نقوس المهدي
كاتب
من اهمّ نساء السّلطة في الف ليلة وليلة اللّواتي مارسن تسلّطاً على من دونهنّ من الجواري والإماء، والرّجال، السّيدة زبيدة بنت جعفر المنصور(١)... إذ تبرز هذه المرٔاة كنموذج متسلّط، مُطاع طاعة عمياء، لا يجرؤ احد على مخالفتها من جواري قصرها، ومن رجال مدينة بغداد ونسائها.
ففي حكاية "حسن الصائغ البصريّ" تسمع السّيّدة زبيدة بجمال منار السّنا زوجة حسن البصري، فتأمر بإحضار مسرور السّياف، فيأتيها صاغرًا، ويقبّل الأرض بين يديها(٢)، وتأمره ان يذهب ويحضر السّيدة منار السّنا.. فقالت له: يا مسرور اذهب (…) وائت بالصّبيّة اّلتي هناك هي ؤاولادها و العجوز ام حسن البصر ي التي عندها بسرعة ولا تبطئ، فقال مسرور السمع والطاعة.(3) فيذهب مسرور الى منزل حسن البصري، ويطلب من العجوز ان تحضر هي وزوج ابنها، واولادها، الى قصر زبيدة، لتُسعد زبيدة برؤية جمال منار السنا، لكنّ العجوز تعتذر وتتوسّل اليه ان يعفيها وزوج ابنها من الذهاب.. "يا مسرور نحن ناس غرباء و زوج البنت ولدي ما هو في البلد ولم يأمرني بالخروج انا ولا هي لأحد من خلق لله تعالى، وانا اخاف أن يجري امر ويحضر ولدي فيقتل روحه فمن احسانك يا مسرور ان لا تكلّفنا ما لا نطيق".. ولأنّ مسرورًا يعتقد جازماً انّ سيّدته زبيدة، بموقعها السلطويّ، هي افضل خلق الله جميعاً من النساء، بوصفها زوجة امير المؤمنين هارون الرشيد السادس من بني العبّاس، عمّ النبي صلّى لله عليه وسلّم فإنّ على نساء بغداد و رجالها كلّها ان تخضع لرغباتها واوامرها، شاءت ام ابت. فما كان منه الاّ ان رفض اعتذار المرٔاة، وهدّدها بسيف زبيدة قائلاً.« لا تخالفي تندمي.(6)»..
وبطبيعة الحال لا تستطيع العجوز ان تخالف اوامر زبيدة، حتّى لا تندم، فتذهب برفقة منار السنا الى قصر زبيدة، وعندما تشاهدها زبيدة تدهَش من جمالها، وتسألها: يا سيّدة الملاح أيّ شيء عندك من الذخائر (…) ولأنّ منار السنا تريد السفر من بغداد الى واق الواق ضدّ رغبة زوجها حسن البصري برفقة اولادها، الذي يخاف ان تهرب بأولاده و لا تعود ابدًا.. فإنّها تستثمر فرصة لقائها بزبيدة لتحتال على امّ زوجها، ولتؤثّر في زبيدة بسطوة جمالها، فتؤكّد لها انّ لها ثوباً عجيباً من الريش، وانّها ستكون اكثر جمالاً لو انّها تمكّنت من ارتدائه، وانّ هذا الثوب قد اخفاه زوجها حسن البصري، وسافر خارج بغداد. ومن ثمّ تطلب من زبيدة ان ترغم امّ زوجها على أن ترجع لها هذا الثوب، لتلبسه بحضرتها، حتّى تتأكّد من صحّة كلامها.. فقالت الصبيّة يا سيّدتي لي ثوب ريش لو لبسته بين يديك لرٔايت احسن مما تعجبين منه، ويتحدّث بحسنه كلّ من يراه جيلاً بعد جيل، فقالت واين ثوبك هذا؟ قالت هو عند امّ زوجي فاطلبيه لي منها(8)..
وتطلب السيّدة زبيدة من ام حسن البصري لا يذكر الراوي اسماً لهذه الأم ان تذهب وتحضر ثوب الريش، لكنّ المرٔاة العجوز تقسم بالله انّها لا تعرف شيئاً عن هذا الثوب. عندها تستنفر زبيدة سطوتها، وتصمّم على انتزاع الثوب قهرًا واغتصاباً. يقول الراوي(٩).. فصرخت السيّدة زبيدة على العجوز واخذت منها المفتاح ونادت مسرورًا فحضر وقالت له: خذ هذا المفتاح واذهب الى الدار، وافتحها (…) تجد في وسطها صندوقاً فأخرجه واكسره وهات الثوب الريش وما ان يحضر ثوب الريش، حتّى.« الذي فيه واحضره بين يديّ ترتديه منار السنا. وبالرؤيّة التخيّليّة التي تحكم منطق القصّ في كثير من حكايات الف ليلة و ليلة، يجعل الراوي منار السنا تضع ولديها تحت ثوبها، وتفتح جناحي الثوب السحريّ، وتطير بأولادها الى واق الواق، بلاد ابيها(١٠)..
إنّ السيّدة زبيدة، وامام طغيان انانيّتها الفرديّة، واستمتاعها، برؤية منار السنا، وهي تلعب وتتمايل، وترقص بثوبها السحريّ (١١) لا يهمّها ان هي سبّبت التعاسة للآخرين، وان هي باعدت بين حسن البصري واولاده وزوجته منار السنا، التي يحبّها حبّاً خرافيّاً يفوق سحر ثوبها وقدراته الخرافيّة، ولا يهمّها ان اغتالت احلامه، وجعلته يائساً، مندفعاً لأن يتحمّل اقصى الأهوال، وهو يقطع الجبال والبحار بحثاً عن زوجته، وجعلت امّه غارقة في بكائها، ولطم وجهها، وغشيتها المأساويّة(١٢). وهي في سبيل تحقيق سعادتها الآنيّة برؤية امرٔاة جميلة ترقص رقصاً يفوق رقص جواريها مُجْتمعات، مستعدّة لأن تضحّي بكلّ احلام شعبها في بغداد، وليذهب الشعب الى جحيم التعاسة طالما هي تستلذّ بجمالية المشهد الراقص.
انّ مآسي الآخرين لا تحرّك في السيّدة زبيدة السلطويّة ايّة مشاعر حزن او تعاطف، او شفقة نحوهم، فالآخرون لا يعنون لها شيئاً الاّ بقدر ما يقدّمون لها من هدايا ورشاوى ومسرّات انيّة. وهنا يمكن القول: انّ الراوي، وبشكل خفيّ، يبثّ ايديولوجيته المعادية لنظام القصر في بغداد، ولمؤسسة السلطة في هذا القصر.
ويمكن القول ايضاً: انّ السلطة في الف ليلة و ليلة تشكّل فعلاً تدميريّاً ضدّ الآخر المُستلَب، وضدّ طموحاته لأن يعيش حرًّا وحالماً متعدّدة في الفضاء » وامناً. ومنذ ان تشكّلت السلطة كانت الاجتماعيّ وممّتدّة في الزمان التاريخيّ. وعندما نبعدها وندفعها هنا، سرعان ما تظهر هنالك، و هي لا تزول البتّة قم ضدّها بثورة بغية القضاء عليها، وسرعان ما تنبعث وتنبت في حالة جديدة (…) انّ السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشريّة في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسيّ وحده.(13)..
امّا في حكاية هرون الرشيد مع محمد بن علي الجوهري فإنّ السيّدة زبيدة تبدو مستبدّة ومطاعة؛ ومن تطلبه الى قصرها يجب عليه الحضور والاّ فإنّها ستغضب عليه وتبقى عدوّته. ففي هذه الحكاية يذكر الراوي انّها سمعت من جواري القصر التي تنقل اليها أخبار بغداد وعلاقات سكّانها، انّ تاجرًا ظريفاً و ثريّاً، و ذا صوت شجيّ، يقيم في بغداد، وقد صار زوجاً للسيّدة دنيا البرمكيّة اخت الوزير جعفر البرمكي فترسل اليه احدى عجائز القصر، ليحضر اليها، لكنّ الرجل يخاف من زوجته السيّدة دنيا، ان هو غادر قصرها. فيعتذر عن الذهاب، لكنّ العجوز تهدّده بغضب السيّدة زبيدة، فيضطّر للذهاب مُكرهاً. يقول الراوي: " وقالت: العجوز يا سيّدي محمد إنّ السيّدة زبيدة تدعوك فإنّها سمعت بأدبك وظرفك وحسن غنائك. فقلت لها: ولله لا اقوم من مكاني حتّى تأتي السيّدة دنيا. فقالت العجوز: يا سيّدي لا تجعل السيّدة زبيدة تغضب عليك وتبقى عدوّ تك، فقم كلّمها وارجع الى مكانك. وقمت من وقتي وتوّجهت إليها والعجوز امامي الى ان اوصلتني الى السيّدة زبيدة".. فالجوهري لا يستطيع ان يخالف امر السيّدة زبيدة، لأنّ مخالفته تعني غضبها الشديد عليه، وبالتالي قد تعني نفيه عن بغداد، او مصادرة امواله، وممتلكاته، ولا سيما انّه من اغنى تجّار بغداد، بل وكما يذكر الراوي يصل في ثرائه الى درجة ثراء الخليفة هرون الرشيد، ويفوقه ثراءً وعندما يصل محمد بن علي الجوهري الى قصر السيّدة زبيدة تبدي اعجاباً شديدًا به، وتطلب منه ان يغنّي لها، و تقول له: يا نور العين هل انت معشوق السيّدة دنيا؟
فقلت: انا مملوكك و عبدك.
فقالت: صدق الذي وصفك بالحسن والجمال والكمال، فإنّك فوق الوصف والمقال، ولكن غنّ لي حتّى اسمعك.
فقلت: سمعاً وطاعةً
تقول زبيدة للجوهري: يا نور العين، لكنّه يعي انّ طبقة التجار التي ينتمي اليها، على الرغم من اهميّتها في المجتمع البغدادي الطبقيّ، تظلّ طبقة دونيّة، مقارنة بطبقة السلطة التي تتحكّم بكلّ الطبقات الأخرى، و تراها خادمة مطيعة لها، عندها يؤكّد الجوهري انّه مملوكها وعبدها، وهو لا يستطيع ان يقترب منها اكثر، ويستخدم خطاباً لغويّاً يقترب من خطابها، كأن يصفها، مثلاً بنور العين، او يتغزّل بحسنها وجمالها، نظرًا لهيبتها السلطويّة من جهة، ولمكانتها الطبقيّة من جهة أخرى .
لقد وعى بعض ادباء وفقهاء الدولة الإسلاميّة مدى الهالة السلطويّة المقدّسة التي يتحصّن بها الخلفاء الأمويون والعباسيون، وقدرة هؤلاء على البطش والاستبداد بشعوبهم، فدعوا الناس المقرّبين منها الى تقديسها وعدم اختراقها، والحذر منها، في رضاها وسخطها، والولاء والذلّ المطلق لها، ودعوا كلّ من لم يستطع ترويض نفسه على طاعة السلطان والرضى بكل ما يأتيه منه، سواء اكان خيرًا ام شرًّا، الى الحذر منه، والابتعاد عنه(١٧). و تأسيساً على قول بعضهم السلطان اذا زادك اكراماً فزده اعظاماً، وٕاذا جعلك عبدًا فاجعله ربّاً
يمكن القول: انّ محمدًا بن علي الجوهري، عندما اكرمته زبيدة في قصرها اعتبر نفسه عبدًا لها، وما استطاع ان يتخطّى هذه المنزلة، على الرغم من انّ زبيدة مهّدت له، وشجّعته لأن يتخطّاها على المستوى الظاهري، وقالت له: يا نور العين. ويبدو انّ الراوي المتعاطف مع التاجر الجوهري، الثريّ جدًّا، او المتقمّص لشخصيّته، والطامح ولو على مستوى الحلم لأن يكون مكانه في قصر زبيدة، تخيّل من دائرة حرمانه وفقره وتوقه لأن يشاهد زبيدة، هذه السيّدة الأرستقراطيّة التي ملأ صيتها افاق الدولة الإسلاميّة، انّه لو حضر امامها، لقالت له: يا نور العين، و لأدنته، ؤارضت طموحه لأن يكون ظريفاً، وكاملاً في الجمال والأدب، ومغنّياً ماهرًا، يستطيع ان ينتزع اعجاب اهمّ امرٔاة في الدولة العباسيّة، الاّ انّ الواقع المعيش الذي يحاول ان يتخطّاه هذا الراوي الشعبي وفق الأماني التخيّليّة العذبة، وصولاً الى قصر زبيدة يؤكّد استحالة ان يستطيع هذا الراوي تجاوز طبقته الدونيّة الى طبقة اعلى منه، فهو غير قادر على الوصول الى طبقة التجّار التي كانت قادرة على الوصول الى قصور الخلفاء بثرائها الماليّ، وتقديمها الرشاوى والهدايا لسادة هذه القصور، فالمجتمع العبّاسيّ هو مجتمع تُهمّش فيه الطبقات الفقيرة، اذ يستحيل عليها ان تتجاوز واقعها المأساويّ، الذي ساهم في زيادة الذين حرموا الشعب حقوقه وطوّقوه» مأساته، الخلفاء العبّاسيّون بالاستعباد والاستبداد والعنف الشديد، وقد مضوا هم وبطانتهم يحتكرون لأنفسهم امواله و موارده الضخمة، بحيث كانت هناك طبقة تنعم بالحياة الى غير حدّ، وطبقات قُتّر عليها في الرزق، فهي تشقى الى غير حدّ، واضطرب اوساط الناس من التجّار وغيرهم بين الشقاء والنعيم..
و من ملامح زبيدة السلطويّة في الف ليلة وليلة، انّها امرٔاة غيور على زوجها الرشيد، وحاقدة على الجواري اللّواتي كنّ ينلن حظوة ومحبّة شديدة عنده، فقد كان الرشيد يحبّ احدى جواريه- قوت القلوب- محبّة شديدة، مما دفع زبيدة الى الغيرة الشديدة منها، ومحاولة التخلّص منها بالقتل(٢٠)
ويبدو من خلال المصادر التاريخيّة انّ السيّدة زبيدة كانت تغار على زوجها الرشيد من الجواري اللّواتي تعلّق بهنّ، ؤُاعجب بغنائهنّ. ويروي ابو الفرج الأصفهاني(٢١) الخبر الآتي:
كانت دنانير لرجل من اهل المدينة، وكان خرّجها(٢٢) ؤادّبها، وكانت اروى الناس للغناء
القديم، وكانت صفراء صادقة الملاحة، فلمّا رٓاها يحي(٢٣) وقعت بقلبه فاشتراها. وكان
الرشيد يسير الى منزله فيسمعها، حتى الفها واشتدّ عَجَبه بها فوهب لها هبات سنيّة، منها أنّه وهب لها في ليلة عيد عِقْدًا، قيمته ثلاثون الف دينار، فَرُدَّ عليه في مصادرة البرامكة بعد ذلك. وعلمت امّ جعفر خبره فشكته الى عُمومته، فصاروا جميعاً اليه فعاتبوه، فقال: مالي في هذه الجارية من أرَبٍ في نفسها، وٕانّما ارَبي في غنائها، فاسمعوها، فإن استحقّت ان يُؤلَف غناؤها وٕالاّ فقولوا ما شئتم، فأقاموا عنده، ونقلهم إلى يحي حتّى سمعوها عنده فعذروه، وعادوا إلى امّ جعفر فأشاروا عليها الاّ تُلحّ في امرها فقَبِلت ذلك
لقد كانت السيّدة زبيدة متسلّطة على سكّان بغداد، وكان على هؤلاء مهما علت مقاماتهم ان يقبّلوا الأرض بين يديها اجلالاً وتعظيماً لمكانتها السلطويّة. فها هو احد اولاد التجّار الأثرياء يقبّل الأرض أمامها(٢٤)، وهاهي الأميرة منار السنا زوجة حسن البصري وامّه تقبّلان الأرض بين يديها(٢٥). وكان على رجال القصر مهما كانوا مرموقين ان يقبّلوا الأرض امام زبيدة، فهاهو مسرور السيّاف، الباطش السفّاح يقبّل الأرض امامها عندما تأمره، ويقول: لها السمع والطاعة.. وكان على جواري القصر المرموقات، والحظايا عند الخليفة الرشيد، ان يقدّمن ولاء الطاعة لها، فها هي تحفة العوّادة احدى جواري الرشيد المدّللات تعتذر لزبيدة لأنّها تأخّرت في الحمّام، وتقبّل الأرض بين يديها(٢٧)
وليست السيّدة زبيدة هي المرٔاة السلطويّة الوحيدة التي تُقَبَّل الأرض بين يديها، بل يُلاحظ انّ عادة تقبيل الأرض موجودة في كلّ بلاطات الحكّام في الف ليلة وليلة، باختلاف مذاهبهم الدينيّة. ويبدو أنّ هذه العادة تجذّرت في بلاطات الخلفاء الأمويّين والعباسيّين نتيجة احتكاكهم بالبلدان المجاورة، فهذه العادة في اصولها هي من العادات الفارسيّة والبيزنطيّة»
ولم تُعرف هذه العادة في العصر الإسلاميّ، في بداياته الأولى عهد الرسول محمد (ص) وعهد الخلفاء الراشدين وعلى الأرجح انّها تجذّرت في الحياة العربيّة الإسلاميّة، بعد استلام بني اميّة مقاليد الخلافة الإسلاميّة ( ٤١ ه/ ٦٦١ م)، وتحويلهم الدولة الإسلاميّة من دولة الخلافة الى دولة اشبه بالدولةالباطشة ذات النزعة الإستبداديّة(٢٩) والبعيدة كلّ البعد عن مبدٔا الشورى الذي دعا اليه الخطاب القرٓانيّ: "فاعْفُ عنهم واستَغْفِرْ لهم و شَاوِرْهُم في الأمر" و"والذين استجابوا لربّهم ؤاقاموا الصلاة ؤَامْرُهُم شُورى بينَهم وممّاَ رزَقناهم يُنفِقُون" (31).. ورسّخ دعائمه النبيّ محمد (ص).
ويُلاحظ في الف ليلة وليلة انّ الرواة، في بعض الأحيان، لا يكتفون بوصف الخلفاء بالخلفاء فقط, بل بالملوك والخلفاء معاً. فها هو احد الرواة يقول عن الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان.. كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان بدمشق الشام ملك من الخلفاء يسمّى عبد الملك بن مروان.. اما الخليفة هرون الرشيد فقد كان يعتبر نفسه، بالإضافة الى انّه خليفة، ملكاً، ولا يكتفي بملك، بل بملك ملوك الأرض.. يقول الرشيد(٣٣) عن نفسه كيف اكون خليفة وملك ملوك الأرض واعجز عن جوهرة.
ويبدو انّ خلفاء الدولتين الأمويّة والعبّاسيّة قد قلّدوا ملوك فارس في الأبّهة والعظمة الأسطورية، وطغوا وتجبّروا على شعوبهم، واستبدّوا بها وحوّلوها الى خدمٍ وحشم، وقد كان الخلفاء العبّاسيّون اكثر استبدادًا من الأمويّين ؤاشدّ منهم تقليدًا للمثال الفارسي في ادارتهم... ومن اهمّ علامات هذا الاستبداد انحناء الشعوب الإسلاميّة وتقبيل الأرض امام الخلفاء، وتقبيل اياديهم، اذ كانت هذه الشعوب تنحني في نصوص الف ليلة وليلة امام الخليفة وزوجته ؤابنائه، ويتساوى في ذلك جميع غلمان القصور وحظاياها، ؤافراد الشعب باختلاف طبقاته، فهاهو احد غلمان قصر الرشيد يقبّل الأرض بين يدي الرشيد(٣٥). وهاهو اثرى تاجر في البصرة، التاجر ابو محمّد الكسلان، ما ان يسمع انّ الخليفة الرشيد يطلب حضوره الى بغداد، حتى يسارع ويقبّل الأرض بين يدي مسرور رسول الخليفة تعظيماً للخليفة(٣٦)
لقد كان على كل من في القصر في بغداد ان يطيع الخليفة طاعة عمياء، ويقبّل الأرض بين يديه. ونظرًا لسطوة الخليفة الرشيد، وهيمنة هذه السطوة على سكان الدولة العبّاسيّة، فقد تخيّل احد الرواة انّ هذه السطوة طاغية ايضاً على اقرب المقرّبين من الرشيد زوجته زبيدة واعتقد انّه كما على الناس في بغداد ان يقبّلوا الأرض بين يدي زبيدة، فإنّ عليها هي الأخرى ان تقبّل الأرض بين يدي زوجها الرشيد. يقول الراوي عن غلام الرشيد ثمّ انّ الغلام قبّل الأرض بين يد الخليفة.. وقال له: يا امير المؤمنين انّ السيّدة زبيدة تقبّل الأرض بين يديك
ومن ملامح السيّدة زبيدة في نصوص الف ليلة وليلة انّها امرٔاة وَِلعَة بامتلاك الجواهر والأحجار الكريمة، ومن كثرة جواهرها فإنّها لم تكن قادرة على المشي، كما يقول احد الرواة: ثم رٔايت عشرين جارية (…) وبينهنّ السيّدة زبيدة وهي لا تقدر على المشي ممّا عليها من الحِلَى والحُلَل
ومن شدّة ولع السيّدة زبيدة بامتلاك الذهب والجواهر الكريمة، فقد كانت تحرص على امتلاك انفس الجواهر، ؤاكبرها في بغداد. يقول الراوي انّ هارون الرشيد كان جالساً ذات يوم في تخت الخلافة، إذ دخل عليه غلام من الطواشيّة و معه تاج من الذهب الأحمر مرصّع بالدرّ والجوهر، وفيه سائر اليواقيت والجواهر ما لا يفي به مال. ثمّ انّ الغلام (…) قال له: يا امير المؤمنين انّ السيّدة زبيدة (…) تقول لك: أنت تعرف انّها قد عملت هذا التاج ؤانّه محتاج الى جوهرة كبيرة تكون في رٔاسه وفتّشت في ذخائرها فلم تجد فيها جوهرة كبيرة على غرضها وعند ذلك يطلب الرشيد من الحجّاب و النوّاب ان يفتّشوا عن جوهرة مناسبة ترضي طموح زوجته
ويبدو انّ السيّدة زبيدة كانت تاريخيّاً تعتلي اعلى مراتب الثراء والأناقة بين نساء المجتمع البغدادي، اذ صارت ملابسها، نظرًا لأناقتها الجماليّة، زيّاً شائعاً في البيئة الاجتماعيّة(٤١). وقد كانت سيّدة الأناقة في بغداد و المدن العبّاسيّة الأخرى . ويمكن القول: انّ الراوي الذي اشار اليها، وهي مثقلة بجواهرها، وثيابها النفيسة، لم يكن يشكّل صورتها من تخيّلاته، بل ممّا وصل اليه من المصادر التاريخيّة. فعلى سبيل المثال يذكر المسعودي ( ٤٢ )ٔ انّها كانت تلبس الثياب الجميلة المزيّنة بالألوان، والموشاة بالحرير، والباهظة الثمن، حتّى أنّه بلغ ثمن الثوب من هذه الثياب خمسين الف دينار. وكانت تتّخذ النعال المرصّعة بالجوهر وشمع العنبر، مما دفع الناس في بغداد الى تقليدها.
ويرى ابن طباطبا انّ السيّدة زبيدة كانت سديدة الرٔاي، وحكيمة عاقلة، اكثر من ولدها محمد الأمين، وتتجلّى حكمتها من خلال تعليماتها لعلي بن ماهان( ٤٣ ) (ت ١٩٥ ه/ ٨١١ م)، وهو في طريقه الى حرب عبد لله المأمون، وتأكيدها عليه ان يكون لطيفاً وكريماً مع المأمون، فيما اذا انتصر عليه( ٤٤ ). الاّ انّ حكمتها هذه وسداد رٔايها، لم يمنعاها من ان تكون بطرة عابثة بأموال الدولة العباسيّة. ويُروى ان الشاعر اشجع السُّلمي(٤٥) دخل على محمد الأمين، وقد اجلِس مجلس الأدب للتعليم، وهو ابن اربع سنين، فأنشده مادحاً:
ملك ابوه و امه من نَبْعَةٍ (٤٦) = منها سراج الأمّة الوهّاجُ
شربت بمكة في ربا بطحائها(٤٧) = ماء النبوّة ليس فيها مِزَاج
فما كان من السيّدة زبيدة الاّ ان اعجبت بهذا المديح، ووهبت قائله مائة الف درهم.(٤٨)
إنّ حكمة السيّدة زبيدة وعقلها لم يمنعاها، ايضاً، من تبذير أموال الشعب على القضاة والفقهاء المقرّبين من قصر زوجها ببغداد. كتبت مسألة الى ابي يوسف( ٤٩ ) تستفتيه فيها، فأفتاها بما » ويُروى انّها وافق مرادها (…) فبعثت اليه بحقّ ( ٥٠ ) فضّة فيه حقّان من فضّة في كلّ حقّ لون من الطيب، وجامَ (٥١) ذهب فيه دراهم، و جام فضّة فيه دنانير، وغلمان وتخوت(٥٢) من ثياب
الهوامش
(1) زبيدة : ( زبيدة بنت جعفر بن المنصور، …- ٢١٦ ه/…- ٨٣١ م): الهاشميّة العبّاسية، زوجة هرون الرّشيد، وبنت عمّه. من فضليات النساء وشهيراتهنّ . وهي أم الأمين العبّاسي. اسمها "ٔامة العزيز" وغلب عليها لقبها زبيدة. قيل: كان جدّها المنصور يرقّصها في طفولتها ويقول : يا زبيدة انت زبيدة ! فغلب على ذلك اسمها. تزوّج بها الرّشيد سنة ١٦٥ ه ولمّا قُتل ابنها الأمين، اضطهدها رجال المأمون فكتبت اليه تشكو حالها، فعطف عليها، وجعل لها قصرًا في دار الخلافة، ؤاقام لها الوصائف والخدم. وكانت لها ثروة واسعة.
الزركلي، خيرالدين: الأعلام،دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية .٤٢/ عشرة،شباط( فبراير)، ١٩٩٧ م، ٣
(2) .٢٩٦/ الف ليلة وليلة،منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، دون تاريخ، ٤
(3) .٢٩٦/ م س، ٤
(4) .٢٩٦/ م س، ٤
(5) .٢٩٦/ م س ، ٤
مع ملاحظة انّ الراوي يخطئ تاريخيّاً حين يقول عن هرون الرشيد انّه السادس من بني العبّاس، فالرشيد هو الخليفة العبّاسيّ الخامس بعد الخلفاء الأربعة الذين سبقوه في حكم الدولة العبّاسيّة، وهم: ابو العبّاس عبد لله السفّاح، و ابو جعفر المنصور، و محمد المهدي بن المنصور، و الهادي بن المهدي.
* د. محمد عبد الرحمن يونس
ملامح السيّدة زبيدة زوجة الخليفة هرون الرشيد في حكايات ألف ليلة وليلة
ملامح الطغيان والاستبداد
.
ففي حكاية "حسن الصائغ البصريّ" تسمع السّيّدة زبيدة بجمال منار السّنا زوجة حسن البصري، فتأمر بإحضار مسرور السّياف، فيأتيها صاغرًا، ويقبّل الأرض بين يديها(٢)، وتأمره ان يذهب ويحضر السّيدة منار السّنا.. فقالت له: يا مسرور اذهب (…) وائت بالصّبيّة اّلتي هناك هي ؤاولادها و العجوز ام حسن البصر ي التي عندها بسرعة ولا تبطئ، فقال مسرور السمع والطاعة.(3) فيذهب مسرور الى منزل حسن البصري، ويطلب من العجوز ان تحضر هي وزوج ابنها، واولادها، الى قصر زبيدة، لتُسعد زبيدة برؤية جمال منار السنا، لكنّ العجوز تعتذر وتتوسّل اليه ان يعفيها وزوج ابنها من الذهاب.. "يا مسرور نحن ناس غرباء و زوج البنت ولدي ما هو في البلد ولم يأمرني بالخروج انا ولا هي لأحد من خلق لله تعالى، وانا اخاف أن يجري امر ويحضر ولدي فيقتل روحه فمن احسانك يا مسرور ان لا تكلّفنا ما لا نطيق".. ولأنّ مسرورًا يعتقد جازماً انّ سيّدته زبيدة، بموقعها السلطويّ، هي افضل خلق الله جميعاً من النساء، بوصفها زوجة امير المؤمنين هارون الرشيد السادس من بني العبّاس، عمّ النبي صلّى لله عليه وسلّم فإنّ على نساء بغداد و رجالها كلّها ان تخضع لرغباتها واوامرها، شاءت ام ابت. فما كان منه الاّ ان رفض اعتذار المرٔاة، وهدّدها بسيف زبيدة قائلاً.« لا تخالفي تندمي.(6)»..
وبطبيعة الحال لا تستطيع العجوز ان تخالف اوامر زبيدة، حتّى لا تندم، فتذهب برفقة منار السنا الى قصر زبيدة، وعندما تشاهدها زبيدة تدهَش من جمالها، وتسألها: يا سيّدة الملاح أيّ شيء عندك من الذخائر (…) ولأنّ منار السنا تريد السفر من بغداد الى واق الواق ضدّ رغبة زوجها حسن البصري برفقة اولادها، الذي يخاف ان تهرب بأولاده و لا تعود ابدًا.. فإنّها تستثمر فرصة لقائها بزبيدة لتحتال على امّ زوجها، ولتؤثّر في زبيدة بسطوة جمالها، فتؤكّد لها انّ لها ثوباً عجيباً من الريش، وانّها ستكون اكثر جمالاً لو انّها تمكّنت من ارتدائه، وانّ هذا الثوب قد اخفاه زوجها حسن البصري، وسافر خارج بغداد. ومن ثمّ تطلب من زبيدة ان ترغم امّ زوجها على أن ترجع لها هذا الثوب، لتلبسه بحضرتها، حتّى تتأكّد من صحّة كلامها.. فقالت الصبيّة يا سيّدتي لي ثوب ريش لو لبسته بين يديك لرٔايت احسن مما تعجبين منه، ويتحدّث بحسنه كلّ من يراه جيلاً بعد جيل، فقالت واين ثوبك هذا؟ قالت هو عند امّ زوجي فاطلبيه لي منها(8)..
وتطلب السيّدة زبيدة من ام حسن البصري لا يذكر الراوي اسماً لهذه الأم ان تذهب وتحضر ثوب الريش، لكنّ المرٔاة العجوز تقسم بالله انّها لا تعرف شيئاً عن هذا الثوب. عندها تستنفر زبيدة سطوتها، وتصمّم على انتزاع الثوب قهرًا واغتصاباً. يقول الراوي(٩).. فصرخت السيّدة زبيدة على العجوز واخذت منها المفتاح ونادت مسرورًا فحضر وقالت له: خذ هذا المفتاح واذهب الى الدار، وافتحها (…) تجد في وسطها صندوقاً فأخرجه واكسره وهات الثوب الريش وما ان يحضر ثوب الريش، حتّى.« الذي فيه واحضره بين يديّ ترتديه منار السنا. وبالرؤيّة التخيّليّة التي تحكم منطق القصّ في كثير من حكايات الف ليلة و ليلة، يجعل الراوي منار السنا تضع ولديها تحت ثوبها، وتفتح جناحي الثوب السحريّ، وتطير بأولادها الى واق الواق، بلاد ابيها(١٠)..
إنّ السيّدة زبيدة، وامام طغيان انانيّتها الفرديّة، واستمتاعها، برؤية منار السنا، وهي تلعب وتتمايل، وترقص بثوبها السحريّ (١١) لا يهمّها ان هي سبّبت التعاسة للآخرين، وان هي باعدت بين حسن البصري واولاده وزوجته منار السنا، التي يحبّها حبّاً خرافيّاً يفوق سحر ثوبها وقدراته الخرافيّة، ولا يهمّها ان اغتالت احلامه، وجعلته يائساً، مندفعاً لأن يتحمّل اقصى الأهوال، وهو يقطع الجبال والبحار بحثاً عن زوجته، وجعلت امّه غارقة في بكائها، ولطم وجهها، وغشيتها المأساويّة(١٢). وهي في سبيل تحقيق سعادتها الآنيّة برؤية امرٔاة جميلة ترقص رقصاً يفوق رقص جواريها مُجْتمعات، مستعدّة لأن تضحّي بكلّ احلام شعبها في بغداد، وليذهب الشعب الى جحيم التعاسة طالما هي تستلذّ بجمالية المشهد الراقص.
انّ مآسي الآخرين لا تحرّك في السيّدة زبيدة السلطويّة ايّة مشاعر حزن او تعاطف، او شفقة نحوهم، فالآخرون لا يعنون لها شيئاً الاّ بقدر ما يقدّمون لها من هدايا ورشاوى ومسرّات انيّة. وهنا يمكن القول: انّ الراوي، وبشكل خفيّ، يبثّ ايديولوجيته المعادية لنظام القصر في بغداد، ولمؤسسة السلطة في هذا القصر.
ويمكن القول ايضاً: انّ السلطة في الف ليلة و ليلة تشكّل فعلاً تدميريّاً ضدّ الآخر المُستلَب، وضدّ طموحاته لأن يعيش حرًّا وحالماً متعدّدة في الفضاء » وامناً. ومنذ ان تشكّلت السلطة كانت الاجتماعيّ وممّتدّة في الزمان التاريخيّ. وعندما نبعدها وندفعها هنا، سرعان ما تظهر هنالك، و هي لا تزول البتّة قم ضدّها بثورة بغية القضاء عليها، وسرعان ما تنبعث وتنبت في حالة جديدة (…) انّ السلطة جرثومة عالقة بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشريّة في مجموعه، وليس بالتاريخ السياسيّ وحده.(13)..
امّا في حكاية هرون الرشيد مع محمد بن علي الجوهري فإنّ السيّدة زبيدة تبدو مستبدّة ومطاعة؛ ومن تطلبه الى قصرها يجب عليه الحضور والاّ فإنّها ستغضب عليه وتبقى عدوّته. ففي هذه الحكاية يذكر الراوي انّها سمعت من جواري القصر التي تنقل اليها أخبار بغداد وعلاقات سكّانها، انّ تاجرًا ظريفاً و ثريّاً، و ذا صوت شجيّ، يقيم في بغداد، وقد صار زوجاً للسيّدة دنيا البرمكيّة اخت الوزير جعفر البرمكي فترسل اليه احدى عجائز القصر، ليحضر اليها، لكنّ الرجل يخاف من زوجته السيّدة دنيا، ان هو غادر قصرها. فيعتذر عن الذهاب، لكنّ العجوز تهدّده بغضب السيّدة زبيدة، فيضطّر للذهاب مُكرهاً. يقول الراوي: " وقالت: العجوز يا سيّدي محمد إنّ السيّدة زبيدة تدعوك فإنّها سمعت بأدبك وظرفك وحسن غنائك. فقلت لها: ولله لا اقوم من مكاني حتّى تأتي السيّدة دنيا. فقالت العجوز: يا سيّدي لا تجعل السيّدة زبيدة تغضب عليك وتبقى عدوّ تك، فقم كلّمها وارجع الى مكانك. وقمت من وقتي وتوّجهت إليها والعجوز امامي الى ان اوصلتني الى السيّدة زبيدة".. فالجوهري لا يستطيع ان يخالف امر السيّدة زبيدة، لأنّ مخالفته تعني غضبها الشديد عليه، وبالتالي قد تعني نفيه عن بغداد، او مصادرة امواله، وممتلكاته، ولا سيما انّه من اغنى تجّار بغداد، بل وكما يذكر الراوي يصل في ثرائه الى درجة ثراء الخليفة هرون الرشيد، ويفوقه ثراءً وعندما يصل محمد بن علي الجوهري الى قصر السيّدة زبيدة تبدي اعجاباً شديدًا به، وتطلب منه ان يغنّي لها، و تقول له: يا نور العين هل انت معشوق السيّدة دنيا؟
فقلت: انا مملوكك و عبدك.
فقالت: صدق الذي وصفك بالحسن والجمال والكمال، فإنّك فوق الوصف والمقال، ولكن غنّ لي حتّى اسمعك.
فقلت: سمعاً وطاعةً
تقول زبيدة للجوهري: يا نور العين، لكنّه يعي انّ طبقة التجار التي ينتمي اليها، على الرغم من اهميّتها في المجتمع البغدادي الطبقيّ، تظلّ طبقة دونيّة، مقارنة بطبقة السلطة التي تتحكّم بكلّ الطبقات الأخرى، و تراها خادمة مطيعة لها، عندها يؤكّد الجوهري انّه مملوكها وعبدها، وهو لا يستطيع ان يقترب منها اكثر، ويستخدم خطاباً لغويّاً يقترب من خطابها، كأن يصفها، مثلاً بنور العين، او يتغزّل بحسنها وجمالها، نظرًا لهيبتها السلطويّة من جهة، ولمكانتها الطبقيّة من جهة أخرى .
لقد وعى بعض ادباء وفقهاء الدولة الإسلاميّة مدى الهالة السلطويّة المقدّسة التي يتحصّن بها الخلفاء الأمويون والعباسيون، وقدرة هؤلاء على البطش والاستبداد بشعوبهم، فدعوا الناس المقرّبين منها الى تقديسها وعدم اختراقها، والحذر منها، في رضاها وسخطها، والولاء والذلّ المطلق لها، ودعوا كلّ من لم يستطع ترويض نفسه على طاعة السلطان والرضى بكل ما يأتيه منه، سواء اكان خيرًا ام شرًّا، الى الحذر منه، والابتعاد عنه(١٧). و تأسيساً على قول بعضهم السلطان اذا زادك اكراماً فزده اعظاماً، وٕاذا جعلك عبدًا فاجعله ربّاً
يمكن القول: انّ محمدًا بن علي الجوهري، عندما اكرمته زبيدة في قصرها اعتبر نفسه عبدًا لها، وما استطاع ان يتخطّى هذه المنزلة، على الرغم من انّ زبيدة مهّدت له، وشجّعته لأن يتخطّاها على المستوى الظاهري، وقالت له: يا نور العين. ويبدو انّ الراوي المتعاطف مع التاجر الجوهري، الثريّ جدًّا، او المتقمّص لشخصيّته، والطامح ولو على مستوى الحلم لأن يكون مكانه في قصر زبيدة، تخيّل من دائرة حرمانه وفقره وتوقه لأن يشاهد زبيدة، هذه السيّدة الأرستقراطيّة التي ملأ صيتها افاق الدولة الإسلاميّة، انّه لو حضر امامها، لقالت له: يا نور العين، و لأدنته، ؤارضت طموحه لأن يكون ظريفاً، وكاملاً في الجمال والأدب، ومغنّياً ماهرًا، يستطيع ان ينتزع اعجاب اهمّ امرٔاة في الدولة العباسيّة، الاّ انّ الواقع المعيش الذي يحاول ان يتخطّاه هذا الراوي الشعبي وفق الأماني التخيّليّة العذبة، وصولاً الى قصر زبيدة يؤكّد استحالة ان يستطيع هذا الراوي تجاوز طبقته الدونيّة الى طبقة اعلى منه، فهو غير قادر على الوصول الى طبقة التجّار التي كانت قادرة على الوصول الى قصور الخلفاء بثرائها الماليّ، وتقديمها الرشاوى والهدايا لسادة هذه القصور، فالمجتمع العبّاسيّ هو مجتمع تُهمّش فيه الطبقات الفقيرة، اذ يستحيل عليها ان تتجاوز واقعها المأساويّ، الذي ساهم في زيادة الذين حرموا الشعب حقوقه وطوّقوه» مأساته، الخلفاء العبّاسيّون بالاستعباد والاستبداد والعنف الشديد، وقد مضوا هم وبطانتهم يحتكرون لأنفسهم امواله و موارده الضخمة، بحيث كانت هناك طبقة تنعم بالحياة الى غير حدّ، وطبقات قُتّر عليها في الرزق، فهي تشقى الى غير حدّ، واضطرب اوساط الناس من التجّار وغيرهم بين الشقاء والنعيم..
و من ملامح زبيدة السلطويّة في الف ليلة وليلة، انّها امرٔاة غيور على زوجها الرشيد، وحاقدة على الجواري اللّواتي كنّ ينلن حظوة ومحبّة شديدة عنده، فقد كان الرشيد يحبّ احدى جواريه- قوت القلوب- محبّة شديدة، مما دفع زبيدة الى الغيرة الشديدة منها، ومحاولة التخلّص منها بالقتل(٢٠)
ويبدو من خلال المصادر التاريخيّة انّ السيّدة زبيدة كانت تغار على زوجها الرشيد من الجواري اللّواتي تعلّق بهنّ، ؤُاعجب بغنائهنّ. ويروي ابو الفرج الأصفهاني(٢١) الخبر الآتي:
كانت دنانير لرجل من اهل المدينة، وكان خرّجها(٢٢) ؤادّبها، وكانت اروى الناس للغناء
القديم، وكانت صفراء صادقة الملاحة، فلمّا رٓاها يحي(٢٣) وقعت بقلبه فاشتراها. وكان
الرشيد يسير الى منزله فيسمعها، حتى الفها واشتدّ عَجَبه بها فوهب لها هبات سنيّة، منها أنّه وهب لها في ليلة عيد عِقْدًا، قيمته ثلاثون الف دينار، فَرُدَّ عليه في مصادرة البرامكة بعد ذلك. وعلمت امّ جعفر خبره فشكته الى عُمومته، فصاروا جميعاً اليه فعاتبوه، فقال: مالي في هذه الجارية من أرَبٍ في نفسها، وٕانّما ارَبي في غنائها، فاسمعوها، فإن استحقّت ان يُؤلَف غناؤها وٕالاّ فقولوا ما شئتم، فأقاموا عنده، ونقلهم إلى يحي حتّى سمعوها عنده فعذروه، وعادوا إلى امّ جعفر فأشاروا عليها الاّ تُلحّ في امرها فقَبِلت ذلك
لقد كانت السيّدة زبيدة متسلّطة على سكّان بغداد، وكان على هؤلاء مهما علت مقاماتهم ان يقبّلوا الأرض بين يديها اجلالاً وتعظيماً لمكانتها السلطويّة. فها هو احد اولاد التجّار الأثرياء يقبّل الأرض أمامها(٢٤)، وهاهي الأميرة منار السنا زوجة حسن البصري وامّه تقبّلان الأرض بين يديها(٢٥). وكان على رجال القصر مهما كانوا مرموقين ان يقبّلوا الأرض امام زبيدة، فهاهو مسرور السيّاف، الباطش السفّاح يقبّل الأرض امامها عندما تأمره، ويقول: لها السمع والطاعة.. وكان على جواري القصر المرموقات، والحظايا عند الخليفة الرشيد، ان يقدّمن ولاء الطاعة لها، فها هي تحفة العوّادة احدى جواري الرشيد المدّللات تعتذر لزبيدة لأنّها تأخّرت في الحمّام، وتقبّل الأرض بين يديها(٢٧)
وليست السيّدة زبيدة هي المرٔاة السلطويّة الوحيدة التي تُقَبَّل الأرض بين يديها، بل يُلاحظ انّ عادة تقبيل الأرض موجودة في كلّ بلاطات الحكّام في الف ليلة وليلة، باختلاف مذاهبهم الدينيّة. ويبدو أنّ هذه العادة تجذّرت في بلاطات الخلفاء الأمويّين والعباسيّين نتيجة احتكاكهم بالبلدان المجاورة، فهذه العادة في اصولها هي من العادات الفارسيّة والبيزنطيّة»
ولم تُعرف هذه العادة في العصر الإسلاميّ، في بداياته الأولى عهد الرسول محمد (ص) وعهد الخلفاء الراشدين وعلى الأرجح انّها تجذّرت في الحياة العربيّة الإسلاميّة، بعد استلام بني اميّة مقاليد الخلافة الإسلاميّة ( ٤١ ه/ ٦٦١ م)، وتحويلهم الدولة الإسلاميّة من دولة الخلافة الى دولة اشبه بالدولةالباطشة ذات النزعة الإستبداديّة(٢٩) والبعيدة كلّ البعد عن مبدٔا الشورى الذي دعا اليه الخطاب القرٓانيّ: "فاعْفُ عنهم واستَغْفِرْ لهم و شَاوِرْهُم في الأمر" و"والذين استجابوا لربّهم ؤاقاموا الصلاة ؤَامْرُهُم شُورى بينَهم وممّاَ رزَقناهم يُنفِقُون" (31).. ورسّخ دعائمه النبيّ محمد (ص).
ويُلاحظ في الف ليلة وليلة انّ الرواة، في بعض الأحيان، لا يكتفون بوصف الخلفاء بالخلفاء فقط, بل بالملوك والخلفاء معاً. فها هو احد الرواة يقول عن الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان.. كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان بدمشق الشام ملك من الخلفاء يسمّى عبد الملك بن مروان.. اما الخليفة هرون الرشيد فقد كان يعتبر نفسه، بالإضافة الى انّه خليفة، ملكاً، ولا يكتفي بملك، بل بملك ملوك الأرض.. يقول الرشيد(٣٣) عن نفسه كيف اكون خليفة وملك ملوك الأرض واعجز عن جوهرة.
ويبدو انّ خلفاء الدولتين الأمويّة والعبّاسيّة قد قلّدوا ملوك فارس في الأبّهة والعظمة الأسطورية، وطغوا وتجبّروا على شعوبهم، واستبدّوا بها وحوّلوها الى خدمٍ وحشم، وقد كان الخلفاء العبّاسيّون اكثر استبدادًا من الأمويّين ؤاشدّ منهم تقليدًا للمثال الفارسي في ادارتهم... ومن اهمّ علامات هذا الاستبداد انحناء الشعوب الإسلاميّة وتقبيل الأرض امام الخلفاء، وتقبيل اياديهم، اذ كانت هذه الشعوب تنحني في نصوص الف ليلة وليلة امام الخليفة وزوجته ؤابنائه، ويتساوى في ذلك جميع غلمان القصور وحظاياها، ؤافراد الشعب باختلاف طبقاته، فهاهو احد غلمان قصر الرشيد يقبّل الأرض بين يدي الرشيد(٣٥). وهاهو اثرى تاجر في البصرة، التاجر ابو محمّد الكسلان، ما ان يسمع انّ الخليفة الرشيد يطلب حضوره الى بغداد، حتى يسارع ويقبّل الأرض بين يدي مسرور رسول الخليفة تعظيماً للخليفة(٣٦)
لقد كان على كل من في القصر في بغداد ان يطيع الخليفة طاعة عمياء، ويقبّل الأرض بين يديه. ونظرًا لسطوة الخليفة الرشيد، وهيمنة هذه السطوة على سكان الدولة العبّاسيّة، فقد تخيّل احد الرواة انّ هذه السطوة طاغية ايضاً على اقرب المقرّبين من الرشيد زوجته زبيدة واعتقد انّه كما على الناس في بغداد ان يقبّلوا الأرض بين يدي زبيدة، فإنّ عليها هي الأخرى ان تقبّل الأرض بين يدي زوجها الرشيد. يقول الراوي عن غلام الرشيد ثمّ انّ الغلام قبّل الأرض بين يد الخليفة.. وقال له: يا امير المؤمنين انّ السيّدة زبيدة تقبّل الأرض بين يديك
ومن ملامح السيّدة زبيدة في نصوص الف ليلة وليلة انّها امرٔاة وَِلعَة بامتلاك الجواهر والأحجار الكريمة، ومن كثرة جواهرها فإنّها لم تكن قادرة على المشي، كما يقول احد الرواة: ثم رٔايت عشرين جارية (…) وبينهنّ السيّدة زبيدة وهي لا تقدر على المشي ممّا عليها من الحِلَى والحُلَل
ومن شدّة ولع السيّدة زبيدة بامتلاك الذهب والجواهر الكريمة، فقد كانت تحرص على امتلاك انفس الجواهر، ؤاكبرها في بغداد. يقول الراوي انّ هارون الرشيد كان جالساً ذات يوم في تخت الخلافة، إذ دخل عليه غلام من الطواشيّة و معه تاج من الذهب الأحمر مرصّع بالدرّ والجوهر، وفيه سائر اليواقيت والجواهر ما لا يفي به مال. ثمّ انّ الغلام (…) قال له: يا امير المؤمنين انّ السيّدة زبيدة (…) تقول لك: أنت تعرف انّها قد عملت هذا التاج ؤانّه محتاج الى جوهرة كبيرة تكون في رٔاسه وفتّشت في ذخائرها فلم تجد فيها جوهرة كبيرة على غرضها وعند ذلك يطلب الرشيد من الحجّاب و النوّاب ان يفتّشوا عن جوهرة مناسبة ترضي طموح زوجته
ويبدو انّ السيّدة زبيدة كانت تاريخيّاً تعتلي اعلى مراتب الثراء والأناقة بين نساء المجتمع البغدادي، اذ صارت ملابسها، نظرًا لأناقتها الجماليّة، زيّاً شائعاً في البيئة الاجتماعيّة(٤١). وقد كانت سيّدة الأناقة في بغداد و المدن العبّاسيّة الأخرى . ويمكن القول: انّ الراوي الذي اشار اليها، وهي مثقلة بجواهرها، وثيابها النفيسة، لم يكن يشكّل صورتها من تخيّلاته، بل ممّا وصل اليه من المصادر التاريخيّة. فعلى سبيل المثال يذكر المسعودي ( ٤٢ )ٔ انّها كانت تلبس الثياب الجميلة المزيّنة بالألوان، والموشاة بالحرير، والباهظة الثمن، حتّى أنّه بلغ ثمن الثوب من هذه الثياب خمسين الف دينار. وكانت تتّخذ النعال المرصّعة بالجوهر وشمع العنبر، مما دفع الناس في بغداد الى تقليدها.
ويرى ابن طباطبا انّ السيّدة زبيدة كانت سديدة الرٔاي، وحكيمة عاقلة، اكثر من ولدها محمد الأمين، وتتجلّى حكمتها من خلال تعليماتها لعلي بن ماهان( ٤٣ ) (ت ١٩٥ ه/ ٨١١ م)، وهو في طريقه الى حرب عبد لله المأمون، وتأكيدها عليه ان يكون لطيفاً وكريماً مع المأمون، فيما اذا انتصر عليه( ٤٤ ). الاّ انّ حكمتها هذه وسداد رٔايها، لم يمنعاها من ان تكون بطرة عابثة بأموال الدولة العباسيّة. ويُروى ان الشاعر اشجع السُّلمي(٤٥) دخل على محمد الأمين، وقد اجلِس مجلس الأدب للتعليم، وهو ابن اربع سنين، فأنشده مادحاً:
ملك ابوه و امه من نَبْعَةٍ (٤٦) = منها سراج الأمّة الوهّاجُ
شربت بمكة في ربا بطحائها(٤٧) = ماء النبوّة ليس فيها مِزَاج
فما كان من السيّدة زبيدة الاّ ان اعجبت بهذا المديح، ووهبت قائله مائة الف درهم.(٤٨)
إنّ حكمة السيّدة زبيدة وعقلها لم يمنعاها، ايضاً، من تبذير أموال الشعب على القضاة والفقهاء المقرّبين من قصر زوجها ببغداد. كتبت مسألة الى ابي يوسف( ٤٩ ) تستفتيه فيها، فأفتاها بما » ويُروى انّها وافق مرادها (…) فبعثت اليه بحقّ ( ٥٠ ) فضّة فيه حقّان من فضّة في كلّ حقّ لون من الطيب، وجامَ (٥١) ذهب فيه دراهم، و جام فضّة فيه دنانير، وغلمان وتخوت(٥٢) من ثياب
الهوامش
(1) زبيدة : ( زبيدة بنت جعفر بن المنصور، …- ٢١٦ ه/…- ٨٣١ م): الهاشميّة العبّاسية، زوجة هرون الرّشيد، وبنت عمّه. من فضليات النساء وشهيراتهنّ . وهي أم الأمين العبّاسي. اسمها "ٔامة العزيز" وغلب عليها لقبها زبيدة. قيل: كان جدّها المنصور يرقّصها في طفولتها ويقول : يا زبيدة انت زبيدة ! فغلب على ذلك اسمها. تزوّج بها الرّشيد سنة ١٦٥ ه ولمّا قُتل ابنها الأمين، اضطهدها رجال المأمون فكتبت اليه تشكو حالها، فعطف عليها، وجعل لها قصرًا في دار الخلافة، ؤاقام لها الوصائف والخدم. وكانت لها ثروة واسعة.
الزركلي، خيرالدين: الأعلام،دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية .٤٢/ عشرة،شباط( فبراير)، ١٩٩٧ م، ٣
(2) .٢٩٦/ الف ليلة وليلة،منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، دون تاريخ، ٤
(3) .٢٩٦/ م س، ٤
(4) .٢٩٦/ م س، ٤
(5) .٢٩٦/ م س ، ٤
مع ملاحظة انّ الراوي يخطئ تاريخيّاً حين يقول عن هرون الرشيد انّه السادس من بني العبّاس، فالرشيد هو الخليفة العبّاسيّ الخامس بعد الخلفاء الأربعة الذين سبقوه في حكم الدولة العبّاسيّة، وهم: ابو العبّاس عبد لله السفّاح، و ابو جعفر المنصور، و محمد المهدي بن المنصور، و الهادي بن المهدي.
* د. محمد عبد الرحمن يونس
ملامح السيّدة زبيدة زوجة الخليفة هرون الرشيد في حكايات ألف ليلة وليلة
ملامح الطغيان والاستبداد
.
صورة مفقودة