نقوس المهدي
كاتب
لقد نزل جبريل (ع) بصورتي في راحته، حين أمر!! رسول الله (ص) أن يتزوجني... وإنّ الوحي لينزل عليه في أهله
كانت عائشة عذراء، حين تزوجها النبي، والأمر طبيعي حتماً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار سنّها آنذاك. بالمقابل كانت كلّ نسائه الأخريات غير عذراوات حين تزوج بهن - باستثناء مارية القبطية التي لا نمتلك معلومات دقيقة حول بكارتها - وكان لبعضهن أكثر من تجربة. ورغم أنّ زواج رجل بامرأة عذراء مسألة أكثر من عادية، فقد كان ذلك شغل عائشة الشاغل: الشيء الأبرز (وربما الأوحد) التي استطاعت أن تتباهى به على غيرها من نساء النبي.
من هذا الإنشغال الهاجسي بالعذرية، ذلك النص الذي أورده الطبري في تاريخه(1)، والذي تقول فيه عائشة: «تزوجني بكراً: لم يشركه فيّ أحد من الناس، وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في فراش واحد»؛ وفي السمط الثمين(2) يروى عنها قولها: «إنني لأفخر على أزواج النبي (ص) بأربع: ابتكرني ولم يبتكر غيري...». وفي تفسير ابن كثير(3)، يقال: «لم ينزل على رسول الله (ص) الوحي في فراش امرأة سواها... قال بعض العلماء: لأنه لم يتزوج بكراً سواها، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه». - لكننا لم نفهم سر العلاقة بين جبريل والعذرية!!!
كانت عائشة، كما لاحظنا في فصل أم سلمة، تشبه جسدها بمزرعة - أو حقل أو ما شابه -لم يؤكل منها، وأجساد نساء النبي الأخريات بمزارع رعيت، وتسأل النبي بعدها: أين كنت ترتع بعيرك؟: «قالت: يا رسول الله! أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أُكل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: في الذي لم يرتع منها. تعني أن رسول الله (ص) لم يتزوج بكراً غيرها»(4). - لكن ما الذي تعنيه ببعير رسول الله؟
الميثولوجيا... والجنس!
لقد خصّ التراث الميثولوجي الإسلامي عائشة بنصيب وافر من أساطيره. والكثير من تلك الأساطير يدور حول محور مركزي: الجنس! تقول عائشة، على سبيل المثال: «لقد أعطيت تسعاً ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل (ع) بصورتي في راحته، حين أمر!!! رسول الله (ص) أن يتزوجني... وإنّ الوحي لينزل عليه في أهله، فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه... ولقد نزل عذري [ في مسألة الإفك، الجنسية الطابع] من السماء... لقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً»(5).- لاداع طبعاً للإشارة إلى تناقض الفقرة الأولى من التسع المعطاة لها مع روايات زواجها من النبي المشار إليها آنفاً.
لقد صوِّرت للنبي «قبل أن تصوّر في بطن أمها»(6). فجبريل، كما تروي هي ذاتها، «أتاه بصورتي مرتين قبل أن يملك عقدي»(7). ويؤكّد النبي لها: «أريتك في المنام
ثلاث ليال، جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك [أو]: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة... فأقول: إن يكن من عند الله، يمضه»(8).- تناقض آخر.
ورغم أنه في قصة التفاخر بين عائشة وزينب لم تتحدّث الأولى عن تزويج الله إياها حين تفاخرت الثانية بذلك، فبعض المراجع تدعي أنّ الله بذاته (كذا) هو الذي زوجه إياها(9). وينسب إلى النبي، قوله: «زوجني ربّي عائشة في السماء، وأشهد عقدها الملائكة، وأغلقت أبواب النيران، وفتحت أبواب الجنة أربعين مساء، مسّها مسّ الريح، وريحها ريح المسك»(10).- لاتعليق!!!
بعد الزواج الإلهي(11)، كان لعائشة حوادث كثيرة مع جبريل. فحين خاصمها النبي مرّة، جاءه جبريل، وقال له: «إرجع وصالح عائشة»(12) - قاله أيضاً حين طلق النبي حفصة -؛ ولمّا صالحها، عاد جبريل حاملاً صحن حلوى (كذا)، وقال: «الله يقول لك: كان الصلح منا، وطعام الصلح علينا»(13). كان جريل «يقريها السلام»(14). لكن بعد محنة الإفك الشهيرة، كفّ الله يد جبريل كي يخبر النبي ببراءتها مما اتهمت به زوراً، فالله بذاته هو الذي أخبره بذلك، لأن الشدّة منه، والفرج منه أيضاً(15).
من ناحية أخرى، فمن بين كلّ الصحابة والتابعين، لم نصادف أحداً تمكّن من رؤية جبريل سوى عائشة. فقد رأته «من خلل الباب قد عصّب رأسه الغبار»(16)؛ ورأته مرة أخرى «عند معرفة فرس دحية الكلبي، والنبي يضع يده عليه ويكلّمه»(17)؛ ورأته أيضاً بصورة «رجل واقف وعليه عمامة بيضاء بين كتفيه»(18).
تنسب الروايات إلى عمر بن الخطاب، قوله: «إنّ الله عصمها من وقع الذباب على جلدها، لأنه يقع على النجاسة»(19). - ومعروف أن عمر توفي قبل يوم الدار وحرب الجمل. وقيل إنّ رجلاً ذكرها بسوء، فجاءه النبي في المنام، فأومأ باصبعه إلى عينيه، فأعماه(20). - لكن المعروف أيضاً أنها انتُقِدَت كما لم يُنْتَقَد غيرها بعد دورها في الفتن التي عرفتها آخر سنوات العهد الراشدي، دون أن تكون هنالك أزمة عميان بين الجماعة الاسلامية الأولى!!
رغم كلّ شيء، فعائشة ضمنت مكانها في الجنة. فقد قال عمار بن ياسر لرجل نال منها أو شتمها بعد حرب الجمل، «إنها زوجته [النبي] في الدنيا والآخرة»(21)، أي: «في الجنة»(22). وتزعم عائشة ذاتها، أن النبي قال عنها: «يهون عليّ أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة»(23). وتقول: إنها سألته مرة عن أزواجه في الجنة، فقال: «أنت منهن».
جنس أم شبق؟
كانت عائشة أقرب إلى الطفلة حين تعرّفت على الجنس للمرّة الأولى، على يد رجل أقرب إلى الكهولة، أمضى بدوره شبابه بجوار امرأة تكبره بخمسة عشر عاماً تقريباً، ولم يكن باستطاعته أن يتزوج عليها أو يطلّقها، لأنها كانت المسؤولة عنه وعن بيته مادّياً. تلك العجوز - كما وصفتها عائشة - الغنية، كما هو معروف، كانت أيضاً صاحبة تجارب سابقة. مع ذلك يبدو أنها رغم عظمتها الأخلاقية والعقائدية، فهي لم تكن كسائر أزواجه الأخريات على الصعيد الجنسي. ففي طبقات(24) ابن سعد، نجد حديثاً منسوباً للنبي، يقول: «كنت أقلّ الناس في الجماع، حتى أنزل الله عليّ الكفيت، فما أريده من ساعة إلا وجدته... [وكانت له] قوة أربعين رجلاً في الجماع». وإذا ما رفعنا العنصر الميثولوجي من الرواية السابقة، أي الكفيت، فتفسيرها السهل، يقول: كان الجماع بالنسبة للنبي عنصراً ثانوياً للغاية في إحدى المراحل، ثم في مرحلة أخرى، صار عنصراً في غاية الأهمية والمحورية. وربما تكون المرحلة الأولى هي الحقبة المكية، حين كان زوجاً لعجوز ترملت مرتين على الأقل: حقبة صراع وفقر وعذاب؛ والمرحلة الثانية هي الحقبة المدينية، حين صار رجل دين ودولة، غنياً، قادراً، لا يكاد يمر عام دون أن يكلّله بزوجة جديدة شابّة، ساحرة الجمال.
لقد دخلت عائشة، ابنة السنوات الثمان أو التسع، فراش هذا الرجل الذي له «قوة أربعين رجلاً في الجماع»: دخلت مبكرة جداً. لكن سرعان ما راحت نساء أخريات يزاحمنها ذاك الفراش. وراح حقدها الجنسي يجد قنوات مختلفة ينفّس عن ذاته عبرها. وهكذا نجدها تصرّح باستمرار بأن أحب نساء النبي إليها سودة(25)، لأنها أعطتها ليلتها. ونجد أيضاً أنّها أكثر نساء النبي عرضة للشائعات الجنسية الطابع، كقصتها مع صفوان ابن المعطل السلمي أو طلحة بن عبيد الله - هذا ما وصلنا على الأقل. بل إنّ عائشة هي الوحيدة بين كلّ نساء النبي، التي لم تتورع قط عن اتهام مارية القبطية، جارية الرسول، بعلاقة جنسية غير مشروعة - كما رأينا من قبل.هذا الانشغال الهاجسي بالجنس، الذي يلامس أحياناً تخوم الشبق، تعكسه تلك الأحاديث الكثيرة، المتناثرة في كتب التراث الإسلامي، المروية عنها، والتي لا هم لها سوى الجنس:
l مضاجعة الحائض:
عن مضاجعة النبي عائشة وهي حائض، توجد روايات كثيرة؛ من ذلك ما ذكره البخاري(26) في صحيحه، نقلاً عن عائشة: «كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله (ص) أن يباشرها، أمرها أن تتزر في فور حيضها، ثم يباشرها! قالت: وأيكم يملك إربه كما كان النبي (ص) يملك إربه!».في رواية أخرى(27)، «سئلت عائشة: ما يحلّ للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت: ما فوق الإزار». وفي نص ثالث(28)، «قالت: كان النبي (ص) يباشرني وأنا حائض، ويدخل معي في لحافي وأنا حائض؛ ولكنه كان أملككم لإربه». قالت عائشة أيضاً: «حضت مع رسول الله (ص) على فراشه، فانسللت، فقال: أحضت؟ فقلت: نعم! قال: فشدّي عليك إزارك ثم عودي»(29). في المسألة ذاتها، قالت عائشة: «كان يأمرنا إذا حاضت إحدانا أن تتزر بإزار واسع، ثم يلتزم صدرها وثدييها»(30). وفي ردها على شخص، سألها: «ما يحلّ للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت: كلّ شيء إلا الجماع»(31). وفي نص غيره يسألها أحدهم: «ما للرجل من أهله وهي حائض؟! فقالت: كلّ شيء إلا فرجها»(32). وردت على ميمون ابن مهران، حين طرح عليها السؤال ذاته، بقولها: «ما فوق الإزار»(33). ويذكر السمط الثمين(34) أنها «كانت تنام مع رسول الله (ص) في لحاف واحد، وهي حائض». وفي رواية أخرى، نقل عنها قولها: «كانت إحدانا إذا حاضت، اتزرت ودخلت مع رسول الله (ص) في شعاره، دلّ ذلك على أنه إنما أراد الجماع»(35). وتخبرنا عائشة ذاتها بالحادثة التالية: «دخل [النبي]، فمضى إلى مسجده - قال أبو داود: تقصد مسجد بيتها - فما انصرف حتى غلبتني عيني، فأوجعه البرد، فقال: ادني مني! فقلت: إني حائض! قال: اكشفي عن فخذيك! فكشفت فخذي، فوضع خده وصدره على فخذي، وحنيت عليه حتى دفئ ونام»(36).
هنا، نتساءل: هل كانت العاطفة الجنسية عند النبي قوية إلى درجة أنه لم يكن يتمالك نفسه أمام امرأة حتى وإن كانت حائضاً؟
يمكننا تقديم رأيين بشأن هذه المسألة: إما أنّ النبي كان بالفعل مسكوناً بالجنس إلى درجة متطرّفة؛ وهذا ما تدعمه روايات كثيرة؛ من ذلك ما تقوله عائشة: «قلّ يوم إلا ورسول الله (ص) يطوف علينا، فيقبّل ويلمس»(37). وفي رواية أخرى، أنّ النبي «كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة في الليل والنهار، وهن إحدى عشرة؛ وفي رواية: تسع نسوة. قيل: أو كان يطيق ذلك؟ [قال الراوي]: كنّا نتحدّث أنّه أعطي قوة ثلاثين»(38).
وتتحدّث سلمى، مولاة النبي، فتقول: «طاف رسول الله (ص) على نسائه ليلاً، التسع اللواتي توفي عنهن وهن عنده، كلما خرج من عند امرأة، قال لسلمى: صبّي لي غسلاً! فيغتسل قبل أن يأتي الأخرى. فقلت: يا رسول الله، أما يكفيك غسل واحد؟! فقال النبي (ص): هذا أطيب وأطهر»(31)؛ أو أنّ كلام عائشة هذا لا صحة له، لأنه يناقض القرآن وتعاليمه، بل يناقض ما قالته عائشة ذاتها في مواضع أخرى. فتعاليم القرآن، تقول: «يسألونك عن المحيض؛ قل: هو أذى! فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله» (2: 222). من ناحية أخرى، تقول عائشة ذاتها: «كنت إذا حضت نزلت عن المثال [الفراش] على الحصير، فلم نقرب رسول الله (ص) ولم ندن منه حتى نطهر»(40). وفي نص ابن كثير(41)، بالإشارة إلى النبي، يُضَاف: «فهو محمول على التنزه والاحتياط». وعند الدارمي(42)، تقول عائشة: «المستحاضة لا يأتيها زوجها».
يمكن أن نجد أحد أشكال التسوية بين الرأيين في رواية منسوبة لعائشة، يسألها فيها أحدهم - لا بد أن نلاحظ صيغة السؤال -: «أكان رسول الله يضاجعك وأنت حائض؟!»؛ فردّت: «نعم! إذا شددّت عليّ إزاري، ولم يكن لنا إذ ذاك غير فراش واحد، فلما رزقني الله - عزّ وجلّ - فراشاً آخر، اعتزلت رسول الله (ص)»(43).
مع ذلك، هنالك شيء من التناقض في زعم عائشة بأن النبي كان يضاجعها وهي حائض - أقلّه أنه كان بإمكانه تلبية رغبته الجنسية عبر نسائه الأخريات، اللواتي لا يعقل أن يحضن بشكل جماعي، تضامناً مع عائشة!!!
l مصّ اللسان الذي لا يفطّر ولا ينقض الوضوء:
مصُّ النبي لسان عائشة، وهو صائم وهي صائمة، مَعلَم جنسي آخر روّجت له عائشة حول علاقتها بالنبي. يورد أحمد في مسنده(44) عن عائشة، قولها: «كان رسول الله (ص) يقبّلها، وهو صائم، ويمصّ لسانها». وفي نصّ أبي داود(45): «كان رسول الله (ص) يقبّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملك لإربه».
كما أشرنا، يبدو أنّ النبي لم يكن وحده الصائم حين تقبيل عائشة. فهي تقول: «أراد رسول الله (ص) أن يقبّلني، فقلت: إني صائمة. فقال: وأنا صائم! ثم قبّلني»(46). وتقول أيضاً: «كان رسول الله (ص) ليظلّ صائماً، فيقبّل أين شاء من وجهي، حتى يفطر»(47)
من ناحية أخرى، يبدو أنّ قبلة عائشة لم تكن تنقض وضوء النبي. ذكر عروة عنها: «أنّ رسول الله (ص) قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ. فقلت [عروة]: ومن هي إلا أنتِ؟! فضحكت»(48). وذكر عنها قولها أيضاً: «كان النبي (ص) ينال مني القبلة بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء»(49)، أي، «يتوضأ، ثم يقبّل، ثم يصلّي»(50).
رغم صراحة عائشة، أم المؤمنين، وجرأتها في الحديث عن الجنس، فقد كان بعض من أولئك المؤمنين يتحرّج من حديث كهذا، معتبراً إياه أحد أنواع الرفث: «خرج علقمة وأصحابه حجاجاً، فذكر بعضهم الصائم: يقبّل ويباشر! فقام رجل منهم، قد قام سنتين وصامهما: هممت أن آخذ قوسي فأضربك بها، فكفّوا حتى تأتي عائشة، فسألوها عن ذلك، فقالت عائشة: كان رسول الله (ص) يقبّل ويباشر، وكان أملككم لإربه! قالوا: يا أبا شبل، سلها! قال: لا أرفث عندها اليوم! فسألوها، فقالت: كان يقبّل ويباشر وهو صائم»(51). وقالت عائشة، مرّة، لأخيها عبد الرحمن: «ما يمنعك أن تدنو من أهلك، فتقبّلها وتلاعبها؟ فقال: أقبّلها وأنا صائم! قالت: نعم»(52). وحين سئلت: «ما يجلّ للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: كلّ شيء إلا الجماع»(53).
l تفاصيل أخرى:
تفاصيل جنسية أخرى، توردها عائشة، تملأ صفحات كثيرة من كتب التراث الإسلامي. من ذلك، على سبيل المثال: حديثها عن واجب الاغتسال على الذي يجامع دون أن ينزل(54): «فعلناه مرة، فاغتسلنا! يعني: الذي يجامع ولا ينزل»(55). وعنها أيضاً: «قال رسول الله (ص): إذا قعد بين الشعب الأربع، ثم ألزق الختان بالختان، فقد وجب الغسل»(56)؛ وفي نص آخر: «إذ مسّ الختان الختان»(57)؛ وفي نص ثالث: «إذا التقى الختانان، فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله (ص)، فاغتسلنا»(58). لكن الأمر غير واضح: فنحن لا نعرف على وجه الدقة، هل يتوجب الغسل لمجرد مس الختان الختان، أو لا بد من تجاوز الختان الختان؟ فعائشة تقول: «إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل - فعلته أنا ورسول الله (ص)، فاغتسلنا»(59).
يبدو، كما أشرنا، أنه كان هنالك بين الجماعة الإسلامية الأولى من يتحرّج من
الحديث في مسائل كهذه. لكن عائشة، بجرأتها، كانت تزيل كلّ حرج. روى سعيد بن المسيب «أنّ أبا موسى، قال لعائشة: أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحي منك! فقالت: سل، ولا تستح، فأنا أمك! فسألها عن الرجل ، يغشى ولا ينزل، فقالت: عن النبي (ص)، إذا أصاب الختان الختان، فقد وجب الغسل»(60).
يبدو أيضاً أنّ هذه المسائل الهامة، كانت تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الجماعة الإسلامية الأولى. ويبدو أيضاً، أنّ عائشة كانت المرجع الأول والأخير في مسائل من هذا النوع: «قال زهير: كنت عند عمر، فقيل له: إن زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد؛ قال زهير: في حديثه الناس برأيه، في الذي يجامع ولا ينزل. فقال: أعجل به! فأتي به، فقال: يا عدو نفسه! أوقد بلغت أن تفتي الناس في مسجد رسول الله (ص) برأيك؟! قال: ما فعلت، ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله (ص)! قال: أي عمومتك؟! قال: أبي بن كعب... قال: كنا نفعله فلا نغتسل... فجمع الناس (!!!!) واتفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء، إلا رجلين: عليّ بن أبي طالب ومعاذ بن جبل، قالا: إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل! فقال علي: يا أمير المؤمنين! إنّ أعلم الناس بهذا أزواج النبي (ص)! فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا علم لي!!! فأرسل إلى عائشة، فقالت: إذا جاوز الختان الختان، وجب الغسل!!! فتحطم عمر! يعني تغيّظ! ثم قال: لا يبلغني أنّ أحداً فعله ولا يغسل إلا أنهكته عقوبة»(61).
الغسل من الجنابة وقضايا الإفرازات الجنسية، أمور أخذت أيضاً حيّزاً لا بأس به من تفكير عائشة. فهي تقول مثلاً: «كنت أغتسل أنا والنبي (ص) من إناء واحد، من جنابة»(62). إذن، كانت عائشة، حسب قولها، تغتسل من الجنابة، مع النبي، من إناء واحد - ولا ندري أهمية هذا الأمر حتى تناولته كتب التراث بتلك الكثافة. تقول رواية أخرى منقولة عنها: «كنت أغتسل، أنا ورسول الله (ص)، من إناء واحد، بيني وبينه، فيبادرني، حتى أقول: دع لي، دع لي! قالت: وهما جنبان»(63) . وكانت عائشة تغسل سائل النبي المنوي، وتتحدّث عن ذلك بشيء من الاهتمام: «كان همام بن الحارث عند عائشة (رض)، فأبصرته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه أو يغسل ثوبه، فأخبرت عائشة، فقالت: لقد رأيتني وأنا أفركه من ثوب رسول الله (ص)»(64) . لكن همام بن الحارث ذاته، يحاول أن ينفي عن نفسه تهمة احتلامه عند عائشة، فيقول مقدّماً رواية أخرى: «نزل بعائشة ضيف، فأمرت له بملحفة، فاحتلم بها، فاستحيا أن يرسل بها وفيها أثر الاحتلام، فغمسها في الماء، ثم أرسل بها! فقالت عائشة: لمَ أفسدَ علينا ثوبنا؟ إنما كان يكفيه أن يفركه بإصبعه، ربما فركته من ثوب رسول الله (ص) بإصبعي»(65) . وفي المحلّى(66) ، نجدها تقول: «كنتُ أفركه [المني] من ثوب رسول الله». بالنسبة لإفرازات الحيض، تقول عائشة: «كُنت ورسول الله (ص) في الشعار الواحد، وأنا حائض طامث، فإن أصابه مني شيء، غسل مكانه لم يعده، وإن أصابه - يعني: ثوبه - شيء، غسل مكانه، لم يعد، وصلّى فيه»(67) .
l العسيلة:
«العسيلة» واحدة من أطرف الحكايا الجنسية في التراث الإسلامي وأكثرها إثارة للاستغراب! وكالعادة، فإن عائشة هي أشهر من يروي هذه الحكاية. - فما هي العسيلة؟.
باختصار شديد، وكما تنقل عائشة عن النبي، «العسيلة هي الجماع»(68). ومفادها أنّه إذا طلّق رجل زوجته ثلاث مرات - لا نعرف سرّ قدسية هذا الرقم - لا بد لهذه المرأة أن تتزوج رجلاً آخر، إذا ما أرادت العودة إلى زوجها الأصلي، شريطة أن يذوق هذا الأخير «عسيلتها» - أي: يضاجعها!! وفي صحيح مسلم(69)، ورد عن عائشة الحديث التالي: «جاءت امرأة رفاعة [أو: رفاعة القرظي(70)] إلى النبي (ص)، فقالت: كنت عند رفاعة، فطلّقني، فبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير: إن ما معه مثل هدبة الثوب [أو: إنما عنده مثل هدبتي(71)]! فتبسم رسول الله (ص)، فقال:أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؛ لا! حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»(72). ويضيف لسان العرب تفاصيل أخرى، حين يقول: « وقال النبي (ص) لامرأة رفاعة القرظي، وقد سألته عن زوج تزوجته لترجع به إلى زوجها الأول الذي طلقها، فلم ينتشر ذكره للإيلاج: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك! يعني جماعها لأن الجماع هو المستحلى من المرأة، شبّه لذة الجماع بذوق العسل »(73) .
l روايات العري المتناقضة:
رغم زعم عائشة أنّها كانت تغتسل والنبي «من إناء واحد من الجنابة»(74) ، إلا أنّها افتخرت باستمرار ربما بأنها «ما نظرت إلى فرج رسول الله قط»(75) . مع ذلك، تقول إنه «قام ليلة عرياناً، فما رأيت جسمه قبلها»(76) . وتضيف رواية أخرى، ترويها عائشة، تفاصيل أخرى: «قدم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله (ص) في بيتي، فأتاه، فقرع الباب، فقام إليه رسول الله (ص) عرياناً يجر ثوبه - والله ما رأيته عرياناً قبله ولا بعده - فاعتنقه وقبّله»(77) .- لا نعرف، طبعاً، ما إذا كان « اعتنقه وقبّله » ، وهو عار، حسب رواية أم المؤمنين، أم لا !!
حين قال النبي لعائشة: «إنّكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلاً. قالت عائشة: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة، إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك»(78) .
l إسكاتها لأبي هريرة في الأمور النسائية:
في إحدى المناسبات، قالت عائشة لأبي هريرة: «إنك لتحدّث عن النبي (ص) حديثاً ما سمعته منه؛ فقال أبو هريرة: يا أمة! طلبتها، وشغلك عنها المرآة والمكحلة، وما كان يشغلني عنها شيء»(79) . لكن أحمد يروي في مسنده(80) ، «أنّ رجلين دخلا على عائشة، فقالا: إنّ أبي هريرة يحدث، أنّ نبي الله (ص)، كان يقول: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار. فطارت شقة منها [عائشة] في السماء وشقة في الأرض، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم، ما هكذا كان يقول! ولكن نبي الله (ص)، كان يقول: كان أهل الجاهلية، يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة! ثم قرأت عائشة: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب» إلى آخر الآية»(81) . وفي رواية أخرى(82) ، يقال: «إنه قد بلغ عائشة عن أبي هريرة، أنه قال: قال رسول الله (ص): يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. فقالت عائشة: معنّفة مصحّحة: شبهتمونا بالحمير والكلاب! والله لقد رأيت رسول الله يصلّي، وأنا في السرير، بينه وبين القبلة، مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس، فأؤذي رسول الله، فأنسلّ من عند رجليه».
وإذا كانت عائشة قادرة على تكذيب أبي هريرة - وقد كذّبه كثيرون غيرها - في مسائل نسائية عامة، فكم بالحري أن تسكّته - مرّة وإلى الأبد - في تلك الأمور الحميمة؟ ويروي أحمد في مسنده، أنّ أبا هريرة قال: «من أصبح جنباً فلا صوم له. فأرسل مروان أبا بكر بن عبد الرحمن إلى عائشة، يسألها، فقال لها: إنّ أبا هريرة، يقول: من أصبح جنباً فلا صوم له. فقالت عائشة: قد كان رسول الله (ص) يجنب، ثم يتمّ صومه. فأرسل إلى أبي هريرة، فأخبره أنّ عائشة قالت: إنّ رسول الله (ص) كان يجنب ثم يتمّ صومه! فكفّ أبو هريرة»(83) . لذلك، كان طبيعياً أن يجيب مسروق، حين سئل: «هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والذي لا إله غيره، لقد رأيت الأكابر من أصحاب محمد، يسألونها عن الفرائض»(84) .
l الغيرة... والجنس:
كانت الغيرة تسري في عائشة كالدم. ويبدو أنّ السبب الرئيس لتلك الغيرة هو الجنس. الجنس وحده. وكانت إذا غاب النبي عنها، تلاحقه، تتحسّس شعره وجسده لتتأكد من عدم رطوبته. يروى عنها، قولها: «فقدت رسول الله (ص)، فظننت أنه أتى بعض جواريه، فطلبته، فإذا هو ساجد، يقول: رب اغفر لي [أو]: فتحسّست، فإذا هو راكع»(85) . وفي رواية أخرى، قيل إن رسول الله «خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه! فجاء، فرأى ما صنعت، فقال: مالك يائسة؟ أغرت! فقلت: ومالي لا يغار مثلي على مثلك؟ قال رسول الله (ص): أفأخذك شيطانك؟!»(86) . وفي رواية ثالثة، تقول: «التمست رسول الله (ص)، فأدخلت يدي في شعره، فقال: قد جاءك شيطانك! فقلت: أما لك شيطان؟ فقال: بلى، ولكن الله أعانني عليه، فأسلم!»(87) .
رغم كلّ ما سبق، لم تنجب عائشة - ولا غيرها من قافلة النساء الجميلات الفتيات: باستثناء مارية - من النبي. ورغم ادعاء ابن كثير(88) «أنها أسقطت منه ولداً سمّاه رسول الله (ص): عبد الله! ولهذا كانت تكنّى بأم عبد الله»، فالأرجح أنها «كانت تكنى بعبد الله بن الزبير، ابن أختها»(89) .
هذه المرأة المتفجرة، حُرِّم عليها الزواج، إلهياً هذه المرة، بعد النبي - ولم تكن آنذاك قد تخطت الثامنة عشرة!!! فهل يمكن أن يساعدنا ذلك في فهم خلفية ثوراتها العنيفة المتلاحقة؟
سؤال غير مشروع!!!
عائشة... والإفك
كان حديث الإفك في السنة السادسة(1) للهجرة، في غزوة بني المصطلق(2). والقصّة أوردها بنوع من التفصيل، مسلم في صحيحه(3)، حيث قال، نقلاً عن عائشة: «كان رسول الله (ص) إذا أراد أن يخرج سفراً، أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله (ص) معه... فأقرع بنا في غزوة غزاها(4)، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله (ص)، وذلك بعدما أنزل الحجاب. فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله (ص) من غزوه ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقدي من جزع ظفار، قد انقطع، فرجعت، فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فحملوا هودجي، فرحّلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه.
كانت النساء إذ ذاك خفافاً (5)لم يهبلن ولم يغشهن اللحم؛ إنما يأكلهن العلقة من الطعام. فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحّلوه ورفعوه. وكنت جارية حديثة السن. فبعثوا الجمل وساروا. ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش. فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني، فيرجعون إلي. فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني، فنمت.
وكان صفوان بن المعطّل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني. وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليّ. فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي. ووالله ما يكلّمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة، غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني(6) .
وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبي بن سلول. فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله (ص) اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي؛ إنما يدخل رسول الله (ص) يسلّم، ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني، ولا أشعر بالشرّ! حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو مبرزنا، ولا نخرج إلاّ ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا. وأمرنا أمر العرب الأول في التنزّه. وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمّها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مسطّح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب. فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قِبَل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح(7)! فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبّين رجلاً قد شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه! أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي.
فلما رجعت إلى بيتي، فدخل عليّ رسول الله (ص)، فسلّم، ثم قال: كيف تيكم؟ قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ - وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما - فأذن لي رسول الله (ص).
فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه! ما يتحدّث الناس؟ فقالت: يا بنية، هوّني عليك، فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر، إلا كثرن عليها. قلت: سبحان الله! وقد تحدّث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة، حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي.
ودعا رسول الله (ص) عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد، حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله. فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله (ص) بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال: يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيراً. وأما عليّ بن أبي طالب، فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله (ص) بريرة، فقال: أي بريرة! هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، إن رأيت أمراً قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام على عجين أهلها، فتأتي الداجن(8)، فتأكله. فقام رسول الله (ص) على المنبر، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال رسول الله (ص) وهو على المنبر: يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً! ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي(9)! فقام سعد بن أبي معاذ الأنصاري، فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من أخوتنا الخزرج(10)، أمرتنا ففعلنا أمرك! فقام سعد بن عبادة، وهو سيّد الخزرج - وكان رجلاً صالحاً ولكن اجتهلته الحمية(11) - فقال لسعد بن معاذ: كذبت! لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله(12)! وقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت! لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين! فثار الحيّـان الأوس والخزرج، حتى همّوا أن يقتتلوا. ورسول الله قائم على المنبر. فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا.
[وأخيراً... تدخّل الله]
وبكيتُ يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم بكيت ليلتي المقبلة، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أنّ البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي. فبينا نحن على ذلك، دخل علينا رسول الله (ص)، ثم جلس. ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل. وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء. فتشهد رسول الله (ص) حين جلس، ثم قال: أمّا بعد، يا عائشة، فإنّه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة، فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب(13)، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله (ص) مقالته، قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله (ص) فيما قال! فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله (ص)! فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله (ص)! فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله (ص)! فقلت؛ وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني - والله - لقد عرفت أنكم سمعتم بهذا حتى استقرّ في نفوسكم وصدّقتم به؛ فإن قلت لكم: إني بريئة! لا تصدقون بذلك! وإن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدقونني. وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال(14) أبو يوسف: «فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون».
ثم تحوّلت، فاضطجعت على فراشي، وأنا - والله - حينئذ أعلم أنّي بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي. ولكن - والله - ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يوحى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عزّ وجلّ فيّ بأمر يتلى. ولكني - والله - كنت أرجو أن يرى رسول الله (ص) رؤيا، يُبرئني الله بها. فوالله، ما رام رسول الله (ص) مجلسه،
ولا خرج من أهل بيته أحد، حتى أنزل الله عزّ وجلّ على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى أنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشتات من ثقل القول الذي أنزل عليه. فلما سري عن رسول الله (ص)، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلّم بها، أن قال: أبشري يا عائشة! أما الله فقد برّأك! فقالت لي أمي: قومي إليه؛ فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي(15).
فأنزل الله عزّ وجلّ «إنّ الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم»، عشر آيات(16). فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات(17)، براءتي. فقال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ؛ فأنزل الله عز وجل «ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى»، إلى قوله، «ألا تحبّون أن يغفر الله لكم» - قال حبان بن موسى: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله - فقال أبو بكر: إنّي لأحب أن يغفر الله لي! فرجّع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبداً(18).
قالت عائشة: وكان رسول الله (ص) سأل زينب بنت جحش، زوج النبي (ص) عن أمري: ما علمتِ؟ أو: ما رأيتِ؟ فقالت: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً! قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي (ص)، فعصمها الله بالورع. وطفقت أختها حمنة بنت جحش، تحارب لها، فهلكت فيمن هلك(19)...
[الإفكيون]
كانت عائشة تكره أن يسبّ عندها حسان [بن ثابت، وهو أحد الذين ساهموا في نشر القصة]، وتقول: فإنه قال:
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
وزاد أيضاً...
قالت عائشة: والله إنّ الرجل الذي قيل له ما قيل، [أي: صفوان بن المعطل]، ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده، ما كشفت عن كنف أنثى قط! ثم قتل بعد ذلك شهيداً، في سبيل الله!...
وكان الذي تكلموا به، مسطح وحمنة وحسان(20)، وأما المنافق عبد الله بن أبي، فهو الذي يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كبره، وحمنة(21)»(22).
ويضيف ابن هشام(23)، إنّ النبي «خرج إلى الناس، فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عليه في القرآن من ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثانة وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدّهم»(24).
لكن ألا يحق لنا أن نتساءل: ما هو سرّ تدخل الله الغريب هذا في تهمة تخصّ مراهقة لم تبلغ الخامسة عشر من العمر - تهمة عادية في ذلك الزمان - (وقد صوبتها عائشة بعد ذلك، كما لاحظنا، لمارية ذاتها، لكن الغريب أن النبي لم يضربها الحدّ) نظراً لنوعية العلاقات في المجتمع الإسلامي الأول؟ وهل مسألة الإفك التي يبذل التراثيون الإسلاميون أقصى جهدهم لإزالة كلّ ملابساتها عن عائشة، والتي لا تتعدّى كونها علاقة عابرة بين رجل وامرأة لم تؤذ أحداً، أكثر شناعة من يوم الدار وحرب الجمل حيث قتل ألوف المسلمين وتحطّم النظام الراشدي؟ ولماذا لم يتدخل الإله أيضاً لإزالة الشبهات عن عائشة في تلك الحوادث الرهيبة؟
ذيول إفكية
قال ابن عبّاس: «من أذنب ذنباً، ثم تاب منه، قبلت توبته: إلا من خاض في أمر عائشة! وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك».
وكان النبي يقول عن صفوان بن المعطّل: «إن صفوان خبيث اللسان، طيب القلب»(25). من ناحيته، كان حسّان، شاعر النبي، قد هجا(26) صفوان بقوله:
«أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا
وابن الفريعة أمسى بيضة البلد»(27)
تقول إحدى الروايات، «إنّ ثابت بن عيسى بن الشماس وثب على صفوان بن المعطّل، حين ضرب حسّان، فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث ابن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك ضرب حسان بالسيف؟! والله ما أراه إلا قد قتله؛ قال له عبد الله بن رواحة: هل علم رسول الله (ص) بشيء مما صنعت؟ قال: لا والله! قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل! فأطلقه. ثم أتوا رسول الله (ص)، فذكروا له ذلك، فدعا حسّان وصفوان بن المعطّل؛ فقال ابن المعطّل: يا رسول الله، آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب، فضربته! فقال رسول الله (ص) لحسان: أحسن يا حسّأن، أتشوهت على قومي إذ هداهم الله للإسلام؟! ثم قال: أحسن يا حسان في الذي أصابك! قال: هي لك يا رسول الله»(28) .
ويذكر ابن كثير(29) : «ثم أنّ صفوان بن المعطّل اعترض حسّان بن ثابت بالسيف، حين بلغه ما كان يقول فيه، فضربه ثم قال(30) :
تلقَ ذباب السيف عني فإنني
غلام إذا هوجيت لست بشاعر
فذُكر ذلك لرسول الله (ص)، فدعا حسّان وصفوان بن المعطّل، فقال صفوان: هجاني يا رسول الله وآذاني، فضربته؛ فقال رسول الله (ص) لحسّان: أحسن يا حسّان. قال: هي لكَ يا رسول الله؛ فأعطاه رسول الله (ص) عوض عنها بيرحاء، وهي قصر بني حديلة(31) ؛ وأعطاه سيرين، أمة قبطية، وهي أخت مارية، أم ابراهيم ابن رسول الله، فولدت له عبد الرحمن»(32) .
وفي رواية من أسد الغابة(33) ، يقال: «إن رسول الله (ص) جلد الذين قالوا لعائشة ما قالوا، ثمانين جلدة: حسّان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش(34) . وكان حسّان ممن خاض في الإفك، فجُلد فيه في قول بعضهم: وأنكر قوم ذلك، وقالوا: إن عائشة كانت في الطواف ومعها أم حكيم بن خالد بن العاص، وأم حكيم بن عبد الله... فذكرتا حسّان، فسبّتاه، فقالت عائشة: إني لأرجو أن يدخله الله الجنّة بذبّه عن النبي (ص) بلسانه! أليس هو القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
وبرّأته من أن يكون افترى عليها. فقالتا: ألم يقل فيك؟ فقالت: لم يقل شيئاً؛ لكنه الذي يقول:
حسان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد قيل عني قلته
فلا رفعت سوطي إلى أناملي»
وفي نص ابن هشام(35) ، «أن امرأة مدحت حسان بن ثابت عند عائشة، فقالت:
حسان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الفوافل
فقالت عائشة: لكن أبوها».
شبق ابن المعطّل:
مقابل أسطورة بتولية ابن المعطّل التي روّجت لها عائشة، تذكر لنا مصادر إسلامية نصّاً معارضاً، يقدّم ابن المعطّل، كائناً مسكوناً بالشبق. يقول ابن منظور(36) ، على سبيل المثال: «جاءت امرأة إلى رسول الله (ص)، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي صفوان بن المعطّل... يفطرني إذا صمت... وصفوان عنده... فسأله عمّا قالت، فقال: يا رسول الله... أما قولها يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب فلا أصبر». ويكمل أبو داود(37) : «فقال رسول الله (ص): لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها».
إدخال الله في تفاخر النساء
كما أشرنا، فإن تدخّل الله في القضايا الشخصية لزوجات النبي، كان موضع تفاخر بينهن. يذكر ابن كثير في تفسيره(38) : «تفاخرت زينب وعائشة (رض)، فقالت زينب: أنا التي نزل تزويجي من السماء!!! وقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتاب الله!!! حين حملني صفوان بن المعطّل على الراحلة! فقالت لها زينب: يا عائشة! ما قلت حين ركبتها؟ قالت، قلت: حسبي الله ونعم الوكيل!».
من ناحية أخرى، يبدو أنه كان يحق لعائشة تفاخر إضافي في حديث غير إفكي، لعب فيه ضياع العقد ، الذي كان سبب المشكلة في الحدث الإفكي ، والإله ، الذي حلّ المشكلة الإفكية ، الدورين الرئيسين. يذكر النسائي(39) عن عائشة، قولها: «خرجنا مع رسول الله (ص) في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو ذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله (ص) على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فأتى الناس أبا بكر (رض)، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله (ص) وبالناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر (رض) ورسول الله (ص) واضع رأسه على فخذي، قد نام، فقال: حبست رسول الله (ص) والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء... فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فما منعني من التحرّك إلاّ مكان رسول الله (ص) على فخذي. فنام رسول الله (ص) حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم. فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته»(40) .
رواية أخرى، تقدّم تفاصيل إضافية، نجدها في المرجع ذاته(41) : تقول عائشة «إنّها استعارت من أسماء [أختها] قلادة، فهلكت، فأرسل النبي (ص) أناساً في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلّوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي، شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم. فقال أسيد بن حضير: جزاكِ الله خيراً! فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله!!! لكِ مخرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة»(42) .
ذَكَر آخر: تدخّل إضافي لله
طلحة بن عبيد الله هو ابن عم لعائشة؛ وهو الذي حاولت إيصاله، بكلّ الطرق، إلى سدّة الخلافة، وحاربت لأجل ذلك، كما لاحظنا، عليّ بن أبي طالب، في حرب الجمل. يروى(43) «أن طلحة، لما نزلت آية الحجاب، قال بمحضر نقل عنه إلى رسول الله (ص): ما الذي يغنيه من حجابهن اليوم؟ فسيموت غداً، فننكحهن». وذكر الزمخشري في الكشاف(44) ، إنّ بعضهم قال بعد نزول آية الحجاب: «أنُنهى أن نكلّم بنات عمنا إلا من وراء حجاب؟! لئن مات محمد لأتزوجن عائشة... [وهو] طلحة، قال: لو قد مات محمد، لأتزوجن عائشة (رض). فأنزل الله تعالى:«وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله» [أحزاب 53]». ويفسّر ابن كثير(45) الآية السابقة، فيقول: «نزلت في رجل [يقول ابن سعد: «نزلت في طلحة بن عبيد الله لأنه قال: إذا توفي رسول الله تزوجت عائشة»]، همّ أن يتزوج بعض نساء النبي (ص) بعده؛ فقال رجل لسفيان: أهي عائشة؟ قال:ذكروا ذلك.. وذكروا بسنده عن السدي أنّ الذي عزم على ذلك طلحة(46) بن عبيد الله».
وتقول رواية أخرى(47) : «إنّ رجلاً أتى بعض أزوج النبي (ص)، فكلّمها وهو ابن عمها، فقال النبي له: لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا. فقال: يا رسول اللّه ! إنّها ابنة عمي، والله ما قلت منكراً ولا قالت لي. قال النبي (ص): قد عرفتَ أنه ليس أغير من الله، وليس أحد أغير مني. فمضى الرجل، ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمّي، والله لأتزوجنها من بعده. وسمّت الروايات الرجل وهو طلحة بن عبيد الله، وسمّت أم المؤمنين عائشة... وبلغ النبي (ص) أن رجلاً، يقول: لو قد توفي النبي (ص)، تزوجت فلانة بعده، فنزلت آية: «وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله». وقال ابن عباس: نزلت في رجل همّ أن يتزوج بعض نساء النبي (ص) بعده. وذكروا أنها عائشة؛ وأخرج عن السدي، قال: بلغنا أنّ طلحة بن عبيد الله، قال: أيحجبنا عن بنات عمّنا ويتزوج نساءنا! لئن حدث به ما حدث، لنتزوجّن نساءه بعده».
الحجاب، ورضاع الكبير، ومصحف عائشة
الحجاب، كمعظم القضايا الإسلامية، مسألة لا سبيل إلى استيعابها أو فهمها أو الإحاطة بكافة جوانبها. الحجاب، في الإسلام، هو التناقض بعينه: ولا يبدو أن هنالك مقاربة عقلانية لهذه القضية حتى الآن!
الحجاب، في مذاهب المسلمين الخمسة، ينطبق فقط على المرأة المسلمة «الحرّة»: على كلّ مسلمة «حرّة» أن تغطي سائر جسدها عدا الوجه والكفين. وتتشدّد بعض المذاهب في اعتبار أنه حتى الوجه والكفين «عورة» يفضّل تغطيتهم. بالمقابل، فإن حجاب المسلمة «الأمة»، هو بين السرّة والركبة. بل إنّ بعض المذاهب تجعل عورتها محصورة في فتحتي القبل والدبر. وتزداد المسألة تعقيداً، إذا ما عرفنا أن بعض المذاهب - راجع ابن عابدين في حاشيته(1)، مثلاً - تفرض الحجاب على الشاب المسلم الجميل. فكيف يمكن حلّ تناقضات الحجاب هذه؟
باختصار شديد، نقول: إن الإسلام، كدين ذكوري بلا منازع، يهمّه تلبية غريزتي التملّك والجنس عند الذكر إلى الدرجة القصوى - وغالباً ما يكون ذلك على حساب الأنثى. فالأنثى الملفعة بالسواد، الحرّة، التي لا تراها الشمس، هي التلبية المثلى لغريزة التملك عند الذكر؛ بالمقابل، فالجارية العارية، التي تنتقل من ذكر إلى ذكر، والتي تنحصر وظيفتها في إشباع أعمق رغبات الذكر الجنسية، هي التلبية المثلى لغريزة الجنس عند الذكر. المرأة في الإسلام أنثى، متاع، شيء - ولا شيء غير ذلك! لكن: ما هي ظروف فرض الحجاب؟ يقول القرطبي: « لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله (ص) أن يأمرهن بارتداء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكُنف، فيقع الفرق بينهن وبين الإماء... وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي (ص)، فنزلت الآية »(2) .
إذاً، رغم الملائكية التي يطبع بها كتّاب هذا العصر من الإسلاميين مجتمع الجماعة الاسلامية الأولى، فالحقيقة مغايرة تماماً. يخبرنا ابن كثير في تفسيره(3) : «وكان ناس من فسّاق أهل المدينة يخرجون بالليل، حين يختلط الظلام، إلى طرق المدينة، فيعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيّقة، فإذا كان الليل، خرج النساء إلى الطرق يبتغين حاجتهن. فكان أولئك الفسّاق يبتغون ذلك منهن. فإذا رأوا المرأة عليها جلباب، قالوا: هذه حرّة! فكفّوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب؛ قالوا: هذه أمة! فوثبوا عليها». ويزداد الأمر سوءاً حين تعلمنا إحدى الروايات، أنه «كان نساء النبي (ص) يخرجن بالليل لحاجتهن؛ وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين، فشكوا ذلك، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنّما نفعله بالإماء! فنزلت هذه الآية»(4) - آية الحجاب (أحزاب 59). ويؤكد ذلك الطبري، حين يقول: « يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يتعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى »(5) . وهكذا، لمّا «كانت الحرّة تخرج فتحسب أنّها أمة فتؤذى... أمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمّر وجهها إلا إحدى عينيها»(6) .
ويؤكد ذلك قتادة، بقوله: « كانت المملوكة إذا مرت تناولوها بالإيذاء، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء »(7) . ويضيف مجاهد: « يتجلببن فيُعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة »(8) .
يذكر الزمخشري في تفسيره للآية 59 من سورة الأحزاب: «إنّ النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، فصل بين الحرّة والأمة؛ وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرّضون إذا خرجن إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرّضوا للحرّة بعلّة الأمة؛ يقولون: حسبناها أمة! فأُمرن أن يخالفن بزيهن على زيّ الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن فلا يطمع فيهن طامع؛ وذلك لقوله: «ذلك أدنى فلا يعرفن»؛ أي: أولى وأجدر بأن يعرفن، فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن»(9) .
وكان سفيان الثوري، يقول: «لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة؛ وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة، لا لحرمتهن. واستدلّ بقوله تعالى: «ونساء المؤمنين»؛ وقوله: «ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين» - أي، إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر»(10) .
وكان عمر بن الخطاب يطوف في طرقات المدينة، فإذا رأى أمة محجبة، ضربها بالدّرة حتى يسقط الحجاب عن رأسها، ويقول: فيم الإماء يتشبهن بالحرائر؟(11) .
حجاب نساء النبي:
يبدو أن حجاب نساء النبي كان يختلف عن حجاب سائر نساء المسلمين. والأرجح أنّه لم يكن يسمح لهن برؤية أحد، عدا النبي والمحارم. فعلى سبيل المثال، تخبرنا أم سلمة، أنها مُنعت حتى عن رؤية الأعمى، ابن أم مكتوم، الذي كان النبي يأمر النساء بأن تعتدّ عنده. تقول إنها كانت عند النبي، هي وميمونة، «فبينا نحن عنده، أقبل ابن مكتوم، فدخل عليه - وذلك بعد أن أُمر بالحجاب - فقال النبي (ص): احتجبن منه! قلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصر ولا يعرفنا؟ قال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟»(12) . ويقول اسحق الأعمى: «دخلت على عائشة، فاحتجبت مني، فقلت: تحتجبين مني ولست أراك؟ قالت: إن لم تكن تراني، فأنا أراك»(13) . - لكنها لم تفسّر لنا بالمقابل، كيف أرضت ضميرها برؤية كلّ هؤلاء المبصرين في حرب الجمل؟
تقول عائشة أيضاً: «كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة [والدة سودة زوجة النبي] منّي، فاقبضه! فلما كان عام الفتح، أخذه سعد... فقام عبد بن زمعة، فقال: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فتساوقا إلى النبي (ص)، فقال سعد: يا رسول الله! ابن أخي، كان قد عهد إليّ فيه. فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه! فقال رسول الله (ص): هو لك يا عبد بن زمعة؛ ثم قال النبي: الولد للفراش، وللعاهر الحجر! ثم قال لسودة بنت زمعة، زوج النبي (ص): احتجبي منه! لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله»(14) .
كيف نزلت آية الحجاب: تناقضات!
كما سبق وأشرنا، فإنّ عمر بن الخطاب، كان يقول للنبي: «أحجب نساءك! فلم يكن رسول الله (ص) ليفعل. فخرجت سودة بنت زمعة، زوج رسول الله (ص)، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة! حرصاً(!!!) على أن ينزل الله الحجاب... فأنزل الله الحجاب»(15) .
بالمقابل، ثمة رواية أخرى منقولة عن عائشة، تقول: «كنت آكل حيساً مع النبي (ص) في مقب، فمرّ عمر فدعاه فأكل، فأصابت اصبعه اصبعي، فقال: حس! أو: أوه! لو أطاع ما رأتكن عين! فنزل الحجاب»(16) . ويدعم ذلك ابن عبّاس، فيقول: «نزل حجاب نساء رسول الله (ص) في عمر: أكل مع النبي (ص) طعاماً، فأصابت يده بعض أيدي نساء النبي، فأمر بالحجاب»(17) .
هنالك رواية بطلاها عمر بن الخطاب وزينب بنت جحش هذه المرّة، تقول: «روي أنه مرّ [عمر بن الخطاب] عليهن [نساء النبي] وهن مع النساء في المسجد، فقال: لئن احتجبتن، فإن لكنّ على النساء فضلاً، كما أن لزوجكن على الرجال الفضلّ! فقالت زينب (رض): يا ابن الخطاب! إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا (كذا)! فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى نزلت»(18) .
رواية أخرى، أكثر عمومية، تقول: «إنّ عمر بن الخطاب كان يحب [كذا] ضرب الحجاب عليهن [نساء النبي] محبّة شديدة، وكان يذكره كثيراً، ويودّ أن ينزل فيه؛ وكان يقول: لو أطاع فيكنّ ما رأتكنّ عين! وقال: يا رسول الله، يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فنزلت»(19) .
مع ذلك، فإنّ حكاية زواج النبي من زينب بنت جحش وبعض الثقلاء الذين استمرّوا في جلوسهم طمعاً في الطعام، هي أكثر الحكايا تداولاً في التراث الإسلامي، كسبب لنزول آية الحجاب. يقول أنس: «لمّا أصبح رسول الله عروساً بزينب [بنت جحش]، دعا القوم، فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي منهم رهط عند النبي (ص)، فأطالوا عنده القعود. فقام رسول الله، فخرج، وخرجت معه، حتى جئنا عتبة حجرة عائشة. ثم ظن أنهم خرجوا، فرجع، ورجعت معه، حتى دخل بيت زينب. فإذا هم قعود. ثم ظنّ أنهم خرجوا، فرجع ورجعت معه؛ فإذا هم قد خرجوا. فضرب بيني وبينه ستراً، ونزل الحجاب... [وكان ذلك] سنة خمس [للهجرة]»(20) .
لكن نساء النبي لم يكن يحتجبن من العبيد والمكاتبين، رغم أن هؤلاء لم يكونوا فاقدين لقدراتهم الجنسية. يقول ابن سعد في طبقاته: «نساء النبي كن لا يحتجبن من المملوكين والمكاتبين، فإذا اعتقوا [كذا] احتجبن منهم»(21) . ونعرف أيضاً أن «عائشة (رض) أباحت النظر إليها لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت، فأنت حرّ»(22) .
بالمقابل، فقد كانت تحتجب من الحسن بن علي(23) ؛ ولما بلغ ابن عباس ذلك، قال: «إن رؤيته لها لحلّ»(24) .
إذن، نؤكد ثانية أن مسألة الحجاب في الإسلام، مسألة طبقية فحسب: أحرار وعبيد، زوجات وجوار. - هذا كله كان في قرن النبي، الذي قيل إنه كان أفضل القرون!!!.
من الذين أبيح لهم الدخول على نساء النبي: المخنثون. تخبرنا مصادر كثيرة أن مخنثاً يدعى هيث، «كان يدخل على أزواج النبي (ص)... وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي (ص) وهو عند بعض نسائه [-في نص ابن منظور(25) ، هي أم سلمة -]، وهو ينعت لها امرأة، فقال: إنها إذا أقبلت، أقبلت بأربع، وإذا أدبرت، أدبرت
بثمان! فقال النبي (ص): لا أرى هذا يعلم ما ها هنا، لا يدخل عليكنّ هذا! فحجبوه»(26) .
لكن يبدو أنّ الأمور اختلطت بعد حرب الجمل، وخروج عائشة على النصّ القرآني. يُذكر أنه «لمّا دخل ابن عباس بعد الجمل على عائشة، بغير إذنها، قالت: يا ابن عبّاس، أخطأت السنّة المأمور بها، دخلت علينا بغير إذننا... فقال لها: لو كنتِ في البيت الذي خلّفك فيه رسول الله (ص)، ما دخلنا إلا بإذنك»(27) .
عائشة... وتحقير النساء!
لقد ساهمت أحاديث عائشة في الإساءة إلى النساء(28) ، بكافة طبقاتهن. ولا يمكن فهم هذا الكم من الأحاديث المعادية للأنوثة المنسوبة للنبي عبر عائشة، إلا إذا دخلنا إلى عائشة من بابها النفسي. فرغم مشاعرها الأنثوية المشتعلة، كانت عائشة على ما يبدو، في نوع من التناقض الضدّي، تكره هذه الأنوثة وتحقد عليها لأنها كانت تقف حائلاً بينها وبين تحقيق مطامحها المادية - السلطوية. وربما أنّ الندم الذي أطاح بها، بعد أن خسرت معركة الجمل، انعكس في دواخلها رغبة عارمة في التشدّد على الأنوثة، لأنها في لاوعيها، على ما يبدو، كانت مسكونة بعقدة الدونية الأنثوية، التي تمتصها الأنثى في المجتمع الذكوري بطواعية مخيفة، والتي تتجلى في الاعتقاد بأن المرأة لا تضع يدها في شيء إلا أفسدته.
رغم أن تجاوزات عائشة في مراحل حياتها المختلفة ترجح على تجاوزات كلّ نساء جيلها وتزيد؛ نجدها تقول: «لو أدرك رسول الله (ص) ما أحدث النساء، لمنعهن المساجد، كما منع نساء بني إسرائيل»(29) ؛ وفي رواية أخرى، تقول: «بينما رسول الله (ص) جالس في المسجد، إذ دخلت امراة من مزينة، ترفل في زينة لها، في المسجد؛ فقال النبي (ص): يا أيها الناس، ارفعوا نساءكم من لبس الزينة والتبختر في المسجد، فإنّ بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبخترن في المساجد»(30) .
تنسب عائشة للنبي حديثاً آخر، مفاده: «لا خير في جماعة النساء إلا في مسجد أو جنازة»(31) - لا تذكر هنا ركوب الجمل ومحاربة الخليفة؛ لكنها قد تكون مشمولة بهذا الحديث على اعتبار أنها أخرجت أكبر كمّ من الجنازات في عصرها؟!
البنات، بحديث آخر تزعم عائشة أن النبي قاله، بلاء: «من ابتلي من البنات بشيء فأحسن حجتهن، كن له ستراً من النار»(32) .
تنسب عائشة للنبي حديثاً آخر، يحطّ من قيمة المرأة حتى الحضيض، يقول: «المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها، وهي يستمتع بها [كذا] على عوج فيها»(33) . لذلك، فهو يقول، كما تزعم: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أنّ رجلاً أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أحمر، لكان نولها أن تفعل»(34) .
تروي عائشة، أنه كان لها غلام وجارية، فأرادت أن تعتقهما، فذكرت ذلك للنبي، فقال لها: «ابدئي بالغلام قبل الجارية»(35) .
رغم خروجها على عثمان وعلي، حجّها دون إذن الخليفة، وحرب جملها الشهيرة، فهي تصرّ على أنّ النبي قال: «لا يصلح للمرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم لها»(36) . وتزعم أيضاً أنّه قال للنساء: «عليكن بالبيت فإنه جهادكن»(37) . وأخيراً فهي تورد حديثاً تنسبه للنبي، يتناقض بالكامل مع تصرفاتها، يقول: «أيّما امرأة مؤمنة (؟) وضعت خمارها على غير بيتها، هتكت الحجاب بينها وبين ربّها»(38) !
رضاع الكبير، والدجاجة التي أكلت... الآية؟!
امرأة من نمط عائشة، يستحيل عليها أن تجاهد في بيتها، وأن لا تهتك الحجاب بينها وبين ربّها. ومن هنا، جاءت أسطورة رضاع الكبير، مخرجاً ممتازاً، أتاح لها فرصة لقاء من تشاء، تحت مظلة شرع مطاطية.
تقول إحدى الروايات، شارحة أسطورة رضاع الكبير: «كانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات [بحيث يحرم عليها]؛ وبهذا قال الشافعي وأصحابه»(39) . و «كانت عائشة تفتي بهذه الفتيا. أخبرني سالم أنه دخل على أم كلثوم بنت أبي بكر لترضعه خمس رضعات، فأرضعته رضعتين أو ثلاثاً، فلم يدخل عليها. وأبى أزواج النبي (ص) أن يأخذن بها، وقلن: إنما هي رخصة من رسول الله (ص) لسهلة بنت سهيل»(40) . وسالم هذا هو «سالم بن عبد الله بن عمر»(41) .
يبدو أنّ سالماً هو محور كلّ هذه الأسطورة، فقبل أن تطلب عائشة إرضاعه من أم كلثوم كي يحرم عليها، كانت له أسطورة أخرى مع سهلة بنت سهيل في موقف مشابه؛ والسند، كالعادة، عائشة: «جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي (ص)، فقالت: يا رسول الله! إنّي أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، وهو حليفه! فقال النبي (ص): أرضعيه! قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسّم رسول الله (ص)، وقال: قد علمت أنه رجل! وزاد عمر في حديثه: وكان قد شهد بدراً. وفي رواية ابن أبي عمر: فضحك رسول الله (ص)»(42) .
وفي رواية أخرى، عن عائشة أيضاً: «أنّ سالماً، مولى أبي حذيفة، كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت، تعني، ابنة سهيل، النبي (ص)، فقالت: إنّ سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا، وإنّه ليدخل علينا، وإني أظن أنّ في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً! فقال لها النبي (ص): أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة. فرجعت، فقالت: إني قد أرضعته!!! فذهب الذي في نفس أبي حذيفة»(43) .
وفي رواية، تقول سهلة: «إنّ سالماً مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا، وقد بلغ ما يبلغ الرجال، وعلم ما يعلم الرجال. قال: أرضعيه!!! تحرمي عليه»(44) ؛ وفي نص آخر، يقال إن سهلة قالت للنبي: «إنه لذو لحية؟! فقال: أرضعيه!!! يذهب ما في وجه أبي حذيفة»(45) .
في رواية منقولة عن عائشة، نحظى بتفاصيل إضافية: «أتت سهلة بنت سهيل بن عمرو، وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة، رسول الله (ص)، فقالت: إنّ سالماً مولى أبي حذيفة يدخل علينا، وأنا فضل!!!، وإنّا كنا نراه ولداً، وكان أبو حذيفة تبناه، كما تبنّى رسول الله (ص) زيداً، فأنزل الله «ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله». فأمرها رسول الله (ص) عند ذلك أن ترضع سالماً، فأرضعته خمس رضعات، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. فبلغ ذلك عائشة، فكانت تأمر أخواتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبّت عائشة أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيراً!!! خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي (ص) أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس، حتى يرضع من المهد، وقلن لعائشة؛ والله ما ندري! لعلّها كانت رخصة من رسول الله (ص) لسالم ما دون الناس!»(46) . ويضيف نصّ آخر تفصيلاً هاماً، يقول: «إن عائشة زوج النبي (ص)، كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها»(47) . في رواية أخرى، نجد النبي يقول لسهلة: «فأرضعيه عشر رضعات ليدخل عليك كيف شاء، فإنما هو ابنك! فكانت عائشة تراه عامّاً للمسلمين، وكان من سواها من أزواج النبي (ص) يرى أنّها كانت خاصة لسالم مولى أبي حذيفة، والذي ذكرت سهلة في شأنه، رخصة له»(48) . وفي نصّ، يقال: «كانت رخصة لسالم»(49) . بالمقابل، تقول أم سلمة: «أبى سائر أزواج رسول الله (ص) أن يدخلن عليهن أحد بهذا الرضاع؛ وقلن: إنما هذا رخصة من رسول الله (ص) لسالم خاصة!!! وعائشة أخذت بذلك من بين أزواج النبي (ص)»(50) . وكانت أم سلمة تقول لها: «إنه ليدخل عليك الغلام الأيفع!!! الذي ما أحب أن يدخل عليّ! فعلمت عائشة: أما لكِ في رسول الله أسوة حسنة؟! قالت: إن امرأة أبي حذيفة، قالت: يا رسول الله، إنّ سالماً يدخل عليّ، وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء! فقال رسول الله (ص): أرضعيه حتى يدخل عليك»(51) .
هنا، لا بد أن نتساءل: هل يعقل أن تكشف امرأة عن نهدها لرجل بالغ غير محرم بالنسبة لها، في حين أنّ الإسلام يحرّم على المرأة كشف حتى شعرها على الرجل الغريب؟ وأي ذكر هذا الذي يمص نهد امرأة بالغة، في مجتمع مسكون بالجنس، دون أن تتحرك مشاعره أو يحرك مشاعرها؟.
من أكل الآية؟
لكن عائشة لا تكتفي بما تذكره من حديث نبوي لتبرير فعلتها في إدخال «الغلمان اليافعين عليها» عبر مصّهم لنهود أخواتها وبنات أخوتها، بل تجد للمسألة بعداً قرأنياً، فتزعم أنه «أنزل في القرآن [آية تقول] «عشر رضعات معلومات»، فنسخ من ذلك إلى خمس، وصار إلى خمس رضعات معلومات. فتوفي رسول الله (ص) والأمر على ذلك... وبهذا كانت عائشة تفتي وبعض أزواج النبي (ص)، وهو قول الشافعي واسحق. وقال أحمد بحديث النبي (ص): لا تحرم المصّة ولا المصتان؛ وقال: إن ذهب ذاهب إلى قول عائشة في خمس رضعات، فهو مذهب قوي؛ وجبن عنه أن يقول فيه شيئاً! وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي (ص) وغيرهم: يحرم قليل الرضاع وكثيره إذا وصل إلى الجوف! وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وعبد الله بن المبارك ووكيع وأهل الكوفة...»(52) .
تؤكد عائشة وجود هذه الآية في القرآن، فتقول: «كانت فيما أنزل الله عز وجل من القرآن: عشر رضعات يحرمن. ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن. فتوفي النبي (ص) وهن مما يقرأ من القرآن»(53) . - فأين ذهبت هذه الآية الهامة للغاية؟!
تقول عائشة: «لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله (ص) وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها»(54) . وفي نص آخر: «لقد أنزلت آية الرجم ورضعات الكبير عشراً، فكانت في ورقة تحت سريري في بيتي، فلمّا اشتكى رسول الله (ص)، تشاغلنا بأمره، ودخلت دويبة لنا، فأكلتها»(55) . من ناحية أخرى، يقول ابن حزم: «وهذا حديث صحيح، وليس على ما ظنوا، لأن آية الرجم إذا نزلت حفظت وعرفت وعمل بها رسول الله (ص)، إلا أنّه لم يكتبها نسّاخ القرآن في المصاحف، ولا أثبتوا لفظها في القرآن»(56) .
بالمقابل، فالزمخشري، الذي ينتمي إلى التيار المعتزلي العقلاني الذي انقرض في الإسلام - ربما لأنه عقلاني؟ - يرفض المسألة برمتها، فيقول: «أمّا ما يُحكى أنّ تلك الزيادة [في القرآن] كانت في صحيفة في بيت عائشة (رض) فأكلتها الدواجن، فمن تأليفات الملاحدة والروافض»(57) . لكن الهامش الذي يفسّر النص، يرفض مزاعم الزمخشري، إذ يقول: «بل راويها ثقة غير متهم. قال ابراهيم الحربي في الغريب: حدّثنا هارون بن عبد الله أن الرجم أُنزْل في سورة الأحزاب، مكتوباً في خوخة في بيت عائشة. فأكلتها شاتها. وروى أبو يعلى والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في المعرفة، كلّهم من طريق محمد بن اسحق بن عبد الله بن أبي بكر عن عائشة، وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، انتهى! وكأن المصنف منهم أنّ ثبوت هذه الزيادة يقتضي ما تدعيه الروافض: أنّ القرآن ذهب منه أشياء، وليس هذا بلازم، بل هذا مما نسخت تلاوته وبقي حكمه، وأكل الدواجن لها وقع بعد النسخ»(58) .
من ناحية أخرى، فعمر بن الخطاب(59) ، في روايات كثيرة، يدعم ما تقوله عائشة، حين يتحدّث عن وجود آية الرجم، التي أسقطت من القرآن، والتي يرى أبي بن كعب أنها كانت موجودة في سورة الأحزاب؛ فقد قال: «كم تعدّون سورة الأحزاب؛ قلت [زر]: ثلاثاً وسبعين آية! قال: فوالذي يحلف به أبي بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول. ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم»(60) .
لكن عائشة لم تكتف بادعاء سقوط آية الرضاع من القرآن فحسب، بل ادعت ايضاً أن بعض آياته تختلف في محتواها عن القرآن المتداول حالياً؛ يقول أبو يونس، مولى عائشة: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية، فآذني: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين»؛ فلما بلغتها، آذنتها، فأملت علي: «حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين»؛ قالت عائشة: سمعتها من رسول الله (ص)»
.
كانت عائشة عذراء، حين تزوجها النبي، والأمر طبيعي حتماً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار سنّها آنذاك. بالمقابل كانت كلّ نسائه الأخريات غير عذراوات حين تزوج بهن - باستثناء مارية القبطية التي لا نمتلك معلومات دقيقة حول بكارتها - وكان لبعضهن أكثر من تجربة. ورغم أنّ زواج رجل بامرأة عذراء مسألة أكثر من عادية، فقد كان ذلك شغل عائشة الشاغل: الشيء الأبرز (وربما الأوحد) التي استطاعت أن تتباهى به على غيرها من نساء النبي.
من هذا الإنشغال الهاجسي بالعذرية، ذلك النص الذي أورده الطبري في تاريخه(1)، والذي تقول فيه عائشة: «تزوجني بكراً: لم يشركه فيّ أحد من الناس، وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في فراش واحد»؛ وفي السمط الثمين(2) يروى عنها قولها: «إنني لأفخر على أزواج النبي (ص) بأربع: ابتكرني ولم يبتكر غيري...». وفي تفسير ابن كثير(3)، يقال: «لم ينزل على رسول الله (ص) الوحي في فراش امرأة سواها... قال بعض العلماء: لأنه لم يتزوج بكراً سواها، ولم ينم معها رجل في فراشها سواه». - لكننا لم نفهم سر العلاقة بين جبريل والعذرية!!!
كانت عائشة، كما لاحظنا في فصل أم سلمة، تشبه جسدها بمزرعة - أو حقل أو ما شابه -لم يؤكل منها، وأجساد نساء النبي الأخريات بمزارع رعيت، وتسأل النبي بعدها: أين كنت ترتع بعيرك؟: «قالت: يا رسول الله! أرأيت لو نزلت وادياً وفيه شجرة قد أُكل منها، ووجدت شجراً لم يؤكل منها، في أيها كنت ترتع بعيرك؟ قال: في الذي لم يرتع منها. تعني أن رسول الله (ص) لم يتزوج بكراً غيرها»(4). - لكن ما الذي تعنيه ببعير رسول الله؟
الميثولوجيا... والجنس!
لقد خصّ التراث الميثولوجي الإسلامي عائشة بنصيب وافر من أساطيره. والكثير من تلك الأساطير يدور حول محور مركزي: الجنس! تقول عائشة، على سبيل المثال: «لقد أعطيت تسعاً ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل (ع) بصورتي في راحته، حين أمر!!! رسول الله (ص) أن يتزوجني... وإنّ الوحي لينزل عليه في أهله، فيتفرقون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه... ولقد نزل عذري [ في مسألة الإفك، الجنسية الطابع] من السماء... لقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً»(5).- لاداع طبعاً للإشارة إلى تناقض الفقرة الأولى من التسع المعطاة لها مع روايات زواجها من النبي المشار إليها آنفاً.
لقد صوِّرت للنبي «قبل أن تصوّر في بطن أمها»(6). فجبريل، كما تروي هي ذاتها، «أتاه بصورتي مرتين قبل أن يملك عقدي»(7). ويؤكّد النبي لها: «أريتك في المنام
ثلاث ليال، جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك [أو]: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة... فأقول: إن يكن من عند الله، يمضه»(8).- تناقض آخر.
ورغم أنه في قصة التفاخر بين عائشة وزينب لم تتحدّث الأولى عن تزويج الله إياها حين تفاخرت الثانية بذلك، فبعض المراجع تدعي أنّ الله بذاته (كذا) هو الذي زوجه إياها(9). وينسب إلى النبي، قوله: «زوجني ربّي عائشة في السماء، وأشهد عقدها الملائكة، وأغلقت أبواب النيران، وفتحت أبواب الجنة أربعين مساء، مسّها مسّ الريح، وريحها ريح المسك»(10).- لاتعليق!!!
بعد الزواج الإلهي(11)، كان لعائشة حوادث كثيرة مع جبريل. فحين خاصمها النبي مرّة، جاءه جبريل، وقال له: «إرجع وصالح عائشة»(12) - قاله أيضاً حين طلق النبي حفصة -؛ ولمّا صالحها، عاد جبريل حاملاً صحن حلوى (كذا)، وقال: «الله يقول لك: كان الصلح منا، وطعام الصلح علينا»(13). كان جريل «يقريها السلام»(14). لكن بعد محنة الإفك الشهيرة، كفّ الله يد جبريل كي يخبر النبي ببراءتها مما اتهمت به زوراً، فالله بذاته هو الذي أخبره بذلك، لأن الشدّة منه، والفرج منه أيضاً(15).
من ناحية أخرى، فمن بين كلّ الصحابة والتابعين، لم نصادف أحداً تمكّن من رؤية جبريل سوى عائشة. فقد رأته «من خلل الباب قد عصّب رأسه الغبار»(16)؛ ورأته مرة أخرى «عند معرفة فرس دحية الكلبي، والنبي يضع يده عليه ويكلّمه»(17)؛ ورأته أيضاً بصورة «رجل واقف وعليه عمامة بيضاء بين كتفيه»(18).
تنسب الروايات إلى عمر بن الخطاب، قوله: «إنّ الله عصمها من وقع الذباب على جلدها، لأنه يقع على النجاسة»(19). - ومعروف أن عمر توفي قبل يوم الدار وحرب الجمل. وقيل إنّ رجلاً ذكرها بسوء، فجاءه النبي في المنام، فأومأ باصبعه إلى عينيه، فأعماه(20). - لكن المعروف أيضاً أنها انتُقِدَت كما لم يُنْتَقَد غيرها بعد دورها في الفتن التي عرفتها آخر سنوات العهد الراشدي، دون أن تكون هنالك أزمة عميان بين الجماعة الاسلامية الأولى!!
رغم كلّ شيء، فعائشة ضمنت مكانها في الجنة. فقد قال عمار بن ياسر لرجل نال منها أو شتمها بعد حرب الجمل، «إنها زوجته [النبي] في الدنيا والآخرة»(21)، أي: «في الجنة»(22). وتزعم عائشة ذاتها، أن النبي قال عنها: «يهون عليّ أني رأيت بياض كف عائشة في الجنة»(23). وتقول: إنها سألته مرة عن أزواجه في الجنة، فقال: «أنت منهن».
جنس أم شبق؟
كانت عائشة أقرب إلى الطفلة حين تعرّفت على الجنس للمرّة الأولى، على يد رجل أقرب إلى الكهولة، أمضى بدوره شبابه بجوار امرأة تكبره بخمسة عشر عاماً تقريباً، ولم يكن باستطاعته أن يتزوج عليها أو يطلّقها، لأنها كانت المسؤولة عنه وعن بيته مادّياً. تلك العجوز - كما وصفتها عائشة - الغنية، كما هو معروف، كانت أيضاً صاحبة تجارب سابقة. مع ذلك يبدو أنها رغم عظمتها الأخلاقية والعقائدية، فهي لم تكن كسائر أزواجه الأخريات على الصعيد الجنسي. ففي طبقات(24) ابن سعد، نجد حديثاً منسوباً للنبي، يقول: «كنت أقلّ الناس في الجماع، حتى أنزل الله عليّ الكفيت، فما أريده من ساعة إلا وجدته... [وكانت له] قوة أربعين رجلاً في الجماع». وإذا ما رفعنا العنصر الميثولوجي من الرواية السابقة، أي الكفيت، فتفسيرها السهل، يقول: كان الجماع بالنسبة للنبي عنصراً ثانوياً للغاية في إحدى المراحل، ثم في مرحلة أخرى، صار عنصراً في غاية الأهمية والمحورية. وربما تكون المرحلة الأولى هي الحقبة المكية، حين كان زوجاً لعجوز ترملت مرتين على الأقل: حقبة صراع وفقر وعذاب؛ والمرحلة الثانية هي الحقبة المدينية، حين صار رجل دين ودولة، غنياً، قادراً، لا يكاد يمر عام دون أن يكلّله بزوجة جديدة شابّة، ساحرة الجمال.
لقد دخلت عائشة، ابنة السنوات الثمان أو التسع، فراش هذا الرجل الذي له «قوة أربعين رجلاً في الجماع»: دخلت مبكرة جداً. لكن سرعان ما راحت نساء أخريات يزاحمنها ذاك الفراش. وراح حقدها الجنسي يجد قنوات مختلفة ينفّس عن ذاته عبرها. وهكذا نجدها تصرّح باستمرار بأن أحب نساء النبي إليها سودة(25)، لأنها أعطتها ليلتها. ونجد أيضاً أنّها أكثر نساء النبي عرضة للشائعات الجنسية الطابع، كقصتها مع صفوان ابن المعطل السلمي أو طلحة بن عبيد الله - هذا ما وصلنا على الأقل. بل إنّ عائشة هي الوحيدة بين كلّ نساء النبي، التي لم تتورع قط عن اتهام مارية القبطية، جارية الرسول، بعلاقة جنسية غير مشروعة - كما رأينا من قبل.هذا الانشغال الهاجسي بالجنس، الذي يلامس أحياناً تخوم الشبق، تعكسه تلك الأحاديث الكثيرة، المتناثرة في كتب التراث الإسلامي، المروية عنها، والتي لا هم لها سوى الجنس:
l مضاجعة الحائض:
عن مضاجعة النبي عائشة وهي حائض، توجد روايات كثيرة؛ من ذلك ما ذكره البخاري(26) في صحيحه، نقلاً عن عائشة: «كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، فأراد رسول الله (ص) أن يباشرها، أمرها أن تتزر في فور حيضها، ثم يباشرها! قالت: وأيكم يملك إربه كما كان النبي (ص) يملك إربه!».في رواية أخرى(27)، «سئلت عائشة: ما يحلّ للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت: ما فوق الإزار». وفي نص ثالث(28)، «قالت: كان النبي (ص) يباشرني وأنا حائض، ويدخل معي في لحافي وأنا حائض؛ ولكنه كان أملككم لإربه». قالت عائشة أيضاً: «حضت مع رسول الله (ص) على فراشه، فانسللت، فقال: أحضت؟ فقلت: نعم! قال: فشدّي عليك إزارك ثم عودي»(29). في المسألة ذاتها، قالت عائشة: «كان يأمرنا إذا حاضت إحدانا أن تتزر بإزار واسع، ثم يلتزم صدرها وثدييها»(30). وفي ردها على شخص، سألها: «ما يحلّ للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت: كلّ شيء إلا الجماع»(31). وفي نص غيره يسألها أحدهم: «ما للرجل من أهله وهي حائض؟! فقالت: كلّ شيء إلا فرجها»(32). وردت على ميمون ابن مهران، حين طرح عليها السؤال ذاته، بقولها: «ما فوق الإزار»(33). ويذكر السمط الثمين(34) أنها «كانت تنام مع رسول الله (ص) في لحاف واحد، وهي حائض». وفي رواية أخرى، نقل عنها قولها: «كانت إحدانا إذا حاضت، اتزرت ودخلت مع رسول الله (ص) في شعاره، دلّ ذلك على أنه إنما أراد الجماع»(35). وتخبرنا عائشة ذاتها بالحادثة التالية: «دخل [النبي]، فمضى إلى مسجده - قال أبو داود: تقصد مسجد بيتها - فما انصرف حتى غلبتني عيني، فأوجعه البرد، فقال: ادني مني! فقلت: إني حائض! قال: اكشفي عن فخذيك! فكشفت فخذي، فوضع خده وصدره على فخذي، وحنيت عليه حتى دفئ ونام»(36).
هنا، نتساءل: هل كانت العاطفة الجنسية عند النبي قوية إلى درجة أنه لم يكن يتمالك نفسه أمام امرأة حتى وإن كانت حائضاً؟
يمكننا تقديم رأيين بشأن هذه المسألة: إما أنّ النبي كان بالفعل مسكوناً بالجنس إلى درجة متطرّفة؛ وهذا ما تدعمه روايات كثيرة؛ من ذلك ما تقوله عائشة: «قلّ يوم إلا ورسول الله (ص) يطوف علينا، فيقبّل ويلمس»(37). وفي رواية أخرى، أنّ النبي «كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة في الليل والنهار، وهن إحدى عشرة؛ وفي رواية: تسع نسوة. قيل: أو كان يطيق ذلك؟ [قال الراوي]: كنّا نتحدّث أنّه أعطي قوة ثلاثين»(38).
وتتحدّث سلمى، مولاة النبي، فتقول: «طاف رسول الله (ص) على نسائه ليلاً، التسع اللواتي توفي عنهن وهن عنده، كلما خرج من عند امرأة، قال لسلمى: صبّي لي غسلاً! فيغتسل قبل أن يأتي الأخرى. فقلت: يا رسول الله، أما يكفيك غسل واحد؟! فقال النبي (ص): هذا أطيب وأطهر»(31)؛ أو أنّ كلام عائشة هذا لا صحة له، لأنه يناقض القرآن وتعاليمه، بل يناقض ما قالته عائشة ذاتها في مواضع أخرى. فتعاليم القرآن، تقول: «يسألونك عن المحيض؛ قل: هو أذى! فاعتزلوا النساء في المحيض، ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله» (2: 222). من ناحية أخرى، تقول عائشة ذاتها: «كنت إذا حضت نزلت عن المثال [الفراش] على الحصير، فلم نقرب رسول الله (ص) ولم ندن منه حتى نطهر»(40). وفي نص ابن كثير(41)، بالإشارة إلى النبي، يُضَاف: «فهو محمول على التنزه والاحتياط». وعند الدارمي(42)، تقول عائشة: «المستحاضة لا يأتيها زوجها».
يمكن أن نجد أحد أشكال التسوية بين الرأيين في رواية منسوبة لعائشة، يسألها فيها أحدهم - لا بد أن نلاحظ صيغة السؤال -: «أكان رسول الله يضاجعك وأنت حائض؟!»؛ فردّت: «نعم! إذا شددّت عليّ إزاري، ولم يكن لنا إذ ذاك غير فراش واحد، فلما رزقني الله - عزّ وجلّ - فراشاً آخر، اعتزلت رسول الله (ص)»(43).
مع ذلك، هنالك شيء من التناقض في زعم عائشة بأن النبي كان يضاجعها وهي حائض - أقلّه أنه كان بإمكانه تلبية رغبته الجنسية عبر نسائه الأخريات، اللواتي لا يعقل أن يحضن بشكل جماعي، تضامناً مع عائشة!!!
l مصّ اللسان الذي لا يفطّر ولا ينقض الوضوء:
مصُّ النبي لسان عائشة، وهو صائم وهي صائمة، مَعلَم جنسي آخر روّجت له عائشة حول علاقتها بالنبي. يورد أحمد في مسنده(44) عن عائشة، قولها: «كان رسول الله (ص) يقبّلها، وهو صائم، ويمصّ لسانها». وفي نصّ أبي داود(45): «كان رسول الله (ص) يقبّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه كان أملك لإربه».
كما أشرنا، يبدو أنّ النبي لم يكن وحده الصائم حين تقبيل عائشة. فهي تقول: «أراد رسول الله (ص) أن يقبّلني، فقلت: إني صائمة. فقال: وأنا صائم! ثم قبّلني»(46). وتقول أيضاً: «كان رسول الله (ص) ليظلّ صائماً، فيقبّل أين شاء من وجهي، حتى يفطر»(47)
من ناحية أخرى، يبدو أنّ قبلة عائشة لم تكن تنقض وضوء النبي. ذكر عروة عنها: «أنّ رسول الله (ص) قبّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ. فقلت [عروة]: ومن هي إلا أنتِ؟! فضحكت»(48). وذكر عنها قولها أيضاً: «كان النبي (ص) ينال مني القبلة بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء»(49)، أي، «يتوضأ، ثم يقبّل، ثم يصلّي»(50).
رغم صراحة عائشة، أم المؤمنين، وجرأتها في الحديث عن الجنس، فقد كان بعض من أولئك المؤمنين يتحرّج من حديث كهذا، معتبراً إياه أحد أنواع الرفث: «خرج علقمة وأصحابه حجاجاً، فذكر بعضهم الصائم: يقبّل ويباشر! فقام رجل منهم، قد قام سنتين وصامهما: هممت أن آخذ قوسي فأضربك بها، فكفّوا حتى تأتي عائشة، فسألوها عن ذلك، فقالت عائشة: كان رسول الله (ص) يقبّل ويباشر، وكان أملككم لإربه! قالوا: يا أبا شبل، سلها! قال: لا أرفث عندها اليوم! فسألوها، فقالت: كان يقبّل ويباشر وهو صائم»(51). وقالت عائشة، مرّة، لأخيها عبد الرحمن: «ما يمنعك أن تدنو من أهلك، فتقبّلها وتلاعبها؟ فقال: أقبّلها وأنا صائم! قالت: نعم»(52). وحين سئلت: «ما يجلّ للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: كلّ شيء إلا الجماع»(53).
l تفاصيل أخرى:
تفاصيل جنسية أخرى، توردها عائشة، تملأ صفحات كثيرة من كتب التراث الإسلامي. من ذلك، على سبيل المثال: حديثها عن واجب الاغتسال على الذي يجامع دون أن ينزل(54): «فعلناه مرة، فاغتسلنا! يعني: الذي يجامع ولا ينزل»(55). وعنها أيضاً: «قال رسول الله (ص): إذا قعد بين الشعب الأربع، ثم ألزق الختان بالختان، فقد وجب الغسل»(56)؛ وفي نص آخر: «إذ مسّ الختان الختان»(57)؛ وفي نص ثالث: «إذا التقى الختانان، فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله (ص)، فاغتسلنا»(58). لكن الأمر غير واضح: فنحن لا نعرف على وجه الدقة، هل يتوجب الغسل لمجرد مس الختان الختان، أو لا بد من تجاوز الختان الختان؟ فعائشة تقول: «إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل - فعلته أنا ورسول الله (ص)، فاغتسلنا»(59).
يبدو، كما أشرنا، أنه كان هنالك بين الجماعة الإسلامية الأولى من يتحرّج من
الحديث في مسائل كهذه. لكن عائشة، بجرأتها، كانت تزيل كلّ حرج. روى سعيد بن المسيب «أنّ أبا موسى، قال لعائشة: أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحي منك! فقالت: سل، ولا تستح، فأنا أمك! فسألها عن الرجل ، يغشى ولا ينزل، فقالت: عن النبي (ص)، إذا أصاب الختان الختان، فقد وجب الغسل»(60).
يبدو أيضاً أنّ هذه المسائل الهامة، كانت تشغل حيزاً كبيراً من تفكير الجماعة الإسلامية الأولى. ويبدو أيضاً، أنّ عائشة كانت المرجع الأول والأخير في مسائل من هذا النوع: «قال زهير: كنت عند عمر، فقيل له: إن زيد بن ثابت يفتي الناس في المسجد؛ قال زهير: في حديثه الناس برأيه، في الذي يجامع ولا ينزل. فقال: أعجل به! فأتي به، فقال: يا عدو نفسه! أوقد بلغت أن تفتي الناس في مسجد رسول الله (ص) برأيك؟! قال: ما فعلت، ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله (ص)! قال: أي عمومتك؟! قال: أبي بن كعب... قال: كنا نفعله فلا نغتسل... فجمع الناس (!!!!) واتفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء، إلا رجلين: عليّ بن أبي طالب ومعاذ بن جبل، قالا: إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل! فقال علي: يا أمير المؤمنين! إنّ أعلم الناس بهذا أزواج النبي (ص)! فأرسل إلى حفصة، فقالت: لا علم لي!!! فأرسل إلى عائشة، فقالت: إذا جاوز الختان الختان، وجب الغسل!!! فتحطم عمر! يعني تغيّظ! ثم قال: لا يبلغني أنّ أحداً فعله ولا يغسل إلا أنهكته عقوبة»(61).
الغسل من الجنابة وقضايا الإفرازات الجنسية، أمور أخذت أيضاً حيّزاً لا بأس به من تفكير عائشة. فهي تقول مثلاً: «كنت أغتسل أنا والنبي (ص) من إناء واحد، من جنابة»(62). إذن، كانت عائشة، حسب قولها، تغتسل من الجنابة، مع النبي، من إناء واحد - ولا ندري أهمية هذا الأمر حتى تناولته كتب التراث بتلك الكثافة. تقول رواية أخرى منقولة عنها: «كنت أغتسل، أنا ورسول الله (ص)، من إناء واحد، بيني وبينه، فيبادرني، حتى أقول: دع لي، دع لي! قالت: وهما جنبان»(63) . وكانت عائشة تغسل سائل النبي المنوي، وتتحدّث عن ذلك بشيء من الاهتمام: «كان همام بن الحارث عند عائشة (رض)، فأبصرته جارية لعائشة وهو يغسل أثر الجنابة من ثوبه أو يغسل ثوبه، فأخبرت عائشة، فقالت: لقد رأيتني وأنا أفركه من ثوب رسول الله (ص)»(64) . لكن همام بن الحارث ذاته، يحاول أن ينفي عن نفسه تهمة احتلامه عند عائشة، فيقول مقدّماً رواية أخرى: «نزل بعائشة ضيف، فأمرت له بملحفة، فاحتلم بها، فاستحيا أن يرسل بها وفيها أثر الاحتلام، فغمسها في الماء، ثم أرسل بها! فقالت عائشة: لمَ أفسدَ علينا ثوبنا؟ إنما كان يكفيه أن يفركه بإصبعه، ربما فركته من ثوب رسول الله (ص) بإصبعي»(65) . وفي المحلّى(66) ، نجدها تقول: «كنتُ أفركه [المني] من ثوب رسول الله». بالنسبة لإفرازات الحيض، تقول عائشة: «كُنت ورسول الله (ص) في الشعار الواحد، وأنا حائض طامث، فإن أصابه مني شيء، غسل مكانه لم يعده، وإن أصابه - يعني: ثوبه - شيء، غسل مكانه، لم يعد، وصلّى فيه»(67) .
l العسيلة:
«العسيلة» واحدة من أطرف الحكايا الجنسية في التراث الإسلامي وأكثرها إثارة للاستغراب! وكالعادة، فإن عائشة هي أشهر من يروي هذه الحكاية. - فما هي العسيلة؟.
باختصار شديد، وكما تنقل عائشة عن النبي، «العسيلة هي الجماع»(68). ومفادها أنّه إذا طلّق رجل زوجته ثلاث مرات - لا نعرف سرّ قدسية هذا الرقم - لا بد لهذه المرأة أن تتزوج رجلاً آخر، إذا ما أرادت العودة إلى زوجها الأصلي، شريطة أن يذوق هذا الأخير «عسيلتها» - أي: يضاجعها!! وفي صحيح مسلم(69)، ورد عن عائشة الحديث التالي: «جاءت امرأة رفاعة [أو: رفاعة القرظي(70)] إلى النبي (ص)، فقالت: كنت عند رفاعة، فطلّقني، فبتّ طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير: إن ما معه مثل هدبة الثوب [أو: إنما عنده مثل هدبتي(71)]! فتبسم رسول الله (ص)، فقال:أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؛ لا! حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»(72). ويضيف لسان العرب تفاصيل أخرى، حين يقول: « وقال النبي (ص) لامرأة رفاعة القرظي، وقد سألته عن زوج تزوجته لترجع به إلى زوجها الأول الذي طلقها، فلم ينتشر ذكره للإيلاج: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك! يعني جماعها لأن الجماع هو المستحلى من المرأة، شبّه لذة الجماع بذوق العسل »(73) .
l روايات العري المتناقضة:
رغم زعم عائشة أنّها كانت تغتسل والنبي «من إناء واحد من الجنابة»(74) ، إلا أنّها افتخرت باستمرار ربما بأنها «ما نظرت إلى فرج رسول الله قط»(75) . مع ذلك، تقول إنه «قام ليلة عرياناً، فما رأيت جسمه قبلها»(76) . وتضيف رواية أخرى، ترويها عائشة، تفاصيل أخرى: «قدم زيد بن حارثة المدينة، ورسول الله (ص) في بيتي، فأتاه، فقرع الباب، فقام إليه رسول الله (ص) عرياناً يجر ثوبه - والله ما رأيته عرياناً قبله ولا بعده - فاعتنقه وقبّله»(77) .- لا نعرف، طبعاً، ما إذا كان « اعتنقه وقبّله » ، وهو عار، حسب رواية أم المؤمنين، أم لا !!
حين قال النبي لعائشة: «إنّكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلاً. قالت عائشة: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة، إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك»(78) .
l إسكاتها لأبي هريرة في الأمور النسائية:
في إحدى المناسبات، قالت عائشة لأبي هريرة: «إنك لتحدّث عن النبي (ص) حديثاً ما سمعته منه؛ فقال أبو هريرة: يا أمة! طلبتها، وشغلك عنها المرآة والمكحلة، وما كان يشغلني عنها شيء»(79) . لكن أحمد يروي في مسنده(80) ، «أنّ رجلين دخلا على عائشة، فقالا: إنّ أبي هريرة يحدث، أنّ نبي الله (ص)، كان يقول: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار. فطارت شقة منها [عائشة] في السماء وشقة في الأرض، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم، ما هكذا كان يقول! ولكن نبي الله (ص)، كان يقول: كان أهل الجاهلية، يقولون: الطيرة في المرأة والدار والدابة! ثم قرأت عائشة: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب» إلى آخر الآية»(81) . وفي رواية أخرى(82) ، يقال: «إنه قد بلغ عائشة عن أبي هريرة، أنه قال: قال رسول الله (ص): يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب. فقالت عائشة: معنّفة مصحّحة: شبهتمونا بالحمير والكلاب! والله لقد رأيت رسول الله يصلّي، وأنا في السرير، بينه وبين القبلة، مضطجعة، فتبدو لي الحاجة، فأكره أن أجلس، فأؤذي رسول الله، فأنسلّ من عند رجليه».
وإذا كانت عائشة قادرة على تكذيب أبي هريرة - وقد كذّبه كثيرون غيرها - في مسائل نسائية عامة، فكم بالحري أن تسكّته - مرّة وإلى الأبد - في تلك الأمور الحميمة؟ ويروي أحمد في مسنده، أنّ أبا هريرة قال: «من أصبح جنباً فلا صوم له. فأرسل مروان أبا بكر بن عبد الرحمن إلى عائشة، يسألها، فقال لها: إنّ أبا هريرة، يقول: من أصبح جنباً فلا صوم له. فقالت عائشة: قد كان رسول الله (ص) يجنب، ثم يتمّ صومه. فأرسل إلى أبي هريرة، فأخبره أنّ عائشة قالت: إنّ رسول الله (ص) كان يجنب ثم يتمّ صومه! فكفّ أبو هريرة»(83) . لذلك، كان طبيعياً أن يجيب مسروق، حين سئل: «هل كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والذي لا إله غيره، لقد رأيت الأكابر من أصحاب محمد، يسألونها عن الفرائض»(84) .
l الغيرة... والجنس:
كانت الغيرة تسري في عائشة كالدم. ويبدو أنّ السبب الرئيس لتلك الغيرة هو الجنس. الجنس وحده. وكانت إذا غاب النبي عنها، تلاحقه، تتحسّس شعره وجسده لتتأكد من عدم رطوبته. يروى عنها، قولها: «فقدت رسول الله (ص)، فظننت أنه أتى بعض جواريه، فطلبته، فإذا هو ساجد، يقول: رب اغفر لي [أو]: فتحسّست، فإذا هو راكع»(85) . وفي رواية أخرى، قيل إن رسول الله «خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه! فجاء، فرأى ما صنعت، فقال: مالك يائسة؟ أغرت! فقلت: ومالي لا يغار مثلي على مثلك؟ قال رسول الله (ص): أفأخذك شيطانك؟!»(86) . وفي رواية ثالثة، تقول: «التمست رسول الله (ص)، فأدخلت يدي في شعره، فقال: قد جاءك شيطانك! فقلت: أما لك شيطان؟ فقال: بلى، ولكن الله أعانني عليه، فأسلم!»(87) .
رغم كلّ ما سبق، لم تنجب عائشة - ولا غيرها من قافلة النساء الجميلات الفتيات: باستثناء مارية - من النبي. ورغم ادعاء ابن كثير(88) «أنها أسقطت منه ولداً سمّاه رسول الله (ص): عبد الله! ولهذا كانت تكنّى بأم عبد الله»، فالأرجح أنها «كانت تكنى بعبد الله بن الزبير، ابن أختها»(89) .
هذه المرأة المتفجرة، حُرِّم عليها الزواج، إلهياً هذه المرة، بعد النبي - ولم تكن آنذاك قد تخطت الثامنة عشرة!!! فهل يمكن أن يساعدنا ذلك في فهم خلفية ثوراتها العنيفة المتلاحقة؟
سؤال غير مشروع!!!
عائشة... والإفك
كان حديث الإفك في السنة السادسة(1) للهجرة، في غزوة بني المصطلق(2). والقصّة أوردها بنوع من التفصيل، مسلم في صحيحه(3)، حيث قال، نقلاً عن عائشة: «كان رسول الله (ص) إذا أراد أن يخرج سفراً، أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها، خرج بها رسول الله (ص) معه... فأقرع بنا في غزوة غزاها(4)، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله (ص)، وذلك بعدما أنزل الحجاب. فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله (ص) من غزوه ودنونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت من شأني، أقبلت إلى الرحل، فلمست صدري، فإذا عقدي من جزع ظفار، قد انقطع، فرجعت، فالتمست عقدي، فحبسني ابتغاؤه. وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فحملوا هودجي، فرحّلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه.
كانت النساء إذ ذاك خفافاً (5)لم يهبلن ولم يغشهن اللحم؛ إنما يأكلهن العلقة من الطعام. فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحّلوه ورفعوه. وكنت جارية حديثة السن. فبعثوا الجمل وساروا. ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش. فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني، فيرجعون إلي. فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني، فنمت.
وكان صفوان بن المعطّل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني. وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليّ. فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي. ووالله ما يكلّمني كلمة، ولا سمعت منه كلمة، غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش، بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني(6) .
وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبي بن سلول. فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله (ص) اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي؛ إنما يدخل رسول الله (ص) يسلّم، ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يريبني، ولا أشعر بالشرّ! حتى خرجت بعدما نقهت، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو مبرزنا، ولا نخرج إلاّ ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا. وأمرنا أمر العرب الأول في التنزّه. وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمّها ابنة صخر بن عامر، خالة أبي بكر الصدّيق، وابنها مسطّح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب. فأقبلت أنا وبنت أبي رهم قِبَل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها، فقالت: تعس مسطح(7)! فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبّين رجلاً قد شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه! أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي.
فلما رجعت إلى بيتي، فدخل عليّ رسول الله (ص)، فسلّم، ثم قال: كيف تيكم؟ قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ - وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما - فأذن لي رسول الله (ص).
فجئت أبوي، فقلت لأمي: يا أمتاه! ما يتحدّث الناس؟ فقالت: يا بنية، هوّني عليك، فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، ولها ضرائر، إلا كثرن عليها. قلت: سبحان الله! وقد تحدّث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة، حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي.
ودعا رسول الله (ص) عليّ بن أبي طالب وأسامة بن زيد، حين استلبث الوحي، يستشيرهما في فراق أهله. فأما أسامة بن زيد، فأشار على رسول الله (ص) بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال: يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيراً. وأما عليّ بن أبي طالب، فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله (ص) بريرة، فقال: أي بريرة! هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، إن رأيت أمراً قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام على عجين أهلها، فتأتي الداجن(8)، فتأكله. فقام رسول الله (ص) على المنبر، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، فقال رسول الله (ص) وهو على المنبر: يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً! ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي(9)! فقام سعد بن أبي معاذ الأنصاري، فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من أخوتنا الخزرج(10)، أمرتنا ففعلنا أمرك! فقام سعد بن عبادة، وهو سيّد الخزرج - وكان رجلاً صالحاً ولكن اجتهلته الحمية(11) - فقال لسعد بن معاذ: كذبت! لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله(12)! وقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عبادة: كذبت! لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين! فثار الحيّـان الأوس والخزرج، حتى همّوا أن يقتتلوا. ورسول الله قائم على المنبر. فلم يزل رسول الله يخفضهم حتى سكتوا.
[وأخيراً... تدخّل الله]
وبكيتُ يومي ذلك، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم بكيت ليلتي المقبلة، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أنّ البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي، استأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي. فبينا نحن على ذلك، دخل علينا رسول الله (ص)، ثم جلس. ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل. وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء. فتشهد رسول الله (ص) حين جلس، ثم قال: أمّا بعد، يا عائشة، فإنّه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة، فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب(13)، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنّ العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب، تاب الله عليه. فلما قضى رسول الله (ص) مقالته، قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله (ص) فيما قال! فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله (ص)! فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله (ص)! فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله (ص)! فقلت؛ وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن: إني - والله - لقد عرفت أنكم سمعتم بهذا حتى استقرّ في نفوسكم وصدّقتم به؛ فإن قلت لكم: إني بريئة! لا تصدقون بذلك! وإن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني بريئة، لتصدقونني. وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال(14) أبو يوسف: «فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون».
ثم تحوّلت، فاضطجعت على فراشي، وأنا - والله - حينئذ أعلم أنّي بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي. ولكن - والله - ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يوحى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عزّ وجلّ فيّ بأمر يتلى. ولكني - والله - كنت أرجو أن يرى رسول الله (ص) رؤيا، يُبرئني الله بها. فوالله، ما رام رسول الله (ص) مجلسه،
ولا خرج من أهل بيته أحد، حتى أنزل الله عزّ وجلّ على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى أنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشتات من ثقل القول الذي أنزل عليه. فلما سري عن رسول الله (ص)، وهو يضحك، فكان أول كلمة تكلّم بها، أن قال: أبشري يا عائشة! أما الله فقد برّأك! فقالت لي أمي: قومي إليه؛ فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي(15).
فأنزل الله عزّ وجلّ «إنّ الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم»، عشر آيات(16). فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات(17)، براءتي. فقال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ؛ فأنزل الله عز وجل «ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى»، إلى قوله، «ألا تحبّون أن يغفر الله لكم» - قال حبان بن موسى: قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله - فقال أبو بكر: إنّي لأحب أن يغفر الله لي! فرجّع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبداً(18).
قالت عائشة: وكان رسول الله (ص) سأل زينب بنت جحش، زوج النبي (ص) عن أمري: ما علمتِ؟ أو: ما رأيتِ؟ فقالت: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً! قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي (ص)، فعصمها الله بالورع. وطفقت أختها حمنة بنت جحش، تحارب لها، فهلكت فيمن هلك(19)...
[الإفكيون]
كانت عائشة تكره أن يسبّ عندها حسان [بن ثابت، وهو أحد الذين ساهموا في نشر القصة]، وتقول: فإنه قال:
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
وزاد أيضاً...
قالت عائشة: والله إنّ الرجل الذي قيل له ما قيل، [أي: صفوان بن المعطل]، ليقول: سبحان الله! فوالذي نفسي بيده، ما كشفت عن كنف أنثى قط! ثم قتل بعد ذلك شهيداً، في سبيل الله!...
وكان الذي تكلموا به، مسطح وحمنة وحسان(20)، وأما المنافق عبد الله بن أبي، فهو الذي يستوشيه ويجمعه، وهو الذي تولى كبره، وحمنة(21)»(22).
ويضيف ابن هشام(23)، إنّ النبي «خرج إلى الناس، فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله عليه في القرآن من ذلك، ثم أمر بمسطح بن أثانة وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا حدّهم»(24).
لكن ألا يحق لنا أن نتساءل: ما هو سرّ تدخل الله الغريب هذا في تهمة تخصّ مراهقة لم تبلغ الخامسة عشر من العمر - تهمة عادية في ذلك الزمان - (وقد صوبتها عائشة بعد ذلك، كما لاحظنا، لمارية ذاتها، لكن الغريب أن النبي لم يضربها الحدّ) نظراً لنوعية العلاقات في المجتمع الإسلامي الأول؟ وهل مسألة الإفك التي يبذل التراثيون الإسلاميون أقصى جهدهم لإزالة كلّ ملابساتها عن عائشة، والتي لا تتعدّى كونها علاقة عابرة بين رجل وامرأة لم تؤذ أحداً، أكثر شناعة من يوم الدار وحرب الجمل حيث قتل ألوف المسلمين وتحطّم النظام الراشدي؟ ولماذا لم يتدخل الإله أيضاً لإزالة الشبهات عن عائشة في تلك الحوادث الرهيبة؟
ذيول إفكية
قال ابن عبّاس: «من أذنب ذنباً، ثم تاب منه، قبلت توبته: إلا من خاض في أمر عائشة! وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك».
وكان النبي يقول عن صفوان بن المعطّل: «إن صفوان خبيث اللسان، طيب القلب»(25). من ناحيته، كان حسّان، شاعر النبي، قد هجا(26) صفوان بقوله:
«أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا
وابن الفريعة أمسى بيضة البلد»(27)
تقول إحدى الروايات، «إنّ ثابت بن عيسى بن الشماس وثب على صفوان بن المعطّل، حين ضرب حسّان، فجمع يديه إلى عنقه بحبل، ثم انطلق به إلى دار بني الحارث ابن الخزرج، فلقيه عبد الله بن رواحة، فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك ضرب حسان بالسيف؟! والله ما أراه إلا قد قتله؛ قال له عبد الله بن رواحة: هل علم رسول الله (ص) بشيء مما صنعت؟ قال: لا والله! قال: لقد اجترأت، أطلق الرجل! فأطلقه. ثم أتوا رسول الله (ص)، فذكروا له ذلك، فدعا حسّان وصفوان بن المعطّل؛ فقال ابن المعطّل: يا رسول الله، آذاني وهجاني، فاحتملني الغضب، فضربته! فقال رسول الله (ص) لحسان: أحسن يا حسّأن، أتشوهت على قومي إذ هداهم الله للإسلام؟! ثم قال: أحسن يا حسان في الذي أصابك! قال: هي لك يا رسول الله»(28) .
ويذكر ابن كثير(29) : «ثم أنّ صفوان بن المعطّل اعترض حسّان بن ثابت بالسيف، حين بلغه ما كان يقول فيه، فضربه ثم قال(30) :
تلقَ ذباب السيف عني فإنني
غلام إذا هوجيت لست بشاعر
فذُكر ذلك لرسول الله (ص)، فدعا حسّان وصفوان بن المعطّل، فقال صفوان: هجاني يا رسول الله وآذاني، فضربته؛ فقال رسول الله (ص) لحسّان: أحسن يا حسّان. قال: هي لكَ يا رسول الله؛ فأعطاه رسول الله (ص) عوض عنها بيرحاء، وهي قصر بني حديلة(31) ؛ وأعطاه سيرين، أمة قبطية، وهي أخت مارية، أم ابراهيم ابن رسول الله، فولدت له عبد الرحمن»(32) .
وفي رواية من أسد الغابة(33) ، يقال: «إن رسول الله (ص) جلد الذين قالوا لعائشة ما قالوا، ثمانين جلدة: حسّان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش(34) . وكان حسّان ممن خاض في الإفك، فجُلد فيه في قول بعضهم: وأنكر قوم ذلك، وقالوا: إن عائشة كانت في الطواف ومعها أم حكيم بن خالد بن العاص، وأم حكيم بن عبد الله... فذكرتا حسّان، فسبّتاه، فقالت عائشة: إني لأرجو أن يدخله الله الجنّة بذبّه عن النبي (ص) بلسانه! أليس هو القائل:
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
وبرّأته من أن يكون افترى عليها. فقالتا: ألم يقل فيك؟ فقالت: لم يقل شيئاً؛ لكنه الذي يقول:
حسان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد قيل عني قلته
فلا رفعت سوطي إلى أناملي»
وفي نص ابن هشام(35) ، «أن امرأة مدحت حسان بن ثابت عند عائشة، فقالت:
حسان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الفوافل
فقالت عائشة: لكن أبوها».
شبق ابن المعطّل:
مقابل أسطورة بتولية ابن المعطّل التي روّجت لها عائشة، تذكر لنا مصادر إسلامية نصّاً معارضاً، يقدّم ابن المعطّل، كائناً مسكوناً بالشبق. يقول ابن منظور(36) ، على سبيل المثال: «جاءت امرأة إلى رسول الله (ص)، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي صفوان بن المعطّل... يفطرني إذا صمت... وصفوان عنده... فسأله عمّا قالت، فقال: يا رسول الله... أما قولها يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب فلا أصبر». ويكمل أبو داود(37) : «فقال رسول الله (ص): لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها».
إدخال الله في تفاخر النساء
كما أشرنا، فإن تدخّل الله في القضايا الشخصية لزوجات النبي، كان موضع تفاخر بينهن. يذكر ابن كثير في تفسيره(38) : «تفاخرت زينب وعائشة (رض)، فقالت زينب: أنا التي نزل تزويجي من السماء!!! وقالت عائشة: أنا التي نزل عذري في كتاب الله!!! حين حملني صفوان بن المعطّل على الراحلة! فقالت لها زينب: يا عائشة! ما قلت حين ركبتها؟ قالت، قلت: حسبي الله ونعم الوكيل!».
من ناحية أخرى، يبدو أنه كان يحق لعائشة تفاخر إضافي في حديث غير إفكي، لعب فيه ضياع العقد ، الذي كان سبب المشكلة في الحدث الإفكي ، والإله ، الذي حلّ المشكلة الإفكية ، الدورين الرئيسين. يذكر النسائي(39) عن عائشة، قولها: «خرجنا مع رسول الله (ص) في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو ذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله (ص) على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فأتى الناس أبا بكر (رض)، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله (ص) وبالناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر (رض) ورسول الله (ص) واضع رأسه على فخذي، قد نام، فقال: حبست رسول الله (ص) والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء... فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء أن يقول، وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فما منعني من التحرّك إلاّ مكان رسول الله (ص) على فخذي. فنام رسول الله (ص) حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم. فقال أسيد بن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته»(40) .
رواية أخرى، تقدّم تفاصيل إضافية، نجدها في المرجع ذاته(41) : تقول عائشة «إنّها استعارت من أسماء [أختها] قلادة، فهلكت، فأرسل النبي (ص) أناساً في طلبها، فأدركتهم الصلاة، فصلّوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي، شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم. فقال أسيد بن حضير: جزاكِ الله خيراً! فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله!!! لكِ مخرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة»(42) .
ذَكَر آخر: تدخّل إضافي لله
طلحة بن عبيد الله هو ابن عم لعائشة؛ وهو الذي حاولت إيصاله، بكلّ الطرق، إلى سدّة الخلافة، وحاربت لأجل ذلك، كما لاحظنا، عليّ بن أبي طالب، في حرب الجمل. يروى(43) «أن طلحة، لما نزلت آية الحجاب، قال بمحضر نقل عنه إلى رسول الله (ص): ما الذي يغنيه من حجابهن اليوم؟ فسيموت غداً، فننكحهن». وذكر الزمخشري في الكشاف(44) ، إنّ بعضهم قال بعد نزول آية الحجاب: «أنُنهى أن نكلّم بنات عمنا إلا من وراء حجاب؟! لئن مات محمد لأتزوجن عائشة... [وهو] طلحة، قال: لو قد مات محمد، لأتزوجن عائشة (رض). فأنزل الله تعالى:«وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله» [أحزاب 53]». ويفسّر ابن كثير(45) الآية السابقة، فيقول: «نزلت في رجل [يقول ابن سعد: «نزلت في طلحة بن عبيد الله لأنه قال: إذا توفي رسول الله تزوجت عائشة»]، همّ أن يتزوج بعض نساء النبي (ص) بعده؛ فقال رجل لسفيان: أهي عائشة؟ قال:ذكروا ذلك.. وذكروا بسنده عن السدي أنّ الذي عزم على ذلك طلحة(46) بن عبيد الله».
وتقول رواية أخرى(47) : «إنّ رجلاً أتى بعض أزوج النبي (ص)، فكلّمها وهو ابن عمها، فقال النبي له: لا تقومنّ هذا المقام بعد يومك هذا. فقال: يا رسول اللّه ! إنّها ابنة عمي، والله ما قلت منكراً ولا قالت لي. قال النبي (ص): قد عرفتَ أنه ليس أغير من الله، وليس أحد أغير مني. فمضى الرجل، ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمّي، والله لأتزوجنها من بعده. وسمّت الروايات الرجل وهو طلحة بن عبيد الله، وسمّت أم المؤمنين عائشة... وبلغ النبي (ص) أن رجلاً، يقول: لو قد توفي النبي (ص)، تزوجت فلانة بعده، فنزلت آية: «وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله». وقال ابن عباس: نزلت في رجل همّ أن يتزوج بعض نساء النبي (ص) بعده. وذكروا أنها عائشة؛ وأخرج عن السدي، قال: بلغنا أنّ طلحة بن عبيد الله، قال: أيحجبنا عن بنات عمّنا ويتزوج نساءنا! لئن حدث به ما حدث، لنتزوجّن نساءه بعده».
الحجاب، ورضاع الكبير، ومصحف عائشة
الحجاب، كمعظم القضايا الإسلامية، مسألة لا سبيل إلى استيعابها أو فهمها أو الإحاطة بكافة جوانبها. الحجاب، في الإسلام، هو التناقض بعينه: ولا يبدو أن هنالك مقاربة عقلانية لهذه القضية حتى الآن!
الحجاب، في مذاهب المسلمين الخمسة، ينطبق فقط على المرأة المسلمة «الحرّة»: على كلّ مسلمة «حرّة» أن تغطي سائر جسدها عدا الوجه والكفين. وتتشدّد بعض المذاهب في اعتبار أنه حتى الوجه والكفين «عورة» يفضّل تغطيتهم. بالمقابل، فإن حجاب المسلمة «الأمة»، هو بين السرّة والركبة. بل إنّ بعض المذاهب تجعل عورتها محصورة في فتحتي القبل والدبر. وتزداد المسألة تعقيداً، إذا ما عرفنا أن بعض المذاهب - راجع ابن عابدين في حاشيته(1)، مثلاً - تفرض الحجاب على الشاب المسلم الجميل. فكيف يمكن حلّ تناقضات الحجاب هذه؟
باختصار شديد، نقول: إن الإسلام، كدين ذكوري بلا منازع، يهمّه تلبية غريزتي التملّك والجنس عند الذكر إلى الدرجة القصوى - وغالباً ما يكون ذلك على حساب الأنثى. فالأنثى الملفعة بالسواد، الحرّة، التي لا تراها الشمس، هي التلبية المثلى لغريزة التملك عند الذكر؛ بالمقابل، فالجارية العارية، التي تنتقل من ذكر إلى ذكر، والتي تنحصر وظيفتها في إشباع أعمق رغبات الذكر الجنسية، هي التلبية المثلى لغريزة الجنس عند الذكر. المرأة في الإسلام أنثى، متاع، شيء - ولا شيء غير ذلك! لكن: ما هي ظروف فرض الحجاب؟ يقول القرطبي: « لما كانت عادة العربيات التبذل، وكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء، وكان ذلك داعية إلى نظر الرجال إليهن وتشعب الفكرة فيهن، أمر الله رسوله (ص) أن يأمرهن بارتداء الجلابيب عليهن إذا أردن الخروج إلى حوائجهن، وكن يتبرزن في الصحراء قبل أن تتخذ الكُنف، فيقع الفرق بينهن وبين الإماء... وكانت المرأة من نساء المؤمنين قبل نزول هذه الآية تتبرز للحاجة فيتعرض لها بعض الفجار يظن أنها أمة، فتصيح به فيذهب، فشكوا ذلك إلى النبي (ص)، فنزلت الآية »(2) .
إذاً، رغم الملائكية التي يطبع بها كتّاب هذا العصر من الإسلاميين مجتمع الجماعة الاسلامية الأولى، فالحقيقة مغايرة تماماً. يخبرنا ابن كثير في تفسيره(3) : «وكان ناس من فسّاق أهل المدينة يخرجون بالليل، حين يختلط الظلام، إلى طرق المدينة، فيعرضون للنساء. وكانت مساكن أهل المدينة ضيّقة، فإذا كان الليل، خرج النساء إلى الطرق يبتغين حاجتهن. فكان أولئك الفسّاق يبتغون ذلك منهن. فإذا رأوا المرأة عليها جلباب، قالوا: هذه حرّة! فكفّوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب؛ قالوا: هذه أمة! فوثبوا عليها». ويزداد الأمر سوءاً حين تعلمنا إحدى الروايات، أنه «كان نساء النبي (ص) يخرجن بالليل لحاجتهن؛ وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين، فشكوا ذلك، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنّما نفعله بالإماء! فنزلت هذه الآية»(4) - آية الحجاب (أحزاب 59). ويؤكد ذلك الطبري، حين يقول: « يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين لا يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يتعرض لهن فاسق، إذا علم أنهن حرائر، بأذى »(5) . وهكذا، لمّا «كانت الحرّة تخرج فتحسب أنّها أمة فتؤذى... أمرهن الله أن يخالفن زي الإماء، ويدنين عليهن من جلابيبهن، تخمّر وجهها إلا إحدى عينيها»(6) .
ويؤكد ذلك قتادة، بقوله: « كانت المملوكة إذا مرت تناولوها بالإيذاء، فنهى الله الحرائر أن يتشبهن بالإماء »(7) . ويضيف مجاهد: « يتجلببن فيُعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن فاسق بأذى من قول ولا ريبة »(8) .
يذكر الزمخشري في تفسيره للآية 59 من سورة الأحزاب: «إنّ النساء كنّ في أول الإسلام على هجيراهن في الجاهلية متبذلات، تبرز المرأة في درع وخمار، فصل بين الحرّة والأمة؛ وكان الفتيان وأهل الشطارة يتعرّضون إذا خرجن إلى مقاضي حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرّضوا للحرّة بعلّة الأمة؛ يقولون: حسبناها أمة! فأُمرن أن يخالفن بزيهن على زيّ الإماء، بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه، ليحتشمن فلا يطمع فيهن طامع؛ وذلك لقوله: «ذلك أدنى فلا يعرفن»؛ أي: أولى وأجدر بأن يعرفن، فلا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن»(9) .
وكان سفيان الثوري، يقول: «لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة؛ وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة، لا لحرمتهن. واستدلّ بقوله تعالى: «ونساء المؤمنين»؛ وقوله: «ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين» - أي، إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر»(10) .
وكان عمر بن الخطاب يطوف في طرقات المدينة، فإذا رأى أمة محجبة، ضربها بالدّرة حتى يسقط الحجاب عن رأسها، ويقول: فيم الإماء يتشبهن بالحرائر؟(11) .
حجاب نساء النبي:
يبدو أن حجاب نساء النبي كان يختلف عن حجاب سائر نساء المسلمين. والأرجح أنّه لم يكن يسمح لهن برؤية أحد، عدا النبي والمحارم. فعلى سبيل المثال، تخبرنا أم سلمة، أنها مُنعت حتى عن رؤية الأعمى، ابن أم مكتوم، الذي كان النبي يأمر النساء بأن تعتدّ عنده. تقول إنها كانت عند النبي، هي وميمونة، «فبينا نحن عنده، أقبل ابن مكتوم، فدخل عليه - وذلك بعد أن أُمر بالحجاب - فقال النبي (ص): احتجبن منه! قلنا: يا رسول الله، أليس هو أعمى لا يبصر ولا يعرفنا؟ قال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟»(12) . ويقول اسحق الأعمى: «دخلت على عائشة، فاحتجبت مني، فقلت: تحتجبين مني ولست أراك؟ قالت: إن لم تكن تراني، فأنا أراك»(13) . - لكنها لم تفسّر لنا بالمقابل، كيف أرضت ضميرها برؤية كلّ هؤلاء المبصرين في حرب الجمل؟
تقول عائشة أيضاً: «كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة زمعة [والدة سودة زوجة النبي] منّي، فاقبضه! فلما كان عام الفتح، أخذه سعد... فقام عبد بن زمعة، فقال: أخي، وابن وليدة أبي، ولد على فراشه. فتساوقا إلى النبي (ص)، فقال سعد: يا رسول الله! ابن أخي، كان قد عهد إليّ فيه. فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه! فقال رسول الله (ص): هو لك يا عبد بن زمعة؛ ثم قال النبي: الولد للفراش، وللعاهر الحجر! ثم قال لسودة بنت زمعة، زوج النبي (ص): احتجبي منه! لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله»(14) .
كيف نزلت آية الحجاب: تناقضات!
كما سبق وأشرنا، فإنّ عمر بن الخطاب، كان يقول للنبي: «أحجب نساءك! فلم يكن رسول الله (ص) ليفعل. فخرجت سودة بنت زمعة، زوج رسول الله (ص)، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة! حرصاً(!!!) على أن ينزل الله الحجاب... فأنزل الله الحجاب»(15) .
بالمقابل، ثمة رواية أخرى منقولة عن عائشة، تقول: «كنت آكل حيساً مع النبي (ص) في مقب، فمرّ عمر فدعاه فأكل، فأصابت اصبعه اصبعي، فقال: حس! أو: أوه! لو أطاع ما رأتكن عين! فنزل الحجاب»(16) . ويدعم ذلك ابن عبّاس، فيقول: «نزل حجاب نساء رسول الله (ص) في عمر: أكل مع النبي (ص) طعاماً، فأصابت يده بعض أيدي نساء النبي، فأمر بالحجاب»(17) .
هنالك رواية بطلاها عمر بن الخطاب وزينب بنت جحش هذه المرّة، تقول: «روي أنه مرّ [عمر بن الخطاب] عليهن [نساء النبي] وهن مع النساء في المسجد، فقال: لئن احتجبتن، فإن لكنّ على النساء فضلاً، كما أن لزوجكن على الرجال الفضلّ! فقالت زينب (رض): يا ابن الخطاب! إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا (كذا)! فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى نزلت»(18) .
رواية أخرى، أكثر عمومية، تقول: «إنّ عمر بن الخطاب كان يحب [كذا] ضرب الحجاب عليهن [نساء النبي] محبّة شديدة، وكان يذكره كثيراً، ويودّ أن ينزل فيه؛ وكان يقول: لو أطاع فيكنّ ما رأتكنّ عين! وقال: يا رسول الله، يدخل عليك البرّ والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب! فنزلت»(19) .
مع ذلك، فإنّ حكاية زواج النبي من زينب بنت جحش وبعض الثقلاء الذين استمرّوا في جلوسهم طمعاً في الطعام، هي أكثر الحكايا تداولاً في التراث الإسلامي، كسبب لنزول آية الحجاب. يقول أنس: «لمّا أصبح رسول الله عروساً بزينب [بنت جحش]، دعا القوم، فأصابوا من الطعام ثم خرجوا، وبقي منهم رهط عند النبي (ص)، فأطالوا عنده القعود. فقام رسول الله، فخرج، وخرجت معه، حتى جئنا عتبة حجرة عائشة. ثم ظن أنهم خرجوا، فرجع، ورجعت معه، حتى دخل بيت زينب. فإذا هم قعود. ثم ظنّ أنهم خرجوا، فرجع ورجعت معه؛ فإذا هم قد خرجوا. فضرب بيني وبينه ستراً، ونزل الحجاب... [وكان ذلك] سنة خمس [للهجرة]»(20) .
لكن نساء النبي لم يكن يحتجبن من العبيد والمكاتبين، رغم أن هؤلاء لم يكونوا فاقدين لقدراتهم الجنسية. يقول ابن سعد في طبقاته: «نساء النبي كن لا يحتجبن من المملوكين والمكاتبين، فإذا اعتقوا [كذا] احتجبن منهم»(21) . ونعرف أيضاً أن «عائشة (رض) أباحت النظر إليها لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت، فأنت حرّ»(22) .
بالمقابل، فقد كانت تحتجب من الحسن بن علي(23) ؛ ولما بلغ ابن عباس ذلك، قال: «إن رؤيته لها لحلّ»(24) .
إذن، نؤكد ثانية أن مسألة الحجاب في الإسلام، مسألة طبقية فحسب: أحرار وعبيد، زوجات وجوار. - هذا كله كان في قرن النبي، الذي قيل إنه كان أفضل القرون!!!.
من الذين أبيح لهم الدخول على نساء النبي: المخنثون. تخبرنا مصادر كثيرة أن مخنثاً يدعى هيث، «كان يدخل على أزواج النبي (ص)... وكانوا يعدّونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي (ص) وهو عند بعض نسائه [-في نص ابن منظور(25) ، هي أم سلمة -]، وهو ينعت لها امرأة، فقال: إنها إذا أقبلت، أقبلت بأربع، وإذا أدبرت، أدبرت
بثمان! فقال النبي (ص): لا أرى هذا يعلم ما ها هنا، لا يدخل عليكنّ هذا! فحجبوه»(26) .
لكن يبدو أنّ الأمور اختلطت بعد حرب الجمل، وخروج عائشة على النصّ القرآني. يُذكر أنه «لمّا دخل ابن عباس بعد الجمل على عائشة، بغير إذنها، قالت: يا ابن عبّاس، أخطأت السنّة المأمور بها، دخلت علينا بغير إذننا... فقال لها: لو كنتِ في البيت الذي خلّفك فيه رسول الله (ص)، ما دخلنا إلا بإذنك»(27) .
عائشة... وتحقير النساء!
لقد ساهمت أحاديث عائشة في الإساءة إلى النساء(28) ، بكافة طبقاتهن. ولا يمكن فهم هذا الكم من الأحاديث المعادية للأنوثة المنسوبة للنبي عبر عائشة، إلا إذا دخلنا إلى عائشة من بابها النفسي. فرغم مشاعرها الأنثوية المشتعلة، كانت عائشة على ما يبدو، في نوع من التناقض الضدّي، تكره هذه الأنوثة وتحقد عليها لأنها كانت تقف حائلاً بينها وبين تحقيق مطامحها المادية - السلطوية. وربما أنّ الندم الذي أطاح بها، بعد أن خسرت معركة الجمل، انعكس في دواخلها رغبة عارمة في التشدّد على الأنوثة، لأنها في لاوعيها، على ما يبدو، كانت مسكونة بعقدة الدونية الأنثوية، التي تمتصها الأنثى في المجتمع الذكوري بطواعية مخيفة، والتي تتجلى في الاعتقاد بأن المرأة لا تضع يدها في شيء إلا أفسدته.
رغم أن تجاوزات عائشة في مراحل حياتها المختلفة ترجح على تجاوزات كلّ نساء جيلها وتزيد؛ نجدها تقول: «لو أدرك رسول الله (ص) ما أحدث النساء، لمنعهن المساجد، كما منع نساء بني إسرائيل»(29) ؛ وفي رواية أخرى، تقول: «بينما رسول الله (ص) جالس في المسجد، إذ دخلت امراة من مزينة، ترفل في زينة لها، في المسجد؛ فقال النبي (ص): يا أيها الناس، ارفعوا نساءكم من لبس الزينة والتبختر في المسجد، فإنّ بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبخترن في المساجد»(30) .
تنسب عائشة للنبي حديثاً آخر، مفاده: «لا خير في جماعة النساء إلا في مسجد أو جنازة»(31) - لا تذكر هنا ركوب الجمل ومحاربة الخليفة؛ لكنها قد تكون مشمولة بهذا الحديث على اعتبار أنها أخرجت أكبر كمّ من الجنازات في عصرها؟!
البنات، بحديث آخر تزعم عائشة أن النبي قاله، بلاء: «من ابتلي من البنات بشيء فأحسن حجتهن، كن له ستراً من النار»(32) .
تنسب عائشة للنبي حديثاً آخر، يحطّ من قيمة المرأة حتى الحضيض، يقول: «المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتها، وهي يستمتع بها [كذا] على عوج فيها»(33) . لذلك، فهو يقول، كما تزعم: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، ولو أنّ رجلاً أمر امرأته أن تنقل من جبل أحمر إلى جبل أسود، ومن جبل أسود إلى جبل أحمر، لكان نولها أن تفعل»(34) .
تروي عائشة، أنه كان لها غلام وجارية، فأرادت أن تعتقهما، فذكرت ذلك للنبي، فقال لها: «ابدئي بالغلام قبل الجارية»(35) .
رغم خروجها على عثمان وعلي، حجّها دون إذن الخليفة، وحرب جملها الشهيرة، فهي تصرّ على أنّ النبي قال: «لا يصلح للمرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم لها»(36) . وتزعم أيضاً أنّه قال للنساء: «عليكن بالبيت فإنه جهادكن»(37) . وأخيراً فهي تورد حديثاً تنسبه للنبي، يتناقض بالكامل مع تصرفاتها، يقول: «أيّما امرأة مؤمنة (؟) وضعت خمارها على غير بيتها، هتكت الحجاب بينها وبين ربّها»(38) !
رضاع الكبير، والدجاجة التي أكلت... الآية؟!
امرأة من نمط عائشة، يستحيل عليها أن تجاهد في بيتها، وأن لا تهتك الحجاب بينها وبين ربّها. ومن هنا، جاءت أسطورة رضاع الكبير، مخرجاً ممتازاً، أتاح لها فرصة لقاء من تشاء، تحت مظلة شرع مطاطية.
تقول إحدى الروايات، شارحة أسطورة رضاع الكبير: «كانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات [بحيث يحرم عليها]؛ وبهذا قال الشافعي وأصحابه»(39) . و «كانت عائشة تفتي بهذه الفتيا. أخبرني سالم أنه دخل على أم كلثوم بنت أبي بكر لترضعه خمس رضعات، فأرضعته رضعتين أو ثلاثاً، فلم يدخل عليها. وأبى أزواج النبي (ص) أن يأخذن بها، وقلن: إنما هي رخصة من رسول الله (ص) لسهلة بنت سهيل»(40) . وسالم هذا هو «سالم بن عبد الله بن عمر»(41) .
يبدو أنّ سالماً هو محور كلّ هذه الأسطورة، فقبل أن تطلب عائشة إرضاعه من أم كلثوم كي يحرم عليها، كانت له أسطورة أخرى مع سهلة بنت سهيل في موقف مشابه؛ والسند، كالعادة، عائشة: «جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي (ص)، فقالت: يا رسول الله! إنّي أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم، وهو حليفه! فقال النبي (ص): أرضعيه! قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسّم رسول الله (ص)، وقال: قد علمت أنه رجل! وزاد عمر في حديثه: وكان قد شهد بدراً. وفي رواية ابن أبي عمر: فضحك رسول الله (ص)»(42) .
وفي رواية أخرى، عن عائشة أيضاً: «أنّ سالماً، مولى أبي حذيفة، كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت، تعني، ابنة سهيل، النبي (ص)، فقالت: إنّ سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا، وإنّه ليدخل علينا، وإني أظن أنّ في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً! فقال لها النبي (ص): أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة. فرجعت، فقالت: إني قد أرضعته!!! فذهب الذي في نفس أبي حذيفة»(43) .
وفي رواية، تقول سهلة: «إنّ سالماً مولى أبي حذيفة معنا في بيتنا، وقد بلغ ما يبلغ الرجال، وعلم ما يعلم الرجال. قال: أرضعيه!!! تحرمي عليه»(44) ؛ وفي نص آخر، يقال إن سهلة قالت للنبي: «إنه لذو لحية؟! فقال: أرضعيه!!! يذهب ما في وجه أبي حذيفة»(45) .
في رواية منقولة عن عائشة، نحظى بتفاصيل إضافية: «أتت سهلة بنت سهيل بن عمرو، وكانت تحت أبي حذيفة بن عتبة، رسول الله (ص)، فقالت: إنّ سالماً مولى أبي حذيفة يدخل علينا، وأنا فضل!!!، وإنّا كنا نراه ولداً، وكان أبو حذيفة تبناه، كما تبنّى رسول الله (ص) زيداً، فأنزل الله «ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله». فأمرها رسول الله (ص) عند ذلك أن ترضع سالماً، فأرضعته خمس رضعات، وكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. فبلغ ذلك عائشة، فكانت تأمر أخواتها وبنات أخواتها أن يرضعن من أحبّت عائشة أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيراً!!! خمس رضعات، ثم يدخل عليها، وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبي (ص) أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس، حتى يرضع من المهد، وقلن لعائشة؛ والله ما ندري! لعلّها كانت رخصة من رسول الله (ص) لسالم ما دون الناس!»(46) . ويضيف نصّ آخر تفصيلاً هاماً، يقول: «إن عائشة زوج النبي (ص)، كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها»(47) . في رواية أخرى، نجد النبي يقول لسهلة: «فأرضعيه عشر رضعات ليدخل عليك كيف شاء، فإنما هو ابنك! فكانت عائشة تراه عامّاً للمسلمين، وكان من سواها من أزواج النبي (ص) يرى أنّها كانت خاصة لسالم مولى أبي حذيفة، والذي ذكرت سهلة في شأنه، رخصة له»(48) . وفي نصّ، يقال: «كانت رخصة لسالم»(49) . بالمقابل، تقول أم سلمة: «أبى سائر أزواج رسول الله (ص) أن يدخلن عليهن أحد بهذا الرضاع؛ وقلن: إنما هذا رخصة من رسول الله (ص) لسالم خاصة!!! وعائشة أخذت بذلك من بين أزواج النبي (ص)»(50) . وكانت أم سلمة تقول لها: «إنه ليدخل عليك الغلام الأيفع!!! الذي ما أحب أن يدخل عليّ! فعلمت عائشة: أما لكِ في رسول الله أسوة حسنة؟! قالت: إن امرأة أبي حذيفة، قالت: يا رسول الله، إنّ سالماً يدخل عليّ، وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء! فقال رسول الله (ص): أرضعيه حتى يدخل عليك»(51) .
هنا، لا بد أن نتساءل: هل يعقل أن تكشف امرأة عن نهدها لرجل بالغ غير محرم بالنسبة لها، في حين أنّ الإسلام يحرّم على المرأة كشف حتى شعرها على الرجل الغريب؟ وأي ذكر هذا الذي يمص نهد امرأة بالغة، في مجتمع مسكون بالجنس، دون أن تتحرك مشاعره أو يحرك مشاعرها؟.
من أكل الآية؟
لكن عائشة لا تكتفي بما تذكره من حديث نبوي لتبرير فعلتها في إدخال «الغلمان اليافعين عليها» عبر مصّهم لنهود أخواتها وبنات أخوتها، بل تجد للمسألة بعداً قرأنياً، فتزعم أنه «أنزل في القرآن [آية تقول] «عشر رضعات معلومات»، فنسخ من ذلك إلى خمس، وصار إلى خمس رضعات معلومات. فتوفي رسول الله (ص) والأمر على ذلك... وبهذا كانت عائشة تفتي وبعض أزواج النبي (ص)، وهو قول الشافعي واسحق. وقال أحمد بحديث النبي (ص): لا تحرم المصّة ولا المصتان؛ وقال: إن ذهب ذاهب إلى قول عائشة في خمس رضعات، فهو مذهب قوي؛ وجبن عنه أن يقول فيه شيئاً! وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي (ص) وغيرهم: يحرم قليل الرضاع وكثيره إذا وصل إلى الجوف! وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي وعبد الله بن المبارك ووكيع وأهل الكوفة...»(52) .
تؤكد عائشة وجود هذه الآية في القرآن، فتقول: «كانت فيما أنزل الله عز وجل من القرآن: عشر رضعات يحرمن. ثم نسخن بخمس معلومات يحرمن. فتوفي النبي (ص) وهن مما يقرأ من القرآن»(53) . - فأين ذهبت هذه الآية الهامة للغاية؟!
تقول عائشة: «لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري، فلما مات رسول الله (ص) وتشاغلنا بموته، دخل داجن فأكلها»(54) . وفي نص آخر: «لقد أنزلت آية الرجم ورضعات الكبير عشراً، فكانت في ورقة تحت سريري في بيتي، فلمّا اشتكى رسول الله (ص)، تشاغلنا بأمره، ودخلت دويبة لنا، فأكلتها»(55) . من ناحية أخرى، يقول ابن حزم: «وهذا حديث صحيح، وليس على ما ظنوا، لأن آية الرجم إذا نزلت حفظت وعرفت وعمل بها رسول الله (ص)، إلا أنّه لم يكتبها نسّاخ القرآن في المصاحف، ولا أثبتوا لفظها في القرآن»(56) .
بالمقابل، فالزمخشري، الذي ينتمي إلى التيار المعتزلي العقلاني الذي انقرض في الإسلام - ربما لأنه عقلاني؟ - يرفض المسألة برمتها، فيقول: «أمّا ما يُحكى أنّ تلك الزيادة [في القرآن] كانت في صحيفة في بيت عائشة (رض) فأكلتها الدواجن، فمن تأليفات الملاحدة والروافض»(57) . لكن الهامش الذي يفسّر النص، يرفض مزاعم الزمخشري، إذ يقول: «بل راويها ثقة غير متهم. قال ابراهيم الحربي في الغريب: حدّثنا هارون بن عبد الله أن الرجم أُنزْل في سورة الأحزاب، مكتوباً في خوخة في بيت عائشة. فأكلتها شاتها. وروى أبو يعلى والدارقطني والبزار والطبراني في الأوسط والبيهقي في المعرفة، كلّهم من طريق محمد بن اسحق بن عبد الله بن أبي بكر عن عائشة، وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة، انتهى! وكأن المصنف منهم أنّ ثبوت هذه الزيادة يقتضي ما تدعيه الروافض: أنّ القرآن ذهب منه أشياء، وليس هذا بلازم، بل هذا مما نسخت تلاوته وبقي حكمه، وأكل الدواجن لها وقع بعد النسخ»(58) .
من ناحية أخرى، فعمر بن الخطاب(59) ، في روايات كثيرة، يدعم ما تقوله عائشة، حين يتحدّث عن وجود آية الرجم، التي أسقطت من القرآن، والتي يرى أبي بن كعب أنها كانت موجودة في سورة الأحزاب؛ فقد قال: «كم تعدّون سورة الأحزاب؛ قلت [زر]: ثلاثاً وسبعين آية! قال: فوالذي يحلف به أبي بن كعب، إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول. ولقد قرأنا منها آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم»(60) .
لكن عائشة لم تكتف بادعاء سقوط آية الرضاع من القرآن فحسب، بل ادعت ايضاً أن بعض آياته تختلف في محتواها عن القرآن المتداول حالياً؛ يقول أبو يونس، مولى عائشة: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية، فآذني: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين»؛ فلما بلغتها، آذنتها، فأملت علي: «حافظوا على الصلوات والصلاة والوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين»؛ قالت عائشة: سمعتها من رسول الله (ص)»
.