نقوس المهدي
كاتب
هناك, في المنسيِّ من التلال,
في قرى الشمال,
سماءٌ لا يُخفي باطنها خبراً
و لا يذكر الرُّوات متن حكاياتهم,
هناك, الفجر لا يستيقض من سباته
إلاَّ مع أولى نيران النسوة,
و السُّنونوُّ يتبعهنَّ
لكي لا ينسى الأغنيات.
هناك, صبيَّةٌ تتزيَّن
بخيطان الأمنيات,
و تحمل دلو الماء الكبير,
لتمُرَّ أمام مقهى رواَّده من الشيوخ
الآبقين عن الزمن,
و الشباب العاطلين عن العمل,
تتثنَّى على حاجبي حبيبها
و تمضي وراء الشَّجر...
هناك, وراء الشَّجر,
قبلاتٌ تتخفَّى عن الخبر
و نهار يُخاصم مساءً
و القصد أن يحميهما من عيني القدر.
هناك, القصيد حياء
و الشعر إذا راوده البيان أدبر,
يوم العاشقين يمتدُّ أكثر...
هناك, في قرى الشمال,
في المنسيِّ من التلال,
هنالك حبّ.
*****
هناك, في خماَّرة المدينة,
لازال يلتقي بكرسيِّه,
و الذكريات,
و صحبٍ غادروا مجلسه قبل عقدين من الزَّمن.
كل شيء كما كان :
ضوضاء الحانة,
عراك السَّكارى,
و الشيخ إمام في باطنه لازال يعزف ذات اللَّحنِ.
يجسُّ لحيته بأنامله,
يحسُّ حرَّ الخمر يسري في مفاصله,
ينفث دخان الحنين... يدفعه بعيداً, هناك.
هناك, في صدره, شيءٌ ما
يأبى الإنعتاق.
هناك, و هناك فقط, لازال المشهد
كما كان يوم الفراق.
لازالت إمرأةٌ تفاوضه في
شؤون الحياة :
عليه أن يحيا,
و عليه أن يقتل الذكرى..
و عليه ما عليه من إعياء و إخفاء و كبرياء..
و وفاء.. لغدٍ إحترف خيانة الأمنيات.
هناك, في قلبه, شيءٌ ما يأبى الحياة
و يأبى الممات...
هناك, وراء باب النسيان
و بين ما تلبَّد من الدخان,
هنالك غوغاء و ضوضاء,
و فقراء,
و من أجهضوا ساعة حلُمٍ.. ربما كانوا شعراء..
هناك, في حانةٍ قديمة,
هنالك حب.
*****
هناك, بين المتشابك من الحيطان
الرماديَّة,
و بين قِطع الظلام المرميَّة,
المساء كما هو, في الأحياء الشعبيَّة :
آخر الخارجين من المقهى يعلمون علم اليقين
أنهم إليه, غداً, عائدون.
الشيوخ يتمُّون صلاتهم
و يُلقون أبصارهم على أولادهم سلاماَ,
و أولادهم يلقونهم
بما تصنَّعوا من ورعٍ و تقوى...
هناك, الله لم يمُت تماماَ.
هناك, بين الأزقَّة, الليل يمشي ثقيلاَ,
و الظُّلمةُ تجثم كمن تُخفي في صدرها قتيلاَ.
البيوت تسحب نورها,
و لا ضوء إلاَّ ما أشعل القمر فتيلاَ.
هناك, في أقاصي الزقاق
فوق سطحٍ مُندَّى
فتًى يسترق البصر إلى نافذة الجوار
تلتقي عيناه بعيناها
و يقتلهما ما لم يفقها من الحوار...
هل الشوق إثمٌ,
إن لم يتَّخذ في مساكن الأغنياء قرار ؟
أم الرغبات, إن لم تستلقِ على أسرَّةٍ
من حرير, سمَّوها عار ؟
هي, تسحب ثوبها اللَّيلي عن حرفَي كتفَيها.
هو, يلعق النَّدى, و ينفث لهاثه بين ثدييها.
هناك, بين المتشابك من الحيطان
الرَّماديَّة,
و بين قِطع الظلام المرميَّة,
هناك, أنا, و أنا من هناك.
هناك, ظلٌّ ينحني من الشُّباَّك
و شوقٌ يمتدُّ إلى الهلاك.
هنالك حب.
*****
ثَمِلةٌ بالعشقِ, هيَ, كما كلَّ ليلة...
أخرجت إسمه من شؤون ثدييها
لا لتقرأه,
بل لتستنشقه من رائحة الأبجديَّة.
خبَّئت إسمه, أسندته, هناك, إلى ثدييها
لا لتعتقه,
بل لتسرقه من لائحة على جدار الأبجديَّة.
هناك, في دفأ ثدييها,
هنالك حب...
حبٌّ مُتحرِّرٌ من رائحة العطر الأنثوي
و من فُتات التِّبغ الذكوريّ
في جيوب الذاكرة.
حبٌّ, كالإثم, لا شُعوريّ,
يسعى بين الإعتياديّ و الأسطورة...
هيَ, كلَّما أضاعت أناملها في تفاصيل جسمها
تجلَّى لها وشماً و صورة :
هوَ, وحده لا شريك له, ماهيتها
خالق كينونتها,
تمام أنوثتها...
نزعت وشاحها عن رأسها
تذكَّرت غزلاً قديماً بين شَعرها و يداه,
كانت تغُضُّ طرفاً عن رائحة دخانه,
حتَّى لا تُنغِّص عليه هذيانه.
كان يرصد في باطنها رؤيةً
واقعيَّة,
لا تجريدٌ و لا صورة,
و يقول : سنكون هناك,
كلَّما أسند رأسه إلى قلبها.
و يقول : هناك, سأُغيِّر الرَّسم الإلاهيّ, قليلاً :
لكِ غرفةُ نومٍ تنفتحُ إلى شُرفة
فالعصافير, في القصص القديم,
تتَّخذ من الإنشاد الصباحيِّ حرفة..
لنا في جوف البيت باحة
نستبيح فيها أحاديثاً صيفيَّة
و نُتيح للوقتِ وقتاً للراَّحة..
و لي, فخركِ بي.
هكذا كان يرسم فتًى على قلب أمِّه,
قبل أن يأخذوه إلى هناك,
إلى الزنزانة.
هناك, في الزنزانة, هنالك نفس
الرَّسم, على الجدار.
و هناك, في الزنزانة,
هنالك حب
_______________________________________________
... إهداء : إلى مناضلي الإتحاد العام لطلبة تونس الذين يتعرَّضون للإعتقالات
و إلى كل مساجين الرأي في العالم
في قرى الشمال,
سماءٌ لا يُخفي باطنها خبراً
و لا يذكر الرُّوات متن حكاياتهم,
هناك, الفجر لا يستيقض من سباته
إلاَّ مع أولى نيران النسوة,
و السُّنونوُّ يتبعهنَّ
لكي لا ينسى الأغنيات.
هناك, صبيَّةٌ تتزيَّن
بخيطان الأمنيات,
و تحمل دلو الماء الكبير,
لتمُرَّ أمام مقهى رواَّده من الشيوخ
الآبقين عن الزمن,
و الشباب العاطلين عن العمل,
تتثنَّى على حاجبي حبيبها
و تمضي وراء الشَّجر...
هناك, وراء الشَّجر,
قبلاتٌ تتخفَّى عن الخبر
و نهار يُخاصم مساءً
و القصد أن يحميهما من عيني القدر.
هناك, القصيد حياء
و الشعر إذا راوده البيان أدبر,
يوم العاشقين يمتدُّ أكثر...
هناك, في قرى الشمال,
في المنسيِّ من التلال,
هنالك حبّ.
*****
هناك, في خماَّرة المدينة,
لازال يلتقي بكرسيِّه,
و الذكريات,
و صحبٍ غادروا مجلسه قبل عقدين من الزَّمن.
كل شيء كما كان :
ضوضاء الحانة,
عراك السَّكارى,
و الشيخ إمام في باطنه لازال يعزف ذات اللَّحنِ.
يجسُّ لحيته بأنامله,
يحسُّ حرَّ الخمر يسري في مفاصله,
ينفث دخان الحنين... يدفعه بعيداً, هناك.
هناك, في صدره, شيءٌ ما
يأبى الإنعتاق.
هناك, و هناك فقط, لازال المشهد
كما كان يوم الفراق.
لازالت إمرأةٌ تفاوضه في
شؤون الحياة :
عليه أن يحيا,
و عليه أن يقتل الذكرى..
و عليه ما عليه من إعياء و إخفاء و كبرياء..
و وفاء.. لغدٍ إحترف خيانة الأمنيات.
هناك, في قلبه, شيءٌ ما يأبى الحياة
و يأبى الممات...
هناك, وراء باب النسيان
و بين ما تلبَّد من الدخان,
هنالك غوغاء و ضوضاء,
و فقراء,
و من أجهضوا ساعة حلُمٍ.. ربما كانوا شعراء..
هناك, في حانةٍ قديمة,
هنالك حب.
*****
هناك, بين المتشابك من الحيطان
الرماديَّة,
و بين قِطع الظلام المرميَّة,
المساء كما هو, في الأحياء الشعبيَّة :
آخر الخارجين من المقهى يعلمون علم اليقين
أنهم إليه, غداً, عائدون.
الشيوخ يتمُّون صلاتهم
و يُلقون أبصارهم على أولادهم سلاماَ,
و أولادهم يلقونهم
بما تصنَّعوا من ورعٍ و تقوى...
هناك, الله لم يمُت تماماَ.
هناك, بين الأزقَّة, الليل يمشي ثقيلاَ,
و الظُّلمةُ تجثم كمن تُخفي في صدرها قتيلاَ.
البيوت تسحب نورها,
و لا ضوء إلاَّ ما أشعل القمر فتيلاَ.
هناك, في أقاصي الزقاق
فوق سطحٍ مُندَّى
فتًى يسترق البصر إلى نافذة الجوار
تلتقي عيناه بعيناها
و يقتلهما ما لم يفقها من الحوار...
هل الشوق إثمٌ,
إن لم يتَّخذ في مساكن الأغنياء قرار ؟
أم الرغبات, إن لم تستلقِ على أسرَّةٍ
من حرير, سمَّوها عار ؟
هي, تسحب ثوبها اللَّيلي عن حرفَي كتفَيها.
هو, يلعق النَّدى, و ينفث لهاثه بين ثدييها.
هناك, بين المتشابك من الحيطان
الرَّماديَّة,
و بين قِطع الظلام المرميَّة,
هناك, أنا, و أنا من هناك.
هناك, ظلٌّ ينحني من الشُّباَّك
و شوقٌ يمتدُّ إلى الهلاك.
هنالك حب.
*****
ثَمِلةٌ بالعشقِ, هيَ, كما كلَّ ليلة...
أخرجت إسمه من شؤون ثدييها
لا لتقرأه,
بل لتستنشقه من رائحة الأبجديَّة.
خبَّئت إسمه, أسندته, هناك, إلى ثدييها
لا لتعتقه,
بل لتسرقه من لائحة على جدار الأبجديَّة.
هناك, في دفأ ثدييها,
هنالك حب...
حبٌّ مُتحرِّرٌ من رائحة العطر الأنثوي
و من فُتات التِّبغ الذكوريّ
في جيوب الذاكرة.
حبٌّ, كالإثم, لا شُعوريّ,
يسعى بين الإعتياديّ و الأسطورة...
هيَ, كلَّما أضاعت أناملها في تفاصيل جسمها
تجلَّى لها وشماً و صورة :
هوَ, وحده لا شريك له, ماهيتها
خالق كينونتها,
تمام أنوثتها...
نزعت وشاحها عن رأسها
تذكَّرت غزلاً قديماً بين شَعرها و يداه,
كانت تغُضُّ طرفاً عن رائحة دخانه,
حتَّى لا تُنغِّص عليه هذيانه.
كان يرصد في باطنها رؤيةً
واقعيَّة,
لا تجريدٌ و لا صورة,
و يقول : سنكون هناك,
كلَّما أسند رأسه إلى قلبها.
و يقول : هناك, سأُغيِّر الرَّسم الإلاهيّ, قليلاً :
لكِ غرفةُ نومٍ تنفتحُ إلى شُرفة
فالعصافير, في القصص القديم,
تتَّخذ من الإنشاد الصباحيِّ حرفة..
لنا في جوف البيت باحة
نستبيح فيها أحاديثاً صيفيَّة
و نُتيح للوقتِ وقتاً للراَّحة..
و لي, فخركِ بي.
هكذا كان يرسم فتًى على قلب أمِّه,
قبل أن يأخذوه إلى هناك,
إلى الزنزانة.
هناك, في الزنزانة, هنالك نفس
الرَّسم, على الجدار.
و هناك, في الزنزانة,
هنالك حب
_______________________________________________
... إهداء : إلى مناضلي الإتحاد العام لطلبة تونس الذين يتعرَّضون للإعتقالات
و إلى كل مساجين الرأي في العالم