنون وجميل بثينة من أجمل الشعر العربي. أما الحب العذري الذي يتضمن أقصى إجلال للجمال، فهو أجمل صور الحب وتجلياته سواء في تراثنا العربي أو في أي تراث إنساني آخر.
حول هذه العذرية في الشعر وفي الحب قدّم الطاهر لبيب (باحث تونسي) قبل أكثر من ربع قرن من اليوم دراسة أكاديمية في جامعة باريس بعنوان «سوسيولوجيا الغزل العربي/ الشعر العذري نموذجا» جرى نقلها الى العربية فيما بعد ثلاث مرات، وصدرت في دمشق (ترجمة حافظ الجمالي) وفي الدار البيضاء (ترجمة مصطفى المسناوي) وفي القاهرة (ترجمة محمد حافظ دياب)، وها هي تصدر للمرة الرابعة في بيروت عن المنظمة العربية للترجمة وقد نقلها الى العربية هذه المرة واضعها نفسه، أي الطاهر لبيب.
خلفية اجتماعية
تضع الدراسة إطارا عاما «للعذرية العربية» وبخاصة في إطار واقعها الاجتماعي الذي نشأت ونمت فيه. نعلم مثلا أن وجود مجموعة اجتماعية في العصر الأموي تحمل اسم بني عذرة، هو وجود تاريخي لا شك فيه.
الروايات والأساطير حول شعرائها مسألة أخرى. ولكن هل بنو عذرة بدو، على وجه الدقة؟ لا تخلو الإجابة من صعوبة لأن المعلومات التاريخية عامة ولا تخلو من تناقض، ثم إن البداوة نفسها مفهوم متلوّن لا يحيل على واقع واحد عبر الجزيرة العربية. وتلاقي دراسة المجموعة العذرية بعض الصعوبات، إذ المنتمون إليها، عن طريق الشعر، لا ينتمون كلهم إلى قبيلة بني عذرة التي سكنت وادي القُرى. لقد نشأوا متفرقين جغرافيا: عبدالله بن عجلان هو من قبيلة فهد، جنوب الجزيرة العربية، شمال غرب نجران، في اتجاه مناطق مكة والطائف.
أما مجنون ليلى فتعيده الروايات الى قبيلة عمرو بن صعصعة، الساكنة أيضا مناطق مكة. وأما جميل بثينة، فأغلب الاحتمال أنه قضى أغلب عمره في وادي القرى، شمال المدينة.
مثالية وتسامٍ
ما هي تحديدا «عذرية» العذريين؟ يلاحظ الباحث أولا أن تعريفها بالورع في مجال الجنسانية موجود في نصوص الرواة والمعلقين ذوي المنزع الديني، أكثر مما هو موجود عند الشعراء أنفسهم. إن تفحص الشعر المنسوب الى العذريين يبين أن هذا الورع الذي جُعل منه محصلة كل التناقضات في التعبير العذري ليس إلا وجها ثانويا. نعرف أن نفي إمكانية الزواج نفيا تلح في ذكره الروايات، هو نتيجة رمزية للتسامي بالحبيبة نحو المثالية، وليس نتيجة لرفض الرغبة الجنسية التي تبقى دائماً حاضرة، ان الأبيات التالية ترسم حالة قصوى من الامساك العذري الذي يبدو المحب مكتفيا به، ولكنه امساك يخفي رغبة في الوصال تعلنها نصوص كثيرة:
وانـي لأرضـى من بثينـة بالذي = لو أبصره الواشي لقُرّت بلابله
بــلا، وبألا أســتطيع، وبالمنـــى = وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضي = أواخره، لا نلتقي، وأوائله
علينا بداية معرفة حدود الوصال، انها حدود كان بالامكان العثور عليها واضحة في العلاقة: وصال/فراق، حيث يُفضي «اشباع» الرغبة الى عدم اشباعها، وما قد يبدو من مفارقة في هذا توضحه معاينة أساسية: كل شيء يباح تقريباً، باستثناء الجماع، لا معنى لنعت «العذري» ان لم يحافظ العذري على العذرية (والعذراء بكر)، انه من دون ذلك يفقد اسمه!
لا يبحث المحب دائماً عن تبادل الكلام، ان حبيبته كتلك الجنة الصامتة التي فيها ما لا عد له من لذات تنتظر ذوي الورع، وهو يبحث عن هذه اللذات في الأرض، في جيب الحبيبة، بحث المؤمن عن جنة الآخرة:
وإنــي لمشتاق إلى ريــح جيبـها = كما اشتاق ادريس إلى جنة الخلد
التباس الأحاسيس
ان يشتاق المحب الى ريح «الجيب»، فهذا يعني بشرياً ان الحب بين الجنسين لا يمكن ان يفقد بعده الحسي، وانه يبقى مدفوعاً بالغريزة الجنسية، ان النفاق البريء في الحب العذري تخونه عبارته نفسها، ولقد رأى المحللون النفسيون انه عندما تكبت الشهوة لمصلحة احساس أفلاطوني، فان ما يحدث في العادة ليس إلا التباساً في الاحاسيس، بل ليس إلا نوعاً من الشذوذ، هناك في هذه الحالة تعويض لحب جنسي تتراجع عناصره الحسية نحو اللاوعي، وهو تعويض صعب لا نرى ان العذريين في شعرهم قد توصلوا اليه، هناك على الصعيد الفردي، وفي المصنفات لا في الشعر، حالات قد تبدو قريبة منه، مثلما هي حالة مجنون ليلى كما عرضها كتاب الأغاني. وبالمناسبة فان مجنون ليلى أكثر صراحة من مؤرخي الأدب العربي، ان نظرته مهما كانت عابرة لا تُعرض كليا عن رؤية الجزء الأكثر اثارة من المرأة: حامت حائماته عطشى حول نقطة ماء، كما حامت نظرة جميل قرب «كشح كطي السابرية اهيف»، وقرب خصر دقيق، «وما تحته منها نقا يتهيل»!
حول هذه العذرية في الشعر وفي الحب قدّم الطاهر لبيب (باحث تونسي) قبل أكثر من ربع قرن من اليوم دراسة أكاديمية في جامعة باريس بعنوان «سوسيولوجيا الغزل العربي/ الشعر العذري نموذجا» جرى نقلها الى العربية فيما بعد ثلاث مرات، وصدرت في دمشق (ترجمة حافظ الجمالي) وفي الدار البيضاء (ترجمة مصطفى المسناوي) وفي القاهرة (ترجمة محمد حافظ دياب)، وها هي تصدر للمرة الرابعة في بيروت عن المنظمة العربية للترجمة وقد نقلها الى العربية هذه المرة واضعها نفسه، أي الطاهر لبيب.
خلفية اجتماعية
تضع الدراسة إطارا عاما «للعذرية العربية» وبخاصة في إطار واقعها الاجتماعي الذي نشأت ونمت فيه. نعلم مثلا أن وجود مجموعة اجتماعية في العصر الأموي تحمل اسم بني عذرة، هو وجود تاريخي لا شك فيه.
الروايات والأساطير حول شعرائها مسألة أخرى. ولكن هل بنو عذرة بدو، على وجه الدقة؟ لا تخلو الإجابة من صعوبة لأن المعلومات التاريخية عامة ولا تخلو من تناقض، ثم إن البداوة نفسها مفهوم متلوّن لا يحيل على واقع واحد عبر الجزيرة العربية. وتلاقي دراسة المجموعة العذرية بعض الصعوبات، إذ المنتمون إليها، عن طريق الشعر، لا ينتمون كلهم إلى قبيلة بني عذرة التي سكنت وادي القُرى. لقد نشأوا متفرقين جغرافيا: عبدالله بن عجلان هو من قبيلة فهد، جنوب الجزيرة العربية، شمال غرب نجران، في اتجاه مناطق مكة والطائف.
أما مجنون ليلى فتعيده الروايات الى قبيلة عمرو بن صعصعة، الساكنة أيضا مناطق مكة. وأما جميل بثينة، فأغلب الاحتمال أنه قضى أغلب عمره في وادي القرى، شمال المدينة.
مثالية وتسامٍ
ما هي تحديدا «عذرية» العذريين؟ يلاحظ الباحث أولا أن تعريفها بالورع في مجال الجنسانية موجود في نصوص الرواة والمعلقين ذوي المنزع الديني، أكثر مما هو موجود عند الشعراء أنفسهم. إن تفحص الشعر المنسوب الى العذريين يبين أن هذا الورع الذي جُعل منه محصلة كل التناقضات في التعبير العذري ليس إلا وجها ثانويا. نعرف أن نفي إمكانية الزواج نفيا تلح في ذكره الروايات، هو نتيجة رمزية للتسامي بالحبيبة نحو المثالية، وليس نتيجة لرفض الرغبة الجنسية التي تبقى دائماً حاضرة، ان الأبيات التالية ترسم حالة قصوى من الامساك العذري الذي يبدو المحب مكتفيا به، ولكنه امساك يخفي رغبة في الوصال تعلنها نصوص كثيرة:
وانـي لأرضـى من بثينـة بالذي = لو أبصره الواشي لقُرّت بلابله
بــلا، وبألا أســتطيع، وبالمنـــى = وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
وبالنظرة العجلى، وبالحول تنقضي = أواخره، لا نلتقي، وأوائله
علينا بداية معرفة حدود الوصال، انها حدود كان بالامكان العثور عليها واضحة في العلاقة: وصال/فراق، حيث يُفضي «اشباع» الرغبة الى عدم اشباعها، وما قد يبدو من مفارقة في هذا توضحه معاينة أساسية: كل شيء يباح تقريباً، باستثناء الجماع، لا معنى لنعت «العذري» ان لم يحافظ العذري على العذرية (والعذراء بكر)، انه من دون ذلك يفقد اسمه!
لا يبحث المحب دائماً عن تبادل الكلام، ان حبيبته كتلك الجنة الصامتة التي فيها ما لا عد له من لذات تنتظر ذوي الورع، وهو يبحث عن هذه اللذات في الأرض، في جيب الحبيبة، بحث المؤمن عن جنة الآخرة:
وإنــي لمشتاق إلى ريــح جيبـها = كما اشتاق ادريس إلى جنة الخلد
التباس الأحاسيس
ان يشتاق المحب الى ريح «الجيب»، فهذا يعني بشرياً ان الحب بين الجنسين لا يمكن ان يفقد بعده الحسي، وانه يبقى مدفوعاً بالغريزة الجنسية، ان النفاق البريء في الحب العذري تخونه عبارته نفسها، ولقد رأى المحللون النفسيون انه عندما تكبت الشهوة لمصلحة احساس أفلاطوني، فان ما يحدث في العادة ليس إلا التباساً في الاحاسيس، بل ليس إلا نوعاً من الشذوذ، هناك في هذه الحالة تعويض لحب جنسي تتراجع عناصره الحسية نحو اللاوعي، وهو تعويض صعب لا نرى ان العذريين في شعرهم قد توصلوا اليه، هناك على الصعيد الفردي، وفي المصنفات لا في الشعر، حالات قد تبدو قريبة منه، مثلما هي حالة مجنون ليلى كما عرضها كتاب الأغاني. وبالمناسبة فان مجنون ليلى أكثر صراحة من مؤرخي الأدب العربي، ان نظرته مهما كانت عابرة لا تُعرض كليا عن رؤية الجزء الأكثر اثارة من المرأة: حامت حائماته عطشى حول نقطة ماء، كما حامت نظرة جميل قرب «كشح كطي السابرية اهيف»، وقرب خصر دقيق، «وما تحته منها نقا يتهيل»!