نقوس المهدي
كاتب
المقدمة
علم الجنس فن الحياة
الكاماسوترا كتاب فني. موضوع بحثه اللذة، اللذة المتناهية طبعاً، التي تسببها العمليات الجنسية (التمارين الغرامية). لذلك اعتبر فن الحب، ولا يبقى لكي نعتبره فناً في الحب سوى خطوة واحدة. وهو المتمم الشرقي لحب أوفيد. وصنف إلى جانب قصائد أريتان وإلى جانب البحث «دي فيفوريس فنريس» الذي كتبه في بداية القرن التاسع عشر الباحث الالماني فريدريش كارل فوربرغ، بدون خبرة شخصية بل بتحليل دقيق للكتب القديمة والحديثة، أحصى التعابير الغرامية، ووضع قواعد العمليات الجنسية.
وبدون أي شك، بالنسبة للقارئ السطحي أو الجاهل يبدو هذا الكتاب عكس ما هو. إن عناوين بعض الفصول وطريقة الكتابة على شكل أقوال مأثورة كهذه: «عندما يرقد الرجل، لسبب ما تجاه امرأة أو إلى جانبها ويلمس جسدها بجسده تدعى المعانقة اللامسة» وتعدد جميع الحالات الدقيقة الممكنة عند الالتقاء بالمرأة ومداعبتها ومعانقتها وحتى صراعه معها والابتعاد عنها، تضفي على هذا الكتاب ظاهرياً «صفة الوجيز في الدعارة». لذلك، منذ التراجم الأول إلى اللغة الفرنسية، في نهاية القرن الماضي، عرض الكاماسوترا في كثير من الأحيان بأغلفة ملونة وجميلة، تهيج مشاعر العجوز الكامنة عند بعض رواد المكاتب. ولكن وإن وجد هؤلاء سعادة في بعض الصفحات إلا أنه يبقون حائرين ومرتبكين عند قراءتهم الابتهالات والتضرعات للآلهة دراما وأرتا وكاما ويدركون تماماً الفرق الشاسع بين العلوم الهندية وبين التمادي في المزاح والفكاهات البذيئة.
في الواقع الكاماسوترا كتاب فني موضوعه الحب. ولكن ليس للفن هنا هدف جنسي لتذوق اللذة الشخصية. بينما يهتم أوفيد والآريتي بالتفتيش عن الإحساس القوي والفوري وعن اللذة الجسدية، ولا يهتم الكاماسوترا باللذة إلا بالقدر الذي تؤثر على مجرى الحياة وتؤدي إلى المعرفة التجريدية.
تجاه النصائح العملية في علم الجنس التي يعطيها فاتسيايانا، يعتقد القارئ الغربي أن العلوم التجريدية ليست هنا إلا حجة. في الواقع، كالمذاهب التنتريكية استخدمت أحياناً لقيام الحفلات الجنسية الصوفية. ولكن وإن استخدمتها مجموعات صغيرة العدد أو ملة ملحدة، كان من المستحيل، حتى في هذه الحالات، التفريق بين الرذيلة ـ بالتعبير الذي نفهمه ـ وبين الطقوس السحرية والاعتقادات العميقة في الصلة بين العلاقات الجنسية ومدة الحياة وأعمال الأجداد.
يجب أن لا نخطئ ونعتبر الكاماسوترا بحثاً مفسداً. نحن بعيدون عن كتابات ساد. وحتى عن كتابات أوفيد اللاأخلاقية المرحة. وبعيدون أيضاً عن لا أخلاقية مورياك التي تذكرنا برائحة الخطيئة الفاسدة والتي نستنشقها بتسامح، يعرض الكاماسوترا طريقة انسجامية: في المجتمع وفي الحياة وفي الكون، طريقة منبثقة من الجسد تنتهي في ما وراء الطبيعة. وإذا لم يدرك المرء هذا الشعور يفقد الكتاب معناه ويعرّض الأوروبي بشكل خاص إلى استنشاق سموم لم يقصد المؤلف بثها.
ما هو إذاً الكاماسوترا؟ إنه ليس كتاباً مقدساً بالمعنى الحقيقي، بل كتبه راهب براهماني يدعى ماليناغا أو مريلانا فاتسايانا في القرن الثالث أو الرابع، كتاب يعيد بل يوجز علوم النصوص المقدمة، التي ساهمت الأوبانيساد (مقدمات الدروس) في نشرها. قال زمّر (Zimmer) إنها مؤلفات رائعة لكنها مختصرة جداً وبالتالي نعتبر تكثيفاً للمواد المستوحاة من التقاليد القديمة.
ذكر ذلك فاتسيانا في مقدمة مؤلفه كاماسوترا ونسب مراجعه لسيد الكائنات أي للإله سيفا، ويعلمنا في آن واحد انتماءه إلى حركة سيفا. ويذكر لنا المؤلفون الأول الذين كتبوا الوصايا المتعلقة بالآلهة دارما وأرتا وكاما التي تتحدث بالتالي عن المزايا الدينية، والفضيلة، وعن الثراء والحب. ويذكر من هم المؤلفون الذين أوجزوا أو نقحوا فصول الكاماشاسترا وعددها ألف التي كتبها ناندي، وكيف أقدم هو على إعادة كتابة أعمال من سبقوه بعد توضيحها وجعلها بمتناول الجميع.
هذا الميراث الذي جمعه فاتسيايانا وبوبه في القرن الرابع ما هو إلا ميراث مذهب فيدا. وديانة فيداا التي أدخلها الغازون الآريون (آرياس) بين عامي /2000 و1500/ قبل الميلاد، هي أقدم الديانات الهندية التي نعرفها وهي أساس ليس للتطوير اللاحق لما يدعى البراغماتية وتارة الهندية حسب ما ينظر إلى العهود الأولى أو كامل التطوير الديني منذ مذهب ريغ فيدا فحسب، بل أيضاً حركات الإلحاد التي انتمت إليها أو ضدها كالبوذية واليانية([1]).
إن نصوص المذهب الفيدي الطويلة وهي أساس الديانة ونقطة انطلاق كل مؤلف سنسكريتي وآدابها، والريغ فيدا أو فيدا الغناء، والياجور فيدا أو فيدا الألفاظ، والسامافيدا أو فيدا الموسيقى، والأتارفافيدا ذات أهمية أقل بالنسبة للمذهب المنزل ومؤلف التعليقات الأكثر قدماً وهي البراهماناس والأوبانيتاد، جميعها، تقدم قصة الآلهة المعقدة جداً الغنية بالآلهة التي أخذت شكل الإنسان وتقدم أيضاً رؤية حقيقية في علم الكونيات، إن آلهة فيدا (منهم اندرا الذي ورد في مآثره العديدة أنه قتل التنين حاجز المياه واستولى على الشمس وحرر الفجر، وهو ارفعهم) كائنات نشيطة، قامت بمغامرات لا تحصى، تتدخل بشكل حسن أو سيء في القضايا البشرية. والعلاقات بين الإنسان والآلهة وثيقة بشكل نرى فيه كثيراً من الآلهة يستدعون الملوك لمؤازرتهم في صراعهم ضد أعدائهم أو ضد إله الشر، ومن جهة أخرى توصل بعض الرهبان وبعض القديسين إلى درجة من المعرفة في أسرار الكون حتى أصبحوا آلهة بدورهم.
واشتهر إلهين من أبرز آلهة فيدا بشهرة خاصة فكرمتهما الطوائف القوية، وهما سيفا وفشنو، الأول «مدمر» الكون والثاني «المحافظ» عليه.
فشنو، الذي يعتبر في مذهب الفيدا، تجسيداً لخرافة شمسية، يصبح أحد الشخصيات الأكثر تعقيداً من الآلهة الهندية. فهو قبل كل شيء وبصورة خاصة إله سلبي، إله راقد يمثل مستلقياً على الفوضى التي تعم المحيط. فهو يحلم بالكون وهو إذاً التأمل الصرف. في مرة يستيقظ بها، تخرج من صرته زهرة اللوتس ينبثق منها كاهن براهماني. وبصورة دورية يظهر فشنو دوره الخلاق فيهبط إلى الأرض متقمصاً في سمكة أو سلحفاة أو خنزير بري كما يتجسد في أبطال راما وكرشنا وفي المرة التاسعة من «هبوطاته» تقمص بوذا. أما سيفا الذي يمثل عادة له أذرع عديدة، فهو إله مزدوج، مخيف أو خير، إيجابي أو سلبي، في كثير من الأحيان ينقل سلطته إلى «الساكتيس» أو «الطاقات» وهي انبثاقات جوهره وتتجسد في النساء.
إلى جانب هذه المجموعة الإلهية التي تتمثل بالآلهة من الجنسين وذات الأهمية المتفاوتة جداً يظهر التأمل المطلق حول منشأ الكون في مذهب الريغ فيدا ويتطور في الاوبانيشاد. هكذا تشكل المعنى البراهماني، المبدأ الحيادي، الخالي من كل انتماء خرافي، وأساس لكل شيء الذي سيصبح فيما بعد في النصوص المقدسة للبراهماناس، الروح الكلية، الروح المطلقة. ومن هذا المبدأ انطلق المذهب الذي طورته الاوبانيشاد حول العلاقات الكائنة بين الروح الشخصية (أتمان) والروح الكلية (براهمان) والضرورة لكل منهما الحصول على المعرفة التي تقود إلى الخلاص والانصهار في الروح الكلية.
في الواقع، بقيت الأوبانيشاد نصوص سرية يعرفها الكهنة والمثقفون بصورة خاصة، وبالتالي يشرحونها ويعلقون عليها. في الواقع اتضح جلياً أن علم الكونيات في المذهب الهندي مائع جداً. فتارة نتعلم أن الشيء الهام للإنسان هو اجتيار هذه الحياة المؤلفة من «مائة عام» التي منحت لنا دون أن نأمل معرفة ما سيأتي مستقبلاً، بحكمة، مقيدين كل فترة في العمر بالأعمال والتأملات الخاصة بها. وتارة، في أكثر الأحيان، يعتقد بوجود دورة لا نهاية لها تقريباً لانتقال الأرواح من جسد إلى آخر، ولا يعود الكل الإنساني إلا بعد عدد محدد من التقمصات الحيوانية وتارة أخرى نتعلم أن المعرفة تسمح للروح الوصول إلى درجة التحرر أي التخلص من مجموعة التحولات الطويلة هذه والامتزاج بروح الكون.
لكن الهام هو ما يلي: حركة الحياة الكونية التي احتضنتنا والتي يتوجب علينا المحافظة عليها، الدورة الأبدية المنبعثة دوماً من اللقاح والنمو والنضوج والموت ومن بعدها البعث الجديد. من هنا تأتي الأهمية التي تعطي لجميع أعمال الإخصاب. ومن هنا رسالة المنجب في مذهب سيفا التي تحتم عليه الإشراف على الجماع الجنسي. ومن هنا أيضاً الاشتراك الوثيق بين سيفا والعضو الذكر. يمثل العضو الذكر بشكل مزخرف جداً (ويفقد بالتالي مظهره الجنسي) في أغلب معابد سيفا. نراه أيضاً ممثلاً في المعابد البوذية وأمكنتها المقدسة. عادة يربط تمثيل العضو الذكر بالعضو المؤنث ويزخرف أيضاً هذا العضو ويمثل على شكل موشور أو مكعب مجوف قليلاً.
إن النشاط الجنسي، العامل الأساسي لانشراح الفرد، وهو جوهر الإنجاب واستمرار الحياة، لذلك يدرج طبيعياً في نظام الكون. وإن لم يكن كافياً للوصول إلى المعرفة فهو ضروري للانسجام الشخصي والكوني. في المذهب الهندي لا يوجد الازدواج، التفريق المطلق بين الجسد والروح كما هو الآن في الفلسفات الغربية والدين المسيحي، ولكن يوجد امتداد، صلة متينة بين الجسد والروح كما هو الحال في الأعمال الدينية، تكون الأعمال الجنسية، وخاصة في الزواج، وطالما أنها لا تخالف القوانين الإلهية، الوسيلة للاشتراك بنظام الكون، والإسهام بما ندعوه الوثوب الحيوي. بالطبع من الضروري عدم الاكتفاء بهذا المستوى والاستمرار في الطموح للوصول إلى المعرفة ولكن هناك فترة ضرورية، مرحلة لا بد منها للتعرف على الذات.
يدرج الكاماستورا إذاً في هذا المنهاج. والكاماسوترا هو قبل كل شيء دليل عملي، شبيه بالنصوص التي سبقته كما هو شبيه أيضاً بالنصوص التي تلته في الأدب السانسكريتي ونذكر منها: الراتيراهسيا أي أسرار الحب للمؤلف كولوكا، وبانشاساكيا أي السهام الخمسة للمؤلف جيوتيريشا، وسمارابراديبا أي نور الحب للمؤلف غوناكار، والراتيما نجاري أي أكليل الحب للمؤلف جاياديفا، والرسماجانتي أي نبتة الحب للمؤلف بهانوداتا، واننفارنغا أي دورة الحب للمؤلف لوليان مول (يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر).
قلنا إن الكاماسوترا دليل عملي، ونعني أنه كان ينتمي إلى الدين والطقوس السحرية (التي غالباً لا تنفصل عن الدين وتذكر حتى في النصوص المقدسة الهامة)، فهو يجتهد بالتوفيق ما بين التعاليم التقليدية والواقع الحالي (مجتمع القرن الرابع) ولا يبحث إلا بموضوع واحد، الموضوع المتعلق بالإله كاما.
وبذلك يتفوق (كما يتعارض بصفاته الإرشادية مع مشاعر الإنسان) على النصوص الأساسية التي يقتبس منها بعض عناصره، لأن هذه النصوص لم تفرق إلا الواقع من النظري والحياة من المعرفة. ولذلك في الريغ فيدا تشرح، أحياناً بالتفصيل مغامرات الآلهة الغرامية.
لكن الكاماسوترا، يهمل أعمال الآلهة ليعلمنا كيف يتوجب على الإنسان تطبيق تعليمات كاما.
إن كاماديفا، إله الحب الهندي، ليس طفلاً وسيماً كالإله إيروس اليوناني بل هو شاب لامع، اتخذ رفيقة له راتي «شهوة اللذات الجنسية» وشريكه المفضل فارسانتا «الربيع» وكالإله إيروس يملك قوساً تزينه الزهور. وعدا عن القوس يملك أيضاً خمسة أسهم وحبلاً ذو أنشوطة وكلاب (لاقتناص العشاق وشدهم إلى بعض). هذه الأدوات التي لا تروق للفاتسيايانا، سوف تتصدر القرون الوسطى أثناء الاحتفالات الدينية التنتريكية.
وبصورة خاصة، كاما إله لامنظور. لقد فقد شكله الإنسان من جراء مغامرة غريبة بأمر من اندار، ملك الآلهة، اضطر يوماً للتهجم على سيفا الناسك، لمنحه الحب تجاه الآلهة برفاتي، ابنة ملك جبال الالهيمالايا. وكانت برفاتي هذه، على اعتبار أنها تجسد إله الكون الأعلى كالي درغاساتي، الشكل المؤنث للإله سيفا و«طاقته المندفعة». ومن أجل توازن العالم كان من الضروري أن يتعرف عليها سيفا. لكن كاما أزعجه في أحلامه، فصوب عليه اللهب من عينه الثالثة وحوله إلى رماد. توسلت راتي إلى الإله، فقبل بإعادة كاما من الفناء. لكن كاما لم يعد بكامله، عادت روحه فقط ولم يكن بالإمكان إعادة جسده. منذ ذلك الحين أصبح كاما أنانغا «من لا جسد له». في الواقع، لقد استفاد من هذا الحادث، لأن بإمكانه الاقتراب من العشاق وإلهامهم وإجبارهم على المعانقة.
كاما إله مزدوج، خطير، إذا بقي المرء تحت سيطرته، وكما قال هـ. زمّر: «عندئذ تثبت الكائنات فاقدة إرادتها إلى دولاب الزمن الدائر، فمصيرنا العيش على الأرض أو في الجنة أو في عذاب المطْهَر، حسب طبيعة أفكارها أو رغباتها لكن الإله كاما معطاء إلى حد ما، بفضل خفايا الجنس والإنجاب وهو أداة الحياة الدائم وعامل من عوامل ربط الأزلية بالزمن».
وإن قام فاتسيايانا بتعليم كيفية تمجيد كاما في كتابه كاماسوترا، إلا أنه لم يتوقف عن دعوة قرائه إلى بلوغ الحياة الثانية، واجتذاب ارتا ودارما والتقدم على طريق المعرفة والحياة. لكن كتابه، ذا الأهداف المحددة في المنهاج الديني الدقيق هو قبل كل شيء بحث في الأعمال الجنسية هدفها الحب والإنجاب (في الزواج بصورة خاصة). ووجيز في السحر الغرامي ودليل في علم الأخلاق الاجتماعي.
.
.
علم الجنس فن الحياة
الكاماسوترا كتاب فني. موضوع بحثه اللذة، اللذة المتناهية طبعاً، التي تسببها العمليات الجنسية (التمارين الغرامية). لذلك اعتبر فن الحب، ولا يبقى لكي نعتبره فناً في الحب سوى خطوة واحدة. وهو المتمم الشرقي لحب أوفيد. وصنف إلى جانب قصائد أريتان وإلى جانب البحث «دي فيفوريس فنريس» الذي كتبه في بداية القرن التاسع عشر الباحث الالماني فريدريش كارل فوربرغ، بدون خبرة شخصية بل بتحليل دقيق للكتب القديمة والحديثة، أحصى التعابير الغرامية، ووضع قواعد العمليات الجنسية.
وبدون أي شك، بالنسبة للقارئ السطحي أو الجاهل يبدو هذا الكتاب عكس ما هو. إن عناوين بعض الفصول وطريقة الكتابة على شكل أقوال مأثورة كهذه: «عندما يرقد الرجل، لسبب ما تجاه امرأة أو إلى جانبها ويلمس جسدها بجسده تدعى المعانقة اللامسة» وتعدد جميع الحالات الدقيقة الممكنة عند الالتقاء بالمرأة ومداعبتها ومعانقتها وحتى صراعه معها والابتعاد عنها، تضفي على هذا الكتاب ظاهرياً «صفة الوجيز في الدعارة». لذلك، منذ التراجم الأول إلى اللغة الفرنسية، في نهاية القرن الماضي، عرض الكاماسوترا في كثير من الأحيان بأغلفة ملونة وجميلة، تهيج مشاعر العجوز الكامنة عند بعض رواد المكاتب. ولكن وإن وجد هؤلاء سعادة في بعض الصفحات إلا أنه يبقون حائرين ومرتبكين عند قراءتهم الابتهالات والتضرعات للآلهة دراما وأرتا وكاما ويدركون تماماً الفرق الشاسع بين العلوم الهندية وبين التمادي في المزاح والفكاهات البذيئة.
في الواقع الكاماسوترا كتاب فني موضوعه الحب. ولكن ليس للفن هنا هدف جنسي لتذوق اللذة الشخصية. بينما يهتم أوفيد والآريتي بالتفتيش عن الإحساس القوي والفوري وعن اللذة الجسدية، ولا يهتم الكاماسوترا باللذة إلا بالقدر الذي تؤثر على مجرى الحياة وتؤدي إلى المعرفة التجريدية.
تجاه النصائح العملية في علم الجنس التي يعطيها فاتسيايانا، يعتقد القارئ الغربي أن العلوم التجريدية ليست هنا إلا حجة. في الواقع، كالمذاهب التنتريكية استخدمت أحياناً لقيام الحفلات الجنسية الصوفية. ولكن وإن استخدمتها مجموعات صغيرة العدد أو ملة ملحدة، كان من المستحيل، حتى في هذه الحالات، التفريق بين الرذيلة ـ بالتعبير الذي نفهمه ـ وبين الطقوس السحرية والاعتقادات العميقة في الصلة بين العلاقات الجنسية ومدة الحياة وأعمال الأجداد.
يجب أن لا نخطئ ونعتبر الكاماسوترا بحثاً مفسداً. نحن بعيدون عن كتابات ساد. وحتى عن كتابات أوفيد اللاأخلاقية المرحة. وبعيدون أيضاً عن لا أخلاقية مورياك التي تذكرنا برائحة الخطيئة الفاسدة والتي نستنشقها بتسامح، يعرض الكاماسوترا طريقة انسجامية: في المجتمع وفي الحياة وفي الكون، طريقة منبثقة من الجسد تنتهي في ما وراء الطبيعة. وإذا لم يدرك المرء هذا الشعور يفقد الكتاب معناه ويعرّض الأوروبي بشكل خاص إلى استنشاق سموم لم يقصد المؤلف بثها.
ما هو إذاً الكاماسوترا؟ إنه ليس كتاباً مقدساً بالمعنى الحقيقي، بل كتبه راهب براهماني يدعى ماليناغا أو مريلانا فاتسايانا في القرن الثالث أو الرابع، كتاب يعيد بل يوجز علوم النصوص المقدمة، التي ساهمت الأوبانيساد (مقدمات الدروس) في نشرها. قال زمّر (Zimmer) إنها مؤلفات رائعة لكنها مختصرة جداً وبالتالي نعتبر تكثيفاً للمواد المستوحاة من التقاليد القديمة.
ذكر ذلك فاتسيانا في مقدمة مؤلفه كاماسوترا ونسب مراجعه لسيد الكائنات أي للإله سيفا، ويعلمنا في آن واحد انتماءه إلى حركة سيفا. ويذكر لنا المؤلفون الأول الذين كتبوا الوصايا المتعلقة بالآلهة دارما وأرتا وكاما التي تتحدث بالتالي عن المزايا الدينية، والفضيلة، وعن الثراء والحب. ويذكر من هم المؤلفون الذين أوجزوا أو نقحوا فصول الكاماشاسترا وعددها ألف التي كتبها ناندي، وكيف أقدم هو على إعادة كتابة أعمال من سبقوه بعد توضيحها وجعلها بمتناول الجميع.
هذا الميراث الذي جمعه فاتسيايانا وبوبه في القرن الرابع ما هو إلا ميراث مذهب فيدا. وديانة فيداا التي أدخلها الغازون الآريون (آرياس) بين عامي /2000 و1500/ قبل الميلاد، هي أقدم الديانات الهندية التي نعرفها وهي أساس ليس للتطوير اللاحق لما يدعى البراغماتية وتارة الهندية حسب ما ينظر إلى العهود الأولى أو كامل التطوير الديني منذ مذهب ريغ فيدا فحسب، بل أيضاً حركات الإلحاد التي انتمت إليها أو ضدها كالبوذية واليانية([1]).
إن نصوص المذهب الفيدي الطويلة وهي أساس الديانة ونقطة انطلاق كل مؤلف سنسكريتي وآدابها، والريغ فيدا أو فيدا الغناء، والياجور فيدا أو فيدا الألفاظ، والسامافيدا أو فيدا الموسيقى، والأتارفافيدا ذات أهمية أقل بالنسبة للمذهب المنزل ومؤلف التعليقات الأكثر قدماً وهي البراهماناس والأوبانيتاد، جميعها، تقدم قصة الآلهة المعقدة جداً الغنية بالآلهة التي أخذت شكل الإنسان وتقدم أيضاً رؤية حقيقية في علم الكونيات، إن آلهة فيدا (منهم اندرا الذي ورد في مآثره العديدة أنه قتل التنين حاجز المياه واستولى على الشمس وحرر الفجر، وهو ارفعهم) كائنات نشيطة، قامت بمغامرات لا تحصى، تتدخل بشكل حسن أو سيء في القضايا البشرية. والعلاقات بين الإنسان والآلهة وثيقة بشكل نرى فيه كثيراً من الآلهة يستدعون الملوك لمؤازرتهم في صراعهم ضد أعدائهم أو ضد إله الشر، ومن جهة أخرى توصل بعض الرهبان وبعض القديسين إلى درجة من المعرفة في أسرار الكون حتى أصبحوا آلهة بدورهم.
واشتهر إلهين من أبرز آلهة فيدا بشهرة خاصة فكرمتهما الطوائف القوية، وهما سيفا وفشنو، الأول «مدمر» الكون والثاني «المحافظ» عليه.
فشنو، الذي يعتبر في مذهب الفيدا، تجسيداً لخرافة شمسية، يصبح أحد الشخصيات الأكثر تعقيداً من الآلهة الهندية. فهو قبل كل شيء وبصورة خاصة إله سلبي، إله راقد يمثل مستلقياً على الفوضى التي تعم المحيط. فهو يحلم بالكون وهو إذاً التأمل الصرف. في مرة يستيقظ بها، تخرج من صرته زهرة اللوتس ينبثق منها كاهن براهماني. وبصورة دورية يظهر فشنو دوره الخلاق فيهبط إلى الأرض متقمصاً في سمكة أو سلحفاة أو خنزير بري كما يتجسد في أبطال راما وكرشنا وفي المرة التاسعة من «هبوطاته» تقمص بوذا. أما سيفا الذي يمثل عادة له أذرع عديدة، فهو إله مزدوج، مخيف أو خير، إيجابي أو سلبي، في كثير من الأحيان ينقل سلطته إلى «الساكتيس» أو «الطاقات» وهي انبثاقات جوهره وتتجسد في النساء.
إلى جانب هذه المجموعة الإلهية التي تتمثل بالآلهة من الجنسين وذات الأهمية المتفاوتة جداً يظهر التأمل المطلق حول منشأ الكون في مذهب الريغ فيدا ويتطور في الاوبانيشاد. هكذا تشكل المعنى البراهماني، المبدأ الحيادي، الخالي من كل انتماء خرافي، وأساس لكل شيء الذي سيصبح فيما بعد في النصوص المقدسة للبراهماناس، الروح الكلية، الروح المطلقة. ومن هذا المبدأ انطلق المذهب الذي طورته الاوبانيشاد حول العلاقات الكائنة بين الروح الشخصية (أتمان) والروح الكلية (براهمان) والضرورة لكل منهما الحصول على المعرفة التي تقود إلى الخلاص والانصهار في الروح الكلية.
في الواقع، بقيت الأوبانيشاد نصوص سرية يعرفها الكهنة والمثقفون بصورة خاصة، وبالتالي يشرحونها ويعلقون عليها. في الواقع اتضح جلياً أن علم الكونيات في المذهب الهندي مائع جداً. فتارة نتعلم أن الشيء الهام للإنسان هو اجتيار هذه الحياة المؤلفة من «مائة عام» التي منحت لنا دون أن نأمل معرفة ما سيأتي مستقبلاً، بحكمة، مقيدين كل فترة في العمر بالأعمال والتأملات الخاصة بها. وتارة، في أكثر الأحيان، يعتقد بوجود دورة لا نهاية لها تقريباً لانتقال الأرواح من جسد إلى آخر، ولا يعود الكل الإنساني إلا بعد عدد محدد من التقمصات الحيوانية وتارة أخرى نتعلم أن المعرفة تسمح للروح الوصول إلى درجة التحرر أي التخلص من مجموعة التحولات الطويلة هذه والامتزاج بروح الكون.
لكن الهام هو ما يلي: حركة الحياة الكونية التي احتضنتنا والتي يتوجب علينا المحافظة عليها، الدورة الأبدية المنبعثة دوماً من اللقاح والنمو والنضوج والموت ومن بعدها البعث الجديد. من هنا تأتي الأهمية التي تعطي لجميع أعمال الإخصاب. ومن هنا رسالة المنجب في مذهب سيفا التي تحتم عليه الإشراف على الجماع الجنسي. ومن هنا أيضاً الاشتراك الوثيق بين سيفا والعضو الذكر. يمثل العضو الذكر بشكل مزخرف جداً (ويفقد بالتالي مظهره الجنسي) في أغلب معابد سيفا. نراه أيضاً ممثلاً في المعابد البوذية وأمكنتها المقدسة. عادة يربط تمثيل العضو الذكر بالعضو المؤنث ويزخرف أيضاً هذا العضو ويمثل على شكل موشور أو مكعب مجوف قليلاً.
إن النشاط الجنسي، العامل الأساسي لانشراح الفرد، وهو جوهر الإنجاب واستمرار الحياة، لذلك يدرج طبيعياً في نظام الكون. وإن لم يكن كافياً للوصول إلى المعرفة فهو ضروري للانسجام الشخصي والكوني. في المذهب الهندي لا يوجد الازدواج، التفريق المطلق بين الجسد والروح كما هو الآن في الفلسفات الغربية والدين المسيحي، ولكن يوجد امتداد، صلة متينة بين الجسد والروح كما هو الحال في الأعمال الدينية، تكون الأعمال الجنسية، وخاصة في الزواج، وطالما أنها لا تخالف القوانين الإلهية، الوسيلة للاشتراك بنظام الكون، والإسهام بما ندعوه الوثوب الحيوي. بالطبع من الضروري عدم الاكتفاء بهذا المستوى والاستمرار في الطموح للوصول إلى المعرفة ولكن هناك فترة ضرورية، مرحلة لا بد منها للتعرف على الذات.
يدرج الكاماستورا إذاً في هذا المنهاج. والكاماسوترا هو قبل كل شيء دليل عملي، شبيه بالنصوص التي سبقته كما هو شبيه أيضاً بالنصوص التي تلته في الأدب السانسكريتي ونذكر منها: الراتيراهسيا أي أسرار الحب للمؤلف كولوكا، وبانشاساكيا أي السهام الخمسة للمؤلف جيوتيريشا، وسمارابراديبا أي نور الحب للمؤلف غوناكار، والراتيما نجاري أي أكليل الحب للمؤلف جاياديفا، والرسماجانتي أي نبتة الحب للمؤلف بهانوداتا، واننفارنغا أي دورة الحب للمؤلف لوليان مول (يعود تاريخه إلى القرن الخامس عشر).
قلنا إن الكاماسوترا دليل عملي، ونعني أنه كان ينتمي إلى الدين والطقوس السحرية (التي غالباً لا تنفصل عن الدين وتذكر حتى في النصوص المقدسة الهامة)، فهو يجتهد بالتوفيق ما بين التعاليم التقليدية والواقع الحالي (مجتمع القرن الرابع) ولا يبحث إلا بموضوع واحد، الموضوع المتعلق بالإله كاما.
وبذلك يتفوق (كما يتعارض بصفاته الإرشادية مع مشاعر الإنسان) على النصوص الأساسية التي يقتبس منها بعض عناصره، لأن هذه النصوص لم تفرق إلا الواقع من النظري والحياة من المعرفة. ولذلك في الريغ فيدا تشرح، أحياناً بالتفصيل مغامرات الآلهة الغرامية.
لكن الكاماسوترا، يهمل أعمال الآلهة ليعلمنا كيف يتوجب على الإنسان تطبيق تعليمات كاما.
إن كاماديفا، إله الحب الهندي، ليس طفلاً وسيماً كالإله إيروس اليوناني بل هو شاب لامع، اتخذ رفيقة له راتي «شهوة اللذات الجنسية» وشريكه المفضل فارسانتا «الربيع» وكالإله إيروس يملك قوساً تزينه الزهور. وعدا عن القوس يملك أيضاً خمسة أسهم وحبلاً ذو أنشوطة وكلاب (لاقتناص العشاق وشدهم إلى بعض). هذه الأدوات التي لا تروق للفاتسيايانا، سوف تتصدر القرون الوسطى أثناء الاحتفالات الدينية التنتريكية.
وبصورة خاصة، كاما إله لامنظور. لقد فقد شكله الإنسان من جراء مغامرة غريبة بأمر من اندار، ملك الآلهة، اضطر يوماً للتهجم على سيفا الناسك، لمنحه الحب تجاه الآلهة برفاتي، ابنة ملك جبال الالهيمالايا. وكانت برفاتي هذه، على اعتبار أنها تجسد إله الكون الأعلى كالي درغاساتي، الشكل المؤنث للإله سيفا و«طاقته المندفعة». ومن أجل توازن العالم كان من الضروري أن يتعرف عليها سيفا. لكن كاما أزعجه في أحلامه، فصوب عليه اللهب من عينه الثالثة وحوله إلى رماد. توسلت راتي إلى الإله، فقبل بإعادة كاما من الفناء. لكن كاما لم يعد بكامله، عادت روحه فقط ولم يكن بالإمكان إعادة جسده. منذ ذلك الحين أصبح كاما أنانغا «من لا جسد له». في الواقع، لقد استفاد من هذا الحادث، لأن بإمكانه الاقتراب من العشاق وإلهامهم وإجبارهم على المعانقة.
كاما إله مزدوج، خطير، إذا بقي المرء تحت سيطرته، وكما قال هـ. زمّر: «عندئذ تثبت الكائنات فاقدة إرادتها إلى دولاب الزمن الدائر، فمصيرنا العيش على الأرض أو في الجنة أو في عذاب المطْهَر، حسب طبيعة أفكارها أو رغباتها لكن الإله كاما معطاء إلى حد ما، بفضل خفايا الجنس والإنجاب وهو أداة الحياة الدائم وعامل من عوامل ربط الأزلية بالزمن».
وإن قام فاتسيايانا بتعليم كيفية تمجيد كاما في كتابه كاماسوترا، إلا أنه لم يتوقف عن دعوة قرائه إلى بلوغ الحياة الثانية، واجتذاب ارتا ودارما والتقدم على طريق المعرفة والحياة. لكن كتابه، ذا الأهداف المحددة في المنهاج الديني الدقيق هو قبل كل شيء بحث في الأعمال الجنسية هدفها الحب والإنجاب (في الزواج بصورة خاصة). ووجيز في السحر الغرامي ودليل في علم الأخلاق الاجتماعي.
.
صورة مفقودة
.