عبدالمجيد عبدالحميد - الحُب عند ابن حزم الأندلسي وابن داود الأصفهاني

هل اقتُبِسَ «طوق الحمامة» من كتاب «الزهرة»؟
تضم خزانة الكتب العربية العديد من المصنفات الرائعة في شتى صنوف الآداب والمثاقفة والمعارف والعلوم والفنون. ولعلّ سِفر الأدب العربي حافل بمؤلفات وافرة اشتملت على فنون متعددة من البلاغة والبيان والبديع وفنّ القول الجميل. ومن الكتب العربية التي بلغت اهتمامات المحققين والباحثين ومحبي التراث، كتاب “طوق الحمامة في الأُلفة والألاف” لابن حزم الأندلسي.

ومُصنّف الكتاب ابن حزم الأندلسي فقيه ومؤرخ، وصاحب مدرسة في الفقه الظاهري، الذي جدده وأعاد تأسيسه على “الدليل” و”البرهان” فكان لذلك مُنظراً من طراز فريد. كما كان شاعراً متفرداً، يمتاز شعره بجودة التعبير، وحسن التصوير، وإشراقة التركيب، وقد أشاد به كل دارسيه سواء في عصره، أو في العصور اللاحقة، وتأثر بأفكاره الكثيرون من الفقهاء والمؤرخين والأدباء، وحتى رجالات السياسة.

ولعلّ شهرة ابن حزم تتجلى في كتابه ذائع الصيت “طوق الحمامة في الأُلفة والألاف” منذ أن عرف به المستشرق الهولندي “دوزي” في كتابه عن “تاريخ مسلمي إسبانية” سنة 1861م. إذ تلقفه المستشرقون بالتحقيق والدرس، باعتبار موضوعه جديداً في بابه. فقد عكف المستشرق الروسي “بتروف” على تحقيقه ونشره بمساعدة الروسي مؤرخ الأدب الجغرافي العربي “كراتشكوفسكي”، وصدر الكتاب عن جامعة بطرسبورج سنة 1941م، وأثنى عليه المستشرقون الألمان أمثال “بروكلمان، وجولدتسيهر”، كما لاحظ المستشرق الفرنسي “ليون برشيه” انطواء تحقيق “بتروف” على أخطاء كثيرة، فأعاد تحقيقه ليصدر سنة 1949م، ولكن تحقيق د. الطاهر احمد مكي قد صححت أخطاء سابقيه بإضافة الكثير من الحواشي الضافية والمفيدة ليصدر “طوق الحمامة في الأُلفة والألاف” في عدة طبعات آخرها طبعة سنة 1985م.

وابن داود الأصفهاني مؤلف كتاب “الزهرة” هو أبو بكر محمد بن داود الظاهري، مؤسس المذهب الظاهري التي اعتنقه ابن حزم الأندلسي، لغوي، واشتهر بفنّ المُناظرة، وكان شاعراً حيث برع فيه والذي استعان به في دعم آرائه في الحُب ناسباً شعره إلى غيره من الشعراء، إذ كان حريصاً على عدم ذيوعه وانتشاره، برغم عفته، وله مُصنفات في معارف متنوعة كالفقه والحديث وعلم الاختلاف، بما يشي بموسوعية ثقافية. أما “الزهرة” لابن داود، فهو أول عمل تراثي يعرض للحب والعشق، على خلاف ما ذكره ابن حزم الذي أدّعى الريادة دون استحقاق كما يشير محمود إسماعيل!

ويجيء كتاب د. محمود إسماعيل الموسوم بـ”الحُب عند ابن حزم الأندلسي وابن داود الأصفهاني، هل اقتبس الأول من الثاني؟” فمن خلال قراءة المؤلف محمود إسماعيل لكتابي “طوق الحمامة في الأُلفة والألاف” لابن حزم الأندلسي، و”الزهرة” لابن داود الأصفهاني، فقد بانت له مفاجأة لاحظها بعد قراءة الكتابين، فكانت السبب الذي بموجبه قد شرع في تصنيف هذا الكتاب، فوقف المؤلف على حقيقة نقل ابن حزم لكل أفكار الأصفهاني، وهو ما ثبته في ثنايا كتابه الصادر عن رؤية للنشر والتوزيع في القاهرة. حيث كما كشفت الدراسة الموازنة عن ظاهرة اقتباس الخَلَف من كتب السَلَف الذي يدخل في إطار “السرقات العلمية” بالمفهوم الحديث، وقد سبق للمؤلف محمود إسماعيل إثبات تلك الحقيقة في كتابه “نهاية أسطورة” الذي كشف عن سطوِّ “ابن خلدون” على أفكار جماعة “إخوان الصفا”، وها هو يثبت مرّة أخرى نفس الحقيقة حيث نسبَ “ابن حزم الأندلسي” معظم أفكار ابن داود الأصفهاني التي بسطها في كتابه “الزهرة”، وقد صنفها ابن حزم في كتابه المعروف “طوق الحمامة” دون أدنى إشارة إلى مصدره!

طوق الحمامة والزهرة

ألف ابن حزم الأندلسي كتابه “طوق الحمامة في الأُلفة والألاف” بطلب وتكليف من صديقه “عبيدالله بن عبدالرحمن بن الخليفة الناصر”، بينما ألف ابن داود كتاب “الزهرة” تعبيراً عن هواه بفتى يدعى محمد بن جامع الصيدلاني الذي في حبه وولههِ عفيفاً طاهراً بشهادة المؤرخين الثقاة ومنهم الصفدي في الوافي بالوفيات. ولكن مؤلف الكتاب يؤكد أن مباحث كتاب ابن حزم الأندلسي كلها متضمنة ومنقولة عن كتاب الأصفهاني، مع تعديل واختصار في تصنيف الأبواب، وتعديل العناوين، بل إنّ الأندلسي اتبع نفس منهج الأصفهاني في طرح الفكرة ودعمها بالاستشهاد الشعري، ومأثورات الحكماء، وإن كان كل من الأندلسي والأصفهاني قد اتخذ أمثلته من وقائع عصره.

مقارنة بين النصيّن

تضمن كتاب “الحُب عند ابن حزم الأندلسي وابن داود الأصفهاني، هل اقتبس الأول من الثاني”، على مقدمة، وثلاثة مباحث، تناول الأول: ابن حزم الأندلسي وكتابه “طوق الحمامة”، والمبحث الثاني: ابن داود الأصفهاني وكتابه “الزهرة”، ثم جاء المبحث الثالث للكتاب بعنوان: بين كتاب “الزهرة” وكتاب “طوق الحمامة” مقارنة بين النصيّن، ثم خاتمة الكتاب.

وقد أشار محمود إسماعيل في بداية المبحث الثالث بأنه: سيستعرض في إثبات النصوص ومقابلتها لأفكار ابن داود مرتبة حسب تصنيفه أولاً، ثم نتبع بعرض تلك الأفكار كما أوردها ابن حزم ثانياً؛ بهدف البرهنة على نقل الثاني من الأول... كما تبين له من خلال قراءته ومقارنته بين نصيّ الكتابين إلى اختلاف الصياغة بين الاثنين لغوياً، لكن المعاني هي هي، ثم استشهد بنصوص من كلا المؤلفين، حيث نقل نص من ابن حزم الأندلس ونص من ابن داود الأصفهاني ثم يعلق عليه لتبيان مصداقية النقل والاقتباس، ثم يقارن في المبحث الثالث بين نصيّ الكتابين في الصفحات 37 ـ 65 عن الاقتباس بين مؤلفي الكتابين.

من أول نظرة

أول ما أورده عن إمكانية وقوع الحُبّ “من أول نظرة”؛ يقول ابن داود: “ربّ حرب جنيت من لفظة، وربّ عشق غرس من لحظة”. ويقول ابن حزم: “...وكثيراً ما يكون الحبّ من نظرة واحدة”.

وعن أنواع الحُبّ وضروبه؛ يقول ابن داود: “يكون الحُبّ على ثلاثة أضرُب؛ إما لاتفاق الأرواح؛ فلا يجد المرء بُداً من ان يحبّ صاحبه، وأما للمنفعة، وإما لحزن وفرح”. ويمثل لذلك يقول الشاعر:

ثلاثــة أحباب فحـب علاقــة = وحبّ تملاّق، وحبّ وهو القتل

واستشهد مؤلف الكتاب بنصّ ابن حزم في المعنى نفسه: “...ومحبة الطمع في جاهِ المحبوب، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوتر، ومحبة العشق التي لاعلة لها إلاّ ما ذكرنا من اتصال النفوس”. ويدلل على ذلك بحديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن “الأرواح المُجندّة”.

الندم لمفارقة المحبوب

ثم ذكر نصاً عن الندم لمفارقة المحبوب، فيقول ابن داود فيه: “من لم يلحق بالحمول بكى على الطلول... فإذا كان صحو المفارق لأحبابه من التخنف الذي ذكرناه بقلبه داعياً له قبل هواه، ندم على مقامه بعد مضي أحبابه، أو على اجترائه على السفر وأحبته مقيمون في الحضر؛ فاستقبح صنيعه، وتلاقى تصنيعه”، و”... ومَن فقد صاحبه يحتاج أن يرى ما يشوقه بذكره”. وفي ذلك يقول ابن حزم: “... ولا بُد للمُحبّ إذا حرم الوصل من القنوع بما يجد، وغن في ذلك لمتعللاً للنَفس وشُغلاً للرجا... ومِن القنوع أن يسرّ الإنسان ويرضى ببعض آلات محبوبه... وإن محبا داني الديار يرى أن التنائي قد فدحه، فيكترث ويؤجل...”.



- عن الاتحاد
 
أعلى