نقوس المهدي
كاتب
للشعر في طوق الحمامة حديث طريف يثير كثيراً من التأمل ويفتح القول في أبواب من النقد.(1)
وليس ذلك بالغريب، فطوق الحمامة كتاب في الحب، وهل يكتمل الحديث عن الحب الاّ بالشعر؟ ومن هنا يلاحظ أنّ الغزل والعاطفة او الحديث عن المرأة علي وجه الاجمال كان وثيق العلاقة بالشعر منذ نشأته الأولي.
ولعلّ السبب في ذلك أنّ الشعر صورة من صور النفس الذاتية، التي ترتبط بخلجات النفس وخطرات العاطفة، فكان لابد له - وهو الصادر عن الوجدان الشاعري - أنْ ينصبّ في جانب كبير منه، منذ نشأته، علي المرأة، التي هي محور كلّ عاطفة ومناط كل شعور ذاتي.
ولكن ابن حزم في طوق الحمامة يقتصر من الشعر علي نتاجه هو، ويجعل من شعره وسيلة يستدلّ بها علي ما يريد ويصوّر ما يروق له، وهي ظاهرة تسترعي النظر وتتطلب - بداية - البحث عن أسبابها ودلالاتها.(2)
فما الذي دعا ابن حزم الي ذلك؟
أهو إعجابه بنفسه وفتنته، بمقدرته الشعرية، ورغبته في أن يُذيع شعره ويشتهر؟
أم هو قصر باعه في رواية الشعر وعجزه عن اختيار ما يصلح لرسالته هذه من أشعار السابقين؟
أم هو منهجه المتحرّر الضائق بالتجارب السابقة، الحريص علي الاعتماد علي النفس والنظر الي الحقائق من خلال منظاره الخاص حتي يفي بما شرط علي نفسه في هذا الكتاب من عدم إنضاء راحلة سواه والتحلّي بحلي مستعار؟ يقول:
«والتزمتُ في كتابي هذا الوقوف عند حدّك، والإقتصار علي ما رأيتُ أو صحّ عندي بنقل النقاب، ودعني من أخبار الأعراب والمتقدّمين، فسبيلهم غيرُ سبيلنا، وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أنْ أنضِيَ مطيّة سواي ولا أتحلي بحلي مستعار، واللّه المستغفر والمستعان لاربّ غيره».(3)
هذه هي الأسئلة التي ترد علي الخاطر عند التأمّل في خطة إبن حزم في إيراد الشعر في كتابه «طوق الحمامة».
فأيّ خاطر منها نستطيع قبوله، وأيّ خاطر منها يستحقّ الرّفض ولا يثبت أمام النظر؟
لا نستطيع أن نرفض منها إلا الخاطر الثاني وهو أن يكون الباعث لإبن حزم علي ايراد اشعاره قصر باعه في رواية الشعر أو عجزه عن الاختيار من أشعار السابقين، ويدلّنا علي ذلك :
1 - أنّ منهج التعليم في تلك العصور، كان يقوم أساساً علي حفظ كتاب اللّه الكريم، ثمّ رواية الشعر، وابن حزم نفسه يخبرنا في رسالته هذه أنّ منهج تعليمه في صغره كان يشمل رواية الشعر في قوله: وهنّ عَلمنِنَي القرآن، وروَّينني كثيراً من الأشعار.(4)
2 - أنّ الكتب السابقة التي عالجت موضوع العشق - وكانت أمامه يمكنه أنْ يأخذ منها ويختارَ - قد اشتملت علي تراث ضخم من الأشعار الجاهلية والاسلامية في أمر العزام والغزل، ويكفينا في ذلك كتاب الزهرة لمحمّد بن داود الظاهري، وقد قرأ إبن حزم كتابه ونقل عنه قليلاً وتأثر ببعض آرائه ورفض بعضها، كما أنّ هذا الكتاب يشتمل علي خمسة آلاف بيت من الشعر كلها في موضوع العشق وأحواله وما يعرض فيه لشعراء من شتي العصور.
إذن لا يبقي أمامنا إلاّ الخاطران الآخران، فهما اللذان يصلحان في تعليل منهج ابن حزم في إيراد أشعاره في هذا الكتاب.
أمّا جانب الإعجاب بالنفس والإفتنان بالقدرة الفنّية في الشعر، والرغبة في الإشتهار بقول الشعر وذيوعه، فإنه يبدو واضحاً في كثير من لفتات ابن حزم ونقداته.(5)
وحسبنا في ذلك أول وهلة مادرج عليه إبن حزم في تقديمه لِكُلِّ مقطوعة من مقطوعاته أو بيت مفرد من أبياته فهو يحرص علي نسبتها الي نفسه ولو تكرَّرَ ذلك الموضع عدة مرات كقوله : «ولي أبيات جمعت فيها كثيراً من هذه العلامات منها:...»(6).
وقوله: «وفي ذلك أقول شعراً»(7). وقوله: «وفي مثله أقول في كلمة طويلة»(8). وقوله: «وأقول من قصيدة لي»(9). إنَّ ذلك يلفت انتباهنا إلي أنَّ هناك نغمة الحريص علي إثبات قوله، المفتون بإنتاجه.
ومن هنا لا يبعد أن يكون استبعاده لأشعار السابقين مقصوداً، ليُخلي الجوّ لأشعاره كي لا تطغي تلك الأشعار عليها أو لا تزري بها في نظر القاري حين يوازن بينها.
وهناك دليل آخر يقوّي هذا الإحتمال فعندما عرض إبن حزم لقناعة المحبّ بزيارة طيف محبوبه ذكر شعراً له في ذلك، وأحبَّ أن يوازنَ بينهُ وبينَ بعض الشعراء في هذا المعني، فلم يطب نفساً بأنْ يذكر أشعارهم بل عرض معانيها نثراً، وكان واجب الموازنة يقضي بأنَّ يوردَ أشعارهم بألفاظها، ليُعطيَ لقارئهِ فرصة النقد ومجال التذوّق يقول: «وللشعراء في علة فرار الطيف أقاويل بديعة بعيدة المرمي مخترعة» كل سبق إلي معني من المعاني فأبو إسحاق بن سيّار النّظام رأس المعتزلة جعل علة مزار الطيف خوف الأرواح من الرقيب المرقب، علي بهاء الأبدان وأبو تمّام حبيب بن أوس الطائي جعل علته أنَّ نكاحَ الطيف لا يُفسد الحبَّ ونكاح الحقيقة يُفسدُهُ والبُحتري جعل علة إقباله استضاءته بنار وجده وعلة زواله خوف الغرق في دموعه، وأنا أقول من غير أن أمثل شعري بأشعارهم، فلهم فضل التقدّم والسابقة وإنّما نحن لاقطون وهم الحاصدون، ولكن اقتداءً بهم وجرياً في ميدانهم وتتبعاً لطريقتهم التي نهَجُوا وأوضحوا أبياتاً بينت فيها مزار الطيف مقطعة:(10)
أغارُ عليكِ من إدراك طَرْفي وأشفِقُ أنْ يُذِيبَكِ لَمْسُ كفِّيّ
فأمتنعُ اللقاءَ حِذارَ هذا وأعْتمدُ التّلاقي حين أغفي
فرُوحي إن أنمْ بكِ ذو إنفرادٍ مِنَ الأعضاء مُستترٌ ومخفي
وَوصلُ الرّوح ألطفُ فيكِ وقعاً مِنْ الجِسْم المواصلِ ألف ضِعْفِ(11)
وإذا أحصينا المواضيع التي ذكر فيها إبن حزم شعراً لغيره في طوق الحمامة فنجدها لا تزيد عن خمسة مواضع في كلٍّ منها أبيات قليلة. احداها أبيات للعباس بن الأحنف اضطره اليها خبر ساقه عن جارية غنتها، فلم ينس غناءها إلي آخر حياته، وهي قوله :
ليستْ من الإنس إلاّ في مناسبةٍ = ولا من الجِنّ إلاّ في التّصاوير
فالوجهُ جوهرهُ والجسمُ عَبْهَرَةٌ(13)والرّيحُ عنبرةٌ والكلُّ من نُورِ
كأنّها حين تَخطو في مَجاسِدها(14)تخطُو علي البيضِ أو حدِّ القواريرِ(15)
إنّي طربتُ إلي شمس إذا غَرَبتْ = كانت مغاربُها جوفَ المقاصير
شمسٍ ممثّلةٍ في خُلْق جاريةٍ = كأنَّ أعطافَها طيُ الطّوامير(12)
فقال إبن حزم: فلعمري لكأنَّ المضراب(16) إنّما يقع علي قلبي وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلي يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلتُ إليه من التمكّن من رؤيتها وسماع كلامِها، وفي ذلك أقول :
لا تلُمْها علي النّفار ومَنْع ال = وَصلِ ما هذا لها بنكيرِ
هل يكونُ الهلالُ غيرَ بعيدٍ = أو يكون الغزالُ غيرَ نَفورِ؟!(17)
وأقول:
فلو يلقاكِ عبّاسٌ لأضحي لفوز(19) = قالِياً وبكمْ شَجِيّاً(20)
مَنَعْتِ جَمالَ وجهِكِ مُقلتيّا = ولفظُ كِ قد ضَنَنْتِ بهِ عليّا
أراكِ نَذَرتِ للرّحمنِ صَوْماً = فَلَسْتِ تُكلّمينَ اليومَ حيّا
وقد غنيّتِ للعبّاسِ(18) شِعراً = هنيئاً ذا لعبّاسٍ هنيّا
والموضوع الثاني: حين ذكر خبره مع صاحبه إبن عبداللّه محمد بن يحيي بن محمد بن الحسن التميمي المعروف بإبن الطّنبيّ: وكنّا ألفين لا نفترق وخِدنين(21) لا يجري الماء بيننا إلاّ صفاءً، فلمّا ألقت الفتنة جِرانها(22) وأرْخَتْ عزاليها(23) ووقع إنتهابُ جندِ البربر لمنازلنا في الجانب العربي بقرطبة ونزلوا فيها وتقلَّبتِ بي الأمور الي الخروج عن قرطبة وسكني مدينة المريّة فكنّا نتهادي النّظم والنثر كثيراً وآخرُ ما خاطبني به رسالة في درجها هذه الأبيات :
وأراني أري مُحَيّاكَ يوماً = وأناجيكَ في بلاطِ مُغيثِ(25)
فلو أنَّ الدّيار يُنْهِضُها الشّوقُ = أتاكَ البلاطُ كالمستغيثِ
ولو أنَّ القلوب تستطيع سَيْراً = سار قلبي إليكَ سَيْرَ الحَثيثِ(26)
كُنْ كما شِئتَ لي فإنّي مُحبٌّ = ليسَ لي غيرُ ذِكْرِكُمْ مِنْ حديثِ
لكَ عندي وإنْ تناسيتَ عَهْدٌ = في صميم الفؤادِ غيرُ نَكيثِ(27)
ليتَ شعري عن حَبّل ودّكِ هل يم = سي جديداً لديّ غير رثيثِ(24)
وإبن حزم لم يورد هذه الأبيات استدلالاً علي معنيً في كتابه أو وقوفاً عند غرض، بل جاءت ضمن ايراده لمواقف من بيئته وحياته وبذلك لم تمس تفرّدهُ بالإستدلال بشعره علي المعاني التي يعالجها(28).
والموضع الثالث: ذكر فيه بيتين من النظم الرّكيك استشهد بما في مجلس بعض مياسير أهل بلده، وشاهد فيه أمراً أنكره وغمزاً إستبشعه وخلوات الحين بعد الحين، وصاحب المجلس كالغائب أو النائم، فنبّههُ إبن حزم بالتعريض فلم ينتبه وحركهُ بالتصريح فلم يتحرك فجعل يكرر عليه بيتين قديمين لعلّه يفطن وهما بيتان لايمتان الي الشعر بغير الوزن، ولا مدخل لهما في أمر العاطفة.
إنَّ أخوانهُ المقيمين بالأم = س أتَوا للهناءِ لا للغِناءِ
قطعوا أمْرَهُمْ وأنتَ حِمارٌ = مُوقرٌ من بلادةِ وغَبَاءِ(29)
وأكثر إبن حزم من إنشادهما حتي قال له صاحب المجلس: قد أمللتنا من سماعهما فتفضّل بتركهما أو إنشاد غيرهما، فأمسكَ إبن حزم وهو لا يدري أغافلٌ هو أم متغافلٌ، وما عاد إلي ذلك المجلس بعدها.(30).
والموضع الرّابع: ذكر فيه بيتين لأبي بكر عبدالرّحمن بن سليمان البلويّ من أهل سبتة(31)، وكان شاعراً مفلقاً(32)، وهو ينشد لنفسه في صفةِ متجنٍّ معهودٍ أبياتاً له، منها :
سريعُ إلي ظهر الطريق وإنّه = إلي نقض أسباب المودّة يسْرعُ
يطولُ علينا أن نرقع ودَّهُ = إذا كان في ترقيعهِ يتقطّعُ(33)
والموضع الخامس: ذكر فيه بيتين لعيسي بن محمد بن محمل الحولاني، قال في عبيد اللّه بن يحيي الأزديّ المعروف بإبن الحزيريّ وكان قد رضي بإهمال داره وإباحة خيمه والتعرض بإهله طمعاً في الحصول علي بغيته.. قال :
يا جاعلاً إخراج حرّ نسائِهِ = شَرَكاً لصيد جاذِر الغِزلان
إنّي أري شركاً يُمزّقُ ثمّ لا = تحظي بغير مذلَةِ الحرمان(34)
وفي كلّ هذه المواضع لا نجد شعراً يتّصل بموضوع طوق الحمامة أو يمثّلُ معني، من معاني الحبَّ والهيام، كلها أبيات جاءت عرضاً في سياق الموضوع وأضطرّ إليها ابن حزم لتعلقها بما يذكرهُ من حوادث ومناسبات.
وهكذا يأكّد إنَّ إبن حزم كان ضيّق الصدر بمنهج التقليد والرواية، فقد رفض أنْ يفسح في كتابه مجالاً لأخبار العرب والمتقدمين، ولم يرتض أن يفسح المجال لرواية الشعر وآثر أن يذكر أشعاره فذلك أقرب إلي منهجه وأحُبّ إلي نفسه(35).
فإذا أنتقلنا إلي الأغراض التي أنشأ إبن حزم شعره في «طوق الحمامة» سنجد أنَّهُ أورد شعراً من شعره في كلّ فصل من فصول الكتاب، وكلّ علامة من علامات، وإعراض الحُبّ.
1 - ماهية الحُبّ عند إبن حزم :
لقد كان إبن حزم يورد شعراً = في كلّ باب يتعرّضُ له.
ولقد تعرّض في باب «الكلام في ماهيّة الحُبّ» تفسيره لوقوع الحُبّ: «والذي أذهب إليه أنّه إتصال بين أجزاء النّفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع»(36).
وقال إنَّ سرّ التمازج والتباين في المخلوقات إنَّما هو الإتصال والإنفصال، والشكل دأباً يسعي الي شكلهِ والمثلُ إلي مثلهِ ساكن، وللمُجانسة عملٌ محسوسٌ وتأثيرٌ مشاهدٌ... ويشرح هذا المعني في أبياته التالية:
ودادي لك الباقي علي حَسْبِ كَوْنهِ = تناهَي فلم يَنقصْ بشيءٍ ولم يَزِدْ
وليست لَهُ غير الإرادة علّةً = ولا سببٌ حاشاهُ يعلمُهُ أحَدْ
إذا ما وجدنا الشيءَ علَّة نفسه = فذاك وجودٌ ليس يَفني علي الأبدْ
وإمَّا وجدناهُ لشيء خلافه = فإعدامُه في عُدْمنا ماله وُجِدْ(37)
وهي أبيات تخلو - في الحقّ - من أيّة صورة شعرية، إذ لا تعدو أن تكون شرحاً - موزونا - لفكرته عن علّةِ وقوع الحُبّ.
كذلك ظهر أثر الفلسفة في شعر إبن حزم الذي أورده في «طوق الحمامة» وقد كان إبن حزم مشاركاً في الفلسفة والحكمة وله فيهما نتاج.
يقول إبن حزم في معني خطاب المرئي في الظاهر خطاب المعقول الباطن، وهو معنيً صرفه الشعراءُ في اشعارهم، وهو المستفيض في شعر النظام إبراهيم بن سيّار وغيره من المتكلمين(38).
أري هيئة إنسيّة غيرَ أنّهإذا أعمل التّفكيرُ فالجِرْمُ عُلويُّ
تباركَ مَنْ سوّي مذاهبَ خلْقه = علي أنَّك النُّورُ الأنيقُ الطبيعيُّ
ولا شكَ عندي أنّك الرّوحُ ساقه = إلينا مِثالٌ في النّفوس إتصاليٌ
عَدِمْنا دليلاً في حدوثكَ شاهداً = نقيسُ عليه غيرَ أنك مَرْئيُ
ولولا وقوع العين في الكونِ لم نَقلْ = سوأ أنّكَ العقلُ الرّفيعُ الحقيقيُ(41)
أمن عالم الأملاكِ(39) أنت أمِ أنسيٌّ = أبنْ لي فقد أزْري بتمييزي العِيُّ(40)
فالمعني في هذه الأبيات تتناول صلة النّفس بالجسم، وأنَّ الصورةَ دليلٌ علي ما وراءها والألفاظ المستعارة فيها من الفلسفة وعلم الكلام واضحة لا تحتاج إلي بيان، فالطبيعية والحدوث والعقل الرَّفيع والدَّليل والمرئي والإتصال، كلّها مصطلحات الفلاسفة والمتكلّمين وهي شاهدة علي مصدر من مصادر ثقافة إبن حزم وجانب من جوانب تأثرهِ(42).
وهي تخلو - أيضاً - من الصورة الشعرية الفنية إذ لا تعدو أن تكونَ ترجمة نثرية ركيكة لبعض الأفكار التي في ذهن إبن حزم حول هذا الموضوع كذلك القول النثري، إذا أعمل التّفكير فالجرمُ عُلويُّ.
وإنَّ هذا ليوضِّحَ لنا أنَّ ابن حزم ناظم أكثر منه شاعراً صادقاً يصدر عن عاطفة وينطق عن إحساس وإنفعال.
وإبن حزم نفسه يوفر علينا مشقة الإستدلال علي هذا الحكم وتلمّس أسبابه إذ يصرّح بذلك في بداية كتابه فيقول: «وسأورد في رسالتي هذه أشعاراً قلتها فيما شاهدته، فلا تنكر أنت ومن رآها عليَّ أنَّي سالك فيها مسلك حاكي الحديث عن نفسه، فهذا مذهبُ المتحلّين بقول الشعر»(43).
ومعني ذلك أنّهُ ينظم معاني يدركها بعقلهِ لا أحاسيس يتأثر بها وحدانهُ، ولا يصدر في ذلك عن طبع وضرورة بل عن تكلّف ومعاناة، بل كان إبن حزم يشبه شاعر القبيلة، أو الناطق بإحساس جماعته، فقد كان يُطلبُ منه نظم الشعر في معني من المعاني أو موقف من المواقف فيجيب إلي ذلك وليس هذا مقام الشاعر الصادق، الذي يخرجُ علي النّاس بإحساس عاناهُ واضطرم في فؤاده لا يملك منه مهرباً، لا أن ينطوي تحت معاني النّاس وأفكارهم، فليس الشاعر صانعاً يصنع الشعر علي اوضاع مطلوبة أو مناسبات مرغوبة، بل صاحب تجربة تستقيها من وجدان ويرجع فيها إلي ذات نفسه(44).
أمّا إبن حزم فكان كما يقول: وأكثر من ذلك فإنَّ إخواني يجشمونني القول فيما يعرض لهم علي طرائقهم ومذاهبهم(45).
ولو يصرّح لنا إبن حزم بنهجه في شعره وتكلفه في صياغته ونظمه لاتّضَحَ لنا ذلك في شعره وعرضه علي مقاييس النّقد، فإنّك لا تحسُّ في شعره حرارة ولا تتبيَّن فيه عاطفة صادقة، بل تري فيه براعة في النظم وجنوحاً للجدل والإقناع(46).
2 إتجاهات ثقافية وعلميّة :
وما دام إبن حزم لم يصدر في شعره عن عاطفة أو تجربة صادقة فلا بدّ أنَّ هناك أثراً للصناعةِ الإتجاه العقلي والفلسفي في شعره، أو بمعني آخر لا بدّ أنَّ هذا الشعر صادر عن ثقافة إبن حزم معبّر عن إتجاهاته العلمية.
والنّاظر في شعر إبن حزم، الذي تضمنّه «طوق الحمامة» يجد تأثيراً واضحاً بالمصطلحات الدينية، واللغوية والفلسفة والحكمة، وميلاً قوياً الي الجدل والإقناع والإحتجاج، وهي الملامح المميزة لثقافة إبن حزم(47).
فمن تأثره بالفقه وأصوله وعلوم الدين قوله في الإستدلال علي إستحالةِ أنْ يُحبَّ الإنسانُ إثنين في وقتٍ واحدٍ.
ليس في القلبِ مَوْضعٌ لحبيبينِ = ولا أحْدثُ الأمورِ بثاني
فكما العقلُ واحِدٌ ليسَ يَدْري = خالقاً غيرَ واحدٍ رَحمانِ
فكذا القلبُ واحدٌ ليس يهويغيرَ= فردٍ مُباعدٍ أو مُدانِ(49)
هو في شرَعة المودّة ذوشكّ = بعيدٍ مِنْ صحةِ الإيمان
وكذا الدينُ واحدٌ مستقيمٌ = وكفورٌ مِنْ عِنْدَهُ دينانِ(50)
كَذَبَ المُدَّعي هَوي إثنين حَتْماً = مثلَ ما في الإصول أكذبَ ماني(48)
فمن الواضح إنَّ هذا إحتجاج عقلي يحفل بالقياس والمصطلحات الدينية وليس شعراً صادراً عن عاطفة، وهو إلي النّثر أقرب.
أين هذا من قول جميل في نفس المعني :
ولرُبَّ عارضةٍ علينا وَصْلها = باجِدّ تَخْلطه بقول الهازل
فأجبتها بالقول بعد تستّر = حبَي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كانَ في قلبي كقدر قلامة = فَضْل وصلتُك أو أتتك رسائلي(51)
وأين هذا من قول إبن زيدون وقد كان شاعراً معاصراً لإبن حزم.
لم نعتقد بعدكم إلاّ الوفاء لكم = رأياً ولم نتقلد غيره دينا
لا تحسبوا نأيكم عنّا يُغيّرنا = إنْ طالما غيّر النأي المحبيّنا
واللّه ما طلبت أهواؤنا بدلاً = منكم ولا لصرفت عنكم أمانينا
فما إستعضنا خليلاً منك يحبسنا ولا إستفدنا حبيباً عنك يُثنينا
ولو صبا نحونا من علو مطلعه = بدر الدُّجي لم يكن حاشاك يصبينا(52)
أو في قول الشاعر الأندلسي :
لو كان قلبي معي ما أخترت غيركمو = ولا رضيتُ سواكم في الهوي بدلاً
لكنّه راغب فيمن يعذبه = وليس يقبل لا لوماً ولا عذلاً
فهذا هو الشعر الحافل بالعاطفة المليءُ بالصور الموحية وليس شعر ابن حزم الذي يشبه حجج المناطقة وجدل المتكلّمين والفقهاء.
ومن ذلك ايضاً قول إبن حزم في قصيدة محتوية علي ضروب الحكم وفنون من الآداب الطبيعية، كما يقول عنها إبن حزم:
وأعدِلُ في إجتهاد نفسي في الذي = أريدُ وإنّي فيهِ أشقي وأتعبُ
وأصْرِفُ نفسي عن وجُوه طِباعِها = إذا في سواها صَحَّما أنا أرْغَبُ
كما نَسَخَ اللّه ُ الشرائعَ قبلنا = بما هو أدني للصلاح وأقرَبُ
وألقي سجايا كُلَّ خَلقٍ بِمثلِها = ونَعتُ سجاياي الصَّصحيحُ المهدّبُ
كما صار لونُ الماءِ لونُ إنائِهِ = وفي الأصل لونُ الماءِ أبيضُ مَعْجِبُ(53)
وفي قطعة أخري يصور ضرباً من الهَجر يكون متوليه المحُبّ، وذلك عندما يري جفاء محبوبه والميل عنه إلي غيره، أو لثقيل يلازمه، فيري الموت ويتجرّع غصص الأسي، فينقطع وكبده تتقطّع، يقول :
لكنَّ عيني لم تُطق نظرةً = إلي مُحيّا الرَّشأ(55) الغادِرِ
فالموتُ أحلي مَطْعماً من هَويً = يباحُ للوارِدِ والصادِرِ
وفي الفؤادِ النَّارُ مَذْكيَّةٌ(56) = فأعجبْ لصَبِّ جَزعٍ صابرٍ
وقد أباحَ اللّه ُ في دِينهِ = تقيَّة(57) المأسْورِ للآسرِ
وقد أحلَّ الكُفرَ خوفُ الرَّدي = حتّي تَري المؤمن كالكافِرِ(58)
هجرتُ مَنْ لا عن قِليً(54) = يا عجباً للعاشق الهاجر
فهذا أسلوب المتكلّمين، فالإباحة والتّقية والكفر والإيمان، كل ذلك ينطق بمنزع إبن حزم، ويوضّح أن شعره ليس إلاّ نظماً تثقله مصطلحات الفقه والكلام.(59)
وإذا حاولنا أن نعقد مقارنة ببين قوله في الهجر وبين قول شاعر كإبن زيدون إذ يقول:
إنَّ الزّمان الذي مازال يضحكنا = أنساً بقربهم قد عاد يبكينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا = يقضي علينا الأسي لولا تأسّينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت = سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا(60)
لوجدنا فارقاً شاسعاً في الصورة الفنيّة بينهما فإبن زيدون يعتمد الطباق والجناس إعتماداً يدل علي تمكن فنّي وخصوبة شاعرية في الثّنائي - التّداني، يضحكنا - يبكينا، الأسي - التأسي، أيامنا - ليالينا، سوداً - بيضاً ثمّ هو لا يترجم أفكاره موزونة، بل يقيم معادلاً فنياً أو موازياً صورياً لمشاعره التي تدلّنا - بالصورة الفنية علي حالة الشاعر، المراد التعبير عنها.
3 العاذل والرَّقيب والواشي :
وهم من معوَّقات قيام الحُبِّ، أو أستمراره. وقد أفرد إبن حزم لكلّ منها باباً خصّصه في بحث صفات كلِّ واحد منهم وطرائق عمله وكيفية التغلب عليه أو أهداف كل منهم.
فالعُذالُ أنواع: عاذلٌ يريد المساعدة، صديق، وهو زاجر للنّفس ضابط لتهوراتها.
وعاذلٌ زاجرٌ لائم لا يفيق من الملامة، وذلك خطبٌ شديدٌ وعب ءٌ ثقيلٌ وعظيمٌ.(61)
والرقيب آفة من آفات الحُبّ العظيمة وأنّه لحمّي باطنةٌ وبرسامٌ(62) مُلِحٌ وفكرٌ مُكِبٌّ.
والرّقباءُ أيضاً أنواع: أولهم مثقلٌ بالجلوس غير متعمّد في مكان اجتمع فيه المرءُ مع محبوبه، وعز ما علي اظهار شيءٍ من سرّهما والبوح بوجدهما والإنفراد بالحديث.(63)
يُطيلُ جُلوساً وهو أثقلُ جالسِ = ويُبدي حديثاً لَسْتُ أرضي فنونهُ
شمامٌ ورَضْوي واللّكام ويَذْبِلٌ = ولبنانُ والصمّانُ والحربُ دونهُ(64)
ثم رقيب يريد إستبانة أمر المحبين، إذا إستراب في أمرهما، فيدمن الجلوسويطيل القعود، ويتخفّي بالحركات، ويرمقُ الوجوه، ويحصِّلُ الأنفاسُ(65).
مواصل لا يغبُّ قصداً = أعظم بهذا الوصال غمّا
صار وصِرنا لفرطِ ما لا = يزول كالإسمِ والمسمّي(66)
ثم رقيب علي المحبوب، فذلك لا حيلة فيه إلاّ بترضيّه. وإذا أرضيَ فذلك غاية اللَّذةِ، وهذا الرَّقيبُ هو الذي ذكرتهُ الشّعراءُ في أشعارها.
ورُبّ رقيبٍ أرقبوه فلم يزلْ = علي سيّدي عمداً ليُبعدني عنهُ
فمازالتِ الألطافُ تحكمُ أمرهُ = إلي أن غدا خوفي له آمناً منه
وكان حساماً سُلَّ حتي يهُدّني = فعادَ محبّا ما لنعمتهِ كُنْهُ(67)
ويقول في الرّقيب الداهية الذي إمتحنَ بالعشق قديماً ودُهيَ به وطالت مُدتهُ فيه ثمَّ عُري عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغباً في صيانةِ مَنْ رقبَ عليه :
وأتقنَ حيلة الصَّبِّ المعني = ولم يُضِع الإشارة والكلاما
وأعقبِهِ التسلّي بعد هذا = وصار يري الهوي عاراً وذاما
وصيّرَ دونَ من أهوي رقيباً = يبعِدَ عنهُ صبّاً مستهاما
فأيّ بليّةٍ صُبّت علينا = وأيّ مُصيبةِ حلّتْ لِماما(69)
رقيبٌ طالما عرفَ الغراما = وقاسي الوجدْ وإمتنعَ المَناما
ولاقي في الهوي ألماً أليماً = وكاد الحبّ يوردُهُ الحماما(68)
والواشي ضربان:
أحدهما واش يريدُ القطع بين المتحابين فقط، وإنَّ هذا لافترهما سوأة.
وثانيهما واشي يريدُ القطع بين المتحابين لغرض في نفسه يريد به أن يصل إلي المحبوبة وهو سمّ زعاف.
يقول :
عَجبتُ لواشٍ ظلَّ يكشفُ أمرنا = وما يسَوي أخبارنا يتنفّسُ
وماذا عليه من عنائي ولَوْعتي = أنا آكلُ الرّمان والولدُ(70) تضرسُ(71)
وهي أبيات تخلو جميعاً من أيّة صورة فنية فلا تُعد أن تكون إحالة عقيلة موزونة لأفكاره النثرية التي يوردها في المتن النَّصي.
فهو حين يصف تلازم الرّقيب لهما إنّما يكشف عن تأثره بالمصطلحات اللغوية والنحويّة وكأنّه يظن ذلك تفنّناً أو طرافة، مادام ناظماً لا شاعراً. فلم يجد غير تلك الصورة العقيلة الجافة التي تحتاج إلي التجريد الذهني لإدراكها:
صارَ وصِرْنا لفَرْطِ ما لا = يزول كالإسم والمُسمّي(72)
إنَّ ذلك يدل علي ضعف الملكة الشعرية التي تعني بالخيال وتقدر علي إختراع الصور لديه.
وأينَ هذا من قول جميل :
بلا، وبألا أستطيع، وبالمني = وبالوعد، حتي يسأم الوعد آمله
وبالنظرة العجلي وبالحول تنقضي = أواخره لا نلتقي وأوائله(74)
وإني لأرضي من بثينة بالذي لو أبصره(73) الواشي لقرَّت بلابله
وفي موضوع آخر يصف ما رآه من تذلل محبوب إلي محبوبه وخروج ذلك عن الحدّ الطبيعي أو المألوف عكس ذلك، فلا يثير في ذهن إبن حزم إلاّ صورة غامضة لم تدرك تصريحاً ولا تلميحاً، إذ شبه ذلك بتواضع المأسور للآسر والمأمول للآمل والفاعل للمفعول والمسؤول للسائل.
رغبة مَرْكوبٍ إلي راكبٍ = وذِلّة المسؤولِ للسائلِ
وطَوْلُ(76) مأسورٍ إلي آسر = وصولةُ المقتولِ للقاتلِ
ما إنْ سمْعنا في الوري قبلها = خضوعَ مأمولٍ إلي آمل
هل ها هنا وجهٌ تراه سِوَي = تواضع المَفْعولِ للفاعلِ(77)
ومن أعاجيب الزمانِ التي = طمّتْ(75) علي السّامع والقائل
فتجئ لفظة المفعول للفاعل هنا كريهة الإيحاء وبعيدة التصور لا حركة فيها ولا حياة، وربّما ظنّ إن حزم أنَّ ذلك منه تفنّن وإبداع.(78)
وقد كان إبن حزم جدلياً يحب الإنتصار والغلبة ويميل إلي الأفحام والأقناع، وقد تسرّب ذلك إلي شعره وهو مناف لطبيعة الشعر وإيحائه، فالشعر إيحاء وتصوير لا إقناع وتجريد، ولكن إبن حزم كما قدّمت ناظم لا شاعر :
يقول في معني إنتظار الزيارة :
أقمتُ إلي أن جاءني الليلُ راجياً = لقاءك يا سؤلي ويا غاية الأمل
فأيأسني الإظلامُ عنك ولم أكن = لا يأسَ يوماً إن بدا الليل يتّصل
وعندي دليلٌ ليس يكذب خُبّره = بأمثالهِ في مشكل الأمر يستدل
لأنك لو رُمتَ الزيارة لم يكن = ظلامٌ ودام النورُ فينا ولم يَزُل(79)
فإبن حزم يريد أن يصف جمال محبوبة بالإضاءةِ حتي ليبدّد ظلام الليل، وكان يمكنه أن يُصوّر ذلك مع تجنّب كلمة «وعندي دليل» و«مشكل الأمر» و«لأنّك لو» وكلّ هذه الأساليب تليق بالمناظرة أو الخصومة ولا تتسّق مع روح شعر الغزل ولا روح الشعر علي وجه العموم(80).
فالشعر لا يكون شعراً إلاّ: بقدر إبتعاده عن النّثرية العادية وبقدر إقترابه من تكوين صورة فنية يتمّ فيها التّجريد العيني والتصوير الفنّي والإنتقال إلي المجاز.
ومن ميله إلي الإفحام والغلبة قوله فيمن أحبَّ في محبوبه صفة لم يستحسن بعدها غيرها فما يخالفها :
وهل عاب لونَ النّرجس(83) الغضِّ عائبٌولون النّجوم الزاهرات علي البُعدِ
وأبعدُ خلق اللّه ِ من كلِّ حكمةٍ = مفضِّل جرمٍ(84) فاحم اللّون مسوَدِّ
به وصفتْ ألوانُ أهلِ جهنم = ولبْسة باكٍ مثكلِ الأهْلِ محتدِّ
ومُذْ لاحتِ الرّايات سوداً تيقّن = تنفوسُ الوري أن لا سبيل إلي الرّشدِ(85)
يعيبونها عندي بشُقرةِ شعرها = فقلتُ لهم هذا الذي زانها عندي
يعيبون لونَ النّور(81) والتّبر(82) ضِلَّةً = لرأي جهولٍ في الغواية ممتدِّ
فنراه يجنحُ إلي الجدل، وإبداء الحجج وعيب الرأي المخالف، فيذهبُ ببهاء الشعر وإيحائه.
ومن ذلك اللون من الإحتجاج العقلي الذي لا يأنس إلي العاطفة ولا يتّخذ التصوير وسيلة للإيحاء بالمراد قوله فيمن أحبَّ بالوصف :
ويا من لا مني في حُ = بِّ من لم يره طرفي
لقد أفرطت في وصف = كَ لي في الحبِّ بالضّعفِ
فقل هل تعرف الجنّ = ة يوماً بسوي الوصف؟(86)
وحتي التشبيه الذي يعتبر أوضح مجليً من مجال¨ التصوير، يجنح فيه إبن حزم إلي التجريد المحض، فلا تتّضح به الصورة بل تزيد خفاء. وكل ذلك أثر لتفكير إبن حزم وأسلوبه في التعبير.
4 الكتمان والهجران والفراق :
يقول إبن حزم في صوف ليل المحبّين وسهرهم ويذكر كتمان السرّ وأنه يتوسّم بالعلامات :
كأنَّ نجومهُ والغيمُ يخفي سناها عن مُلاحظةِ العيونِ
ضميري في ودادكَ يا منايا(87) = فليس يبينُ إلاّ بالظنون(88)
فأيّ صورة تتمثلها من تشبيه نجوم الليل المختفية وراء الغيم الغيم بالضمير؟ وهل في ذلك ما يحقق للصورة الشعرية الوضوح والتأثير؟
ولقد إرتكب إبن حزم ذلك التشبيه مرّة أُخري في كتابه، حين تحدّث عن البين وما يخلّفه في النّفوس من لوعة وأسي.
علي دراساتٍ مُقْفِراتٍ عَواطلٍ = كأنّ المغاني في الخَفاءِ مَعاني(91)
قفا فأسألا الأطلاَ أين قطينُها(89) = أمرَّت عليها بالبلَي الملوانِ(90)
فالمعاني لا تصلح مشبهاً به يوقع في النفس معني أو يقفها علي وصف محدد، فهي بحار متلاطمة تفاوت في الوضوح والخفاء، ولئن إعتبر البلاغيون هذا التشبيه تشبيه محسوس بمعقول، فإنَّ نقاد الشعر لا يرون فيه إلاّ تشبيه واضح بغامض أو تشبيه شيءٍ محدّدٍ بآخر لا محدود. فإبن حزم لم يترك من نفوسنا بهذا التشبيه أثراً واضحاً يثير في نفوسنا عاطفة معيّنة وكل هذا ولوع منه بالتجريد وشغف بالمعاني العقلية(92).
وأين هذا من أبيات قيس :
كأنّ القلبَ ليلة قيل يُغْدَي = بِلَيْلَي العامِرِيَّةِ أو يُراحُ
قطاةٌ عزَّها(93) شركٌ فباتتْ = تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَنَاحُ(94)
حيث إكتملت الصورة الشعرية الشاملة إذ شبّه قلبه ليلة سفر ليلي بالطائر المسكين الذي قبض شرك علي جناحه، كلما حاول الطائرُ الفكاك منتفضاً زاد إيلامه وتعلّقه بالشرك وإنجراحه به.
غير أنَّ هناك مع كل ذلك بعض التجارب الشعرية الصادقة لدي إبن حزم، لم تثقلها القيود ولم تعق حركتها الإصطلاحات أو العلوم، وتلك جري فيها إبن حزم علي مذهب الشعراء لا العلماء ولكنها صور قليلة، كقوله :
أم هل لدهري عودةٌ نَحْوها = كمثل يومٍ مرَّ في الوادي؟
ظللتُ فيه سابحاً صادِياً(96) = يا عجباً للسّابح الصّادي!
ضنيتُ(97) يا مولاي وجداً = فماتبصِرُني ألحاظُ عُوّادي
كيفَ إهتدي الوجدُ إلي غائبٍ = عن أعينِ الحاظرِ والبادي
مَلَّ مداواتي طبيبي فقد = يرحمُني للسُّقمِ حُسّادي(98)
هل لقتيلِ الحُبِّ من وادي = أم هل لعاني(95) الحُبِّ من فادي؟
وهذا دليل علي أنّه كان بإمكان إبن حزم أن يعبّر عن عاطفته بطلاقة حين يتخلّي عن المصطلحات والنثرية ويطلق لنفسه العنان الشعري دون قيود الصناعة او تجريد الأفكار ذهنياً.
5 الجانب الديني :
كما أنَّ شعر إبن حزم يستقيم ويقترب من الوجدان حين يحمل مضموناً دينياً يتمكن منه ويعمّق فيه، فيجري علي نسق الزّهاد والمتصوّفين.
ومن ذلك قوله في التوبة عن الصبوة ونهي النفس عن الهوي.
قد آنَ للقلب أن يُفيقَ وأنْيزيلَ = ما قد علاهُ من حُجُبهْ
يا نفسُ جِدّي وشمّري ودَعي = عنكِ إتّباع الهوي علي لَغَبِهْ(100)
وسارعي في النَّجاة وإجتهدي = ساعية في الخلاص من كُربهْ
يا أيها اللاعبُ الُمجدّ به الدَّهر = أما تتّقي شبا(101) نَكبه
كفاكَ من كلِّ ما وعِظتَ بهِما = قد أراكَ الزَّمانُ من عَجَبِهْ
دَعْ عنكَ داراً تفني غَضارتُها = ومكسباً لاعباً بمُكتسبهْ
مَنْ عَرَفَ اللّه ُ حَقّ مَعْرفةٍ = لَوي وحَلَّ الفؤاد في رَهِبهْ
شكراً لربِّ لطيفُ قدرتهِ = فينا كَحَبْلِ الورِيد في كتُبهْ(102)
رازقٍ أهلَ الزّمانِ أجمَعَهُ = مْمَنْ كانَ من عُجْمِهِ ومِنْ عَرَبِهْ
والحمدُ للّه ِ في تفضُّلِهِ = وقمْعهِ للزّمان في نُوبِهْ
أخْدَمَنا الأرضَ(103) والسَّماءَ = ومَنْفي الجوّ من مائِهِ ومن شُهُبِهْ
فأسْمَعْ ودَعْ مَنْ عصاهُ ناحيةً = لا يحمِلُ الحملَ غيرُ مُحتَطبِهْ(104)
أقصر عَنْ لهوِهِ وعن طربِهِ = وعفَّ في حُبّه وفي عَربه
فليس شُرْبُ المُدام هِمَّتهُ = ولا إقتناصُ الظَّباءِ(99) من أربه
ومجمل القول أنَّ شعر إبن حزم لم يصدر عن تجربة صادقة بقدر ما صدر عن تكلّف ومعاناة ساعد عليهما أنَّهُ كان يقوم بدور شاعر القبيلة، ويتحدَّثُ علي لسان إخوانه الذين كانوا يجشّمونه القول فيما يعرض لهم، إلي جانب أنَّهُ جعل شعره ميداناً للتفنُّن بالمصطلحات العلمية من كلّ لون: الفقهيّة والدينية والنحوية والفلسفية والطبيعية...
ولعلَّ هذا البحث أنْ يكون قد أفلحَ من تسليط الضوء علي شعر إبن حزم في طوق الحمامة، وإنْ كنّا قد رأينا أنَّهُ شعرٌ قليل القيمة الفنية في معظمهِ، لأنَّهُ يتذرعُ أحياناً بالحجج العقلية والمنطقية، مما يجافي طبيعة الشعر الوجدانية، أو يتَّسم أحياناً اخري بالنثرية والمباشرة مضحّياً بالصورة الفنية التي بدونها لا تقوم للشعر قائمة، إلي آخر هذه المآخذ التي يغص بها شعر إبن حزم، نقول: إنَّهُ وإنْ كنّا قد رأينا ذلك، إلاّ أنَّهُ لا يجب إنكار ما لطوق الحمامة من أهمية وما لشعره أحياناً، قليلة من قيمة فنية في بعض النماذج التي وفّق فيها الشاعر، ولعلّ حياة إبن حزم وعصره الذي إنعكست عليه مظاهر الشّرف والإنطلاق لعل هذه الحياة وذلك العصر هما اللّذان أبعدا شعر إبن حزم في الحُبِّ عن مثيله لدي العذريين من شعراء الجزيرة الذين كانوا أقرب إلي الفطرةِ والطبع والوجدان العفوي الصادق من أمثال قيس بن الملوح وقيس بن ذريح وجميل بثينة وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهمّ المراجع:
1 د. الطاهر أحمد مكي: دراسات عن إبن حزم مكتبة وهبة الطبعة الأولي القاهرة 1976م.
2 د. الطاهر أحمد مكي: ضبط وتحقيق كتاب طوق الحمامة في الألفة والإف لإبن حزم الطبعة الأولي دار العارف القاهرة 1975م.
3 د. مصطفي عبدالواحد: دراسة الحُبّ في الأدب العربي جزءان دار المعارف القاهرة 1972م.
4 عبداللطيف شرارة: فلسفة الحُبّ عند العرب دار مكتبة الحياة بيروت 1960م.
5 يوسف الشاروني: الحُبّ والصداقة في التراث العربي والدراسات المعاصرة دار المعارف القاهرة 1975م.
6 الشعر الأندلسي: غرسيه غريث ترجمة د. حسين مؤنس دار النهضة المصرية الطبعة الثانية القاهرة 1956م.
7 ديوان إبن زيدون: مع رسائله وأخباره شرح وتحقيق محمد سيد كيلاني شركة مصطفي البابي الحلبي بمصر الطبعة الثالثة 1965م.
8 ديوان مجنون ليلي «جميل» جمع وتحقيق: عبدالستار أحمد فراج دار مصر للطباعة والنشر 1979م.
الهوامش :
1. دراسة الحب في الأدب العربي - د. مصطفي عبدالواحد، ج2، ص 277.
2. المرجع السابق، ص 277.
3. دراسة الحب في الأدب العربي - د. مصطفي عبدالواحد، ص 277. وانظر: طوق الحمامة، تحقيق د. الطاهر مكي، ص 17. وانظر: طوق الحمامة ابن حزم الأندلسي تحقيق وشرح عبدالقادر محمد مايو، ص 10.
4. طوق الحمامة، تحقيق وشرح عبدالقادر محمد مايو، ص101.
5. دراسة الحب في الأدب العربي، د. مصطفي عبدالواحد، ص 278.
6. طوق الحمامة لإبن حزم الأندلسي، عبدالقادر محمد مايو، ص 29.
7. طوق الحمامة لإبن حزم الأندلسي، ص 88 - 87 - 218.
8. المصدر السابق، ص 208 - 209.
9. المرجع السابق، ص 118 - 178.
10. دراسة الحبّ في الأدب العربي، ص 279.
11. المرجع السابق، ص 209. 12. الطوامير: جمع طومار وهو الصحيقة.
13. العبهرة: الواحدة من النرجس أو الياسمين.
14. المجاسد: القمصان التي تلي البدن، جمع مجسده وهو القميص الداخلي.
15. طوق الحمامة ابن حزم الأندلسي، عبدالقادر محمد مايو، ص 235.
16. المضراب: المعزاف أو ريشة العود.
17. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 236. 18. العباس: هو الشاعر العباسي، العباس بن الأحنف، صاحب الأبيات.
19. فوز: معشوقه العباس بن الأحنف وقد إشتهر بحبها.
20. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 236.
21. خدنين: مفردها خدن هو الصاحب الأحبّ الفة.
22. ألقت جرآنها: كناية عن التمكن واللبوث، الجران: مقدم عنق البعير يهبط به إلي الأرض عند البروك.
23. أرخت عزاليها: تدفقت بمطرها، والعزالي: مصبّات الماء من القرب مثلاً.
24. رثيث: رثّ أو بالٍ مستهلك.
25. بلاط مغيث: حي بالجانب الشرقي من قرطبة.
26. الحثيث: المستعجل.
27. غير نكيث: غير منتقض، مبرم متين، طوق الحمامة لابن حزم محمد مايو، ص 251.
28. دراسة الحبّ في الأدب العربي، ص 280.
29. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 277.
30. المرجع السابق، ص 277.
31. سبتة: بلد في العدوة الافريقية علي مضيق جبل طارق شرقاً.
32. مفلقاً: مبدعاً.
33. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 148. 34. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 274 - 275.
35. دراسة الحب في الأدب العربي، د. مصطفي عبدالواحد، ص 281.
36. طوق الحمامة، الطاهر مكي، ص 27. وأنظر: طوق الحمامة، محمد مايو، ص 15 - 16.
37. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 17.
38. دراسة الحبّ في الأدب العربي، ص 287.
39. الأملاك: الملائكة جمع ملك.
40. العِي: إنحباس الكلام والمنطق.
41. طوق الحمامة، الطاهر أحمد مكي، ص 25، وأنظر: طوق الحمامة، محمد مايو، ص 22 - 23.
42. دراسة الحبّ في الأدب العربي، ج 2، ص 288.
43. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 10.
44. انظر فصل التجربة من كتاب النقد الأدبي، محمد غنيمي هلال.
45. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 10.
46. دراسة الحُبّ في الأد العربي، د.مصطفي عبدالواحد، ص282.
47. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، د. مصطفي عبدالواحد، ص 282.
48. المداني: الواصل لمن يحبّه أو ضدّه المباعد الهاجر.
49. المداني: الواصل لمن يحبّه المباعد الهاجر.
50. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 57.
51. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، ص 283. 52. التجديد في الأدب الأندلسي، د. باقر سماكه، بغداد. وأنظر ديوان اين زيدون. 53. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 139. 54. القِلي: البغض.
55. الرَّشأ: الظبي الفتي، تشبه به الصبيّة.
56. مذكيّة: متقدة.
57. التقيّة: إتقاء الأذي والعقوبة ولو بالكذب.
58. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 153.
59. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، ص 284.
60. ديوان بن زيدون، ص .
61. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 95 - 96.
62. البرْسام: إلتهاب القلب والكبد، الداءُ العِضال.
63. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 102.
64. شمام ورضوي واللكام وينذبل ولبنان والصمّان: جبال مشهورة عند العرب. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 103.
65. يحصِّلُ الأنفاس: يتابعها ويضيق عليها بالتطفّل.
66. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 103. 67. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 104. 68. الحِمام: الموت.
69. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 106.
70. الولد: يشبّه الوشاة بالولدان علي سبيل الإستخفاف بهم.
71. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 111.
72. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 103. 73. وروي: ايقنه.
74. ديوان جميل «مجنون ليلي»، ص 225.
75. طمّت عليه: غمرته، وعطته.
76. الطّول: المقدرة والتحكم.
77. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 131.
78. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، ص 285.
79. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 36 37.
80. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، ص 286.
81. النور: الزهر الأبيض.
82. التبر: الذهب.
83. النرجس: زهر مستدير الشكل تشبّه به العيون.
84. الجرم: الجسم.
85. طوق الحمامة لإبن حزم، محمد مايو، ص 63.
86. طوق الحمامة لإبن حزم، حمد مايو، ص 63. 87. يا مناي: يا من أتمناه، وجاء مدّ حركة الياء لضرورة الشعر : «يا منايا».
88. طوق الحمامة لإبن حزم، محمد مايو، ص 33.
89. قطينها: ساكنها أو ساكنوها.
90. الملوان: الليل والنهار.
91. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 194.
92. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، د. مصطفي عبدالواحد، ص 287.
93. العاني الأسير.
94. صادياً: ظمئاً.
95. صادياً: ظمئاً.
96. ديوان جنون ليلي، ص 90.
97. ضنيتُ: ضعفتُ وهزلُ جسمي.
98. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 136.
99. الظباء: إستعارة للنساء، والإقتناص: الصيد.
100. اللغب: التعب والأعياء.
101. الشبا: حدّ السيف.
102. الكثب: القرب.
103. أخدمنا الأرض: جعل الأرض في خدمتنا سخّرها لنا.
104. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 37 304.
* جامعة الشهيد بهشتي - طهران
کلمات کليدي: دراسة الحب فی الأدب العربی
منبع : مجله آفاق الحضارة الاسلامية،
.
وليس ذلك بالغريب، فطوق الحمامة كتاب في الحب، وهل يكتمل الحديث عن الحب الاّ بالشعر؟ ومن هنا يلاحظ أنّ الغزل والعاطفة او الحديث عن المرأة علي وجه الاجمال كان وثيق العلاقة بالشعر منذ نشأته الأولي.
ولعلّ السبب في ذلك أنّ الشعر صورة من صور النفس الذاتية، التي ترتبط بخلجات النفس وخطرات العاطفة، فكان لابد له - وهو الصادر عن الوجدان الشاعري - أنْ ينصبّ في جانب كبير منه، منذ نشأته، علي المرأة، التي هي محور كلّ عاطفة ومناط كل شعور ذاتي.
ولكن ابن حزم في طوق الحمامة يقتصر من الشعر علي نتاجه هو، ويجعل من شعره وسيلة يستدلّ بها علي ما يريد ويصوّر ما يروق له، وهي ظاهرة تسترعي النظر وتتطلب - بداية - البحث عن أسبابها ودلالاتها.(2)
فما الذي دعا ابن حزم الي ذلك؟
أهو إعجابه بنفسه وفتنته، بمقدرته الشعرية، ورغبته في أن يُذيع شعره ويشتهر؟
أم هو قصر باعه في رواية الشعر وعجزه عن اختيار ما يصلح لرسالته هذه من أشعار السابقين؟
أم هو منهجه المتحرّر الضائق بالتجارب السابقة، الحريص علي الاعتماد علي النفس والنظر الي الحقائق من خلال منظاره الخاص حتي يفي بما شرط علي نفسه في هذا الكتاب من عدم إنضاء راحلة سواه والتحلّي بحلي مستعار؟ يقول:
«والتزمتُ في كتابي هذا الوقوف عند حدّك، والإقتصار علي ما رأيتُ أو صحّ عندي بنقل النقاب، ودعني من أخبار الأعراب والمتقدّمين، فسبيلهم غيرُ سبيلنا، وقد كثرت الأخبار عنهم، وما مذهبي أنْ أنضِيَ مطيّة سواي ولا أتحلي بحلي مستعار، واللّه المستغفر والمستعان لاربّ غيره».(3)
هذه هي الأسئلة التي ترد علي الخاطر عند التأمّل في خطة إبن حزم في إيراد الشعر في كتابه «طوق الحمامة».
فأيّ خاطر منها نستطيع قبوله، وأيّ خاطر منها يستحقّ الرّفض ولا يثبت أمام النظر؟
لا نستطيع أن نرفض منها إلا الخاطر الثاني وهو أن يكون الباعث لإبن حزم علي ايراد اشعاره قصر باعه في رواية الشعر أو عجزه عن الاختيار من أشعار السابقين، ويدلّنا علي ذلك :
1 - أنّ منهج التعليم في تلك العصور، كان يقوم أساساً علي حفظ كتاب اللّه الكريم، ثمّ رواية الشعر، وابن حزم نفسه يخبرنا في رسالته هذه أنّ منهج تعليمه في صغره كان يشمل رواية الشعر في قوله: وهنّ عَلمنِنَي القرآن، وروَّينني كثيراً من الأشعار.(4)
2 - أنّ الكتب السابقة التي عالجت موضوع العشق - وكانت أمامه يمكنه أنْ يأخذ منها ويختارَ - قد اشتملت علي تراث ضخم من الأشعار الجاهلية والاسلامية في أمر العزام والغزل، ويكفينا في ذلك كتاب الزهرة لمحمّد بن داود الظاهري، وقد قرأ إبن حزم كتابه ونقل عنه قليلاً وتأثر ببعض آرائه ورفض بعضها، كما أنّ هذا الكتاب يشتمل علي خمسة آلاف بيت من الشعر كلها في موضوع العشق وأحواله وما يعرض فيه لشعراء من شتي العصور.
إذن لا يبقي أمامنا إلاّ الخاطران الآخران، فهما اللذان يصلحان في تعليل منهج ابن حزم في إيراد أشعاره في هذا الكتاب.
أمّا جانب الإعجاب بالنفس والإفتنان بالقدرة الفنّية في الشعر، والرغبة في الإشتهار بقول الشعر وذيوعه، فإنه يبدو واضحاً في كثير من لفتات ابن حزم ونقداته.(5)
وحسبنا في ذلك أول وهلة مادرج عليه إبن حزم في تقديمه لِكُلِّ مقطوعة من مقطوعاته أو بيت مفرد من أبياته فهو يحرص علي نسبتها الي نفسه ولو تكرَّرَ ذلك الموضع عدة مرات كقوله : «ولي أبيات جمعت فيها كثيراً من هذه العلامات منها:...»(6).
وقوله: «وفي ذلك أقول شعراً»(7). وقوله: «وفي مثله أقول في كلمة طويلة»(8). وقوله: «وأقول من قصيدة لي»(9). إنَّ ذلك يلفت انتباهنا إلي أنَّ هناك نغمة الحريص علي إثبات قوله، المفتون بإنتاجه.
ومن هنا لا يبعد أن يكون استبعاده لأشعار السابقين مقصوداً، ليُخلي الجوّ لأشعاره كي لا تطغي تلك الأشعار عليها أو لا تزري بها في نظر القاري حين يوازن بينها.
وهناك دليل آخر يقوّي هذا الإحتمال فعندما عرض إبن حزم لقناعة المحبّ بزيارة طيف محبوبه ذكر شعراً له في ذلك، وأحبَّ أن يوازنَ بينهُ وبينَ بعض الشعراء في هذا المعني، فلم يطب نفساً بأنْ يذكر أشعارهم بل عرض معانيها نثراً، وكان واجب الموازنة يقضي بأنَّ يوردَ أشعارهم بألفاظها، ليُعطيَ لقارئهِ فرصة النقد ومجال التذوّق يقول: «وللشعراء في علة فرار الطيف أقاويل بديعة بعيدة المرمي مخترعة» كل سبق إلي معني من المعاني فأبو إسحاق بن سيّار النّظام رأس المعتزلة جعل علة مزار الطيف خوف الأرواح من الرقيب المرقب، علي بهاء الأبدان وأبو تمّام حبيب بن أوس الطائي جعل علته أنَّ نكاحَ الطيف لا يُفسد الحبَّ ونكاح الحقيقة يُفسدُهُ والبُحتري جعل علة إقباله استضاءته بنار وجده وعلة زواله خوف الغرق في دموعه، وأنا أقول من غير أن أمثل شعري بأشعارهم، فلهم فضل التقدّم والسابقة وإنّما نحن لاقطون وهم الحاصدون، ولكن اقتداءً بهم وجرياً في ميدانهم وتتبعاً لطريقتهم التي نهَجُوا وأوضحوا أبياتاً بينت فيها مزار الطيف مقطعة:(10)
أغارُ عليكِ من إدراك طَرْفي وأشفِقُ أنْ يُذِيبَكِ لَمْسُ كفِّيّ
فأمتنعُ اللقاءَ حِذارَ هذا وأعْتمدُ التّلاقي حين أغفي
فرُوحي إن أنمْ بكِ ذو إنفرادٍ مِنَ الأعضاء مُستترٌ ومخفي
وَوصلُ الرّوح ألطفُ فيكِ وقعاً مِنْ الجِسْم المواصلِ ألف ضِعْفِ(11)
وإذا أحصينا المواضيع التي ذكر فيها إبن حزم شعراً لغيره في طوق الحمامة فنجدها لا تزيد عن خمسة مواضع في كلٍّ منها أبيات قليلة. احداها أبيات للعباس بن الأحنف اضطره اليها خبر ساقه عن جارية غنتها، فلم ينس غناءها إلي آخر حياته، وهي قوله :
ليستْ من الإنس إلاّ في مناسبةٍ = ولا من الجِنّ إلاّ في التّصاوير
فالوجهُ جوهرهُ والجسمُ عَبْهَرَةٌ(13)والرّيحُ عنبرةٌ والكلُّ من نُورِ
كأنّها حين تَخطو في مَجاسِدها(14)تخطُو علي البيضِ أو حدِّ القواريرِ(15)
إنّي طربتُ إلي شمس إذا غَرَبتْ = كانت مغاربُها جوفَ المقاصير
شمسٍ ممثّلةٍ في خُلْق جاريةٍ = كأنَّ أعطافَها طيُ الطّوامير(12)
فقال إبن حزم: فلعمري لكأنَّ المضراب(16) إنّما يقع علي قلبي وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلي يوم مفارقتي الدنيا. وهذا أكثر ما وصلتُ إليه من التمكّن من رؤيتها وسماع كلامِها، وفي ذلك أقول :
لا تلُمْها علي النّفار ومَنْع ال = وَصلِ ما هذا لها بنكيرِ
هل يكونُ الهلالُ غيرَ بعيدٍ = أو يكون الغزالُ غيرَ نَفورِ؟!(17)
وأقول:
فلو يلقاكِ عبّاسٌ لأضحي لفوز(19) = قالِياً وبكمْ شَجِيّاً(20)
مَنَعْتِ جَمالَ وجهِكِ مُقلتيّا = ولفظُ كِ قد ضَنَنْتِ بهِ عليّا
أراكِ نَذَرتِ للرّحمنِ صَوْماً = فَلَسْتِ تُكلّمينَ اليومَ حيّا
وقد غنيّتِ للعبّاسِ(18) شِعراً = هنيئاً ذا لعبّاسٍ هنيّا
والموضوع الثاني: حين ذكر خبره مع صاحبه إبن عبداللّه محمد بن يحيي بن محمد بن الحسن التميمي المعروف بإبن الطّنبيّ: وكنّا ألفين لا نفترق وخِدنين(21) لا يجري الماء بيننا إلاّ صفاءً، فلمّا ألقت الفتنة جِرانها(22) وأرْخَتْ عزاليها(23) ووقع إنتهابُ جندِ البربر لمنازلنا في الجانب العربي بقرطبة ونزلوا فيها وتقلَّبتِ بي الأمور الي الخروج عن قرطبة وسكني مدينة المريّة فكنّا نتهادي النّظم والنثر كثيراً وآخرُ ما خاطبني به رسالة في درجها هذه الأبيات :
وأراني أري مُحَيّاكَ يوماً = وأناجيكَ في بلاطِ مُغيثِ(25)
فلو أنَّ الدّيار يُنْهِضُها الشّوقُ = أتاكَ البلاطُ كالمستغيثِ
ولو أنَّ القلوب تستطيع سَيْراً = سار قلبي إليكَ سَيْرَ الحَثيثِ(26)
كُنْ كما شِئتَ لي فإنّي مُحبٌّ = ليسَ لي غيرُ ذِكْرِكُمْ مِنْ حديثِ
لكَ عندي وإنْ تناسيتَ عَهْدٌ = في صميم الفؤادِ غيرُ نَكيثِ(27)
ليتَ شعري عن حَبّل ودّكِ هل يم = سي جديداً لديّ غير رثيثِ(24)
وإبن حزم لم يورد هذه الأبيات استدلالاً علي معنيً في كتابه أو وقوفاً عند غرض، بل جاءت ضمن ايراده لمواقف من بيئته وحياته وبذلك لم تمس تفرّدهُ بالإستدلال بشعره علي المعاني التي يعالجها(28).
والموضع الثالث: ذكر فيه بيتين من النظم الرّكيك استشهد بما في مجلس بعض مياسير أهل بلده، وشاهد فيه أمراً أنكره وغمزاً إستبشعه وخلوات الحين بعد الحين، وصاحب المجلس كالغائب أو النائم، فنبّههُ إبن حزم بالتعريض فلم ينتبه وحركهُ بالتصريح فلم يتحرك فجعل يكرر عليه بيتين قديمين لعلّه يفطن وهما بيتان لايمتان الي الشعر بغير الوزن، ولا مدخل لهما في أمر العاطفة.
إنَّ أخوانهُ المقيمين بالأم = س أتَوا للهناءِ لا للغِناءِ
قطعوا أمْرَهُمْ وأنتَ حِمارٌ = مُوقرٌ من بلادةِ وغَبَاءِ(29)
وأكثر إبن حزم من إنشادهما حتي قال له صاحب المجلس: قد أمللتنا من سماعهما فتفضّل بتركهما أو إنشاد غيرهما، فأمسكَ إبن حزم وهو لا يدري أغافلٌ هو أم متغافلٌ، وما عاد إلي ذلك المجلس بعدها.(30).
والموضع الرّابع: ذكر فيه بيتين لأبي بكر عبدالرّحمن بن سليمان البلويّ من أهل سبتة(31)، وكان شاعراً مفلقاً(32)، وهو ينشد لنفسه في صفةِ متجنٍّ معهودٍ أبياتاً له، منها :
سريعُ إلي ظهر الطريق وإنّه = إلي نقض أسباب المودّة يسْرعُ
يطولُ علينا أن نرقع ودَّهُ = إذا كان في ترقيعهِ يتقطّعُ(33)
والموضع الخامس: ذكر فيه بيتين لعيسي بن محمد بن محمل الحولاني، قال في عبيد اللّه بن يحيي الأزديّ المعروف بإبن الحزيريّ وكان قد رضي بإهمال داره وإباحة خيمه والتعرض بإهله طمعاً في الحصول علي بغيته.. قال :
يا جاعلاً إخراج حرّ نسائِهِ = شَرَكاً لصيد جاذِر الغِزلان
إنّي أري شركاً يُمزّقُ ثمّ لا = تحظي بغير مذلَةِ الحرمان(34)
وفي كلّ هذه المواضع لا نجد شعراً يتّصل بموضوع طوق الحمامة أو يمثّلُ معني، من معاني الحبَّ والهيام، كلها أبيات جاءت عرضاً في سياق الموضوع وأضطرّ إليها ابن حزم لتعلقها بما يذكرهُ من حوادث ومناسبات.
وهكذا يأكّد إنَّ إبن حزم كان ضيّق الصدر بمنهج التقليد والرواية، فقد رفض أنْ يفسح في كتابه مجالاً لأخبار العرب والمتقدمين، ولم يرتض أن يفسح المجال لرواية الشعر وآثر أن يذكر أشعاره فذلك أقرب إلي منهجه وأحُبّ إلي نفسه(35).
فإذا أنتقلنا إلي الأغراض التي أنشأ إبن حزم شعره في «طوق الحمامة» سنجد أنَّهُ أورد شعراً من شعره في كلّ فصل من فصول الكتاب، وكلّ علامة من علامات، وإعراض الحُبّ.
1 - ماهية الحُبّ عند إبن حزم :
لقد كان إبن حزم يورد شعراً = في كلّ باب يتعرّضُ له.
ولقد تعرّض في باب «الكلام في ماهيّة الحُبّ» تفسيره لوقوع الحُبّ: «والذي أذهب إليه أنّه إتصال بين أجزاء النّفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع»(36).
وقال إنَّ سرّ التمازج والتباين في المخلوقات إنَّما هو الإتصال والإنفصال، والشكل دأباً يسعي الي شكلهِ والمثلُ إلي مثلهِ ساكن، وللمُجانسة عملٌ محسوسٌ وتأثيرٌ مشاهدٌ... ويشرح هذا المعني في أبياته التالية:
ودادي لك الباقي علي حَسْبِ كَوْنهِ = تناهَي فلم يَنقصْ بشيءٍ ولم يَزِدْ
وليست لَهُ غير الإرادة علّةً = ولا سببٌ حاشاهُ يعلمُهُ أحَدْ
إذا ما وجدنا الشيءَ علَّة نفسه = فذاك وجودٌ ليس يَفني علي الأبدْ
وإمَّا وجدناهُ لشيء خلافه = فإعدامُه في عُدْمنا ماله وُجِدْ(37)
وهي أبيات تخلو - في الحقّ - من أيّة صورة شعرية، إذ لا تعدو أن تكون شرحاً - موزونا - لفكرته عن علّةِ وقوع الحُبّ.
كذلك ظهر أثر الفلسفة في شعر إبن حزم الذي أورده في «طوق الحمامة» وقد كان إبن حزم مشاركاً في الفلسفة والحكمة وله فيهما نتاج.
يقول إبن حزم في معني خطاب المرئي في الظاهر خطاب المعقول الباطن، وهو معنيً صرفه الشعراءُ في اشعارهم، وهو المستفيض في شعر النظام إبراهيم بن سيّار وغيره من المتكلمين(38).
أري هيئة إنسيّة غيرَ أنّهإذا أعمل التّفكيرُ فالجِرْمُ عُلويُّ
تباركَ مَنْ سوّي مذاهبَ خلْقه = علي أنَّك النُّورُ الأنيقُ الطبيعيُّ
ولا شكَ عندي أنّك الرّوحُ ساقه = إلينا مِثالٌ في النّفوس إتصاليٌ
عَدِمْنا دليلاً في حدوثكَ شاهداً = نقيسُ عليه غيرَ أنك مَرْئيُ
ولولا وقوع العين في الكونِ لم نَقلْ = سوأ أنّكَ العقلُ الرّفيعُ الحقيقيُ(41)
أمن عالم الأملاكِ(39) أنت أمِ أنسيٌّ = أبنْ لي فقد أزْري بتمييزي العِيُّ(40)
فالمعني في هذه الأبيات تتناول صلة النّفس بالجسم، وأنَّ الصورةَ دليلٌ علي ما وراءها والألفاظ المستعارة فيها من الفلسفة وعلم الكلام واضحة لا تحتاج إلي بيان، فالطبيعية والحدوث والعقل الرَّفيع والدَّليل والمرئي والإتصال، كلّها مصطلحات الفلاسفة والمتكلّمين وهي شاهدة علي مصدر من مصادر ثقافة إبن حزم وجانب من جوانب تأثرهِ(42).
وهي تخلو - أيضاً - من الصورة الشعرية الفنية إذ لا تعدو أن تكونَ ترجمة نثرية ركيكة لبعض الأفكار التي في ذهن إبن حزم حول هذا الموضوع كذلك القول النثري، إذا أعمل التّفكير فالجرمُ عُلويُّ.
وإنَّ هذا ليوضِّحَ لنا أنَّ ابن حزم ناظم أكثر منه شاعراً صادقاً يصدر عن عاطفة وينطق عن إحساس وإنفعال.
وإبن حزم نفسه يوفر علينا مشقة الإستدلال علي هذا الحكم وتلمّس أسبابه إذ يصرّح بذلك في بداية كتابه فيقول: «وسأورد في رسالتي هذه أشعاراً قلتها فيما شاهدته، فلا تنكر أنت ومن رآها عليَّ أنَّي سالك فيها مسلك حاكي الحديث عن نفسه، فهذا مذهبُ المتحلّين بقول الشعر»(43).
ومعني ذلك أنّهُ ينظم معاني يدركها بعقلهِ لا أحاسيس يتأثر بها وحدانهُ، ولا يصدر في ذلك عن طبع وضرورة بل عن تكلّف ومعاناة، بل كان إبن حزم يشبه شاعر القبيلة، أو الناطق بإحساس جماعته، فقد كان يُطلبُ منه نظم الشعر في معني من المعاني أو موقف من المواقف فيجيب إلي ذلك وليس هذا مقام الشاعر الصادق، الذي يخرجُ علي النّاس بإحساس عاناهُ واضطرم في فؤاده لا يملك منه مهرباً، لا أن ينطوي تحت معاني النّاس وأفكارهم، فليس الشاعر صانعاً يصنع الشعر علي اوضاع مطلوبة أو مناسبات مرغوبة، بل صاحب تجربة تستقيها من وجدان ويرجع فيها إلي ذات نفسه(44).
أمّا إبن حزم فكان كما يقول: وأكثر من ذلك فإنَّ إخواني يجشمونني القول فيما يعرض لهم علي طرائقهم ومذاهبهم(45).
ولو يصرّح لنا إبن حزم بنهجه في شعره وتكلفه في صياغته ونظمه لاتّضَحَ لنا ذلك في شعره وعرضه علي مقاييس النّقد، فإنّك لا تحسُّ في شعره حرارة ولا تتبيَّن فيه عاطفة صادقة، بل تري فيه براعة في النظم وجنوحاً للجدل والإقناع(46).
2 إتجاهات ثقافية وعلميّة :
وما دام إبن حزم لم يصدر في شعره عن عاطفة أو تجربة صادقة فلا بدّ أنَّ هناك أثراً للصناعةِ الإتجاه العقلي والفلسفي في شعره، أو بمعني آخر لا بدّ أنَّ هذا الشعر صادر عن ثقافة إبن حزم معبّر عن إتجاهاته العلمية.
والنّاظر في شعر إبن حزم، الذي تضمنّه «طوق الحمامة» يجد تأثيراً واضحاً بالمصطلحات الدينية، واللغوية والفلسفة والحكمة، وميلاً قوياً الي الجدل والإقناع والإحتجاج، وهي الملامح المميزة لثقافة إبن حزم(47).
فمن تأثره بالفقه وأصوله وعلوم الدين قوله في الإستدلال علي إستحالةِ أنْ يُحبَّ الإنسانُ إثنين في وقتٍ واحدٍ.
ليس في القلبِ مَوْضعٌ لحبيبينِ = ولا أحْدثُ الأمورِ بثاني
فكما العقلُ واحِدٌ ليسَ يَدْري = خالقاً غيرَ واحدٍ رَحمانِ
فكذا القلبُ واحدٌ ليس يهويغيرَ= فردٍ مُباعدٍ أو مُدانِ(49)
هو في شرَعة المودّة ذوشكّ = بعيدٍ مِنْ صحةِ الإيمان
وكذا الدينُ واحدٌ مستقيمٌ = وكفورٌ مِنْ عِنْدَهُ دينانِ(50)
كَذَبَ المُدَّعي هَوي إثنين حَتْماً = مثلَ ما في الإصول أكذبَ ماني(48)
فمن الواضح إنَّ هذا إحتجاج عقلي يحفل بالقياس والمصطلحات الدينية وليس شعراً صادراً عن عاطفة، وهو إلي النّثر أقرب.
أين هذا من قول جميل في نفس المعني :
ولرُبَّ عارضةٍ علينا وَصْلها = باجِدّ تَخْلطه بقول الهازل
فأجبتها بالقول بعد تستّر = حبَي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كانَ في قلبي كقدر قلامة = فَضْل وصلتُك أو أتتك رسائلي(51)
وأين هذا من قول إبن زيدون وقد كان شاعراً معاصراً لإبن حزم.
لم نعتقد بعدكم إلاّ الوفاء لكم = رأياً ولم نتقلد غيره دينا
لا تحسبوا نأيكم عنّا يُغيّرنا = إنْ طالما غيّر النأي المحبيّنا
واللّه ما طلبت أهواؤنا بدلاً = منكم ولا لصرفت عنكم أمانينا
فما إستعضنا خليلاً منك يحبسنا ولا إستفدنا حبيباً عنك يُثنينا
ولو صبا نحونا من علو مطلعه = بدر الدُّجي لم يكن حاشاك يصبينا(52)
أو في قول الشاعر الأندلسي :
لو كان قلبي معي ما أخترت غيركمو = ولا رضيتُ سواكم في الهوي بدلاً
لكنّه راغب فيمن يعذبه = وليس يقبل لا لوماً ولا عذلاً
فهذا هو الشعر الحافل بالعاطفة المليءُ بالصور الموحية وليس شعر ابن حزم الذي يشبه حجج المناطقة وجدل المتكلّمين والفقهاء.
ومن ذلك ايضاً قول إبن حزم في قصيدة محتوية علي ضروب الحكم وفنون من الآداب الطبيعية، كما يقول عنها إبن حزم:
وأعدِلُ في إجتهاد نفسي في الذي = أريدُ وإنّي فيهِ أشقي وأتعبُ
وأصْرِفُ نفسي عن وجُوه طِباعِها = إذا في سواها صَحَّما أنا أرْغَبُ
كما نَسَخَ اللّه ُ الشرائعَ قبلنا = بما هو أدني للصلاح وأقرَبُ
وألقي سجايا كُلَّ خَلقٍ بِمثلِها = ونَعتُ سجاياي الصَّصحيحُ المهدّبُ
كما صار لونُ الماءِ لونُ إنائِهِ = وفي الأصل لونُ الماءِ أبيضُ مَعْجِبُ(53)
وفي قطعة أخري يصور ضرباً من الهَجر يكون متوليه المحُبّ، وذلك عندما يري جفاء محبوبه والميل عنه إلي غيره، أو لثقيل يلازمه، فيري الموت ويتجرّع غصص الأسي، فينقطع وكبده تتقطّع، يقول :
لكنَّ عيني لم تُطق نظرةً = إلي مُحيّا الرَّشأ(55) الغادِرِ
فالموتُ أحلي مَطْعماً من هَويً = يباحُ للوارِدِ والصادِرِ
وفي الفؤادِ النَّارُ مَذْكيَّةٌ(56) = فأعجبْ لصَبِّ جَزعٍ صابرٍ
وقد أباحَ اللّه ُ في دِينهِ = تقيَّة(57) المأسْورِ للآسرِ
وقد أحلَّ الكُفرَ خوفُ الرَّدي = حتّي تَري المؤمن كالكافِرِ(58)
هجرتُ مَنْ لا عن قِليً(54) = يا عجباً للعاشق الهاجر
فهذا أسلوب المتكلّمين، فالإباحة والتّقية والكفر والإيمان، كل ذلك ينطق بمنزع إبن حزم، ويوضّح أن شعره ليس إلاّ نظماً تثقله مصطلحات الفقه والكلام.(59)
وإذا حاولنا أن نعقد مقارنة ببين قوله في الهجر وبين قول شاعر كإبن زيدون إذ يقول:
إنَّ الزّمان الذي مازال يضحكنا = أنساً بقربهم قد عاد يبكينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا = يقضي علينا الأسي لولا تأسّينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت = سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا(60)
لوجدنا فارقاً شاسعاً في الصورة الفنيّة بينهما فإبن زيدون يعتمد الطباق والجناس إعتماداً يدل علي تمكن فنّي وخصوبة شاعرية في الثّنائي - التّداني، يضحكنا - يبكينا، الأسي - التأسي، أيامنا - ليالينا، سوداً - بيضاً ثمّ هو لا يترجم أفكاره موزونة، بل يقيم معادلاً فنياً أو موازياً صورياً لمشاعره التي تدلّنا - بالصورة الفنية علي حالة الشاعر، المراد التعبير عنها.
3 العاذل والرَّقيب والواشي :
وهم من معوَّقات قيام الحُبِّ، أو أستمراره. وقد أفرد إبن حزم لكلّ منها باباً خصّصه في بحث صفات كلِّ واحد منهم وطرائق عمله وكيفية التغلب عليه أو أهداف كل منهم.
فالعُذالُ أنواع: عاذلٌ يريد المساعدة، صديق، وهو زاجر للنّفس ضابط لتهوراتها.
وعاذلٌ زاجرٌ لائم لا يفيق من الملامة، وذلك خطبٌ شديدٌ وعب ءٌ ثقيلٌ وعظيمٌ.(61)
والرقيب آفة من آفات الحُبّ العظيمة وأنّه لحمّي باطنةٌ وبرسامٌ(62) مُلِحٌ وفكرٌ مُكِبٌّ.
والرّقباءُ أيضاً أنواع: أولهم مثقلٌ بالجلوس غير متعمّد في مكان اجتمع فيه المرءُ مع محبوبه، وعز ما علي اظهار شيءٍ من سرّهما والبوح بوجدهما والإنفراد بالحديث.(63)
يُطيلُ جُلوساً وهو أثقلُ جالسِ = ويُبدي حديثاً لَسْتُ أرضي فنونهُ
شمامٌ ورَضْوي واللّكام ويَذْبِلٌ = ولبنانُ والصمّانُ والحربُ دونهُ(64)
ثم رقيب يريد إستبانة أمر المحبين، إذا إستراب في أمرهما، فيدمن الجلوسويطيل القعود، ويتخفّي بالحركات، ويرمقُ الوجوه، ويحصِّلُ الأنفاسُ(65).
مواصل لا يغبُّ قصداً = أعظم بهذا الوصال غمّا
صار وصِرنا لفرطِ ما لا = يزول كالإسمِ والمسمّي(66)
ثم رقيب علي المحبوب، فذلك لا حيلة فيه إلاّ بترضيّه. وإذا أرضيَ فذلك غاية اللَّذةِ، وهذا الرَّقيبُ هو الذي ذكرتهُ الشّعراءُ في أشعارها.
ورُبّ رقيبٍ أرقبوه فلم يزلْ = علي سيّدي عمداً ليُبعدني عنهُ
فمازالتِ الألطافُ تحكمُ أمرهُ = إلي أن غدا خوفي له آمناً منه
وكان حساماً سُلَّ حتي يهُدّني = فعادَ محبّا ما لنعمتهِ كُنْهُ(67)
ويقول في الرّقيب الداهية الذي إمتحنَ بالعشق قديماً ودُهيَ به وطالت مُدتهُ فيه ثمَّ عُري عنه بعد إحكامه لمعانيه، فكان راغباً في صيانةِ مَنْ رقبَ عليه :
وأتقنَ حيلة الصَّبِّ المعني = ولم يُضِع الإشارة والكلاما
وأعقبِهِ التسلّي بعد هذا = وصار يري الهوي عاراً وذاما
وصيّرَ دونَ من أهوي رقيباً = يبعِدَ عنهُ صبّاً مستهاما
فأيّ بليّةٍ صُبّت علينا = وأيّ مُصيبةِ حلّتْ لِماما(69)
رقيبٌ طالما عرفَ الغراما = وقاسي الوجدْ وإمتنعَ المَناما
ولاقي في الهوي ألماً أليماً = وكاد الحبّ يوردُهُ الحماما(68)
والواشي ضربان:
أحدهما واش يريدُ القطع بين المتحابين فقط، وإنَّ هذا لافترهما سوأة.
وثانيهما واشي يريدُ القطع بين المتحابين لغرض في نفسه يريد به أن يصل إلي المحبوبة وهو سمّ زعاف.
يقول :
عَجبتُ لواشٍ ظلَّ يكشفُ أمرنا = وما يسَوي أخبارنا يتنفّسُ
وماذا عليه من عنائي ولَوْعتي = أنا آكلُ الرّمان والولدُ(70) تضرسُ(71)
وهي أبيات تخلو جميعاً من أيّة صورة فنية فلا تُعد أن تكون إحالة عقيلة موزونة لأفكاره النثرية التي يوردها في المتن النَّصي.
فهو حين يصف تلازم الرّقيب لهما إنّما يكشف عن تأثره بالمصطلحات اللغوية والنحويّة وكأنّه يظن ذلك تفنّناً أو طرافة، مادام ناظماً لا شاعراً. فلم يجد غير تلك الصورة العقيلة الجافة التي تحتاج إلي التجريد الذهني لإدراكها:
صارَ وصِرْنا لفَرْطِ ما لا = يزول كالإسم والمُسمّي(72)
إنَّ ذلك يدل علي ضعف الملكة الشعرية التي تعني بالخيال وتقدر علي إختراع الصور لديه.
وأينَ هذا من قول جميل :
بلا، وبألا أستطيع، وبالمني = وبالوعد، حتي يسأم الوعد آمله
وبالنظرة العجلي وبالحول تنقضي = أواخره لا نلتقي وأوائله(74)
وإني لأرضي من بثينة بالذي لو أبصره(73) الواشي لقرَّت بلابله
وفي موضوع آخر يصف ما رآه من تذلل محبوب إلي محبوبه وخروج ذلك عن الحدّ الطبيعي أو المألوف عكس ذلك، فلا يثير في ذهن إبن حزم إلاّ صورة غامضة لم تدرك تصريحاً ولا تلميحاً، إذ شبه ذلك بتواضع المأسور للآسر والمأمول للآمل والفاعل للمفعول والمسؤول للسائل.
رغبة مَرْكوبٍ إلي راكبٍ = وذِلّة المسؤولِ للسائلِ
وطَوْلُ(76) مأسورٍ إلي آسر = وصولةُ المقتولِ للقاتلِ
ما إنْ سمْعنا في الوري قبلها = خضوعَ مأمولٍ إلي آمل
هل ها هنا وجهٌ تراه سِوَي = تواضع المَفْعولِ للفاعلِ(77)
ومن أعاجيب الزمانِ التي = طمّتْ(75) علي السّامع والقائل
فتجئ لفظة المفعول للفاعل هنا كريهة الإيحاء وبعيدة التصور لا حركة فيها ولا حياة، وربّما ظنّ إن حزم أنَّ ذلك منه تفنّن وإبداع.(78)
وقد كان إبن حزم جدلياً يحب الإنتصار والغلبة ويميل إلي الأفحام والأقناع، وقد تسرّب ذلك إلي شعره وهو مناف لطبيعة الشعر وإيحائه، فالشعر إيحاء وتصوير لا إقناع وتجريد، ولكن إبن حزم كما قدّمت ناظم لا شاعر :
يقول في معني إنتظار الزيارة :
أقمتُ إلي أن جاءني الليلُ راجياً = لقاءك يا سؤلي ويا غاية الأمل
فأيأسني الإظلامُ عنك ولم أكن = لا يأسَ يوماً إن بدا الليل يتّصل
وعندي دليلٌ ليس يكذب خُبّره = بأمثالهِ في مشكل الأمر يستدل
لأنك لو رُمتَ الزيارة لم يكن = ظلامٌ ودام النورُ فينا ولم يَزُل(79)
فإبن حزم يريد أن يصف جمال محبوبة بالإضاءةِ حتي ليبدّد ظلام الليل، وكان يمكنه أن يُصوّر ذلك مع تجنّب كلمة «وعندي دليل» و«مشكل الأمر» و«لأنّك لو» وكلّ هذه الأساليب تليق بالمناظرة أو الخصومة ولا تتسّق مع روح شعر الغزل ولا روح الشعر علي وجه العموم(80).
فالشعر لا يكون شعراً إلاّ: بقدر إبتعاده عن النّثرية العادية وبقدر إقترابه من تكوين صورة فنية يتمّ فيها التّجريد العيني والتصوير الفنّي والإنتقال إلي المجاز.
ومن ميله إلي الإفحام والغلبة قوله فيمن أحبَّ في محبوبه صفة لم يستحسن بعدها غيرها فما يخالفها :
وهل عاب لونَ النّرجس(83) الغضِّ عائبٌولون النّجوم الزاهرات علي البُعدِ
وأبعدُ خلق اللّه ِ من كلِّ حكمةٍ = مفضِّل جرمٍ(84) فاحم اللّون مسوَدِّ
به وصفتْ ألوانُ أهلِ جهنم = ولبْسة باكٍ مثكلِ الأهْلِ محتدِّ
ومُذْ لاحتِ الرّايات سوداً تيقّن = تنفوسُ الوري أن لا سبيل إلي الرّشدِ(85)
يعيبونها عندي بشُقرةِ شعرها = فقلتُ لهم هذا الذي زانها عندي
يعيبون لونَ النّور(81) والتّبر(82) ضِلَّةً = لرأي جهولٍ في الغواية ممتدِّ
فنراه يجنحُ إلي الجدل، وإبداء الحجج وعيب الرأي المخالف، فيذهبُ ببهاء الشعر وإيحائه.
ومن ذلك اللون من الإحتجاج العقلي الذي لا يأنس إلي العاطفة ولا يتّخذ التصوير وسيلة للإيحاء بالمراد قوله فيمن أحبَّ بالوصف :
ويا من لا مني في حُ = بِّ من لم يره طرفي
لقد أفرطت في وصف = كَ لي في الحبِّ بالضّعفِ
فقل هل تعرف الجنّ = ة يوماً بسوي الوصف؟(86)
وحتي التشبيه الذي يعتبر أوضح مجليً من مجال¨ التصوير، يجنح فيه إبن حزم إلي التجريد المحض، فلا تتّضح به الصورة بل تزيد خفاء. وكل ذلك أثر لتفكير إبن حزم وأسلوبه في التعبير.
4 الكتمان والهجران والفراق :
يقول إبن حزم في صوف ليل المحبّين وسهرهم ويذكر كتمان السرّ وأنه يتوسّم بالعلامات :
كأنَّ نجومهُ والغيمُ يخفي سناها عن مُلاحظةِ العيونِ
ضميري في ودادكَ يا منايا(87) = فليس يبينُ إلاّ بالظنون(88)
فأيّ صورة تتمثلها من تشبيه نجوم الليل المختفية وراء الغيم الغيم بالضمير؟ وهل في ذلك ما يحقق للصورة الشعرية الوضوح والتأثير؟
ولقد إرتكب إبن حزم ذلك التشبيه مرّة أُخري في كتابه، حين تحدّث عن البين وما يخلّفه في النّفوس من لوعة وأسي.
علي دراساتٍ مُقْفِراتٍ عَواطلٍ = كأنّ المغاني في الخَفاءِ مَعاني(91)
قفا فأسألا الأطلاَ أين قطينُها(89) = أمرَّت عليها بالبلَي الملوانِ(90)
فالمعاني لا تصلح مشبهاً به يوقع في النفس معني أو يقفها علي وصف محدد، فهي بحار متلاطمة تفاوت في الوضوح والخفاء، ولئن إعتبر البلاغيون هذا التشبيه تشبيه محسوس بمعقول، فإنَّ نقاد الشعر لا يرون فيه إلاّ تشبيه واضح بغامض أو تشبيه شيءٍ محدّدٍ بآخر لا محدود. فإبن حزم لم يترك من نفوسنا بهذا التشبيه أثراً واضحاً يثير في نفوسنا عاطفة معيّنة وكل هذا ولوع منه بالتجريد وشغف بالمعاني العقلية(92).
وأين هذا من أبيات قيس :
كأنّ القلبَ ليلة قيل يُغْدَي = بِلَيْلَي العامِرِيَّةِ أو يُراحُ
قطاةٌ عزَّها(93) شركٌ فباتتْ = تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَنَاحُ(94)
حيث إكتملت الصورة الشعرية الشاملة إذ شبّه قلبه ليلة سفر ليلي بالطائر المسكين الذي قبض شرك علي جناحه، كلما حاول الطائرُ الفكاك منتفضاً زاد إيلامه وتعلّقه بالشرك وإنجراحه به.
غير أنَّ هناك مع كل ذلك بعض التجارب الشعرية الصادقة لدي إبن حزم، لم تثقلها القيود ولم تعق حركتها الإصطلاحات أو العلوم، وتلك جري فيها إبن حزم علي مذهب الشعراء لا العلماء ولكنها صور قليلة، كقوله :
أم هل لدهري عودةٌ نَحْوها = كمثل يومٍ مرَّ في الوادي؟
ظللتُ فيه سابحاً صادِياً(96) = يا عجباً للسّابح الصّادي!
ضنيتُ(97) يا مولاي وجداً = فماتبصِرُني ألحاظُ عُوّادي
كيفَ إهتدي الوجدُ إلي غائبٍ = عن أعينِ الحاظرِ والبادي
مَلَّ مداواتي طبيبي فقد = يرحمُني للسُّقمِ حُسّادي(98)
هل لقتيلِ الحُبِّ من وادي = أم هل لعاني(95) الحُبِّ من فادي؟
وهذا دليل علي أنّه كان بإمكان إبن حزم أن يعبّر عن عاطفته بطلاقة حين يتخلّي عن المصطلحات والنثرية ويطلق لنفسه العنان الشعري دون قيود الصناعة او تجريد الأفكار ذهنياً.
5 الجانب الديني :
كما أنَّ شعر إبن حزم يستقيم ويقترب من الوجدان حين يحمل مضموناً دينياً يتمكن منه ويعمّق فيه، فيجري علي نسق الزّهاد والمتصوّفين.
ومن ذلك قوله في التوبة عن الصبوة ونهي النفس عن الهوي.
قد آنَ للقلب أن يُفيقَ وأنْيزيلَ = ما قد علاهُ من حُجُبهْ
يا نفسُ جِدّي وشمّري ودَعي = عنكِ إتّباع الهوي علي لَغَبِهْ(100)
وسارعي في النَّجاة وإجتهدي = ساعية في الخلاص من كُربهْ
يا أيها اللاعبُ الُمجدّ به الدَّهر = أما تتّقي شبا(101) نَكبه
كفاكَ من كلِّ ما وعِظتَ بهِما = قد أراكَ الزَّمانُ من عَجَبِهْ
دَعْ عنكَ داراً تفني غَضارتُها = ومكسباً لاعباً بمُكتسبهْ
مَنْ عَرَفَ اللّه ُ حَقّ مَعْرفةٍ = لَوي وحَلَّ الفؤاد في رَهِبهْ
شكراً لربِّ لطيفُ قدرتهِ = فينا كَحَبْلِ الورِيد في كتُبهْ(102)
رازقٍ أهلَ الزّمانِ أجمَعَهُ = مْمَنْ كانَ من عُجْمِهِ ومِنْ عَرَبِهْ
والحمدُ للّه ِ في تفضُّلِهِ = وقمْعهِ للزّمان في نُوبِهْ
أخْدَمَنا الأرضَ(103) والسَّماءَ = ومَنْفي الجوّ من مائِهِ ومن شُهُبِهْ
فأسْمَعْ ودَعْ مَنْ عصاهُ ناحيةً = لا يحمِلُ الحملَ غيرُ مُحتَطبِهْ(104)
أقصر عَنْ لهوِهِ وعن طربِهِ = وعفَّ في حُبّه وفي عَربه
فليس شُرْبُ المُدام هِمَّتهُ = ولا إقتناصُ الظَّباءِ(99) من أربه
ومجمل القول أنَّ شعر إبن حزم لم يصدر عن تجربة صادقة بقدر ما صدر عن تكلّف ومعاناة ساعد عليهما أنَّهُ كان يقوم بدور شاعر القبيلة، ويتحدَّثُ علي لسان إخوانه الذين كانوا يجشّمونه القول فيما يعرض لهم، إلي جانب أنَّهُ جعل شعره ميداناً للتفنُّن بالمصطلحات العلمية من كلّ لون: الفقهيّة والدينية والنحوية والفلسفية والطبيعية...
ولعلَّ هذا البحث أنْ يكون قد أفلحَ من تسليط الضوء علي شعر إبن حزم في طوق الحمامة، وإنْ كنّا قد رأينا أنَّهُ شعرٌ قليل القيمة الفنية في معظمهِ، لأنَّهُ يتذرعُ أحياناً بالحجج العقلية والمنطقية، مما يجافي طبيعة الشعر الوجدانية، أو يتَّسم أحياناً اخري بالنثرية والمباشرة مضحّياً بالصورة الفنية التي بدونها لا تقوم للشعر قائمة، إلي آخر هذه المآخذ التي يغص بها شعر إبن حزم، نقول: إنَّهُ وإنْ كنّا قد رأينا ذلك، إلاّ أنَّهُ لا يجب إنكار ما لطوق الحمامة من أهمية وما لشعره أحياناً، قليلة من قيمة فنية في بعض النماذج التي وفّق فيها الشاعر، ولعلّ حياة إبن حزم وعصره الذي إنعكست عليه مظاهر الشّرف والإنطلاق لعل هذه الحياة وذلك العصر هما اللّذان أبعدا شعر إبن حزم في الحُبِّ عن مثيله لدي العذريين من شعراء الجزيرة الذين كانوا أقرب إلي الفطرةِ والطبع والوجدان العفوي الصادق من أمثال قيس بن الملوح وقيس بن ذريح وجميل بثينة وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أهمّ المراجع:
1 د. الطاهر أحمد مكي: دراسات عن إبن حزم مكتبة وهبة الطبعة الأولي القاهرة 1976م.
2 د. الطاهر أحمد مكي: ضبط وتحقيق كتاب طوق الحمامة في الألفة والإف لإبن حزم الطبعة الأولي دار العارف القاهرة 1975م.
3 د. مصطفي عبدالواحد: دراسة الحُبّ في الأدب العربي جزءان دار المعارف القاهرة 1972م.
4 عبداللطيف شرارة: فلسفة الحُبّ عند العرب دار مكتبة الحياة بيروت 1960م.
5 يوسف الشاروني: الحُبّ والصداقة في التراث العربي والدراسات المعاصرة دار المعارف القاهرة 1975م.
6 الشعر الأندلسي: غرسيه غريث ترجمة د. حسين مؤنس دار النهضة المصرية الطبعة الثانية القاهرة 1956م.
7 ديوان إبن زيدون: مع رسائله وأخباره شرح وتحقيق محمد سيد كيلاني شركة مصطفي البابي الحلبي بمصر الطبعة الثالثة 1965م.
8 ديوان مجنون ليلي «جميل» جمع وتحقيق: عبدالستار أحمد فراج دار مصر للطباعة والنشر 1979م.
الهوامش :
1. دراسة الحب في الأدب العربي - د. مصطفي عبدالواحد، ج2، ص 277.
2. المرجع السابق، ص 277.
3. دراسة الحب في الأدب العربي - د. مصطفي عبدالواحد، ص 277. وانظر: طوق الحمامة، تحقيق د. الطاهر مكي، ص 17. وانظر: طوق الحمامة ابن حزم الأندلسي تحقيق وشرح عبدالقادر محمد مايو، ص 10.
4. طوق الحمامة، تحقيق وشرح عبدالقادر محمد مايو، ص101.
5. دراسة الحب في الأدب العربي، د. مصطفي عبدالواحد، ص 278.
6. طوق الحمامة لإبن حزم الأندلسي، عبدالقادر محمد مايو، ص 29.
7. طوق الحمامة لإبن حزم الأندلسي، ص 88 - 87 - 218.
8. المصدر السابق، ص 208 - 209.
9. المرجع السابق، ص 118 - 178.
10. دراسة الحبّ في الأدب العربي، ص 279.
11. المرجع السابق، ص 209. 12. الطوامير: جمع طومار وهو الصحيقة.
13. العبهرة: الواحدة من النرجس أو الياسمين.
14. المجاسد: القمصان التي تلي البدن، جمع مجسده وهو القميص الداخلي.
15. طوق الحمامة ابن حزم الأندلسي، عبدالقادر محمد مايو، ص 235.
16. المضراب: المعزاف أو ريشة العود.
17. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 236. 18. العباس: هو الشاعر العباسي، العباس بن الأحنف، صاحب الأبيات.
19. فوز: معشوقه العباس بن الأحنف وقد إشتهر بحبها.
20. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 236.
21. خدنين: مفردها خدن هو الصاحب الأحبّ الفة.
22. ألقت جرآنها: كناية عن التمكن واللبوث، الجران: مقدم عنق البعير يهبط به إلي الأرض عند البروك.
23. أرخت عزاليها: تدفقت بمطرها، والعزالي: مصبّات الماء من القرب مثلاً.
24. رثيث: رثّ أو بالٍ مستهلك.
25. بلاط مغيث: حي بالجانب الشرقي من قرطبة.
26. الحثيث: المستعجل.
27. غير نكيث: غير منتقض، مبرم متين، طوق الحمامة لابن حزم محمد مايو، ص 251.
28. دراسة الحبّ في الأدب العربي، ص 280.
29. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 277.
30. المرجع السابق، ص 277.
31. سبتة: بلد في العدوة الافريقية علي مضيق جبل طارق شرقاً.
32. مفلقاً: مبدعاً.
33. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 148. 34. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 274 - 275.
35. دراسة الحب في الأدب العربي، د. مصطفي عبدالواحد، ص 281.
36. طوق الحمامة، الطاهر مكي، ص 27. وأنظر: طوق الحمامة، محمد مايو، ص 15 - 16.
37. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 17.
38. دراسة الحبّ في الأدب العربي، ص 287.
39. الأملاك: الملائكة جمع ملك.
40. العِي: إنحباس الكلام والمنطق.
41. طوق الحمامة، الطاهر أحمد مكي، ص 25، وأنظر: طوق الحمامة، محمد مايو، ص 22 - 23.
42. دراسة الحبّ في الأدب العربي، ج 2، ص 288.
43. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 10.
44. انظر فصل التجربة من كتاب النقد الأدبي، محمد غنيمي هلال.
45. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 10.
46. دراسة الحُبّ في الأد العربي، د.مصطفي عبدالواحد، ص282.
47. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، د. مصطفي عبدالواحد، ص 282.
48. المداني: الواصل لمن يحبّه أو ضدّه المباعد الهاجر.
49. المداني: الواصل لمن يحبّه المباعد الهاجر.
50. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 57.
51. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، ص 283. 52. التجديد في الأدب الأندلسي، د. باقر سماكه، بغداد. وأنظر ديوان اين زيدون. 53. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 139. 54. القِلي: البغض.
55. الرَّشأ: الظبي الفتي، تشبه به الصبيّة.
56. مذكيّة: متقدة.
57. التقيّة: إتقاء الأذي والعقوبة ولو بالكذب.
58. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 153.
59. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، ص 284.
60. ديوان بن زيدون، ص .
61. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 95 - 96.
62. البرْسام: إلتهاب القلب والكبد، الداءُ العِضال.
63. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 102.
64. شمام ورضوي واللكام وينذبل ولبنان والصمّان: جبال مشهورة عند العرب. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 103.
65. يحصِّلُ الأنفاس: يتابعها ويضيق عليها بالتطفّل.
66. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 103. 67. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 104. 68. الحِمام: الموت.
69. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 106.
70. الولد: يشبّه الوشاة بالولدان علي سبيل الإستخفاف بهم.
71. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 111.
72. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 103. 73. وروي: ايقنه.
74. ديوان جميل «مجنون ليلي»، ص 225.
75. طمّت عليه: غمرته، وعطته.
76. الطّول: المقدرة والتحكم.
77. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 131.
78. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، ص 285.
79. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 36 37.
80. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، ص 286.
81. النور: الزهر الأبيض.
82. التبر: الذهب.
83. النرجس: زهر مستدير الشكل تشبّه به العيون.
84. الجرم: الجسم.
85. طوق الحمامة لإبن حزم، محمد مايو، ص 63.
86. طوق الحمامة لإبن حزم، حمد مايو، ص 63. 87. يا مناي: يا من أتمناه، وجاء مدّ حركة الياء لضرورة الشعر : «يا منايا».
88. طوق الحمامة لإبن حزم، محمد مايو، ص 33.
89. قطينها: ساكنها أو ساكنوها.
90. الملوان: الليل والنهار.
91. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 194.
92. دراسة الحُبّ في الأدب العربي، د. مصطفي عبدالواحد، ص 287.
93. العاني الأسير.
94. صادياً: ظمئاً.
95. صادياً: ظمئاً.
96. ديوان جنون ليلي، ص 90.
97. ضنيتُ: ضعفتُ وهزلُ جسمي.
98. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 136.
99. الظباء: إستعارة للنساء، والإقتناص: الصيد.
100. اللغب: التعب والأعياء.
101. الشبا: حدّ السيف.
102. الكثب: القرب.
103. أخدمنا الأرض: جعل الأرض في خدمتنا سخّرها لنا.
104. طوق الحمامة، محمد مايو، ص 37 304.
* جامعة الشهيد بهشتي - طهران
کلمات کليدي: دراسة الحب فی الأدب العربی
منبع : مجله آفاق الحضارة الاسلامية،
.