نقوس المهدي
كاتب
تحفل كتب التراث بنصوص تتطرق إلى الجنس وطرق الممارسة، وتنهل في ذلك مما جاء في النص القرآني ومما روي عن النبي محمد والصحابة.
يتطرق هذا الملف لجملة من القضايا التي تخص تراث الجنس ونظرة المسلمين له، وقد ارتكزت الكتابة فيه على صنفين من الكتب أولها كتب الباه وثانيها كتب النوازل، وإذا كان الجنس في هذه الأخيرة يحضر لماما، فقد كان موضوع الأولى بامتياز.
اهتمت كتب الباه بالثقافة الجنسية والتربية الجنسية والطب الجنسي والنفسي؛ فـ”علم الباه” هو علم باحث عن كيفية معالجة الضعف الجنسي، والمنبه لما يجب أن يفعله الزوجان من ممارسات ممتعة للجماع، والوقوف على أنواعه وطرقه وفنونه وغرائب أشكاله في إطار عام عرف بـ”آداب إتيان النساء”. وقد تضمنت هذه الكتب حكايات مغرقة في الوصف منعشة للمخيلة، عوضت غياب الفنون التصويرية، مهيجة لشهوة المحصن، ومشعلة لجذوة رغبته، داعية لتحسين العلاقة الجنسية والنفسية بين الزوجين وبالتالي إعمار الأرض. ولم تكن كتب الباه كتبا في المجون والخلاعة، وإن تضمنت بعضا منها.
كتبت في موضوع الباه، منذ القرن الثالث الهجري، عشرات التصانيف من قبل علماء وفقهاء وأئمة وقضاة وأطباء مسلمين، جمع بعضهم وأشهرهم بين معرفتهم بالدين وعلوم متعددة، خاضوا في هذا الميدان الشائك انطلاقا من مبدأ “لا حياء في الدين… لا حياء في العلم” من قبيل التجاني، والتيفاشي، والنفزاوي، والسيوطي وغيرهم. وفي هذه الكتب توليفة بين علوم الدين والدنيا، بين علم الحديث والفقه من جهة، وعلم الباه من جهة أخرى.
ترفض الرؤية الإسلامية للجنس كل شكل من أشكال النسك المفضي إلى احتقار البدن، فالقرآن يعترف، في إطار شرعي، بمشروعية إشباع الدوافع الفيزيولوجية: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم). ونسج الحديث النبوي على نفس المنوال حيث العناية بالجسد وبالشهوة وبالجماع تخضع في جميع حالاتها لآداب لابد من مراعاتها، حتى يحافظ المسلمون على الحدود بين الحلال والحرام. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التبتل أي ترك النكاح والزهد فيه: «لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام».
تكون بذلك نظرية الإسلام للغرائز الأكثر تطورا مقارنة مع الديانات التوحيدية الأخرى وخاصة المسيحية. وقد بنى الفقهاء أفكارهم في هذا الإطار على القرآن والسنة بما جاء فيهما من إشارات صريحة ومضمرة، واعتبر بعضهم (التجاني) “التلذذ بالنساء أعظم اللذات، وأن [الله] قدمهن على سائر الشهوات” (زين للناس حب الشهوات من النساء…) . لذا، تجدهم يحثون على الزواج/ النكاح، ويثنون عليه، ويفصحون عن فوائده، يكفي أن في مقدمتها إشباع الرغبة الحلال، وفي عنوان أحد كتب السيوطي في الموضوع خير معبر عن ذلك “رشف الزلال من السحر الحلال”. كما مدح الفقهاء، من منطلق ذكوري، كثرة النكاح، فقد أكد القاضي عياض على أن “النكاح متفق على التمدح بكثرته والفخر بوفوره، شرعا وعادة، فإنه دليل الكمال وصحة الذكورية”.
بهذا المعنى، يصبح التأليف في علم الباه من باب التأليف في العلوم الشرعية، وواجب ديني، تتحقق من خلاله غايات عدة منها الإفصاح عن رأي الشرع في العلاقات الجنسية الشرعية، والجمع بين “إفادة العلم وإمتاع النفوس”، وإصلاح وضع جنسي قائم، وتحقيق التوازن بين متطلبات جسد الإنسان وعبادة خالقه؛ فتخلص الزوجين، حسب هذا التصور، من “مائهما” يخلق عندهما توازنا جسديا ونفسيا، ويدفعهما إلى التفرغ لعبادة الله دون أن يشوب قلبهما شائبة تلوث خلوتهما مع خالقهما. ومن ثمة، فقد كانت غاية مؤلفي كتب الباه أيضا أن يعلم الإنسان المسلم – المحصن، مدى عمق اللذات والمتع التي تنتظره في الجنة. فقد أقر الإمام أبو حامد الغزالي بأن في النكاح لذة “لا توازيها لذة لو دامت، فهي منبهة على اللذات الموعودة في الجنان (…) وإحدى فوائد لذات الدنيا، الرغبة في دوامها في الجنة، ليكون باعثا على عبادة الله…”.
وكم نفتقد في عالم اليوم، الذي طغت عليه الطابوهات وكثرت فيه المحرمات، أمثال هؤلاء الفقهاء الذين كانوا يعبرون عن وجدان الإنسان وأحاسيسه ومشاعره، ويتحدثون عن الجنس بحرية وطلاقة، ويصنفون فيه الكتب دون أن يتهموا بارتكاب الآثام والمعاصي، أو ينعتوا بالفسق والمجون، مقتدين بالصحابة الذين أفصحوا في أحاديثهم عن أمور الجنس دون حرج.
في مقابل هؤلاء، اعتبر بعض الفقهاء موضوع الباه ضمن المواضيع الواهية والتافهة والمذمومة والمستهجنة التي تصنف في إطار الفحش والفجور والمجون والخلاعة وخدش الحياء والذوق العامين، والمس بالأخلاق الحميدة…، بل منهم من أنكر أن يكون فقهاء أجلاء ألفوا في علوم الدين من فقه وتفسير وحديث قد كتبوا في علم الباه كما حدث مع السيوطي مثلا. وحتى إن فعلوا، فذاك من باب الخوف على مجتمعاتهم من الانحلال والوقوع في الرذيلة. فرغم ما أضفاه التصور الإسلامي على الجنس من إيجابيات، فإن الصرامة المتزايدة لبعض الفقهاء فعلت فعلها لتؤدي إلى الحط من شأن الجنس ومن شأن الغريزة، وتصويرها كنشاط مريب يجب كبحه، وبدأ العبور التدريجي نحو الكبح الجنسي. فأضفى هؤلاء على الإسلام صفة الصرامة الفائقة في كل ما له علاقة بالجسد. وقد نبه ابن خلدون إلى أن “ذم الشهوات ليس المراد به إبطالها بالكلية فإن بطلت شهوته [أي الإنسان المسلم] كان نقصا في حقه، وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح عبدا متصرفا طوع الأوامر الإلهية”.
عدا كتب الباه، استفاد المسهمون في هذا الملف من النوازل والفتاوى التي لامست جل مناحي حياة الإنسان المسلم، ولعل اطلاع بعض المفتين على قضاء الأنكحة أو انخراطهم فيه خول لهم، أكثر من غيرهم، إثارة نوازل ذات صلة بالجنس، وكل ما يمت بصلة بالزواج والنكاح وما يطرحانهما من تساؤلات ومشاكل.
وقد ظلت نوازل الموضوع حاضرة منذ العصر الوسيط إلى أيامنا هذه، وإن اختلفت خلفيات بعضها بين الزمن الأول والثاني.
كان لزاما علينا، ونحن نطرح ملف “لا حياء في الدين” في زمان، أن نبث مقتطفات من كتب التراث وكتب المعاصرين (عبد السلام ياسين) التي استندت على القرآن والسنة، والإشارة إلى العديد من الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة ذات الصلة، مع التنبيه إلى أن الأحاديث النبوية الواردة لم يتم تدقيق صحتها من عدمها، وإنما أخذت من كتب “الباه” التي كتبها مسلمون فقهاء، أو على الأقل ذوو ثقافة فقهية غايتهم أو إحدى أهم غاياتهم أن يتلقى المسلم تربية جنسية تساعده على تدبير أحسن لحياته الزوجية.
.
يتطرق هذا الملف لجملة من القضايا التي تخص تراث الجنس ونظرة المسلمين له، وقد ارتكزت الكتابة فيه على صنفين من الكتب أولها كتب الباه وثانيها كتب النوازل، وإذا كان الجنس في هذه الأخيرة يحضر لماما، فقد كان موضوع الأولى بامتياز.
اهتمت كتب الباه بالثقافة الجنسية والتربية الجنسية والطب الجنسي والنفسي؛ فـ”علم الباه” هو علم باحث عن كيفية معالجة الضعف الجنسي، والمنبه لما يجب أن يفعله الزوجان من ممارسات ممتعة للجماع، والوقوف على أنواعه وطرقه وفنونه وغرائب أشكاله في إطار عام عرف بـ”آداب إتيان النساء”. وقد تضمنت هذه الكتب حكايات مغرقة في الوصف منعشة للمخيلة، عوضت غياب الفنون التصويرية، مهيجة لشهوة المحصن، ومشعلة لجذوة رغبته، داعية لتحسين العلاقة الجنسية والنفسية بين الزوجين وبالتالي إعمار الأرض. ولم تكن كتب الباه كتبا في المجون والخلاعة، وإن تضمنت بعضا منها.
كتبت في موضوع الباه، منذ القرن الثالث الهجري، عشرات التصانيف من قبل علماء وفقهاء وأئمة وقضاة وأطباء مسلمين، جمع بعضهم وأشهرهم بين معرفتهم بالدين وعلوم متعددة، خاضوا في هذا الميدان الشائك انطلاقا من مبدأ “لا حياء في الدين… لا حياء في العلم” من قبيل التجاني، والتيفاشي، والنفزاوي، والسيوطي وغيرهم. وفي هذه الكتب توليفة بين علوم الدين والدنيا، بين علم الحديث والفقه من جهة، وعلم الباه من جهة أخرى.
ترفض الرؤية الإسلامية للجنس كل شكل من أشكال النسك المفضي إلى احتقار البدن، فالقرآن يعترف، في إطار شرعي، بمشروعية إشباع الدوافع الفيزيولوجية: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم). ونسج الحديث النبوي على نفس المنوال حيث العناية بالجسد وبالشهوة وبالجماع تخضع في جميع حالاتها لآداب لابد من مراعاتها، حتى يحافظ المسلمون على الحدود بين الحلال والحرام. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التبتل أي ترك النكاح والزهد فيه: «لا رهبانية ولا تبتل في الإسلام».
تكون بذلك نظرية الإسلام للغرائز الأكثر تطورا مقارنة مع الديانات التوحيدية الأخرى وخاصة المسيحية. وقد بنى الفقهاء أفكارهم في هذا الإطار على القرآن والسنة بما جاء فيهما من إشارات صريحة ومضمرة، واعتبر بعضهم (التجاني) “التلذذ بالنساء أعظم اللذات، وأن [الله] قدمهن على سائر الشهوات” (زين للناس حب الشهوات من النساء…) . لذا، تجدهم يحثون على الزواج/ النكاح، ويثنون عليه، ويفصحون عن فوائده، يكفي أن في مقدمتها إشباع الرغبة الحلال، وفي عنوان أحد كتب السيوطي في الموضوع خير معبر عن ذلك “رشف الزلال من السحر الحلال”. كما مدح الفقهاء، من منطلق ذكوري، كثرة النكاح، فقد أكد القاضي عياض على أن “النكاح متفق على التمدح بكثرته والفخر بوفوره، شرعا وعادة، فإنه دليل الكمال وصحة الذكورية”.
بهذا المعنى، يصبح التأليف في علم الباه من باب التأليف في العلوم الشرعية، وواجب ديني، تتحقق من خلاله غايات عدة منها الإفصاح عن رأي الشرع في العلاقات الجنسية الشرعية، والجمع بين “إفادة العلم وإمتاع النفوس”، وإصلاح وضع جنسي قائم، وتحقيق التوازن بين متطلبات جسد الإنسان وعبادة خالقه؛ فتخلص الزوجين، حسب هذا التصور، من “مائهما” يخلق عندهما توازنا جسديا ونفسيا، ويدفعهما إلى التفرغ لعبادة الله دون أن يشوب قلبهما شائبة تلوث خلوتهما مع خالقهما. ومن ثمة، فقد كانت غاية مؤلفي كتب الباه أيضا أن يعلم الإنسان المسلم – المحصن، مدى عمق اللذات والمتع التي تنتظره في الجنة. فقد أقر الإمام أبو حامد الغزالي بأن في النكاح لذة “لا توازيها لذة لو دامت، فهي منبهة على اللذات الموعودة في الجنان (…) وإحدى فوائد لذات الدنيا، الرغبة في دوامها في الجنة، ليكون باعثا على عبادة الله…”.
وكم نفتقد في عالم اليوم، الذي طغت عليه الطابوهات وكثرت فيه المحرمات، أمثال هؤلاء الفقهاء الذين كانوا يعبرون عن وجدان الإنسان وأحاسيسه ومشاعره، ويتحدثون عن الجنس بحرية وطلاقة، ويصنفون فيه الكتب دون أن يتهموا بارتكاب الآثام والمعاصي، أو ينعتوا بالفسق والمجون، مقتدين بالصحابة الذين أفصحوا في أحاديثهم عن أمور الجنس دون حرج.
في مقابل هؤلاء، اعتبر بعض الفقهاء موضوع الباه ضمن المواضيع الواهية والتافهة والمذمومة والمستهجنة التي تصنف في إطار الفحش والفجور والمجون والخلاعة وخدش الحياء والذوق العامين، والمس بالأخلاق الحميدة…، بل منهم من أنكر أن يكون فقهاء أجلاء ألفوا في علوم الدين من فقه وتفسير وحديث قد كتبوا في علم الباه كما حدث مع السيوطي مثلا. وحتى إن فعلوا، فذاك من باب الخوف على مجتمعاتهم من الانحلال والوقوع في الرذيلة. فرغم ما أضفاه التصور الإسلامي على الجنس من إيجابيات، فإن الصرامة المتزايدة لبعض الفقهاء فعلت فعلها لتؤدي إلى الحط من شأن الجنس ومن شأن الغريزة، وتصويرها كنشاط مريب يجب كبحه، وبدأ العبور التدريجي نحو الكبح الجنسي. فأضفى هؤلاء على الإسلام صفة الصرامة الفائقة في كل ما له علاقة بالجسد. وقد نبه ابن خلدون إلى أن “ذم الشهوات ليس المراد به إبطالها بالكلية فإن بطلت شهوته [أي الإنسان المسلم] كان نقصا في حقه، وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح عبدا متصرفا طوع الأوامر الإلهية”.
عدا كتب الباه، استفاد المسهمون في هذا الملف من النوازل والفتاوى التي لامست جل مناحي حياة الإنسان المسلم، ولعل اطلاع بعض المفتين على قضاء الأنكحة أو انخراطهم فيه خول لهم، أكثر من غيرهم، إثارة نوازل ذات صلة بالجنس، وكل ما يمت بصلة بالزواج والنكاح وما يطرحانهما من تساؤلات ومشاكل.
وقد ظلت نوازل الموضوع حاضرة منذ العصر الوسيط إلى أيامنا هذه، وإن اختلفت خلفيات بعضها بين الزمن الأول والثاني.
كان لزاما علينا، ونحن نطرح ملف “لا حياء في الدين” في زمان، أن نبث مقتطفات من كتب التراث وكتب المعاصرين (عبد السلام ياسين) التي استندت على القرآن والسنة، والإشارة إلى العديد من الأحاديث النبوية وأقوال الصحابة ذات الصلة، مع التنبيه إلى أن الأحاديث النبوية الواردة لم يتم تدقيق صحتها من عدمها، وإنما أخذت من كتب “الباه” التي كتبها مسلمون فقهاء، أو على الأقل ذوو ثقافة فقهية غايتهم أو إحدى أهم غاياتهم أن يتلقى المسلم تربية جنسية تساعده على تدبير أحسن لحياته الزوجية.
.