نقوس المهدي
كاتب
على سبيل المقدمة
(نظرية الدعارة أو اقتصاديات الدعارة):
يجد الباحث في موضوع الدعارة نفسه محاصرا بعدة أسئلة تاريخية، دينية، أخلاقية،تربوية، مجتمعية، اقتصادية، أمنية، وقانونية-مما يقتضي مقاربته مقاربة شمولية مندمجة- لكونه من القضايا المغيبة أو المسكوت عنها -شأنها في ذلك شأن سؤال الدين وسؤال السياسة-والمنتشرة في مسام وخلايا الفضاء المجتمعي، سواء بطريقة بنيوية هيكلية، أو بطريقة عشوائية فجة وهجينة ،رغم اختلاف مواقف كل باحث من هذه الظاهرة التي يمكن مقاربتها من عدة زوايا تاريخية، وسوسيولوجية ،وسيكولوجية، وحقوقية. ولئن تعدد المداخل والمقاربات ،تبقى "أقدم مهنة في التاريخ"مدانة ومرفوضة مهما كانت المسوغات والتكييفات القانونية والتخريجات الإعلامية والفنية والخطابات التبريرية.
يحيلنا سؤال الدعارة،إذن،على على عدة قضايا إشكالية منها ما مفهوم الجسد؟ وما علاقات الأنا الفردية والجماعية به ؟وكيفية الاشتغال والتعاطي معه؟ما معنى أن أكون حرا في جسدي، وأن أحتج من خلاله كما استثمرت ذلك حركة "فيمين" النسائية الأكرانية؟هل يمكن اعتبار الجسد ،من زاوية التعاطي للدعارة، موردا اقتصاديا وصمام أمان لتكريس ثقافة السلم الاجتماعي؟وما دور الفاعل السياسي والإعلامي والاقتصادي في تخصيب الظاهرة وإنتاجها وإعادة إنتاجها؟وما موقع التربية الأسرية والوالدية والتنشئة الاجتماعية في توالد الظاهرة وتناسلها؟وأي دور للفاعل الديني والتربوي-وخاصة المناهج والبرامج والبيداغوجيات المعتمدة- في فهم القضية وتشريحها وعلاجها؟ أ ليس هناك تواطؤ مكشوف ومدروس على المقاس على الاعتراف الضمني بوظيفية الظاهرة وربحيتها من خلال استغلالها سياسويا وانتخابيا؟ما جدوى الترويج لخطاب المحضن والامتدادات الاستعمارية للظاهرة على أساس "تبيئتها" و"شرعنتها" والتغاضي عنها في مغرب ما بعد الاستقلال؟ أي تداعيات للدعارة في تدمير منظومة القيم الرمزية والمادية؟ما هي مشترطات وسياقات ومحضنات العلاقات الحميمية السليمة بامتياز؟لماذا مؤسسة الزواج هي الإطار الشرعي القانوني الوحيد للممارسة عملية التفريغ البيولوجي ليس إلا؟ ما ذا لو تم تقنين الظاهرة حتى لا ندخل في حيص بيص؟ما دخل منع ومطاردة الدعارة وزبنائها-كما لو أنه مطاردة للساحرات- بمفهوم الحرية الجنسية؟أي دور للدعارة في إشاعة السياحة الجنسية وتحريك عجلة التنمية الاقتصادية المعطلة والمعطوبة أصلا؟وما دور حوادث السير الاجتماعية-كالطلاق والمخدرات والأقراص المهلوسة والتشرميل- وخطاب العولمة – الذي أنتج نموذج الدعارة الراقية عبر الوسائط الاتصالية الجديدة-الرامي إلى التنميط والقولبة(بمعناها القد حي وبمعناها العالم"بكسر اللام")من خلال الترويج "للأفلام البورنوغرافية" التي توظف خطاب الصورة الاشهارية والمحمولات السمعية البصرية والأيقونات الرمزية في تعميق الظاهرة وتوطينها؟ وبأي معنى تحط الدعارة من مبدأ الكرامة الإنسانية من منطلق "تجوع أو تموت الحرة ولا تأكل بثدييها"؟ألا يمكن إدراج الاستغلال الجنسي للأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وزنا المحارم وهتك أعراض القاصرات-ولو ألغي قانون زواج المغتصب بالفتاة القاصر-ضمن أبشع أنواع الدعارة أو الخطيئة أو فتنة الغواية؟وما علاقة الدعارة بانتشار الأمراض المنقولة جنسيا ؟وما مضاعفاتها على الصحة الإنجابية والنفسية للمتعاطية لهذا السلوك المشين والهجين أو ما يسمى بالنخاسة الجديدة؟ألا تعكس ظاهرة البغاء و صناعة الجنس حرب القيم التي تعصف بعالم اليوم؟إلى أي حد يمكن اعتبار الدعارة شكلا من أشكال العنف الممارس ضد المرأة ،من جهة، والمجتمع من جهة أخرى ،مما يلغي مبدأ العدالة الاجتماعية والمناصفة والمساواة بين الجنسين؟وبأي معنى وعلى أي سند قانوني يمكن تجريم مهنة الدعارة أو مهنة من لا مهنة له –عبرا لملاحقة القضائية للزبون وإفلات بائعة الهوى من العقاب -في "زمن الديوثية" والانبطاح واحتذاء الآخر الحضاري حذو الحافر للحافر؟لماذا لا نلخص إشكالية الدعارة تحت مسمى واحد وهو الزنا مادام أنه لا مشاحة في الاصطلاح على حد تعبير علماء المصطلح؟
الجسد عنوان انخراطنا في الحياة، انه أول من يعلن انتماءنا لها،و صمام الأمان نحو أفق معرفي خصب وفسيح يعانق لغة الجمال ويهيم بها حبا. لذلك، آن الأوان لكي نعيد الاعتبار لهذا "المدان دون جريمة ارتكبها"(على حد تعبير "فريديريك نيتشه")،خاصة وقد غدا موضوع الجسد بؤرة فكرية مؤسسة لكل الثقافات والخطابات (الاشهارية، الدينية، السياسية، والفلسفية، الدرامية، الرياضية والإدارية)،ويسعى جاهدا إلى فهم وقراءة حياة الإنسان بكل أريحية، وعشق، ولذ ة وحلم، إذ قراءة النسيج المجتمعي والحقل السياسي-كما يؤكد ميشيل فوكو وبيير بورديو- يمران عبر الجسد الذي يمكن أن يهتدي إلى حقائق صادمة ومهمة في نفس الوقت باعتباره خزانا ولودا، ومنجما خصبا من الطاقات والإمكانات والمهارات. ولما كان الجسد الوجه الفيزيقي للإنسان ،فانه أبدع عدة أشكال تعبيرية وتواصلية لكي يبوح بما يخامر الكائن البشري من مواقف وحالات انفعالية من خلال لغة استعارية رمزية دالة ومعبرة على حد تعبير "دافيد بروتون"، إذ بدون هذا الجسد الذي يمنح حضورا ماديا فلا وجود للإنسان. وبهذا المعنى ،فان الوجود الإنساني هو جسدي، أي كان الجسد فاعلا أساسيا مساهما في إنتاج القيم وتوليد الدلالات.
تأصيل تاريخي:
يرجع بعض الباحثين توطين وانتشار مهنة الدعارة إلى التمييز العنصري بين الجنسين(المرأة والرجل) الناجم عن العقلية الذكورية أو السلطة الأبيسة التي تسوق للنظرة الدونية التبعية للمرأة، وتسعى إلى تأبيد وتسييد الآلة القمعية التسلطية للرجل بدعوى "الفوارق الخلقية"(بكسر الخاء)بينه وبينها.
ويمكن رسم جذور ظاهرة الدعارة ،بدءا من مرحلة ما قبل التاريخ وبالتحديد فترة حكم "حمورابي"الذي وضع إطارا قانونيا لمهنة الدعارة عبر خمسة فصول(178- 182)والدفاع عن "قانون الجنس المقدس"عبر وقف بعض النساء أجسادهن للمعابد،مما يحيل على العلاقات التاريخية القائمة بين المقدس والمدنس. وبالعودة إلى ملحمة "جلجاميش"نقف عند لفظة"حرمتو"ذات العلاقة العضوية الوثيقة بطقوس الحب الدينية،بل إن المدلول اللغوي لمصطلح "بعل"(أو زوج) يحيل على الاه الخصب. والأكثر من ذلك،فجسر أو تأشيرة العبور عند المرأة القبرصية قبل السماح لها بالدخول للقفص الذهبي ، خلال القرن الخامس قبل الميلاد، هو أن تهب نفسها قرب المعبد لرجل أجنبي(ولاحظوا معي-للمرة الثانية على التوالي- هذه العلاقة التلازمية الكاثوليكية أو زواج المتعة بين سلوك الدعارة وفضاء المعبد ،أو بين فضاء المقدس وفضاء المدنس، مما يحيلنا على أن داء العطب قديم)،مما يؤجل مشروع زواج الفتيات غير الجميلات اللائي يضطررن للدفع للرجل مقابل زواجه بهن .ولأن الحديقة السرية أو الخلفية للإمبراطور البيزنطي "جوستيان"(534للميلاد)يحتوي على قطع غيار احتياطي ،بل ومالك مصنع منتج للرذيلة والفساد –على اعتبار أن عقيلته كانت بائعة هوى- فقد تسامح مع الدعارة ونظمها عبر البند القانوني رقم38) ).
وقبل أن تؤذن شمس الجاهلية بالرحيل كانت بائعات الهوى يوصفن ب"ذوات الرايات"التي اتخذها أبو سفيان-في نسخته الجاهلية لأن الإسلام يجب ما قبله- ومن معه ذريعة و فزاعة لثني صناجة العرب- الأعشى ميمون-عن الذهاب إلى نور الهدى-محمد صلى الله عليه وسلم-لإعلان إسلامه بدعوى أن سيد الخلق وحبيب الحق-صلوات ربي وسلامه عليه- ضد ثلاثة أمور هي من أحبها إلى قلب الأعشى وهي (الخمر والقمار والزنا)،فكان أن عرضت عليه مائة ناقة أو هدية مسمومة كانت –ربما- سببا في عدم إسلام الأعشى.
ولعله من سخرية التاريخ أن يدافع القديس"توماس الاكويني"خلال القرن الثالث عشر للميلاد عن الدعارة بدعوى أنها "شر لا بد منه يقي المجتمع من الوقوع في مطب الاغتصاب".وهنا يجد ر بنا أن نفتح قوسا لنؤكد من خلاله أنه ما ثبت عن علماء الإسلام المشهود لهم بالعلمية والمصداقية أن أجازوا أو أباحوا-عملا بمبدأ سد الذرائع- مثل هذه السلوكات الشاذة والغريبة عن البيئة الثقافية والاجتماعية الإسلامية لأن مواقفهم صدرت عن نصوص شرعية قطعية الدلالة- غير قابلة لتعدد القراءات والتأويلات- لا ظنية الدلالة،ووعيا منهم بالمضاعفات والتداعيات الجوهرية للظاهرة على سلم القيم في المجتمع الإسلامي وتماسكه ،،وعفته ،ونسله ونقاء وطهر نسب العنصر البشري امتدادا لطهر ونقاء المنظومة الشمولية المؤطرة لشؤون وقضايا الإنسان المسلم.
أما الماركسية (أو شيوعية الجنس)،فقد اعتبرت أن الدعارة نتيجة طبيعية للنظام الرأسمالي القائم على البيروقراطية والاستغلال وتمجيد الحريات والمبادرات الفردية .ومن هنا، فان انجلترا القرنين السادس عشر والسابع عشر عرفت اختلالا على مستوى رجحان كفة الطلب على العرض من حيث الدعارة،فاضطرت عاملات الجنس إلى تقديم خدماتهن المجانية للفاعل السياسي مقابل غض الطرف،لتعرف الدعارة "عصرها الذهبي" في باريس ولندن خلال القرن الثامن عشر.
أما "سيجموند فرويد"،فقد أفرد مجالا واسعا لموضوع "الايروسيات" و"الشبقيات "في كتاباته ،وخاصة في كتابه"ثلاثة مباحث في نظرية الجنس"والمترجم من طرف الدكتور جورج طرابيشي، حيث كسر جدار الصمت-بطريقة علمية تحليلية- عن موضوع "طابو" الحياة الجنسية الذي غالبا ما تحوطه السرية والتكتم والحياء(ولو أنه "لا حياء في الدين"إذا توفرت الضوابط الأخلاقية والعلمية والمنهجية في مقاربته)،مميطا عنه اللثام بكل جرأة ،وأريحية، وبوح لاسيما ما يتعلق ب "الانحرافات الجنسية"،فأعاد تعريفها وتصنيفها وربطها بمسبباتها،ووضع الأصبع على الجرح عندما تناول الحياة الجنسية عند الأطفال، مما أحدث انقلابا وصدمة ثقافية وأخلاقية وعلمية في زمانه، مستثمرا مجال الأحلام الجنسية -باعتبارها من القضايا لم تنل نصيبا وافرا في الدراسات العلمية-من خلال "انخراط الحالم في ممارسة جنسية مع شخص آخر" ،أو "رؤية آخرين يمارسون الجنس"لأنها،من منظور فرويد، من ألذ وأخصب حياة قد يعيشها الإنسان الحالم سواء في أحلام النوم أو في أحلام اليقظة ،إذ تتعارض الرغبة والمعايير الاجتماعية والأخلاقية التي تقمعها وتكبتها، فتترجم كالشلال الجارف أو الثور الهائج على مستوى الأحلام في صورة رمزية مقنعة.
أما الإسلام ،باعتباره دين الحداثة والتنوير والعقلانية، فقد خصص حيزا خاصا للحديث عن موضوع الجماع والمعاشرة الزوجية بكل تفاصيلها ،بدءا من فن المداعبة، وصولا إلى مرحلة العلاقة الحميمية مع الزيجة أو الزيجات،بل إن الإسلام رصد ما حدث لنبي الله يوسف عليه السلام مع "زليخة" زوجة العزيز في قصره عندا افتتنت بجمال يوسف "وغلقت الأبواب وقالت هيت لك"،ففر منها هاربا بجلده في اختبار حقيقي وإعداد من رب العزة لأصفيائه، ومن أجل استخلاص بني البشر الدروس والعبر من كيد النساء ومكرهن وغوايتهن،ودخل السجن إلى أن حصص الحق وظهرت براءته بعد أن انطلت حيلة "زليخة" على نسوة المدينة بعد أن"قطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم".أضف إلى ذلك حديث القرآن الكريم عن بنات نبي الله شعيب-رغم الاختلاف في المسألة بين العلماء- بعد أن سقى لهما موسى الكليم-عليه السلام-قال تعالى:"فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا"-وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه مطلقا لئلا يوهم ريبة،بل قالت: "إن أبي يدعوك"-لأنهن تربين على مائدة العفة والطهر والحياء، فرفضن الاختلاط بالرجال أثناء سقيهن لأغنامهن، فكان نصيب إحداهن أن تزوجت-لعلها الصغرى بنص الحديث النبوي التي جاءته واضعة كم درعها على وجهها ،والتي ما أرسلها أبوها إلى ذلك الشاب إلا لثقته في عفتها وأدبها- موسى عليه السلام الذي "آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه"مقابل أن يرعى غنم هذا الرجل الصالح في مدة تتراوح بين ثمان أو عشر حجج .يقول ابن مسعود رضي الله عنه:"أفرس الناس ثلاث:أبو بكر حين تفرس في عمر، وصاحب يوسف حين قال "أكرمي مثواه"،وصاحبة موسى حين قالت"يا أبتي استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين".وهذا يحيلنا –على حد تعبير الدكتور صلاح الخالدي-أن في هذه الآية مؤشرات ودلائل على طبيعة وخصوصيات الفتاة المسلمة الملتزمة المتشبعة بقيم العفة والنقاء والاستقامة -بل لم يصرح باسمها لعدم أهميته ،لا عند سيدنا موسى ولا عند جمهور العلماء، لأنها مكلفة بمهمة خاصة بل إن المرأة الوحيدة التي ذكرت في القرآن الكريم هي مريم العذراء-كما لو كانت سفيرة النوايا الحسنة-وتمشي على استحياء-وليس على حياء فحسب-لأن زيادة المبنى زيادة في المعنى، من خلال توكيد الهمزة والسين والتاء لخلق الحياء الذي سيطر على كيانها وجوارحها ،فأصبحت تعيش حالة استحياء وليس حالة حياء ليس إلا، خاصة وأن دلالة حرف الجر "على " تحيل على التمكن من الشيء والسيطرة عليه"لأن مشى بمحاذاة" ،ليست لها نفس الشحنات الدلالية ل "مشى على"التي يسمو منسوبها وكونها المعنوي في سلم القيم الرمزية والتربوية ،إذ طبيعة المهمة وطبيعة المخاطب- موسى عليه السلام-جعلنا نتخيل فتاة تمشي على "شارع مكون من مادة الحياء" من خلال تجسيد صورة الحياء الذي تحول من خلق إلى شارع معبد تمشى عليه تلك الفتاة الطيبة. ويا له من تعبير قرآني فريد يعجز معه البيان والجنان واللسان عن الوصف والرصد. يقول الشاعر الأعشى ميمون -كأن مشي كأن كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة،لا ريث ولا عجل
ومن هذه القصة نستلهم درسا بليغا مفاده أن للتصور الإسلامي –وهو يقارب سؤال العلاقة بين الجنسين-خصوصيات منها البناء الداخلي الراشد، من حيث مراعاة الضوابط التربوية والشرعية جوارحا، ونطقا ،وسلوكا: فالعين مسئولة عن تصرفاتها وكذا الأذن، واليد ،والرجل ،وقس على ذلك ،مما يجعلنا نذهب مطمئنين إلى القول إن التصور الإسلامي ليس تصورا كارثيا لا يبني السد إلى بعد وقوع الفيضان، بل هو تصور استباقي استشرافي يؤمن بالخطاب التأسيسي للمفاهيم والثوابت ،وليس فقط بالخطاب التحسيسي ،على اعتبار أنه ينظر إلى مقدمات الوقوع في المحظور، فيعالجها من منظور واقعي إصلاحي قبل استفحالها وتغولها، ومنها الخلوة والنظرة -باعتبارها سهما من سهام إبليس- "فما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما "وزاد بعضهم وقال :"ولو كان يحفظها القرآن"قال تعالى:"قل للمؤمنين أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها" ،وهذا ما يؤكده قول الله تعالى:"ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا".
واعتبر القرآن الكريم النساء حرثا للرجال ،في إشارة طريفة مليئة بالعفة والحياء، للحياة الجنسية الناضجة بين الزوج والزيجة من خلال مراعاتها للمنطلقات المعنوية، والانسجام الروحي، والإعداد النفسي(فن المداعبة)-اغترافا من معين الرحمة والمودة الذي لا ينضب- قبل الانخراط الفعلي في أي سلوك جنسي امتثالا لقول الله تعالى:"نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم"رغم اختلاف العلماء في تفسير لفظة أنى-واختلافهم رحمة،بل ولذلك خلق الله البشر-(فموضع الحرث هو موضع الولد ،إذ لا يجوز إتيان الزوجة وقت الحيض أو النفاس ولا من دبرها لأن "قريشاً كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة، فلما قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك فلم ترده نساء المدينة، إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على هيئة واحدة وهي الانبطاح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وانتشر كلام الناس في ذلك ،فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث وحرث تشبيه لأنهن مزدرع الذرية، فلفظة الحرث تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة إذ هو المزدرع". أما معنى "أنى"،فيقصد به "من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب ،و "أنى" إنما تجيء سؤالا أو إخبارا عن أمر له جهات، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى هذا هو الاستعمال العربي.". أما إتيان المرأة من الدبر،فمحرم شرعا قد يؤدي إلى اللعن أو الكفر بنص الحديث النبوي الشريف الوارد في مصنف النسائي. والأدهى من ذلك، فقد وصف القرآن الكريم الجماع، أو مقدماته، أو الكلام حوله، التي تعقبها متممات ب "الرفث" قال تعالى:"أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن".زد على ذلك ،فعبارة "هن لباس لكم وانتم لباس لهن"تشي بنوع من الاتحاد ،والاندماج بين جسد وروح المرأة والرجل :فكما أن اللباس يقي ويستر الجسد ،فكذلك تستر المرأة الرجل ويستر الرجل المرأة خاصة وأن اللباس هو ألصق شيء ببدن الإنسان ،كما لو أنه فصل على المقاس، فيذوب في لحظة واحدة طرف في طرف آخر حتى لا تكاد تعرف لهما حدود ،مما يحقق المتعة الجنسية المتبادلة أو الإشباع الجنسي للطرفين عبر عملية التفريغ البيولوجي المقدس باعتباره أمتع وألذ زينة الحياة بنص القرآن الكريم قال تعالى:"المال والبنون زينة الحياة الدنيا"،باعتبار مرحلة البنين تسبقها مرحلة الجماع ،وهذا من لطائف وآداب التعبير القرآني الذي يعضده قول الله عز وجل:"زين للناس حب الشهوات من النساء"التي يراد بها "شهوة الجنس" سواء عند الذكر أو عند الأنثى باعتبارها غريزة فطرية أو "حقا طبيعيا" كما يقول المفكرون الماركسيون.زد على ذلك ،وصف القرآن الكريم العلاقة الزوجية كما عهد النبوة ب"الميثاق الغليظ"قال تعالى:"وأخذن منكم ميثاقا غليظا" ،مستخدما عبارات دالة ك "الوطء" ،و"النكاح" كما في قوله تعالى:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" دفاعا عن مبدأ العفة ،والإحصان ،ونقاء واستمرارية النسل البشري،واعتبر أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لقوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا"،ومنع إرغام أو إكراه الفتيات العفيفات الطاهرات على الزنا والبغاء مصداقا لقوله تعالى:"ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا".
أما في السنة النبوية المطهرة،فقد ورد الجنس أو الجماع في عدة سياقات تعبيرية ومقامات تواصلية مليئة بالعفة ،والتربية، والتوجيه نحو نداء الفطرة والذوق السليم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة"،موجها جابر بن عبد الله إلى أهمية البكر في حياة الرجل عندما قال له عليه السلام:"هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك"،وفي نص آخر "هلا كانت جارية تلاعبها وتلاعبك"،أو "تضاحكها وتضاحك"،أو قوله:"مالك للعذارى ولعابها"،مما يدل على أسبقية الإسلام إلى التنبيه لأهمية النظرة، والكلمة، والبسمة والمضاحكة، أو الاغتسال الجماعي، والعطر، والدلال وغيرها من وسائل الإثارة المؤججة لنداء الغريزة الفطرية السليمة بين المرأة والرجل.ومن النماذج الرائعة في فن الملاعبة والمداعبة بين الزوجين ما تحكيه السيدة عائشة رضي الله عنها تصف حالها وواقعها مع زوجها الكريم صلى الله عليه وسلم فتقول: "كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناول النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه أي فمه على موضع فيّ فيشرب صلى الله عليه وسلم "، بل كان يضع رأسه صلى الله عليه وسلم في حضنها وهي حائض ،وعن السيدة عائشة رضي الله عنها تحكي وتقول: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد بيني وبينه فيبادرني، حتى أقول: دع لي، دع لي)، قالت: (وهما جنبان).كما أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما سئل عن خير النساء أجاب أنها :"التي تسر إذا نظر".كما على المرأة العاقلة أن تلمح مراد الزوج عند الجماع فتجاريه على حد تعبير ابن الجوزي.وما يدل أكثر على اهتمام الإسلام بتفاصيل العلاقة الجنسية، أن تتخذ المرأة خرقة عند الجماع ،فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "ينبغي للمرأة إذا كانت عاقلة أن تتخذ خرقة، فإذا جامعها زوجها ناولته، فيمسح عنه، ثم تمسح عنها فيصليان في ثوبهما ذلك ما لم تصبه جنابة"،وربط الرسول الكريم اللذة الجنسية أو الجماع بالعسيلة عندما قال لامرأة رفاعة:"أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟حتى يذوق عسيلتك وتذوق عسيلته؟.وفي إطار الدعوة إلى العفة ونقاء العلاقات واستمرارية النسل البشري جاء الأمر النبوي صريحا بالدعوة إلى الممارسة الجنسية الخاضعة للضوابط الشرعية وفي نطاق مؤسسة الزواج في زمن ينادي ب"تنظيم الأسرة"أو"التخطيط العائلي" بالنظر إلى التبعات الاقتصادية للمولود وآخذا بثوابت النظرية المالتوسية القائمة على أساس وجود اختلالات بنيوية هيكلية بين النمو الديمغرافي السكاني والنمو الاقتصادي المادي،فيما المنهج النبوي-المعبر عنه بصيغة الأمر الدال على الإلزام وسرعة الاستجابة والتنفيذ- اعتبر التكاثر البشري وتزايد سواد الأمة نوعا من التفاخر والتباهي بين الأمم مصداقا لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:"'تناكحوا تناسلوا فاني مباه بكم الأمم يوم القيامة"
وفي إطار ضبط السلوكات الفردية الجماعية ربطها بالمنظومة الشرعية والمؤسساتية،يأتي التوجيه النبوي لذلك الشاب الذي طلب من الرسول الكريم أن يبيح له الزنا، وكيف كان رد فعل وموقف نبي الرحمة محاطا بالتؤدة، والحلم ،والحكمة ،والنصح والرشاد في صيغة تقنية أسئلة تتضمن بين طياتها أجوبة شافية وكافية جامعة ومانعة تدل على فقه -صلى الله عليه وسلم- في معاملة النفوس ورفقه في إصلاحها من خلال بيان فساد مطلبه وعواقبه الوخيمة ومآلاته الاجتماعية والأخلاقية والنفسية والسلوكية-بعد أن انتفض الصحابة الكرام وانزعجوا من طلب هذا الشاب-وهو ما يستدعي ضرورة استلهامها وتأملها والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية من حيث أهمية اللطف بالجاهل قبل تعليمه إذ لا تعنيف لمن لا يعلم، فعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال:" إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا!، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: أدنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء" .
وفي رواية أخرى: وقال اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن شيء أبغض إليه منه –أي الزنا فلم يعتبر الرسول الكريم الشاب فاقدا للحياء والخير،بل تعامل معه بمنطق عقلي ومنهج إقناعي مدركا حقيقة الشهوة التي تحرك كيانه والغريزة التي أعمت بصره وبصيرته، فجعله مستقيما على منهج الإسلام الصحيح كارها للرذيلة والمفسدة .وفي هذا المقام التواصلي إلا قناعي العقلي، نستخلص أهمية الأسلوب العاطفي في الدعوة وتغيير المنكر من خلال بعض الكلمات المفاتيح من قبيل:"أدنه"،"فدنا منه قريبا"،"فجلس"،"فوضع يده عليه"،ودعا له بقوله:اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه"،مزاوجا في هذا السياق بين الأسلوب العاطفي والمنهج العقلي من خلال قوله صلى الله عليه وسلم:"أتحبه لأمك؟"،"أتحبه لابنتك؟"،"أتحبه لأختك؟"،أتحبه لعمتك؟"،أتحبه لخالتك؟"، وسر تعداد المحارم –كما يقول علماءنا –الزيادة في الإقناع ،وأن دلالة ما يأتي من النساء لا تعدو أن تكون أما أو بنت أو أختا أو عمة أو خالة لأحد من الناس ممن تريد ممارسة الدعارة أو العمل الجنسي معها .
أما المقاربة الاقتصادية لمهنة الدعارة أو عاملات الجنس ،فتبدو مقاربة واقعية وذات مصداقية، إذ استقصاء وسبر أغوار العديد من الممارسات-عبر دراسات سوسيولوجية ميدانية -رغم شح الدراسات و الأبحاث التي يمكنها اغناء فضاء البحث- يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الفقر يلعب دولارا أسياسيا في اللجوء لهذه السلوك المشين خاصة في المراكز الحضرية الكبرى(مثل الدار البيضاء ،الرباط ، فاس، مراكش، أكادير، وطنجة…)، مما يوفر دخلا اقتصاديا للممتهنات ولعائلاتهن خاصة في ظل تصاعد عنف البطالة، وصعوبة العثور على عمل قار يحفظ الكرامة للمرأة خصوصا وللمجتمع عموما، مما يكرس الفساد الأخلاقي ويسهم في اتساع دائرة الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيا، علما أن مرتادي أوكار الدعارة لا يقتصر على فئة العزاب فحسب، بل يتجاوز الأمر إلى فئة المتزوجين، مما يؤكد أن المشاكل العائلية قد تكون سببا مباشرا للدعارة أو التعهر، إضافة إلى تدني مستوى التعليم. والحصيلة اختلاط الأنساب وانتشار الأمراض بسبب هذا النشاط غير الشرعي المحرم دينيا المجرم قانونيا الذي تتفاوت فضاءاته من الملاهي الليلية ،إلى المواخير، إلى الشقق المفروشة، إلى فضاء الشارع العام ،مما يرفع مؤشر المعاملات الخاصة لهذا النشاط في أعقاب تزايد أعداد الوافدين من السياح العرب والأجانب إلى بعض المدن المصنفة صمن المدن الأكثر امتهانا للجنس أو تجارة الجنس أو ما يعرف ب"السياحة الجنسية" في إطار خروج الظاهرة أو هذه"الآفة الاجتماعية" من دهاليز السرية إلى فضاءات العلنية والتنظيم والاعتراف الضمني أو المكشوف أو المتواطئ:فالموافقة في الأقوال والمخالفة في الأفعال أخطر من مؤامرة الصمت في سياق هذا العمل الجنسي المؤدى عنه المؤسس على مبدأ المقايضة بين المتعة الجسدية الغريزية والإشباع المادي بعيدا عن مشترطات اللذة والالتذاذ ،مما يشفع لنا بالحديث عن عمل جنسي يشترك ويتورط فيه الرجل والمرأة على حد سواء، والحال أن الحديث عن الدعارة يضع المرأة لوحدها في قفص الاتهام بمعزل عن الرجل، علما أن الرجل يمكن أن يوصف بكونه"داعرا"أو"عاهرا"بسبق الإصرار والترصد: فكما أن المرأة عاملة أو ممتهنة جنس، فالرجل بدوره يرمى بكونه عامل أو ممتهن جنس باعتباره موردا اقتصاديا ومعيشيا وتسويقيا(إذ ينبغي إدانة المجتمع بكامله وتحميله مسؤولية تفريخ ممتهنات الجنس) لا تشذ عنه مدينة مغربية في السهول، والجبال، والهضاب ،والوديان، مما يؤكد فعلا أن مغربنا الحبيب يستحق لقب "مغرب الثقافات"،إذ لكل جهة أو منطقة ثقافتها وطقوسها وخصوصيات ترويضها لزبنائها في مجال الجنس خاصة في زمن التقدم التكنولوجي والانفتاح الرقمي والفضائيات و الصحون المقعرة كما يذهب إلى ذلك تقرير المنظمة الإفريقية لمكافحة الايدز-التي أنجزت دراسة قيمة عن تجارة الجنس في المغرب عام2009 عبر الاشتغال على خمسمائة فتاة من عاملات الجنس- على اعتبار أن ستين في المائة من ممتهنات العمل الجنسي مارسنه في الفترة العمرية المتراوحة بين تسع سنوات وخمس عشرة سنة(استغلال القاصرات عبر التغرير بهن)،فيما أربعون في المائة من الممتهنات أرملات ومطلقات ،مما يطرح سؤال اقتسام الثروة بين الرجل والمرأة ما بعد الطلاق رغم وجود رجال شواذ جنسيا يمارسون الشذوذ أو العمل الجنسي الاحترافي المؤدى عنه أو الهاوي، وان قلت الدراسات الإحصائية والرقمية في هذا المجال،مما يقتضي مقاربة سوسيولوجية ميدانية للكشف عن المستور، وتعرية واقع الشواذ، وفضح زيف بعض الشعارات الجوفاء المنادية بمبدأ الحريات الجنسية في نطاق المجتمع المغربي الذي له رصيد رمزي وخصوصيات دينية وأخلاقية وتربوية وقيمية معينة.
انتشار وباء العمل الجنسي الاحترافي أو الهاوي يدق ناقوس الخطر حول مدى التواطؤ الاجتماعي إزاء هذه الآفة في إطار نوع من "التعايش السلمي" المستند على "تحولات قيمية" تعصف بكيان المجتمع المغربي ،بفعل سلطة واكراهات وضغوطات سوق النخاسة الجديدة باعتبارها حديقة سرية خلفية تستلزم ممارسة نوع من النقد الذاتي لسلوكياتنا ورصد ثوابتها ومتغيراتها، مما يؤهلنا لمقاومة وممانعة -في إطار جبهة اجتماعية تضم مختلف الأطياف والفاعلين-هذا الأخطبوط السرطاني المدمر لخلايا النسيج المجتمعي:فالدار البيضاء لوحدها زمن الفترة الاستعمارية اشتهرت ب "حي بوسبير"الممتد جغرافيا على مساحة تصل إلى أربعة وعشرين ألف متر مربع حيث كانت تشبع يوميا ألف امرأة من الممتهنات-بمختلف جنسياتهن، ودياناتهن المغربية ،والفرنسية ،والاسبانية، واليهودية- الرغبات الجنسية لحوالي ألف وخمسمائة زبون لعلم المستعمر اليقين أنه رغم المظهر المحافظ للمجتمع المغربي،فان الظاهرة موجودة لذلك حاول تقنينها وتنظيمها وتوفير الحماية الاجتماعية والقانونية للعاملات في مجال الجنس عبر توفير بطائق الهوية والخدمات الصحية والمراقبة الطبية شريطة تقديم الضريبة على الدخل.
إلقاء نظرة خاطفة أو فاحصة على واقع بعض الأسر المغربية، يكشف على أن الظاهرة أخذت أبعادا أخرى من خلال تبرير التعاطي للبغاء وامتهان الجنس بالاكراهات الاجتماعية والاقتصادية، على أساس خروج الفتيات ذوات الأنشطة المندمجة أو الموازية في ساعات متأخرة من الليل على مرأى ومسمع من أسرهن بدون رقيب ولا حسيب،وصدق الإمام علي كرم الله وجهه إذ يقول:"لو كان الفقر رجلا لقاتلته"،وصدق المصطفى صلوات ربي وسلامه عيه إذ يقول:"كاد الفقر أن يكون كفرا"،وهذا يعني من جملة ما يعني أن المجتمع المغربي عبر سلوك العمل الجنسي يمارس نوعا من"جلد الذات "عبر تدمير بنياته القيمية والتربوية والأخلاقية التي تربى عليها جيل بأكمله أو أجيال بأكملها،مما يزيد من تعميق آليات تمركز العمل الجنسي خصوصا في منطقة الأطلس المتوسط ونواحيها المتراوح بين ثقافة التفهم والتسامح ،أحيانا، لهذه الآفة والرفض والمقاومة لها أحيانا أخرى. لكن السؤال المطروح هنا والآن:إلى أي حد يصمد التعاطي القيمي الأخلاقي عند يمس الإنسان في جيبه أو مقوماته الاقتصادية باعتبار "المال عصب الحياة"؟؟ألم يصرح الأستاذ اليوسفي منذ حكومة التناوب التوافقي"الذي لم يكتمل بعد الخروج عن المنهجية الديمقراطية"أن بعض المواطنين المغاربة يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم ،أي أن فئات اجتماعية عريضة تعيش تحت عتبة الفقر و تكتوي بنار الحرمان والهشاشة والإقصاء،مما يطرح، في ،سياق امتهان العمل الجنسي ،ضرورة بلورة صيغة توفيقية بين المطالب الأخلاقية والقيمية والمطالب الاقتصادية والمادية،أي هل "يشرعن العوز المادي والفقر الاقتصادي" اللجوء للعمل الجنسي وبيع واسترخاص الكرامة الإنسانية؟؟بكل تأكيد لا.
.
- تعريب تزيمي بريس
(نظرية الدعارة أو اقتصاديات الدعارة):
يجد الباحث في موضوع الدعارة نفسه محاصرا بعدة أسئلة تاريخية، دينية، أخلاقية،تربوية، مجتمعية، اقتصادية، أمنية، وقانونية-مما يقتضي مقاربته مقاربة شمولية مندمجة- لكونه من القضايا المغيبة أو المسكوت عنها -شأنها في ذلك شأن سؤال الدين وسؤال السياسة-والمنتشرة في مسام وخلايا الفضاء المجتمعي، سواء بطريقة بنيوية هيكلية، أو بطريقة عشوائية فجة وهجينة ،رغم اختلاف مواقف كل باحث من هذه الظاهرة التي يمكن مقاربتها من عدة زوايا تاريخية، وسوسيولوجية ،وسيكولوجية، وحقوقية. ولئن تعدد المداخل والمقاربات ،تبقى "أقدم مهنة في التاريخ"مدانة ومرفوضة مهما كانت المسوغات والتكييفات القانونية والتخريجات الإعلامية والفنية والخطابات التبريرية.
يحيلنا سؤال الدعارة،إذن،على على عدة قضايا إشكالية منها ما مفهوم الجسد؟ وما علاقات الأنا الفردية والجماعية به ؟وكيفية الاشتغال والتعاطي معه؟ما معنى أن أكون حرا في جسدي، وأن أحتج من خلاله كما استثمرت ذلك حركة "فيمين" النسائية الأكرانية؟هل يمكن اعتبار الجسد ،من زاوية التعاطي للدعارة، موردا اقتصاديا وصمام أمان لتكريس ثقافة السلم الاجتماعي؟وما دور الفاعل السياسي والإعلامي والاقتصادي في تخصيب الظاهرة وإنتاجها وإعادة إنتاجها؟وما موقع التربية الأسرية والوالدية والتنشئة الاجتماعية في توالد الظاهرة وتناسلها؟وأي دور للفاعل الديني والتربوي-وخاصة المناهج والبرامج والبيداغوجيات المعتمدة- في فهم القضية وتشريحها وعلاجها؟ أ ليس هناك تواطؤ مكشوف ومدروس على المقاس على الاعتراف الضمني بوظيفية الظاهرة وربحيتها من خلال استغلالها سياسويا وانتخابيا؟ما جدوى الترويج لخطاب المحضن والامتدادات الاستعمارية للظاهرة على أساس "تبيئتها" و"شرعنتها" والتغاضي عنها في مغرب ما بعد الاستقلال؟ أي تداعيات للدعارة في تدمير منظومة القيم الرمزية والمادية؟ما هي مشترطات وسياقات ومحضنات العلاقات الحميمية السليمة بامتياز؟لماذا مؤسسة الزواج هي الإطار الشرعي القانوني الوحيد للممارسة عملية التفريغ البيولوجي ليس إلا؟ ما ذا لو تم تقنين الظاهرة حتى لا ندخل في حيص بيص؟ما دخل منع ومطاردة الدعارة وزبنائها-كما لو أنه مطاردة للساحرات- بمفهوم الحرية الجنسية؟أي دور للدعارة في إشاعة السياحة الجنسية وتحريك عجلة التنمية الاقتصادية المعطلة والمعطوبة أصلا؟وما دور حوادث السير الاجتماعية-كالطلاق والمخدرات والأقراص المهلوسة والتشرميل- وخطاب العولمة – الذي أنتج نموذج الدعارة الراقية عبر الوسائط الاتصالية الجديدة-الرامي إلى التنميط والقولبة(بمعناها القد حي وبمعناها العالم"بكسر اللام")من خلال الترويج "للأفلام البورنوغرافية" التي توظف خطاب الصورة الاشهارية والمحمولات السمعية البصرية والأيقونات الرمزية في تعميق الظاهرة وتوطينها؟ وبأي معنى تحط الدعارة من مبدأ الكرامة الإنسانية من منطلق "تجوع أو تموت الحرة ولا تأكل بثدييها"؟ألا يمكن إدراج الاستغلال الجنسي للأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وزنا المحارم وهتك أعراض القاصرات-ولو ألغي قانون زواج المغتصب بالفتاة القاصر-ضمن أبشع أنواع الدعارة أو الخطيئة أو فتنة الغواية؟وما علاقة الدعارة بانتشار الأمراض المنقولة جنسيا ؟وما مضاعفاتها على الصحة الإنجابية والنفسية للمتعاطية لهذا السلوك المشين والهجين أو ما يسمى بالنخاسة الجديدة؟ألا تعكس ظاهرة البغاء و صناعة الجنس حرب القيم التي تعصف بعالم اليوم؟إلى أي حد يمكن اعتبار الدعارة شكلا من أشكال العنف الممارس ضد المرأة ،من جهة، والمجتمع من جهة أخرى ،مما يلغي مبدأ العدالة الاجتماعية والمناصفة والمساواة بين الجنسين؟وبأي معنى وعلى أي سند قانوني يمكن تجريم مهنة الدعارة أو مهنة من لا مهنة له –عبرا لملاحقة القضائية للزبون وإفلات بائعة الهوى من العقاب -في "زمن الديوثية" والانبطاح واحتذاء الآخر الحضاري حذو الحافر للحافر؟لماذا لا نلخص إشكالية الدعارة تحت مسمى واحد وهو الزنا مادام أنه لا مشاحة في الاصطلاح على حد تعبير علماء المصطلح؟
الجسد عنوان انخراطنا في الحياة، انه أول من يعلن انتماءنا لها،و صمام الأمان نحو أفق معرفي خصب وفسيح يعانق لغة الجمال ويهيم بها حبا. لذلك، آن الأوان لكي نعيد الاعتبار لهذا "المدان دون جريمة ارتكبها"(على حد تعبير "فريديريك نيتشه")،خاصة وقد غدا موضوع الجسد بؤرة فكرية مؤسسة لكل الثقافات والخطابات (الاشهارية، الدينية، السياسية، والفلسفية، الدرامية، الرياضية والإدارية)،ويسعى جاهدا إلى فهم وقراءة حياة الإنسان بكل أريحية، وعشق، ولذ ة وحلم، إذ قراءة النسيج المجتمعي والحقل السياسي-كما يؤكد ميشيل فوكو وبيير بورديو- يمران عبر الجسد الذي يمكن أن يهتدي إلى حقائق صادمة ومهمة في نفس الوقت باعتباره خزانا ولودا، ومنجما خصبا من الطاقات والإمكانات والمهارات. ولما كان الجسد الوجه الفيزيقي للإنسان ،فانه أبدع عدة أشكال تعبيرية وتواصلية لكي يبوح بما يخامر الكائن البشري من مواقف وحالات انفعالية من خلال لغة استعارية رمزية دالة ومعبرة على حد تعبير "دافيد بروتون"، إذ بدون هذا الجسد الذي يمنح حضورا ماديا فلا وجود للإنسان. وبهذا المعنى ،فان الوجود الإنساني هو جسدي، أي كان الجسد فاعلا أساسيا مساهما في إنتاج القيم وتوليد الدلالات.
تأصيل تاريخي:
يرجع بعض الباحثين توطين وانتشار مهنة الدعارة إلى التمييز العنصري بين الجنسين(المرأة والرجل) الناجم عن العقلية الذكورية أو السلطة الأبيسة التي تسوق للنظرة الدونية التبعية للمرأة، وتسعى إلى تأبيد وتسييد الآلة القمعية التسلطية للرجل بدعوى "الفوارق الخلقية"(بكسر الخاء)بينه وبينها.
ويمكن رسم جذور ظاهرة الدعارة ،بدءا من مرحلة ما قبل التاريخ وبالتحديد فترة حكم "حمورابي"الذي وضع إطارا قانونيا لمهنة الدعارة عبر خمسة فصول(178- 182)والدفاع عن "قانون الجنس المقدس"عبر وقف بعض النساء أجسادهن للمعابد،مما يحيل على العلاقات التاريخية القائمة بين المقدس والمدنس. وبالعودة إلى ملحمة "جلجاميش"نقف عند لفظة"حرمتو"ذات العلاقة العضوية الوثيقة بطقوس الحب الدينية،بل إن المدلول اللغوي لمصطلح "بعل"(أو زوج) يحيل على الاه الخصب. والأكثر من ذلك،فجسر أو تأشيرة العبور عند المرأة القبرصية قبل السماح لها بالدخول للقفص الذهبي ، خلال القرن الخامس قبل الميلاد، هو أن تهب نفسها قرب المعبد لرجل أجنبي(ولاحظوا معي-للمرة الثانية على التوالي- هذه العلاقة التلازمية الكاثوليكية أو زواج المتعة بين سلوك الدعارة وفضاء المعبد ،أو بين فضاء المقدس وفضاء المدنس، مما يحيلنا على أن داء العطب قديم)،مما يؤجل مشروع زواج الفتيات غير الجميلات اللائي يضطررن للدفع للرجل مقابل زواجه بهن .ولأن الحديقة السرية أو الخلفية للإمبراطور البيزنطي "جوستيان"(534للميلاد)يحتوي على قطع غيار احتياطي ،بل ومالك مصنع منتج للرذيلة والفساد –على اعتبار أن عقيلته كانت بائعة هوى- فقد تسامح مع الدعارة ونظمها عبر البند القانوني رقم38) ).
وقبل أن تؤذن شمس الجاهلية بالرحيل كانت بائعات الهوى يوصفن ب"ذوات الرايات"التي اتخذها أبو سفيان-في نسخته الجاهلية لأن الإسلام يجب ما قبله- ومن معه ذريعة و فزاعة لثني صناجة العرب- الأعشى ميمون-عن الذهاب إلى نور الهدى-محمد صلى الله عليه وسلم-لإعلان إسلامه بدعوى أن سيد الخلق وحبيب الحق-صلوات ربي وسلامه عليه- ضد ثلاثة أمور هي من أحبها إلى قلب الأعشى وهي (الخمر والقمار والزنا)،فكان أن عرضت عليه مائة ناقة أو هدية مسمومة كانت –ربما- سببا في عدم إسلام الأعشى.
ولعله من سخرية التاريخ أن يدافع القديس"توماس الاكويني"خلال القرن الثالث عشر للميلاد عن الدعارة بدعوى أنها "شر لا بد منه يقي المجتمع من الوقوع في مطب الاغتصاب".وهنا يجد ر بنا أن نفتح قوسا لنؤكد من خلاله أنه ما ثبت عن علماء الإسلام المشهود لهم بالعلمية والمصداقية أن أجازوا أو أباحوا-عملا بمبدأ سد الذرائع- مثل هذه السلوكات الشاذة والغريبة عن البيئة الثقافية والاجتماعية الإسلامية لأن مواقفهم صدرت عن نصوص شرعية قطعية الدلالة- غير قابلة لتعدد القراءات والتأويلات- لا ظنية الدلالة،ووعيا منهم بالمضاعفات والتداعيات الجوهرية للظاهرة على سلم القيم في المجتمع الإسلامي وتماسكه ،،وعفته ،ونسله ونقاء وطهر نسب العنصر البشري امتدادا لطهر ونقاء المنظومة الشمولية المؤطرة لشؤون وقضايا الإنسان المسلم.
أما الماركسية (أو شيوعية الجنس)،فقد اعتبرت أن الدعارة نتيجة طبيعية للنظام الرأسمالي القائم على البيروقراطية والاستغلال وتمجيد الحريات والمبادرات الفردية .ومن هنا، فان انجلترا القرنين السادس عشر والسابع عشر عرفت اختلالا على مستوى رجحان كفة الطلب على العرض من حيث الدعارة،فاضطرت عاملات الجنس إلى تقديم خدماتهن المجانية للفاعل السياسي مقابل غض الطرف،لتعرف الدعارة "عصرها الذهبي" في باريس ولندن خلال القرن الثامن عشر.
أما "سيجموند فرويد"،فقد أفرد مجالا واسعا لموضوع "الايروسيات" و"الشبقيات "في كتاباته ،وخاصة في كتابه"ثلاثة مباحث في نظرية الجنس"والمترجم من طرف الدكتور جورج طرابيشي، حيث كسر جدار الصمت-بطريقة علمية تحليلية- عن موضوع "طابو" الحياة الجنسية الذي غالبا ما تحوطه السرية والتكتم والحياء(ولو أنه "لا حياء في الدين"إذا توفرت الضوابط الأخلاقية والعلمية والمنهجية في مقاربته)،مميطا عنه اللثام بكل جرأة ،وأريحية، وبوح لاسيما ما يتعلق ب "الانحرافات الجنسية"،فأعاد تعريفها وتصنيفها وربطها بمسبباتها،ووضع الأصبع على الجرح عندما تناول الحياة الجنسية عند الأطفال، مما أحدث انقلابا وصدمة ثقافية وأخلاقية وعلمية في زمانه، مستثمرا مجال الأحلام الجنسية -باعتبارها من القضايا لم تنل نصيبا وافرا في الدراسات العلمية-من خلال "انخراط الحالم في ممارسة جنسية مع شخص آخر" ،أو "رؤية آخرين يمارسون الجنس"لأنها،من منظور فرويد، من ألذ وأخصب حياة قد يعيشها الإنسان الحالم سواء في أحلام النوم أو في أحلام اليقظة ،إذ تتعارض الرغبة والمعايير الاجتماعية والأخلاقية التي تقمعها وتكبتها، فتترجم كالشلال الجارف أو الثور الهائج على مستوى الأحلام في صورة رمزية مقنعة.
أما الإسلام ،باعتباره دين الحداثة والتنوير والعقلانية، فقد خصص حيزا خاصا للحديث عن موضوع الجماع والمعاشرة الزوجية بكل تفاصيلها ،بدءا من فن المداعبة، وصولا إلى مرحلة العلاقة الحميمية مع الزيجة أو الزيجات،بل إن الإسلام رصد ما حدث لنبي الله يوسف عليه السلام مع "زليخة" زوجة العزيز في قصره عندا افتتنت بجمال يوسف "وغلقت الأبواب وقالت هيت لك"،ففر منها هاربا بجلده في اختبار حقيقي وإعداد من رب العزة لأصفيائه، ومن أجل استخلاص بني البشر الدروس والعبر من كيد النساء ومكرهن وغوايتهن،ودخل السجن إلى أن حصص الحق وظهرت براءته بعد أن انطلت حيلة "زليخة" على نسوة المدينة بعد أن"قطعن أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم".أضف إلى ذلك حديث القرآن الكريم عن بنات نبي الله شعيب-رغم الاختلاف في المسألة بين العلماء- بعد أن سقى لهما موسى الكليم-عليه السلام-قال تعالى:"فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك اجر ما سقيت لنا"-وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه مطلقا لئلا يوهم ريبة،بل قالت: "إن أبي يدعوك"-لأنهن تربين على مائدة العفة والطهر والحياء، فرفضن الاختلاط بالرجال أثناء سقيهن لأغنامهن، فكان نصيب إحداهن أن تزوجت-لعلها الصغرى بنص الحديث النبوي التي جاءته واضعة كم درعها على وجهها ،والتي ما أرسلها أبوها إلى ذلك الشاب إلا لثقته في عفتها وأدبها- موسى عليه السلام الذي "آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه"مقابل أن يرعى غنم هذا الرجل الصالح في مدة تتراوح بين ثمان أو عشر حجج .يقول ابن مسعود رضي الله عنه:"أفرس الناس ثلاث:أبو بكر حين تفرس في عمر، وصاحب يوسف حين قال "أكرمي مثواه"،وصاحبة موسى حين قالت"يا أبتي استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين".وهذا يحيلنا –على حد تعبير الدكتور صلاح الخالدي-أن في هذه الآية مؤشرات ودلائل على طبيعة وخصوصيات الفتاة المسلمة الملتزمة المتشبعة بقيم العفة والنقاء والاستقامة -بل لم يصرح باسمها لعدم أهميته ،لا عند سيدنا موسى ولا عند جمهور العلماء، لأنها مكلفة بمهمة خاصة بل إن المرأة الوحيدة التي ذكرت في القرآن الكريم هي مريم العذراء-كما لو كانت سفيرة النوايا الحسنة-وتمشي على استحياء-وليس على حياء فحسب-لأن زيادة المبنى زيادة في المعنى، من خلال توكيد الهمزة والسين والتاء لخلق الحياء الذي سيطر على كيانها وجوارحها ،فأصبحت تعيش حالة استحياء وليس حالة حياء ليس إلا، خاصة وأن دلالة حرف الجر "على " تحيل على التمكن من الشيء والسيطرة عليه"لأن مشى بمحاذاة" ،ليست لها نفس الشحنات الدلالية ل "مشى على"التي يسمو منسوبها وكونها المعنوي في سلم القيم الرمزية والتربوية ،إذ طبيعة المهمة وطبيعة المخاطب- موسى عليه السلام-جعلنا نتخيل فتاة تمشي على "شارع مكون من مادة الحياء" من خلال تجسيد صورة الحياء الذي تحول من خلق إلى شارع معبد تمشى عليه تلك الفتاة الطيبة. ويا له من تعبير قرآني فريد يعجز معه البيان والجنان واللسان عن الوصف والرصد. يقول الشاعر الأعشى ميمون -كأن مشي كأن كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة،لا ريث ولا عجل
ومن هذه القصة نستلهم درسا بليغا مفاده أن للتصور الإسلامي –وهو يقارب سؤال العلاقة بين الجنسين-خصوصيات منها البناء الداخلي الراشد، من حيث مراعاة الضوابط التربوية والشرعية جوارحا، ونطقا ،وسلوكا: فالعين مسئولة عن تصرفاتها وكذا الأذن، واليد ،والرجل ،وقس على ذلك ،مما يجعلنا نذهب مطمئنين إلى القول إن التصور الإسلامي ليس تصورا كارثيا لا يبني السد إلى بعد وقوع الفيضان، بل هو تصور استباقي استشرافي يؤمن بالخطاب التأسيسي للمفاهيم والثوابت ،وليس فقط بالخطاب التحسيسي ،على اعتبار أنه ينظر إلى مقدمات الوقوع في المحظور، فيعالجها من منظور واقعي إصلاحي قبل استفحالها وتغولها، ومنها الخلوة والنظرة -باعتبارها سهما من سهام إبليس- "فما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما "وزاد بعضهم وقال :"ولو كان يحفظها القرآن"قال تعالى:"قل للمؤمنين أن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها" ،وهذا ما يؤكده قول الله تعالى:"ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا".
واعتبر القرآن الكريم النساء حرثا للرجال ،في إشارة طريفة مليئة بالعفة والحياء، للحياة الجنسية الناضجة بين الزوج والزيجة من خلال مراعاتها للمنطلقات المعنوية، والانسجام الروحي، والإعداد النفسي(فن المداعبة)-اغترافا من معين الرحمة والمودة الذي لا ينضب- قبل الانخراط الفعلي في أي سلوك جنسي امتثالا لقول الله تعالى:"نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم"رغم اختلاف العلماء في تفسير لفظة أنى-واختلافهم رحمة،بل ولذلك خلق الله البشر-(فموضع الحرث هو موضع الولد ،إذ لا يجوز إتيان الزوجة وقت الحيض أو النفاس ولا من دبرها لأن "قريشاً كانوا يأتون النساء في الفرج على هيئات مختلفة، فلما قدموا المدينة وتزوجوا أنصاريات أرادوا ذلك فلم ترده نساء المدينة، إذ لم تكن عادة رجالهم إلا الإتيان على هيئة واحدة وهي الانبطاح، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وانتشر كلام الناس في ذلك ،فنزلت الآية مبيحة الهيئات كلها إذا كان الوطء في موضع الحرث وحرث تشبيه لأنهن مزدرع الذرية، فلفظة الحرث تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة إذ هو المزدرع". أما معنى "أنى"،فيقصد به "من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة وعلى جنب ،و "أنى" إنما تجيء سؤالا أو إخبارا عن أمر له جهات، فهي أعم في اللغة من كيف ومن أين ومن متى هذا هو الاستعمال العربي.". أما إتيان المرأة من الدبر،فمحرم شرعا قد يؤدي إلى اللعن أو الكفر بنص الحديث النبوي الشريف الوارد في مصنف النسائي. والأدهى من ذلك، فقد وصف القرآن الكريم الجماع، أو مقدماته، أو الكلام حوله، التي تعقبها متممات ب "الرفث" قال تعالى:"أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن".زد على ذلك ،فعبارة "هن لباس لكم وانتم لباس لهن"تشي بنوع من الاتحاد ،والاندماج بين جسد وروح المرأة والرجل :فكما أن اللباس يقي ويستر الجسد ،فكذلك تستر المرأة الرجل ويستر الرجل المرأة خاصة وأن اللباس هو ألصق شيء ببدن الإنسان ،كما لو أنه فصل على المقاس، فيذوب في لحظة واحدة طرف في طرف آخر حتى لا تكاد تعرف لهما حدود ،مما يحقق المتعة الجنسية المتبادلة أو الإشباع الجنسي للطرفين عبر عملية التفريغ البيولوجي المقدس باعتباره أمتع وألذ زينة الحياة بنص القرآن الكريم قال تعالى:"المال والبنون زينة الحياة الدنيا"،باعتبار مرحلة البنين تسبقها مرحلة الجماع ،وهذا من لطائف وآداب التعبير القرآني الذي يعضده قول الله عز وجل:"زين للناس حب الشهوات من النساء"التي يراد بها "شهوة الجنس" سواء عند الذكر أو عند الأنثى باعتبارها غريزة فطرية أو "حقا طبيعيا" كما يقول المفكرون الماركسيون.زد على ذلك ،وصف القرآن الكريم العلاقة الزوجية كما عهد النبوة ب"الميثاق الغليظ"قال تعالى:"وأخذن منكم ميثاقا غليظا" ،مستخدما عبارات دالة ك "الوطء" ،و"النكاح" كما في قوله تعالى:"ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" دفاعا عن مبدأ العفة ،والإحصان ،ونقاء واستمرارية النسل البشري،واعتبر أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لقوله تعالى: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا"،ومنع إرغام أو إكراه الفتيات العفيفات الطاهرات على الزنا والبغاء مصداقا لقوله تعالى:"ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا".
أما في السنة النبوية المطهرة،فقد ورد الجنس أو الجماع في عدة سياقات تعبيرية ومقامات تواصلية مليئة بالعفة ،والتربية، والتوجيه نحو نداء الفطرة والذوق السليم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة"،موجها جابر بن عبد الله إلى أهمية البكر في حياة الرجل عندما قال له عليه السلام:"هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك"،وفي نص آخر "هلا كانت جارية تلاعبها وتلاعبك"،أو "تضاحكها وتضاحك"،أو قوله:"مالك للعذارى ولعابها"،مما يدل على أسبقية الإسلام إلى التنبيه لأهمية النظرة، والكلمة، والبسمة والمضاحكة، أو الاغتسال الجماعي، والعطر، والدلال وغيرها من وسائل الإثارة المؤججة لنداء الغريزة الفطرية السليمة بين المرأة والرجل.ومن النماذج الرائعة في فن الملاعبة والمداعبة بين الزوجين ما تحكيه السيدة عائشة رضي الله عنها تصف حالها وواقعها مع زوجها الكريم صلى الله عليه وسلم فتقول: "كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناول النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه أي فمه على موضع فيّ فيشرب صلى الله عليه وسلم "، بل كان يضع رأسه صلى الله عليه وسلم في حضنها وهي حائض ،وعن السيدة عائشة رضي الله عنها تحكي وتقول: (كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد بيني وبينه فيبادرني، حتى أقول: دع لي، دع لي)، قالت: (وهما جنبان).كما أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لما سئل عن خير النساء أجاب أنها :"التي تسر إذا نظر".كما على المرأة العاقلة أن تلمح مراد الزوج عند الجماع فتجاريه على حد تعبير ابن الجوزي.وما يدل أكثر على اهتمام الإسلام بتفاصيل العلاقة الجنسية، أن تتخذ المرأة خرقة عند الجماع ،فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "ينبغي للمرأة إذا كانت عاقلة أن تتخذ خرقة، فإذا جامعها زوجها ناولته، فيمسح عنه، ثم تمسح عنها فيصليان في ثوبهما ذلك ما لم تصبه جنابة"،وربط الرسول الكريم اللذة الجنسية أو الجماع بالعسيلة عندما قال لامرأة رفاعة:"أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟حتى يذوق عسيلتك وتذوق عسيلته؟.وفي إطار الدعوة إلى العفة ونقاء العلاقات واستمرارية النسل البشري جاء الأمر النبوي صريحا بالدعوة إلى الممارسة الجنسية الخاضعة للضوابط الشرعية وفي نطاق مؤسسة الزواج في زمن ينادي ب"تنظيم الأسرة"أو"التخطيط العائلي" بالنظر إلى التبعات الاقتصادية للمولود وآخذا بثوابت النظرية المالتوسية القائمة على أساس وجود اختلالات بنيوية هيكلية بين النمو الديمغرافي السكاني والنمو الاقتصادي المادي،فيما المنهج النبوي-المعبر عنه بصيغة الأمر الدال على الإلزام وسرعة الاستجابة والتنفيذ- اعتبر التكاثر البشري وتزايد سواد الأمة نوعا من التفاخر والتباهي بين الأمم مصداقا لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم:"'تناكحوا تناسلوا فاني مباه بكم الأمم يوم القيامة"
وفي إطار ضبط السلوكات الفردية الجماعية ربطها بالمنظومة الشرعية والمؤسساتية،يأتي التوجيه النبوي لذلك الشاب الذي طلب من الرسول الكريم أن يبيح له الزنا، وكيف كان رد فعل وموقف نبي الرحمة محاطا بالتؤدة، والحلم ،والحكمة ،والنصح والرشاد في صيغة تقنية أسئلة تتضمن بين طياتها أجوبة شافية وكافية جامعة ومانعة تدل على فقه -صلى الله عليه وسلم- في معاملة النفوس ورفقه في إصلاحها من خلال بيان فساد مطلبه وعواقبه الوخيمة ومآلاته الاجتماعية والأخلاقية والنفسية والسلوكية-بعد أن انتفض الصحابة الكرام وانزعجوا من طلب هذا الشاب-وهو ما يستدعي ضرورة استلهامها وتأملها والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية من حيث أهمية اللطف بالجاهل قبل تعليمه إذ لا تعنيف لمن لا يعلم، فعن أبي أمامة ـ رضي الله عنه ـ قال:" إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا!، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: أدنه، فدنا منه قريبا، قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال: فوضع يده عليه وقال: اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء" .
وفي رواية أخرى: وقال اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحَصِّنْ فرْجَه، فلم يكن شيء أبغض إليه منه –أي الزنا فلم يعتبر الرسول الكريم الشاب فاقدا للحياء والخير،بل تعامل معه بمنطق عقلي ومنهج إقناعي مدركا حقيقة الشهوة التي تحرك كيانه والغريزة التي أعمت بصره وبصيرته، فجعله مستقيما على منهج الإسلام الصحيح كارها للرذيلة والمفسدة .وفي هذا المقام التواصلي إلا قناعي العقلي، نستخلص أهمية الأسلوب العاطفي في الدعوة وتغيير المنكر من خلال بعض الكلمات المفاتيح من قبيل:"أدنه"،"فدنا منه قريبا"،"فجلس"،"فوضع يده عليه"،ودعا له بقوله:اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه"،مزاوجا في هذا السياق بين الأسلوب العاطفي والمنهج العقلي من خلال قوله صلى الله عليه وسلم:"أتحبه لأمك؟"،"أتحبه لابنتك؟"،"أتحبه لأختك؟"،أتحبه لعمتك؟"،أتحبه لخالتك؟"، وسر تعداد المحارم –كما يقول علماءنا –الزيادة في الإقناع ،وأن دلالة ما يأتي من النساء لا تعدو أن تكون أما أو بنت أو أختا أو عمة أو خالة لأحد من الناس ممن تريد ممارسة الدعارة أو العمل الجنسي معها .
أما المقاربة الاقتصادية لمهنة الدعارة أو عاملات الجنس ،فتبدو مقاربة واقعية وذات مصداقية، إذ استقصاء وسبر أغوار العديد من الممارسات-عبر دراسات سوسيولوجية ميدانية -رغم شح الدراسات و الأبحاث التي يمكنها اغناء فضاء البحث- يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الفقر يلعب دولارا أسياسيا في اللجوء لهذه السلوك المشين خاصة في المراكز الحضرية الكبرى(مثل الدار البيضاء ،الرباط ، فاس، مراكش، أكادير، وطنجة…)، مما يوفر دخلا اقتصاديا للممتهنات ولعائلاتهن خاصة في ظل تصاعد عنف البطالة، وصعوبة العثور على عمل قار يحفظ الكرامة للمرأة خصوصا وللمجتمع عموما، مما يكرس الفساد الأخلاقي ويسهم في اتساع دائرة الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيا، علما أن مرتادي أوكار الدعارة لا يقتصر على فئة العزاب فحسب، بل يتجاوز الأمر إلى فئة المتزوجين، مما يؤكد أن المشاكل العائلية قد تكون سببا مباشرا للدعارة أو التعهر، إضافة إلى تدني مستوى التعليم. والحصيلة اختلاط الأنساب وانتشار الأمراض بسبب هذا النشاط غير الشرعي المحرم دينيا المجرم قانونيا الذي تتفاوت فضاءاته من الملاهي الليلية ،إلى المواخير، إلى الشقق المفروشة، إلى فضاء الشارع العام ،مما يرفع مؤشر المعاملات الخاصة لهذا النشاط في أعقاب تزايد أعداد الوافدين من السياح العرب والأجانب إلى بعض المدن المصنفة صمن المدن الأكثر امتهانا للجنس أو تجارة الجنس أو ما يعرف ب"السياحة الجنسية" في إطار خروج الظاهرة أو هذه"الآفة الاجتماعية" من دهاليز السرية إلى فضاءات العلنية والتنظيم والاعتراف الضمني أو المكشوف أو المتواطئ:فالموافقة في الأقوال والمخالفة في الأفعال أخطر من مؤامرة الصمت في سياق هذا العمل الجنسي المؤدى عنه المؤسس على مبدأ المقايضة بين المتعة الجسدية الغريزية والإشباع المادي بعيدا عن مشترطات اللذة والالتذاذ ،مما يشفع لنا بالحديث عن عمل جنسي يشترك ويتورط فيه الرجل والمرأة على حد سواء، والحال أن الحديث عن الدعارة يضع المرأة لوحدها في قفص الاتهام بمعزل عن الرجل، علما أن الرجل يمكن أن يوصف بكونه"داعرا"أو"عاهرا"بسبق الإصرار والترصد: فكما أن المرأة عاملة أو ممتهنة جنس، فالرجل بدوره يرمى بكونه عامل أو ممتهن جنس باعتباره موردا اقتصاديا ومعيشيا وتسويقيا(إذ ينبغي إدانة المجتمع بكامله وتحميله مسؤولية تفريخ ممتهنات الجنس) لا تشذ عنه مدينة مغربية في السهول، والجبال، والهضاب ،والوديان، مما يؤكد فعلا أن مغربنا الحبيب يستحق لقب "مغرب الثقافات"،إذ لكل جهة أو منطقة ثقافتها وطقوسها وخصوصيات ترويضها لزبنائها في مجال الجنس خاصة في زمن التقدم التكنولوجي والانفتاح الرقمي والفضائيات و الصحون المقعرة كما يذهب إلى ذلك تقرير المنظمة الإفريقية لمكافحة الايدز-التي أنجزت دراسة قيمة عن تجارة الجنس في المغرب عام2009 عبر الاشتغال على خمسمائة فتاة من عاملات الجنس- على اعتبار أن ستين في المائة من ممتهنات العمل الجنسي مارسنه في الفترة العمرية المتراوحة بين تسع سنوات وخمس عشرة سنة(استغلال القاصرات عبر التغرير بهن)،فيما أربعون في المائة من الممتهنات أرملات ومطلقات ،مما يطرح سؤال اقتسام الثروة بين الرجل والمرأة ما بعد الطلاق رغم وجود رجال شواذ جنسيا يمارسون الشذوذ أو العمل الجنسي الاحترافي المؤدى عنه أو الهاوي، وان قلت الدراسات الإحصائية والرقمية في هذا المجال،مما يقتضي مقاربة سوسيولوجية ميدانية للكشف عن المستور، وتعرية واقع الشواذ، وفضح زيف بعض الشعارات الجوفاء المنادية بمبدأ الحريات الجنسية في نطاق المجتمع المغربي الذي له رصيد رمزي وخصوصيات دينية وأخلاقية وتربوية وقيمية معينة.
انتشار وباء العمل الجنسي الاحترافي أو الهاوي يدق ناقوس الخطر حول مدى التواطؤ الاجتماعي إزاء هذه الآفة في إطار نوع من "التعايش السلمي" المستند على "تحولات قيمية" تعصف بكيان المجتمع المغربي ،بفعل سلطة واكراهات وضغوطات سوق النخاسة الجديدة باعتبارها حديقة سرية خلفية تستلزم ممارسة نوع من النقد الذاتي لسلوكياتنا ورصد ثوابتها ومتغيراتها، مما يؤهلنا لمقاومة وممانعة -في إطار جبهة اجتماعية تضم مختلف الأطياف والفاعلين-هذا الأخطبوط السرطاني المدمر لخلايا النسيج المجتمعي:فالدار البيضاء لوحدها زمن الفترة الاستعمارية اشتهرت ب "حي بوسبير"الممتد جغرافيا على مساحة تصل إلى أربعة وعشرين ألف متر مربع حيث كانت تشبع يوميا ألف امرأة من الممتهنات-بمختلف جنسياتهن، ودياناتهن المغربية ،والفرنسية ،والاسبانية، واليهودية- الرغبات الجنسية لحوالي ألف وخمسمائة زبون لعلم المستعمر اليقين أنه رغم المظهر المحافظ للمجتمع المغربي،فان الظاهرة موجودة لذلك حاول تقنينها وتنظيمها وتوفير الحماية الاجتماعية والقانونية للعاملات في مجال الجنس عبر توفير بطائق الهوية والخدمات الصحية والمراقبة الطبية شريطة تقديم الضريبة على الدخل.
إلقاء نظرة خاطفة أو فاحصة على واقع بعض الأسر المغربية، يكشف على أن الظاهرة أخذت أبعادا أخرى من خلال تبرير التعاطي للبغاء وامتهان الجنس بالاكراهات الاجتماعية والاقتصادية، على أساس خروج الفتيات ذوات الأنشطة المندمجة أو الموازية في ساعات متأخرة من الليل على مرأى ومسمع من أسرهن بدون رقيب ولا حسيب،وصدق الإمام علي كرم الله وجهه إذ يقول:"لو كان الفقر رجلا لقاتلته"،وصدق المصطفى صلوات ربي وسلامه عيه إذ يقول:"كاد الفقر أن يكون كفرا"،وهذا يعني من جملة ما يعني أن المجتمع المغربي عبر سلوك العمل الجنسي يمارس نوعا من"جلد الذات "عبر تدمير بنياته القيمية والتربوية والأخلاقية التي تربى عليها جيل بأكمله أو أجيال بأكملها،مما يزيد من تعميق آليات تمركز العمل الجنسي خصوصا في منطقة الأطلس المتوسط ونواحيها المتراوح بين ثقافة التفهم والتسامح ،أحيانا، لهذه الآفة والرفض والمقاومة لها أحيانا أخرى. لكن السؤال المطروح هنا والآن:إلى أي حد يصمد التعاطي القيمي الأخلاقي عند يمس الإنسان في جيبه أو مقوماته الاقتصادية باعتبار "المال عصب الحياة"؟؟ألم يصرح الأستاذ اليوسفي منذ حكومة التناوب التوافقي"الذي لم يكتمل بعد الخروج عن المنهجية الديمقراطية"أن بعض المواطنين المغاربة يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم ،أي أن فئات اجتماعية عريضة تعيش تحت عتبة الفقر و تكتوي بنار الحرمان والهشاشة والإقصاء،مما يطرح، في ،سياق امتهان العمل الجنسي ،ضرورة بلورة صيغة توفيقية بين المطالب الأخلاقية والقيمية والمطالب الاقتصادية والمادية،أي هل "يشرعن العوز المادي والفقر الاقتصادي" اللجوء للعمل الجنسي وبيع واسترخاص الكرامة الإنسانية؟؟بكل تأكيد لا.
.
- تعريب تزيمي بريس