خلدون الشمعة - أدب الحب الدنيوي عند العرب عمره تسعة قرون

إذا استعرنا عنوان كتاب جورج قرم "شرق وغرب: الشرخ الأسطوري" فإن ذلك لا بد أن يفضي بنا إلى الاعتراف بأن الأسطورة الكامنة في لاوعي طرفي هذه المعادلة حول وجود انفصام أنطولوجي بينهما، يمكن أن تتحول بمرور الزمن إلى خرافة مسيطرة يتعذر التخلص من آثارها المدمرة.

مناسبة هذا الكلام ندوة (forum) حول "الحب الدنيوي عند العرب" أقامها قسم الدراسات الأنثروبولوجية في جامعة أميركية. فهل الحب ظاهرة تختلف لدى العرب عن الشعوب الأخرى، بحيث يستوجب الأمر كما عوّدنا بعض المستشرقين، رصدها بمناهج الأنثروبولوجيا الباحثة عن الغرابة والاختلاف والتي أولع بها الباحثون الغربيون منذ زمن بعيد؟

المقصود بالحب الدنيوي في تقديري هو الحب الإنساني الواقعي والمفعم بالعاطفة. وهذا المصطلح يبدو بمثابة النقيض للحب العذري، الأفلاطوني والصوفي. ولا شك عندي أن القاسم المشترك الذي جمع هؤلاء الأنثربولوجيين والأدباء في الندوة هو لا زمانية الحب وعالميته، ووجود دافع حضاري للتأكيد على قيم التمدن وعلى ضرورة نشر أفكار معينة عن الحب في زمن تربط فيه أجهزة الإعلام الجماهيري، ربطاً تلقائياً بين العرب والإرهاب.

أعترف أنني كنت أتمنى أن أسهم في هذه المناسبة. فدراسة العرب هنا ينبغي أن تتركز حول أدبهم قبل كل شيء. والأدب في هذا السياق ينبغي ألا يُنظر إليه بالمعنى الضيق للكلمة وإنما باعتباره إبداعاً يغطي حقول علم النفس والفلسفة والفلك واللاهوت والأخلاق والشريعة وعلم الحديث. لهذا فهو يغطي فترة تاريخية من الكتابة العربية تتجاوز تسعمئة سنة، بدءاً من مقالتين للجاحظ، ومروراً بـ"كتاب الزهرة" لابن داوود و"كتاب المصون في سر الهوى المكنون" للحصري، و"طوق الحمامة: في الألفة والألاّف" لابن حزم الأندلسي، وانتهاء بـ"روضة المحبين" لابن قيم الجوزية و"مصارع العشاق" لجعفر أحمد السراج وأعمال أخرى.

واللافت أن الأعمال التي تدخل في مجال نظرية الحب الصوفي يتجاوز عددها الأعمال التي تتناول نظرية الحب الدنيوي، هذا على الرغم من أن الاعتبارات الدينية وحتى الصوفية ليست بعيدة عن مجال التأثير في نظرية الحب الدنيوي.

وقد بدأ الاهتمام بهذه النظرية لدى الباحثين المعاصرين في الأدب العربي منذ عام 1914، عندما نشر "د. ك بتروف" نص كتاب الفقيه ابن حزم الأندلسي "طوق الحمامة: في الألفة والألاّف" عن مخطوطة موجودة في ليدن بهولندا. وأثار هذا الحدث روح البحث في مغزى هذا الكتاب بالنسبة

إلى الآداب والتاريخ الأندلسي، وأدى إلى دراسة كتب أخرى من هذا النوع. إلا أن المستشرقين غولدتسهير وغارثيا غوميز كتبا الكثير عن "طوق الحمامة" بشكل خاص، وذلك لأسباب تتعلق بصلة شعر "التروبادور" الذي نهض على طبقة من الشعراء الغنائيين الذين اشتهروا في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا بين القرن الحادي عشر ونهاية القرن الثالث عشر، بالأدب العربي الأندلسي.

كما أن أ. ر. نيكل المستشرق الإنكليزي الذي ترجم "طوق الحمامة" إلى الإنكليزية هو أول من أكد في مقدمته على الصلات التي تربط بين التراث الأندلسي وبين شعر ""التروبادور".

وقد ظهرت ترجمة روسية للكتاب في عام 1922، وأخرى ألمانية في عام 1941 وثالثة إيطالية في عام 1949. وفي عام 1950 ظهرت الطبقة العربية المحققة من الكتاب لحسن كامل الصيرفي. وفي عام 1952 ظهرت الترجمة الإسبانية لفارثيا غوميز. وبعد ذلك بعام ظهرت الترجمة الإنكليزية لآرثر أربري.

ومع ذلك لم يكن كتاب ابن حزم الوحيد الذي أصبح معروفا. فقد نشر أحمد عبيد في دمشق كتاب "روضة المحبين" لابن قيم الجوزية في عام 1920، وشارك الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان المستشرق الإنكليزي نيكل في تحقيق "كتاب الزهرة" لمحمد بن داوود. ولم يلبث المستشرق هيلموت ريتر أن أكد على أن الوقت حان لكي يلفت الانتباه إلى هذا النوع من الكتب باعتباره يمثل فرعا خاصا من الأدب أو جنسا أدبيا جديدا.

ولكن نظرية الحب الصوفي من جهة أخرى، لاقت من الاهتمام ما يفوق الاهتمام الذي لاقته نظرية الحب الدنيوي. ومع ذلك فإن نظرية الحب الدنيوي هامة جدا ليس باعتبارها جزءا يدخل في سياق التاريخ العام للأدب العربي فحسب، وإنما باعتبارها جزءا من سياق أوسع هو التاريخ المقارن للأدب.

كما أن نظرية الحب الدنيوي تكاد تتداخل مع التجربة العامة للناس، وبالتالي فإنها تتعلق بالقيم الأشد بروزا في الحياة البشرية، وتكشف عن مختلف أوجه الحضارة الاجتماعية والفكرية والدينية في العالمين العربي والإسلامي.

وقد درج بعض المستشرقين على إثارة الشكوك إزاء وجود نظرية للحب الدنيوي لدى العرب، وذلك انطلاقا من التشكيك بكون الأعمال التي تشكل النظرية تنتمي إلى حقل معرفي واحد.

إلا أن الباحثة الأميركية "أنيتا غريفن" تؤكد في كتابها "نظرية الحب الدنيوي عند العرب" أن الكتّاب الذين اعتمدت أعمالهم للبرهنة على نظرية الحب الدنيوي كانوا يكتبون بوعي كامل للدور الذي يقومون به كمسهمين في أدب متميز عن الحقول الأدبية الأخرى، فهم يتحدثون عن سابقيهم ويقتطفون من أعمالهم أو يهاجمونهم.

وإذا كان بالإمكان أن لا يبرهن الباحث على وجود صلة سُلاليَّة، يصبح بموجبها العمل الواحد ناتجا عن الآخر، بحيث يشكل المجموع نظرية الحب الدنيوي، فإن ذلك قد جعل غريفن لا تتردد في البحث في خصائص متميزة لهذا الجنس الأدبي.

وهنا تبرز مشكلة يعاني منها النقاد المعاصرون الذين ينطلقون من نظرية الأدب الغربي. فهم إذ يحاولون تطبيق المفاهيم الشائعة في الآداب الغربية على الآداب القديمة التي تنتمي إلى تقاليد مختلفة عن الآداب الغربية، فإنهم يرتكبون بذلك عملا من أعمال التعسف الذي يجيزه الأساس الموضوعي والمعياري للنقد الأدبي نفسه.

وبعبارة أخرى فإن نقل مصطلحات تقليد أدبي معين إلى تقليد أدبي آخر، يواجه بصعوبة أساسية مفادها أن ما يعتبر أدبا حسب تقليد حضاري، قد لا يعتبر أدبا حسب تقليد حضاري آخر.

وما أطلق عليه المستشرقون الباحثون في الحضارة العربية الإسلامية من أمثال جب ونيكلسون وبروكلمان بـ"الأدب العربي" و"الأدب الفارسي" ليس أدبا بالمعنى الدقيق للكلمة، كما يراه دارسو الأدب المعاصرون، فهم يرون أن ما يميز مصطلح "أدب" هو التخييل والابتكار.

وأما ما هو ليس بأدب فيدخل في نطاق الخطابة والفلسفة والسياسة واللاهوت والاقتصاد. وقد اعتبر دور الخيال أساسيا في نظرية الأدب الأوروبي، بدءا من عصر النهضة. هذا في الوقت الذي لا يحمل فيه الخيال هذا القدر من الأهمية لدى عرب القرون الوسطى كما تلاحظ "أنيتا غريفن". ولكن هل هذا التقييم للدور المحدود للخيال لدى العرب صحيح فعلا؟

إن النقاد والدارسين الغربيين عندما يؤكدون أن الأدب العربي القديم مزيج بين ما هو أدبي وما هو غير أدبي، إنّما يغفلون ما يراه النقاد المعاصرون من أن دراسة ما يسمى بالعنصر غير الأدبي، تطرح مسائل ومشكلات كثيرة تتعلق بالتحليل الجمالي والأسلوبي لا تختلف عن تلك المسائل والمشكلات الخاصة بدراسة الأدب نفسه. ولكن هذا لا يعني أن الأدب العربي القديم ليس مزيجا بين ما هو أدبي وما هو غير أدبي بطبيعة الحال.

ولعل استعارة الكاتب الأرجنتيني المعاصر "خورخي بورخيس" للمنهج الإخباري لدى العرب، عندما يحاول نسج قصصه على غرار الأخبار عند العرب، أن تكون مثالا على التداخل بين ما يسمّى بأدبية النص ولا أدبيته. فحين يخترع بورخيس قصته عن الخليفة العباسي المعتصم ويريد أن يجعلها قادرة على إقناع القارئ بأنها حدثت في الواقع فعلا، كما هو الشأن في المرويات التاريخية العربية، فإنه يسارع إلى استخدام تقنية الخبر الموضوعي عند العرب، وهي تقنية غير أدبية حسب الحدود الشائعة في نظرية الأجناس الأدبية في أوروبا.

من هذا المنطلق يبدو أن الفصل بين ما هو أدبي وغير أدبي، فصل مصطنع ومؤلفة الكتاب تحاول ملامسة هذه الفكرة عن طريق التأكيد على أن نظرية الأجناس الأدبية الحديثة وصفية بالضرورة، أي أنها نظرية غير معيارية. وهذا النزوع نحو الوصف قد أدّى بالنقد الحديث للعودة إلى التأكيد على فرادة العمل الأدبي.

وتبرر المؤلفة استعمالها لمصطلح "النظرية" بقولها إنها تعني بذلك المناقشات التي تتعلق بجوهر وطبيعة الحب وأسمائه وصفاته وأسبابه وأنواعه والفروق بين هذه الأنواع كما أنها تعني في الوقت نفسه، أحوال المحبين وظروفهم.

ولعل حكاية "الإصبع والسراج" التي يوردها ابن حزم الأندلسي في كتابه آنف الذكر: "طوق الحمامة: في الألفة والألاّف" أن توضح شيئاً من المقصود بالحب الدنيوي.

إن هذه الحكاية تؤكد على التداخل بين الحب وبين الرغبة. هذا في الوقت الذي يؤكد الباحثون فيه على أن الرغبة حالة آنية، في حين أن الحب نزوع دائم يتجلى في رغبات متتالية ومتناوبة، على حد تعبير الراحل الـدكتور جميل صليبا.

وقد سبق لي في كتابي "المنهج والمصطلح" أن أوردت هذه الحكاية في الفصل الخاص بالأسطورة لكي أقدم نموذجاً عربيا يصلح للتمثيل على الفعالية النقدية والإبداعية باعتبارها مجازاً أسطورياً.

وأما في السياق الذي نحن بصدده، سياق النظرية الخاصة بالحب الدنيوي عند العرب، فإنني أرى أن بالإمكان الإشارة إلى الحكاية نفسها باعتبارها تكشف عن جوهر تجربة الحب الدنيوي الذي تمتزج به الرغبة بالحب وتحيل الرغبة التي هي حالة آنية زائلة إلى نزوع دائم وحالة مستمرة.

يصف ابن حزم الأندلسي في "طوق الحمامة" تجربة شاب حسن الوجه من أهل قرطبة، وقد تعبّد ورفض الدنيا. وكان له أخ في الله وقد سقطت بينهما مؤونة التحفظ، فزاره ذات ليلة وعزم على المبيت عنده فعرضت لصاحب المنزل حاجته إلى بعض معارفه بالبعد عن منزله، فنهض لها على أن يعود مسرعاً.

ونزل الشاب في داره مع امرأته وكانت غاية في الحسن، فأطال رب المنزل المقام إلى أن مشى العسس ولم يمكنه من الانصراف إلى منزله. فلما علمت المرأة بفوات الوقت وأن زوجها لا يمكنه المجيء تلك الليلة، تاقت نفسها إلى ذلك الفتى، فوضع إصبعه على السراج فتفقع ثم قال يا نفس ذوقي هذا، فهال المرأة ما رأت، ثم عاد إلى الفعلة الأولى فانبلج الصباح وسبابته قد اصطلتها النار.

هذه الحكاية التي يعرضها الفقيه القرطبي ابن حزم الأندلسي تبرز ملامح من الحب الدنيوي عند العرب باعتباره يمثل تجربة وجودية أرضية لا تفصل، أو ربما تدمج بين الرغبة التي هي حالة آنية وبين الحب الذي يتسم بأنه نزوع دائم وحالة مستمرة. بل لعلها قبل ذلك كله، تقدم نموذجا متميزا من نماذج الكتابة عن الكيمياء العاطفية وعن الحب البشري الذي يشعر به تجاه معشوقته.

وإذا ما سأل سائل عن تاريخ هذا النوع من الكتابة في الأدب العربي فإن الجواب على ذلك لا بد أن يفاجئ الجميع. فعمر الكتابات العربية في الحب الدنيوي هو تسعة قرون على أقل تقدير. وأما كتّاب هذا النوع فهم علماء وأدباء وفقهاء وقضاة أو عاملون بارزون في البلاط. وقد كان الدافع وراء اختيارهم الكتابة هو جاذبية الموضوع الآسرة، وتمدنهم وحسن ذوقهم، وإحساسهم بضرورة نشر بعض الأفكار عن الحب، وطموحهم إلى تجاوز كاتب آخر في الميدان نفسه أو الرغبة في حسم مسائل تتصل بوجهات نظر خلافية طرحها كتّاب سابقون أو معاصرون.


.
صورة مفقودة
 
أعلى