نقوس المهدي
كاتب
يعدّ العشق من أكثر الموضوعات التي شغلت وما تزال تشغل الفكر الإنساني منذ القديم حتى الآن، فالعشق وأحوال العاشقين “موضوع يعم آداب كل الأمم في جميع الأجيال, وما يزال الناس يتحدثون عنه نظماً ونثراً منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا… ومع هذا فإنَّ الأبحاث النظرية في ماهية العشق وسببه والممدوح والمذموم منه وغير ذلك قليلة نسبياً في آداب العالم. وقد كان للعرب حظ عظيم في هذا النوع من التأليف” ، من أمثال ابن حزم, والغزالي, والجاحظ, والكندي, وإخوان الصفا. وإنَّ “مؤلفات العرب في العشق حسنة جيدة يدل على حسنها وجودتها أنَّ تلك التي ترجمت منها ككتاب طوق الحمامة لابن حزم أو الأبواب المتعلقة بالمحبة والعشق من إحياء علوم الدين وكيمياء السعادة للغزالي لقيت رغبة عظيمة عند الطبقة المثقفة في أوربا وما تزال مطلوبة مقروءة” . ومن ينظر في الأدب العربي يجده زاخراً بالصور المعبّرة عن هذه العاطفة بأدق تفاصيلها، ولعلَّ هذا ما أمدّ المؤلفات العربية بمادة غنية للحديث عنها.
وعلى الرغم من كثرة الدراسات والكتب العربية في هذا الموضوع إلا أنَّ معظمها كان يكرّر بعضه بعضاً، وإن كان كل منها يدرسه من زاوية محدَّدة، فالأديب يدرسه من زاوية والفيلسوف من زاوية والمتصوِّف من زاوية أخرى، فدراسات الحب في تراثنا العربي “ترتبط فيما بينها بوشائج وراثية وكأنَّها سلالة أدبية واحدة، وهذا واضح فيما يدركه مؤلفو تلك الدراسات من ضرورة الاهتمام بأقوال من سبقوهم في هذا المجال، ويستعيرون بعض مادتهم الأدبية” . كما أنَّ معنى العشق في معظمها يلتقي مع ما هو مذكور في المعاجم العربية، كلسان العرب الذي جاء فيه في مادة “عَشِقَ” أنَّ: “العِشق: فَرْط الحب، وقيل: عُجْب المُحب بالمحبوب يكون في عفاف الحب ودعارته. وقيل: التعشُّق تكلُّف العشق. والعَشَق والعَسَق: اللزوم للشيء لا يفارقه، ولذلك قيل للكلِف عاشق، للزومه هواه” . فالعشق سمي عشقاً, لأنَّه يدل على لزوم المحب للمحبوب وعدم مفارقته إياه.
وموضوع العشق لدى ابن سينا من الموضوعات التي تستحق أن تأخذ حيزاً كبيراً من الدرس والتحليل لجدّته وتميُّزه, إذ استطاع أن يبني مفهوماً متكاملاً في العشق لم يُسبق إليه انعكست فيه ثقافته الموسوعية بشكل كبير. ويتبيَّن من خلاله، في فلسفة ابن سينا، النظام الكوني الدقيق والمتكامل الذي أبدعه الله، سبحانه وتعالى، ومكانة الإنسان فيه، كما يتبيَّن من خلاله طبيعة تركيب الإنسان والمؤثِّرات التي يخضع لها في حياته، وحاجات وجوده وبقائه، وأثر ذلك كله في وظيفته وفي تحقيق غايته واكتسابه السعادتين الدنيوية والأخروية.
أولاً: ما العشق؟
إزاء ما هو منتشر وشائع عن مفهوم العشق في صورته البسيطة، نجد لدى ابن سينا مفهوماً فلسفياً يمتاز بعمق الأسس المعرفية الثقافية. ويتلخَّص مفهوم ابن سينا في العشق في رسالة أفردها له جمع فيها معظم آرائه فيه، ويتضح من خلالها أنَّ ابن سينا يشترك مع غيره في بعض جوانب هذا المفهوم ويختلف عن غيره في بعضها الآخر. وليس العشق لديه مجرّد درجة من درجات الحب، بل إن هذا لا يشكّل إلا جانباً واحداً من الجوانب التي ذكرها.
وقد ذكر غرنباوم أنَّ رسالة ابن سينا في العشق رسالة فلسفية، وهي تبتعد عن صورة نزعة الحب في الأدب العربي، وإن كانت في بعض وجوهها تقدّم الأسس النظرية لهذه النزعة . وما ذهب إليه غرنباوم صحيح، لأنّ مفهوم العشق لدى ابن سينا الذي يمكن استنباطه من رسالته في العشق مختلف وبعيد عن مفهوم العشق في الأدب، وإن كان ابن سينا لا يغفله، فلا يشكِّل العشق بمعنى الحب إلا جانباً واحداً من مفهوم العشق لديه، وبوسعنا أن نستنبط مما جاء فيه من كلام بعض الأسس النظرية للحب، حيث توضح رسالة ابن سينا طبيعة هذه العاطفة الإنسانية وكيف تكون محمودة أو مذمومة، وكيف يمكن السيطرة عليها وتوجيهها الجهات الحسنة التي تليق بالإنسان، ومتى يمكن للمجتمع أن يقبلها ويقبل عليها، أو أن يرفضها وينفر منها. كما يتضح في هذه الرسالة التركيب النفسي والجسدي للإنسان وعلاقة هذا التركيب بتلك العاطفة ومدى تأثيره فيها، وكيف يمكن ضبط هذه العاطفة بمعرفة طبيعة تركيب الإنسان. وبذلك فإني أتفق مع ما ذهب إليه غرنباوم من أنَّ ابن سينا وضع بعض الأسس النظرية للحب في رسالته تلك.
كما ذكر جعفر آل ياسين أنّه “لعل فيما أورده ابن سينا في الفصل السابع من رسالته في العشق ما يحدّد لنا أفكاره في بناء نظرية متكاملة عن العشق لم يسبقه إليها السابقون رغم محاولاتهم المبعثرة في التراث الفلسفي” إلا أني أعتقد أنَّه لا يمكن حصر أفكار ابن سينا في بناء نظرية العشق في الفصل السابع من الرسالة، فتلك الرسالة مبنية على مقدمات ونتائج بينها ارتباط وثيق. ولا يمكننا أن نفهم المعنى الدقيق والأفكار المتكاملة للعشق من خلال الفصل السابع وحده.
وقد عدت أولاً إلى عدد من المعاجم اللغوية والفلسفية لمعرفة معنى العشق ودلالاته، إلا أنَّ تلك المعاجم لم تقدِّم الدلالة التي وجدت عند ابن سينا، إذ إنَّ للعشق لديه دلالات متعدّدة بعضها جديد وبعضها شائع معروف، وهو وضعها في قالب معرفي جديد على عصره.
تقدَّم أنَّ العشق في لسان العرب يدل على اللصوق واللزوم، فهو يدل على لزوم الشيء وعدم مفارقته، ولهذا قيل للكلف عاشق للزومه هواه. وإذا أخذنا الدلالة اللغوية لهذه الكلمة, وهي اللصوق بالشيء وملازمته إياه, تمكّنا من التقريب بينها وبين الاصطلاح السينوي.
فالعشق بمعناه الاصطلاحي العام لدى ابن سينا, قوة غريزية محرّكة تسري في كل الموجودات وملتصقة بها وملازمة إياها لا تفارقها أبداً، وهي تدفعها جميعاً نحو خيرها وكمالها, وتصرفها عن الشر والنقص .
فقوة العشق قوة دافعة مغروزة في كل موجود من الموجودات، وملتصقة به, وملازمة له. وبذلك تلتقي هنا الدلالة اللغوية للعشق مع معناه الاصطلاحي لدى ابن سينا. فما طبيعة هذه القوة المحرّكة؟ وما أهميتها؟ وما غايتها؟ وكيف يمكن أن تدفع الموجود نحو خيره وكماله؟ وما العلاقة بينها وبين الخير والكمال؟
وقد ذهب مختار بولخماير إلى أن مصطلح “قوة” بلغة ابن سينا الذي استخدمه في تعريف العشق, يُقابَل في لغة الفيزياء اليوم بـ “الطاقة” . وهو رأي حصيف يمكن أن نفهمه من خلال أنَّ هذه الطاقة هي “الطاقة الحيوية” في بعض جوانبها. والطاقة الحيوية هي إحدى دعامات الحياة في كل الكائنات من المجرة إلى الذرة، وهي التي تحرِّك الموجودات نحو حاجات وجودها وبقائها. وقد أطلق حكماء الصين على هذه الطاقة السارية في الجسد اسم “تشي”، كما أطلق عليها اليابانيون اسم “كي”، وذهب حكماء الهند إلى أنَّ هذه الطاقة هي التي تولّد حيوية الجسم وحواسه وكل ما يتعلق بحيويته. ويشدِّد الباحثون في الإنسان اليوم على كلية الإنسان ووحدته وتفرُّده، ويشيرون إلى وجود مفهوم حيوي في الكائنات الحية جميعاً لا يمكن تفسيره عن طريق وصف الظواهر الفيزيائية والكيميائية في الجسم؛ إذ تميل الكائنات الحية جميعاً إلى تأكيد ذواتها باعتبار أنَّ كلاً منها يشكّل وحدة عضوية تتألَّف من وحدات أصغر تتداخل فيما بينها في تفاعل حيوي مستمر . إنَّ هذا المفهوم الحيوي هو الطاقة السارية في الكائن الحي التي يمكن أن نطلق عليها اصطلاح ابن سينا “العشق”. ولعلّ ما جعل ابن سينا يختار هذه اللفظة لهذا المعنى هو ما تدل عليه من اللصوق بالموجود ولزومه حتى تصبح نظاماً ملحقاً به لا ينفصل عنه.
العشق لدى ابن سينا إذاً هو قوة متعشّقة وملتصقة بكل أجزاء الموجودات، وهي التي تحرّكها نحو مقتضيات وجودها، وهنا تكمن أهمية هذه القوة، إذ إنَّها السبب في حركة الموجود نحو الحصول على أسباب وجوده والاستمرار فيه، ولولاها لانعدمت إمكانية استمراره في الوجود. وهي بهذا تقوده نحو الخير والكمال، فحصول الموجود على حاجات وجوده الطبيعية من طعام وشراب وتوالد ونوم واستراحة ونحو ذلك من الأمور، هي خير الموجود لأنَّه يحصل بها على كماله المناسب لنوعه، فلكل موجود خير خاص به وكمال مناسب لنوعه، ولولا وجود هذه القوة المحرّكة لما كان بإمكانه الحصول على ما يجب أن يحصل عليه من خير وكمال ولاختلَّ وجوده . وبذلك فإنَّ الغاية التي يجب أن تقود إليها هذه القوة هي حفظ الوجود الطبيعي للموجود، وتحقيق التوازن والانسجام بين مفردات الكون، فلا بدَّ من أن يكون في أي موجود ما يساعده على الحصول على حاجات وجوده، ليستقيم الوجود بشكله الطبيعي ونظامه المحكم، ولولا ذلك لاختلّ النظام الكوني لأن الكل يصلح بصلاح الجزء.
ومن هنا رأى ابن سينا أنَّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تغرز قوة العشق في الموجودات مساعدة لها على حفظ وجودها وبقائها, حتى إنَّه عدَّ العشق سبب وجودها . فلولا أنَّ هذه القوة تحرِّكها للحصول على ما سلف لانقطعت أسباب وجودها، ووجود تلك القوة الغريزية فيها يجب ألا يفارقها على الإطلاق إذ في فراقه لها هلاكه، فقوة العشق بحسب ابن سينا قانون إلهي وضعه الله في مخلوقاته، لتسير على نظام معيّن لغاية محكمة. وإنَّ هذا القانون هو ما يفسّر لنا قوده كل موجود في تأمين وجوده واستمراره، فهذا يدل على وجود نظام داخلي في طبيعة تركيبه يساعده على ذلك، كما أنَّ هذا يفسّر لنا التناغم والانسجام بين مخلوقات الله في الكون فلا يطغى وجود أي منها على وجود الآخر، بل إنَّ لكل منها جهته الخاصة التي يتجه إليها بنظام معيّن ووفق قانون محدّد نحو غاية واضحة.
وعلى هذا فلا يكون العشق مجرَّد جذب طبيعي محرِّك للموجودات بحسب رأي جميل صليبا ، فهذا يجعل معناه ضيقاً ومحدوداً، إذ إنَّ الجذب الطبيعي يقتصر على وجود موضوع خارجي للجذب، والعشق لدى ابن سينا قوة محرِّكة داخلية فاعلة دائمة التأثير تتجه بالموجود نحو موضوع خارجي معروف لديه هو موضوع الجذب، وهذا الموضوع هو خير الموجود وكماله. وبذلك فإنَّ جميل صليبا يحصر العشق في جانب واحد، ويفقده دلالته التي سبق الحديث عنها.
وهو ليس كما رأى أحمد فؤاد الأهواني مجرّد “اصطلاح ابتدعه ابن سينا ليدل به على ما كان يجري في الفلسفة من قولهم بالحب” ، ففي ما قاله الأهواني تبسيط ساذج لمفهوم العشق لدى ابن سينا، ويجعل هذا العالم مجرّد مقلّد ومبتدع لم يحسن الإتيان بالجديد وإسراف في الرأي وعدم التزام بالدقة، فقد قصر دلالة العشق على الحب على حين أنَّه أوسع من ذلك بكثير لدى ابن سينا، ومن يقرأ رسالته في العشق سرعان ما يكتشف خطأ هذا الحكم، فالحب في رسالة العشق لا يشغل إلا حيزاً محدوداً لا يتجاوز الصفحتين. ولكل مصطلح لديه دلالة واضحة ومحدّدة، وهو أوعى من أن يبتدع أي مصطلح ابتداعاً ليدل به على شيء ما.
ويمكن من جهة أخرى أن نضع العشق في مقابل الحاجة الضرورية، فهو يظهر في وجوده الخارجي على شكل حاجات متنوعة في الموجود، بدءاً من الحاجات الطبيعية وانتهاء بالجمالية. فما يدلّنا على تلك الطاقة الداخلية المحرّكة في الموجودات هو التشكّل الخارجي لها في صورة حاجات لأمور تقتضيها طبيعة وجودها، فتقتضي كل قوة بناء على ذلك حاجات معينة بحسب ما في الموجود من قوى.
وترتقي الحاجات صعوداً نحو الأعلى بحسب رتبة الموجود في سلّم الوجود وبحسب قواه، بدءاً من النبات الذي لا تعدو حاجاته كونها حاجات أوليّة بسيطة، فالحيوان الذي يزيد في قواه على النبات وتزيد تبعاً لها حاجات وجوده التي هي أيضاً حاجات بسيطة، وانتهاء بالإنسان الذي يزيد في حاجاته على النبات والحيوان لكونه أرقى منهما في سلَّم الوجود. ولكنَّ الإنسان لا يكتفي بالحاجات الأولية البسيطة، وإنَّما لديه حاجات أخرى تتبع ازدياد قواه ومكانته في الوجود وغاية هذا الوجود، وتقتضي طبيعته النفسية والجسدية هذه الحاجات التي يحافظ إشباعها على توازنه النفسي والجسدي. فالنبات بحاجة إلى الغذاء والنمو والتوالد بحسب القوى الموجودة فيه، وهي حاجات طبيعية ولكنَّها في الوقت ذاته تقود إلى وجود جمالي، فالنبات يأخذ من الغذاء ما يكفيه بشكل غريزي، ولا يأخذ ما هو فوق حاجته محافظاً بذلك على جماله الطبيعي الذي خلقه الله عليه، وهو إذا لم يأخذ من الغذاء ما يكفيه، فإنَّ ذلك ينقص من جماله إذ يختل نموه ويتعرّض للشر والنقص، فالنقص في الغذاء شر قد يؤدي إلى اصفرار أوراق النبات وجفافها وتساقطها أو إلى ذبولها وميل أعناقها وفقدانها البريق واللمعان والرائحة العطرة. فكل موجود جميل لأنَّه من خلق الله “إنَّ الله جميل يحب الجمال” ، فكل ما يصدر عنه جميل وجماله هذا يقوم على قدرته على تحقيق حاجاته بقوة العشق فيه، فإذا ازدادت هذه الحاجة عن حدها أو نقصت وقع في القبح. وبذلك فإنَّ العشق يحافظ على الجمال الطبيعي للموجود، ويبعد عنه كل ما قد يتعرّض له من شرّ وأذى. وهو لا يقتصر على كونه يقود الموجود إلى الحصول على الحاجات الطبيعية، بل إنَّه في الوقت ذاته يحافظ على جماله من خلال إيصاله إلى خيره وكماله وجماله الخاص به. وما ينطبق على النبات ينطبق على الحيوان أيضاً، فإنَّه يتمكَّن بفضل قوة العشق من السعي نحو حاجات وجوده وبقائه التي لا تقتصر على كونها حاجات طبيعية فحسب، فهي بحصولها تحافظ على الجمال الطبيعي للحيوان وتبعده عن النقص أيضاً لأنَّها تمنحه ما يحافظ به على ذلك الجمال، فهو إذا حصل على ما يكفيه من طعام وشراب، يكتسب الرشاقة والحيوية ويحافظ على ما له من جمال، أمَّا إذا لم يحصل عليهما فإنَّه يصاب بالضعف والوهن ويفقد القدرة على الحركة، فتضعف عند العصفور الجميل القدرة على إصدار الأصوات الجميلة، ويفقد الفرس الرشاقة التي تساعده على اختراق الأجواء. وبذلك فالعشق هو الذي يمنح النبات ألقه وبريقه، والحيوان حيويته ونشاطه ورشاقته بفضل ما يولّده فيهما من حاجات. أمَّا الإنسان الذي يزيد في قواه على النبات والحيوان فإنَّ العشق لا يولّد فيه الحاجات الطبيعية التي يحافظ بها على جماله الطبيعي فقط، وإنَّما يولّد فيه أيضاً الحاجات الجمالية التي يتميَّز بها عن النبات والحيوان، فللإنسان حاجات طبيعية وأخرى جمالية تقتضيها قوته الناطقة ويحصل عليها بإرادته واختياره.
فالعشق في الموجود قوة غريزية محرّكة تتجسَّد خارجياً في تحقيق الحاجات، وبذلك ينطبق ما ذهب إليه علماء النفس في العصر الحديث مع ما قاله ابن سينا فيما يتعلّق بالإنسان، فقد “كان من أهم المحددات التي اهتمّ بها علماء النفس لتفسير السلوك الإنساني ومعرفة طبيعته وأسبابه ودوافعه هو أنَّ للإنسان حاجات متعدّدة منها ما هو أولي فطري كالحاجة إلى المأكل والمشرب، ومنها ما هو نفسي اجتماعي مكتسب …. والحاجة إلى الحب والانتماء والرقي والتقدير من الآخرين. وعدم إشباع هذه الحاجات إنَّما يؤدي إلى حالة من عدم التوازن الأمر الذي يؤدي بدوره إلى حدوث توتر جسمي ونفسي” .
إنَّ العشق عند الإنسان أرقى مما هو عليه عند النبات والحيوان بفضل قوته الناطقة التي تمنحه الإرادة والاختيار إذ يتحوّل الغريزي بفضل هذه القوة إلى جمالي، فهو يندفع نحو الطعام والشراب ونحو ذلك بشكل غريزي، ولكنَّ إرضاءه حاجته إليهما يتم بشكل نطقي، فنجد أنَّ الإنسان يحاول أن يبدع دائماً الوسائل والطرق التي تجعل تناوله لطعامه أجمل وأرقى وأكثر تهذيباً، وما ذلك إلا لأنَّه يحب الجمال ويعشقه ويحاول أن يجده في كل شيء. كما تظهر لدى الإنسان بفضل تلك القوة الحاجة إلى الحب وإلى الاستماع إلى الموسيقا الجميلة وقراءة الشعر والرسم ونحو ذلك، أي الحاجة إلى تلمّس مواطن الجمال في الحياة وإبداعه أيضاً. ومن هنا فإنَّ ابن سينا رأى أنَّ “العشق ليس في الحقيقة إلا استحسان الحسن والملائم جداً. وهذا العشق هو مبدأ النزوع إليه عند غيبوبته، إن كان مما يباين، والتأحّد به عند وجوده” . فليس العشق هو الاستحسان بذاته للحسن والملائم، بل إنَّه بحسب ما يتبيَّن هنا مبدأ الحركة والنزوع إليهما. فعشق الحسن أو الحاجة إليه حاجة ملّحة وضرورية للإنسان وليست أقل من الحاجات الأولية البسيطة كما هو واضح هنا، والدليل على ذلك أنَّه في حال عدم حصول الإنسان على الحسن والملائم، فإنَّ العشق يحرّكه نحوه ويجعله ينزع إليه، أمَّا في حال وجوده فإنَّه يدفع صاحبه إلى الاتحاد بما هو حسن وملائم لطبيعته. فالإنسان يعشق بطبعه الحسن والملائم ويبحث عنهما ويقبل عليهما ويتحد بهما عندما يجدهما، فما من إنسان إلا ويعشق الجمال بالقوة وتنزع نفسه إليه وتطلبه. ومن الواضح هنا أنَّ ابن سينا جمع بين الحسن والملائم، ليدلّ بذلك على أنَّ الحسن لا بدّ من أن يكون ملائماً للنفس ومنسجماً معها، وأنَّ الحُسن صفة محبّبة إلى النفس ولذيذة لأنَّها تلائمها وتنسجم معها. وحتى يكون الشيء حسناً فلا بدَّ من أن يكون ملائماً، فإذا لم يكن كذلك لما كان حسناً. وستتضح في الفصل الثالث الأهمية الكبيرة والقيمة العظيمة لهذه الفكرة في الفن، إذ إنَّ ما يميز الفن لدى ابن سينا هو أنَّه يجب أن يكون حسناً ملائماً للنفس ومنسجماً معها ليكون معشوقاً، فالفن المؤثّر هو الفن الجميل الذي يتحد بالذات ويؤثّر فيها من خلال ملاءمته لها.
ولكن كلام ابن سينا السابق يمكن أن يفهم بطريقة أعم وأشمل، بمعنى أنَّ استحسان الحسن والملائم أمر يمكن أن يشمل النبات والحيوان أيضاً، فيكون الحسن هنا بمعنى الأمر الجيد الملائم، فكل موجود يستحسن ما يلائمه ويعشقه ويبحث عنه دائماً، ليتحدّ به فهو بحاجة دائماً إلى ما يلائمه حاجة تقتضيها طبيعة وجوده.
وبوضعنا للعشق في مقابل الحاجة، فإنَّه بوسعنا أن نلمس تقارباً بين ابن سينا وإتيان سوريو إذ يقول سوريو “إنَّ ما أدعوه حاجة جمالية هو ذاك الحافز، أو تلك القوة الجاذبة التي تدفعنا أن نؤم في بعض الأيام متحف الفن الحديث، أو أن نذهب لشراء أسطوانة موسيقية” . فالحاجة الجمالية لدى إتيان سوريو هي القوة التي تجذب الإنسان نحو الجميل. والعشق لدى ابن سينا هو القوة المحرِّكة التي تجعل الإنسان أو الموجود بشكل عام يستحسن الحسن والملائم، ولكنَّ الفرق بينهما أنَّ الحاجة الجمالية لدى ابن سينا مطلقة وهدفها الخير وهي موجودة في كل الموجودات، وإن كان هناك اختلاف في طبيعتها، فموقف ابن سينا موقف من الوجود بأكمله وهو عام وشامل، على حين أنَّ موقف سوريو ضيّق وخاص بالعلاقة بين الإنسان والأشياء، وهو يرتبط بالفن خاصة.
والعشق من خلال ما تبيّن يربط الإنسان مع العالم الخارجي ويوثّق علاقته به، فهو مرتكز أساساً على وجود ذات وموضوع، فيكون هو الرابط بينهما، إذ إنَّه القوة المغروزة في الذات، وهو يجعلها تقبل على الموضوعات المختلفة في العالم الخارجي انطلاقاً من الدافع الذاتي فيه.
ويأتي العشق لدى ابن سينا بمعنى الحب أو درجة من درجاته ، وهو المعنى الشائع المعروف له، إلا أنَّ ما يميزه لديه أنَّه كانت له طبيعة ووظيفة تتفق مع المنهج المعرفي العام الذي وضعه وأخضع له كل علومه ومعارفه. فحين تناول العشق كعاطفة إنسانية، امتزجت لديه الرؤية الفلسفية بالطبية والدينية، فالعشق لديه عاطفة إنسانية يجب أن تحتكم إلى العقل والدين وأن تكون وسيلة للرقي والكمال، ونتج عن ذلك تحديد دقيق وتفسير متميز كان له أثره الكبير في بيان أهمية هذه العاطفة في حياة الإنسان وذلك إذا كان على الصورة المعتدلة والملائمة لطبيعته، وخطرها عليه حينما تتحوَّل إلى مرض وسواسي قد يقوده إلى الجنون حينما تخرج عن حد الاعتدال. ولم ينس خلال ذلك أن يوضح كيف يجب أن يكون العشق حتى يوصل الإنسان إلى غايات محمودة، ويكون سبباً في رقيه وكماله وبلوغه سعادته. فهو لم يقف عند حدود وصف هذه العاطفة وبيان أسبابها ونتائجها من وجهة نظرية، بل إنَّه نهج في ذلك منهجاً علمياً وعملياً قائماً على الملاحظة والتجربة، ومما ساعده على ذلك أنَّه طبيب بارع عرف بتجاربه الواسعة ونجاحه في البرهان على نتائجه. ويضاف إلى ذلك أنَّه وظّف معرفته بعقيدته في تحديد كيف يجب أن تكون هذه العاطفة حتى لا تؤدي إلى أمور مذمومة وقبيحة عقلاً وشرعاً، ومضرَّة بالإنسان، ومبعدة إياه عن خيره وكماله وسعادته. كما وظّف فلسفته في وضع الأساس النظري لهذه العاطفة ببيان طبيعتها وتأثيرها وكيف يمكن السيطرة عليها وتوجيهها نحو الأمور الملائمة والمحمودة. فهناك في فلسفته من الأسس ما يصلح لأن يكون أساساً قوياً وقاعدة متينة تبنى عليها أسس هذه العاطفة في الإنسان وتحتكم إليها وتضبطها. فمن خلال مفهوم النفس مثلاً تتحدَّد طبيعة الإنسان والقوى الكامنة فيه وبما يمكن أن يتأثَّر، وكيف يمكنه أن يضبط نفسه ويسيطر عليها إزاء المؤثِّرات الكثيرة التي يمكن أن يتعرَّض لها.
وقد ذكر ابن سينا أنَّ العشق، كعاطفة إنسانية، قد تتحوَّل إلى حالة مرضية من وجهة نظر طبية في كتابه القانون في الطب، مفسّراً طبيعة هذه العاطفة ودواعيها فبيّن أنَّه “مرض وسواسي شبيه بالمالنخوليا يكون الإنسان قد جلبه إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل التي له، أعانته على ذلك شهوته أو لم تعن” .
فالعشق في هذا المفهوم ليس إلا مرضاً ناتجاً عن تسلُّط فكر الإنسان على الصور المادية والصفات المستحسنة لديه في الموضوع. وما يلفت الانتباه في تعريف ابن سينا هذا أنَّ الإنسان هو من يجلب هذا المرض إلى نفسه بإرادته واختياره، إذ إنَّ لديه القدرة والقوة على ضبط فكره، فقد هيئ بطبيعته ليكون قادراً على ضبط قوى نفسه وتحديد اتجاهاتها. وهو إذا لم يضبط ذلك تحوّل هذا العشق لديه إلى مرض وسواسي قد يتعذَّر علاجه إذا استحكم، كما قد يؤدي إلى هلاكه. وبذلك فإرادة الإنسان واختياره قد تودي به إلى الشر والنقص بدلاً من الخير والكمال، كما قد توقعه في القبح عندما يقوم بأفعال غير ملائمة لطبيعته. فالعشق بالمفهوم الاجتماعي قد يتحوّل إلى مرض وسواسي إذا لم يضبط الإنسان فكره، وقد يجعله هذا يقوم بأفعال قبيحة عقلاً وشرعاً ومتنافية مع طبيعته ووظيفته في الوجود، وهذه الأفعال تنقص من جمال أفعاله وتبعده عن خيره وكماله.
وما يحفز هذه العاطفة هي الصور الإنسانية الجميلة، فعندما يشاهد الإنسان صورة جميلة ينجذب إليها ويحبها ، والسبب في ذلك أنَّ قوة العشق المحرِّكة تدفع الإنسان نحو الجميل والملائم وتجعله يبحث عنه، وعندما يقابله يحبه ويتحد به. وبذلك يدل العشق على معنيين هنا لدى الإنسان، الأول فلسفي وهو القوة المحركة نحو الجميل، والثاني اجتماعي وهو العاطفة التي تظهر لدى الإنسان عندما يقابل وجهاً جميلاً.
وقد نوّه ابن سينا إلى أنَّ لهذا النوع من العشق أي عشق الصور الإنسانية الجميلة أثراً كبيراً في الإنسان، فإمَّا أن يكون سبباً للرفعة والخيرية وإمَّا أن يكون سبباً للنقيصة والملامة أي إمَّا أن يكون حسناً أو قبيحاً . و قد اعتمد في وصوله إلى هذه النتيجة على مصدرين هما العقيدة الإسلامية ومعرفته العميقة بالنفس.
.
وعلى الرغم من كثرة الدراسات والكتب العربية في هذا الموضوع إلا أنَّ معظمها كان يكرّر بعضه بعضاً، وإن كان كل منها يدرسه من زاوية محدَّدة، فالأديب يدرسه من زاوية والفيلسوف من زاوية والمتصوِّف من زاوية أخرى، فدراسات الحب في تراثنا العربي “ترتبط فيما بينها بوشائج وراثية وكأنَّها سلالة أدبية واحدة، وهذا واضح فيما يدركه مؤلفو تلك الدراسات من ضرورة الاهتمام بأقوال من سبقوهم في هذا المجال، ويستعيرون بعض مادتهم الأدبية” . كما أنَّ معنى العشق في معظمها يلتقي مع ما هو مذكور في المعاجم العربية، كلسان العرب الذي جاء فيه في مادة “عَشِقَ” أنَّ: “العِشق: فَرْط الحب، وقيل: عُجْب المُحب بالمحبوب يكون في عفاف الحب ودعارته. وقيل: التعشُّق تكلُّف العشق. والعَشَق والعَسَق: اللزوم للشيء لا يفارقه، ولذلك قيل للكلِف عاشق، للزومه هواه” . فالعشق سمي عشقاً, لأنَّه يدل على لزوم المحب للمحبوب وعدم مفارقته إياه.
وموضوع العشق لدى ابن سينا من الموضوعات التي تستحق أن تأخذ حيزاً كبيراً من الدرس والتحليل لجدّته وتميُّزه, إذ استطاع أن يبني مفهوماً متكاملاً في العشق لم يُسبق إليه انعكست فيه ثقافته الموسوعية بشكل كبير. ويتبيَّن من خلاله، في فلسفة ابن سينا، النظام الكوني الدقيق والمتكامل الذي أبدعه الله، سبحانه وتعالى، ومكانة الإنسان فيه، كما يتبيَّن من خلاله طبيعة تركيب الإنسان والمؤثِّرات التي يخضع لها في حياته، وحاجات وجوده وبقائه، وأثر ذلك كله في وظيفته وفي تحقيق غايته واكتسابه السعادتين الدنيوية والأخروية.
أولاً: ما العشق؟
إزاء ما هو منتشر وشائع عن مفهوم العشق في صورته البسيطة، نجد لدى ابن سينا مفهوماً فلسفياً يمتاز بعمق الأسس المعرفية الثقافية. ويتلخَّص مفهوم ابن سينا في العشق في رسالة أفردها له جمع فيها معظم آرائه فيه، ويتضح من خلالها أنَّ ابن سينا يشترك مع غيره في بعض جوانب هذا المفهوم ويختلف عن غيره في بعضها الآخر. وليس العشق لديه مجرّد درجة من درجات الحب، بل إن هذا لا يشكّل إلا جانباً واحداً من الجوانب التي ذكرها.
وقد ذكر غرنباوم أنَّ رسالة ابن سينا في العشق رسالة فلسفية، وهي تبتعد عن صورة نزعة الحب في الأدب العربي، وإن كانت في بعض وجوهها تقدّم الأسس النظرية لهذه النزعة . وما ذهب إليه غرنباوم صحيح، لأنّ مفهوم العشق لدى ابن سينا الذي يمكن استنباطه من رسالته في العشق مختلف وبعيد عن مفهوم العشق في الأدب، وإن كان ابن سينا لا يغفله، فلا يشكِّل العشق بمعنى الحب إلا جانباً واحداً من مفهوم العشق لديه، وبوسعنا أن نستنبط مما جاء فيه من كلام بعض الأسس النظرية للحب، حيث توضح رسالة ابن سينا طبيعة هذه العاطفة الإنسانية وكيف تكون محمودة أو مذمومة، وكيف يمكن السيطرة عليها وتوجيهها الجهات الحسنة التي تليق بالإنسان، ومتى يمكن للمجتمع أن يقبلها ويقبل عليها، أو أن يرفضها وينفر منها. كما يتضح في هذه الرسالة التركيب النفسي والجسدي للإنسان وعلاقة هذا التركيب بتلك العاطفة ومدى تأثيره فيها، وكيف يمكن ضبط هذه العاطفة بمعرفة طبيعة تركيب الإنسان. وبذلك فإني أتفق مع ما ذهب إليه غرنباوم من أنَّ ابن سينا وضع بعض الأسس النظرية للحب في رسالته تلك.
كما ذكر جعفر آل ياسين أنّه “لعل فيما أورده ابن سينا في الفصل السابع من رسالته في العشق ما يحدّد لنا أفكاره في بناء نظرية متكاملة عن العشق لم يسبقه إليها السابقون رغم محاولاتهم المبعثرة في التراث الفلسفي” إلا أني أعتقد أنَّه لا يمكن حصر أفكار ابن سينا في بناء نظرية العشق في الفصل السابع من الرسالة، فتلك الرسالة مبنية على مقدمات ونتائج بينها ارتباط وثيق. ولا يمكننا أن نفهم المعنى الدقيق والأفكار المتكاملة للعشق من خلال الفصل السابع وحده.
وقد عدت أولاً إلى عدد من المعاجم اللغوية والفلسفية لمعرفة معنى العشق ودلالاته، إلا أنَّ تلك المعاجم لم تقدِّم الدلالة التي وجدت عند ابن سينا، إذ إنَّ للعشق لديه دلالات متعدّدة بعضها جديد وبعضها شائع معروف، وهو وضعها في قالب معرفي جديد على عصره.
تقدَّم أنَّ العشق في لسان العرب يدل على اللصوق واللزوم، فهو يدل على لزوم الشيء وعدم مفارقته، ولهذا قيل للكلف عاشق للزومه هواه. وإذا أخذنا الدلالة اللغوية لهذه الكلمة, وهي اللصوق بالشيء وملازمته إياه, تمكّنا من التقريب بينها وبين الاصطلاح السينوي.
فالعشق بمعناه الاصطلاحي العام لدى ابن سينا, قوة غريزية محرّكة تسري في كل الموجودات وملتصقة بها وملازمة إياها لا تفارقها أبداً، وهي تدفعها جميعاً نحو خيرها وكمالها, وتصرفها عن الشر والنقص .
فقوة العشق قوة دافعة مغروزة في كل موجود من الموجودات، وملتصقة به, وملازمة له. وبذلك تلتقي هنا الدلالة اللغوية للعشق مع معناه الاصطلاحي لدى ابن سينا. فما طبيعة هذه القوة المحرّكة؟ وما أهميتها؟ وما غايتها؟ وكيف يمكن أن تدفع الموجود نحو خيره وكماله؟ وما العلاقة بينها وبين الخير والكمال؟
وقد ذهب مختار بولخماير إلى أن مصطلح “قوة” بلغة ابن سينا الذي استخدمه في تعريف العشق, يُقابَل في لغة الفيزياء اليوم بـ “الطاقة” . وهو رأي حصيف يمكن أن نفهمه من خلال أنَّ هذه الطاقة هي “الطاقة الحيوية” في بعض جوانبها. والطاقة الحيوية هي إحدى دعامات الحياة في كل الكائنات من المجرة إلى الذرة، وهي التي تحرِّك الموجودات نحو حاجات وجودها وبقائها. وقد أطلق حكماء الصين على هذه الطاقة السارية في الجسد اسم “تشي”، كما أطلق عليها اليابانيون اسم “كي”، وذهب حكماء الهند إلى أنَّ هذه الطاقة هي التي تولّد حيوية الجسم وحواسه وكل ما يتعلق بحيويته. ويشدِّد الباحثون في الإنسان اليوم على كلية الإنسان ووحدته وتفرُّده، ويشيرون إلى وجود مفهوم حيوي في الكائنات الحية جميعاً لا يمكن تفسيره عن طريق وصف الظواهر الفيزيائية والكيميائية في الجسم؛ إذ تميل الكائنات الحية جميعاً إلى تأكيد ذواتها باعتبار أنَّ كلاً منها يشكّل وحدة عضوية تتألَّف من وحدات أصغر تتداخل فيما بينها في تفاعل حيوي مستمر . إنَّ هذا المفهوم الحيوي هو الطاقة السارية في الكائن الحي التي يمكن أن نطلق عليها اصطلاح ابن سينا “العشق”. ولعلّ ما جعل ابن سينا يختار هذه اللفظة لهذا المعنى هو ما تدل عليه من اللصوق بالموجود ولزومه حتى تصبح نظاماً ملحقاً به لا ينفصل عنه.
العشق لدى ابن سينا إذاً هو قوة متعشّقة وملتصقة بكل أجزاء الموجودات، وهي التي تحرّكها نحو مقتضيات وجودها، وهنا تكمن أهمية هذه القوة، إذ إنَّها السبب في حركة الموجود نحو الحصول على أسباب وجوده والاستمرار فيه، ولولاها لانعدمت إمكانية استمراره في الوجود. وهي بهذا تقوده نحو الخير والكمال، فحصول الموجود على حاجات وجوده الطبيعية من طعام وشراب وتوالد ونوم واستراحة ونحو ذلك من الأمور، هي خير الموجود لأنَّه يحصل بها على كماله المناسب لنوعه، فلكل موجود خير خاص به وكمال مناسب لنوعه، ولولا وجود هذه القوة المحرّكة لما كان بإمكانه الحصول على ما يجب أن يحصل عليه من خير وكمال ولاختلَّ وجوده . وبذلك فإنَّ الغاية التي يجب أن تقود إليها هذه القوة هي حفظ الوجود الطبيعي للموجود، وتحقيق التوازن والانسجام بين مفردات الكون، فلا بدَّ من أن يكون في أي موجود ما يساعده على الحصول على حاجات وجوده، ليستقيم الوجود بشكله الطبيعي ونظامه المحكم، ولولا ذلك لاختلّ النظام الكوني لأن الكل يصلح بصلاح الجزء.
ومن هنا رأى ابن سينا أنَّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تغرز قوة العشق في الموجودات مساعدة لها على حفظ وجودها وبقائها, حتى إنَّه عدَّ العشق سبب وجودها . فلولا أنَّ هذه القوة تحرِّكها للحصول على ما سلف لانقطعت أسباب وجودها، ووجود تلك القوة الغريزية فيها يجب ألا يفارقها على الإطلاق إذ في فراقه لها هلاكه، فقوة العشق بحسب ابن سينا قانون إلهي وضعه الله في مخلوقاته، لتسير على نظام معيّن لغاية محكمة. وإنَّ هذا القانون هو ما يفسّر لنا قوده كل موجود في تأمين وجوده واستمراره، فهذا يدل على وجود نظام داخلي في طبيعة تركيبه يساعده على ذلك، كما أنَّ هذا يفسّر لنا التناغم والانسجام بين مخلوقات الله في الكون فلا يطغى وجود أي منها على وجود الآخر، بل إنَّ لكل منها جهته الخاصة التي يتجه إليها بنظام معيّن ووفق قانون محدّد نحو غاية واضحة.
وعلى هذا فلا يكون العشق مجرَّد جذب طبيعي محرِّك للموجودات بحسب رأي جميل صليبا ، فهذا يجعل معناه ضيقاً ومحدوداً، إذ إنَّ الجذب الطبيعي يقتصر على وجود موضوع خارجي للجذب، والعشق لدى ابن سينا قوة محرِّكة داخلية فاعلة دائمة التأثير تتجه بالموجود نحو موضوع خارجي معروف لديه هو موضوع الجذب، وهذا الموضوع هو خير الموجود وكماله. وبذلك فإنَّ جميل صليبا يحصر العشق في جانب واحد، ويفقده دلالته التي سبق الحديث عنها.
وهو ليس كما رأى أحمد فؤاد الأهواني مجرّد “اصطلاح ابتدعه ابن سينا ليدل به على ما كان يجري في الفلسفة من قولهم بالحب” ، ففي ما قاله الأهواني تبسيط ساذج لمفهوم العشق لدى ابن سينا، ويجعل هذا العالم مجرّد مقلّد ومبتدع لم يحسن الإتيان بالجديد وإسراف في الرأي وعدم التزام بالدقة، فقد قصر دلالة العشق على الحب على حين أنَّه أوسع من ذلك بكثير لدى ابن سينا، ومن يقرأ رسالته في العشق سرعان ما يكتشف خطأ هذا الحكم، فالحب في رسالة العشق لا يشغل إلا حيزاً محدوداً لا يتجاوز الصفحتين. ولكل مصطلح لديه دلالة واضحة ومحدّدة، وهو أوعى من أن يبتدع أي مصطلح ابتداعاً ليدل به على شيء ما.
ويمكن من جهة أخرى أن نضع العشق في مقابل الحاجة الضرورية، فهو يظهر في وجوده الخارجي على شكل حاجات متنوعة في الموجود، بدءاً من الحاجات الطبيعية وانتهاء بالجمالية. فما يدلّنا على تلك الطاقة الداخلية المحرّكة في الموجودات هو التشكّل الخارجي لها في صورة حاجات لأمور تقتضيها طبيعة وجودها، فتقتضي كل قوة بناء على ذلك حاجات معينة بحسب ما في الموجود من قوى.
وترتقي الحاجات صعوداً نحو الأعلى بحسب رتبة الموجود في سلّم الوجود وبحسب قواه، بدءاً من النبات الذي لا تعدو حاجاته كونها حاجات أوليّة بسيطة، فالحيوان الذي يزيد في قواه على النبات وتزيد تبعاً لها حاجات وجوده التي هي أيضاً حاجات بسيطة، وانتهاء بالإنسان الذي يزيد في حاجاته على النبات والحيوان لكونه أرقى منهما في سلَّم الوجود. ولكنَّ الإنسان لا يكتفي بالحاجات الأولية البسيطة، وإنَّما لديه حاجات أخرى تتبع ازدياد قواه ومكانته في الوجود وغاية هذا الوجود، وتقتضي طبيعته النفسية والجسدية هذه الحاجات التي يحافظ إشباعها على توازنه النفسي والجسدي. فالنبات بحاجة إلى الغذاء والنمو والتوالد بحسب القوى الموجودة فيه، وهي حاجات طبيعية ولكنَّها في الوقت ذاته تقود إلى وجود جمالي، فالنبات يأخذ من الغذاء ما يكفيه بشكل غريزي، ولا يأخذ ما هو فوق حاجته محافظاً بذلك على جماله الطبيعي الذي خلقه الله عليه، وهو إذا لم يأخذ من الغذاء ما يكفيه، فإنَّ ذلك ينقص من جماله إذ يختل نموه ويتعرّض للشر والنقص، فالنقص في الغذاء شر قد يؤدي إلى اصفرار أوراق النبات وجفافها وتساقطها أو إلى ذبولها وميل أعناقها وفقدانها البريق واللمعان والرائحة العطرة. فكل موجود جميل لأنَّه من خلق الله “إنَّ الله جميل يحب الجمال” ، فكل ما يصدر عنه جميل وجماله هذا يقوم على قدرته على تحقيق حاجاته بقوة العشق فيه، فإذا ازدادت هذه الحاجة عن حدها أو نقصت وقع في القبح. وبذلك فإنَّ العشق يحافظ على الجمال الطبيعي للموجود، ويبعد عنه كل ما قد يتعرّض له من شرّ وأذى. وهو لا يقتصر على كونه يقود الموجود إلى الحصول على الحاجات الطبيعية، بل إنَّه في الوقت ذاته يحافظ على جماله من خلال إيصاله إلى خيره وكماله وجماله الخاص به. وما ينطبق على النبات ينطبق على الحيوان أيضاً، فإنَّه يتمكَّن بفضل قوة العشق من السعي نحو حاجات وجوده وبقائه التي لا تقتصر على كونها حاجات طبيعية فحسب، فهي بحصولها تحافظ على الجمال الطبيعي للحيوان وتبعده عن النقص أيضاً لأنَّها تمنحه ما يحافظ به على ذلك الجمال، فهو إذا حصل على ما يكفيه من طعام وشراب، يكتسب الرشاقة والحيوية ويحافظ على ما له من جمال، أمَّا إذا لم يحصل عليهما فإنَّه يصاب بالضعف والوهن ويفقد القدرة على الحركة، فتضعف عند العصفور الجميل القدرة على إصدار الأصوات الجميلة، ويفقد الفرس الرشاقة التي تساعده على اختراق الأجواء. وبذلك فالعشق هو الذي يمنح النبات ألقه وبريقه، والحيوان حيويته ونشاطه ورشاقته بفضل ما يولّده فيهما من حاجات. أمَّا الإنسان الذي يزيد في قواه على النبات والحيوان فإنَّ العشق لا يولّد فيه الحاجات الطبيعية التي يحافظ بها على جماله الطبيعي فقط، وإنَّما يولّد فيه أيضاً الحاجات الجمالية التي يتميَّز بها عن النبات والحيوان، فللإنسان حاجات طبيعية وأخرى جمالية تقتضيها قوته الناطقة ويحصل عليها بإرادته واختياره.
فالعشق في الموجود قوة غريزية محرّكة تتجسَّد خارجياً في تحقيق الحاجات، وبذلك ينطبق ما ذهب إليه علماء النفس في العصر الحديث مع ما قاله ابن سينا فيما يتعلّق بالإنسان، فقد “كان من أهم المحددات التي اهتمّ بها علماء النفس لتفسير السلوك الإنساني ومعرفة طبيعته وأسبابه ودوافعه هو أنَّ للإنسان حاجات متعدّدة منها ما هو أولي فطري كالحاجة إلى المأكل والمشرب، ومنها ما هو نفسي اجتماعي مكتسب …. والحاجة إلى الحب والانتماء والرقي والتقدير من الآخرين. وعدم إشباع هذه الحاجات إنَّما يؤدي إلى حالة من عدم التوازن الأمر الذي يؤدي بدوره إلى حدوث توتر جسمي ونفسي” .
إنَّ العشق عند الإنسان أرقى مما هو عليه عند النبات والحيوان بفضل قوته الناطقة التي تمنحه الإرادة والاختيار إذ يتحوّل الغريزي بفضل هذه القوة إلى جمالي، فهو يندفع نحو الطعام والشراب ونحو ذلك بشكل غريزي، ولكنَّ إرضاءه حاجته إليهما يتم بشكل نطقي، فنجد أنَّ الإنسان يحاول أن يبدع دائماً الوسائل والطرق التي تجعل تناوله لطعامه أجمل وأرقى وأكثر تهذيباً، وما ذلك إلا لأنَّه يحب الجمال ويعشقه ويحاول أن يجده في كل شيء. كما تظهر لدى الإنسان بفضل تلك القوة الحاجة إلى الحب وإلى الاستماع إلى الموسيقا الجميلة وقراءة الشعر والرسم ونحو ذلك، أي الحاجة إلى تلمّس مواطن الجمال في الحياة وإبداعه أيضاً. ومن هنا فإنَّ ابن سينا رأى أنَّ “العشق ليس في الحقيقة إلا استحسان الحسن والملائم جداً. وهذا العشق هو مبدأ النزوع إليه عند غيبوبته، إن كان مما يباين، والتأحّد به عند وجوده” . فليس العشق هو الاستحسان بذاته للحسن والملائم، بل إنَّه بحسب ما يتبيَّن هنا مبدأ الحركة والنزوع إليهما. فعشق الحسن أو الحاجة إليه حاجة ملّحة وضرورية للإنسان وليست أقل من الحاجات الأولية البسيطة كما هو واضح هنا، والدليل على ذلك أنَّه في حال عدم حصول الإنسان على الحسن والملائم، فإنَّ العشق يحرّكه نحوه ويجعله ينزع إليه، أمَّا في حال وجوده فإنَّه يدفع صاحبه إلى الاتحاد بما هو حسن وملائم لطبيعته. فالإنسان يعشق بطبعه الحسن والملائم ويبحث عنهما ويقبل عليهما ويتحد بهما عندما يجدهما، فما من إنسان إلا ويعشق الجمال بالقوة وتنزع نفسه إليه وتطلبه. ومن الواضح هنا أنَّ ابن سينا جمع بين الحسن والملائم، ليدلّ بذلك على أنَّ الحسن لا بدّ من أن يكون ملائماً للنفس ومنسجماً معها، وأنَّ الحُسن صفة محبّبة إلى النفس ولذيذة لأنَّها تلائمها وتنسجم معها. وحتى يكون الشيء حسناً فلا بدَّ من أن يكون ملائماً، فإذا لم يكن كذلك لما كان حسناً. وستتضح في الفصل الثالث الأهمية الكبيرة والقيمة العظيمة لهذه الفكرة في الفن، إذ إنَّ ما يميز الفن لدى ابن سينا هو أنَّه يجب أن يكون حسناً ملائماً للنفس ومنسجماً معها ليكون معشوقاً، فالفن المؤثّر هو الفن الجميل الذي يتحد بالذات ويؤثّر فيها من خلال ملاءمته لها.
ولكن كلام ابن سينا السابق يمكن أن يفهم بطريقة أعم وأشمل، بمعنى أنَّ استحسان الحسن والملائم أمر يمكن أن يشمل النبات والحيوان أيضاً، فيكون الحسن هنا بمعنى الأمر الجيد الملائم، فكل موجود يستحسن ما يلائمه ويعشقه ويبحث عنه دائماً، ليتحدّ به فهو بحاجة دائماً إلى ما يلائمه حاجة تقتضيها طبيعة وجوده.
وبوضعنا للعشق في مقابل الحاجة، فإنَّه بوسعنا أن نلمس تقارباً بين ابن سينا وإتيان سوريو إذ يقول سوريو “إنَّ ما أدعوه حاجة جمالية هو ذاك الحافز، أو تلك القوة الجاذبة التي تدفعنا أن نؤم في بعض الأيام متحف الفن الحديث، أو أن نذهب لشراء أسطوانة موسيقية” . فالحاجة الجمالية لدى إتيان سوريو هي القوة التي تجذب الإنسان نحو الجميل. والعشق لدى ابن سينا هو القوة المحرِّكة التي تجعل الإنسان أو الموجود بشكل عام يستحسن الحسن والملائم، ولكنَّ الفرق بينهما أنَّ الحاجة الجمالية لدى ابن سينا مطلقة وهدفها الخير وهي موجودة في كل الموجودات، وإن كان هناك اختلاف في طبيعتها، فموقف ابن سينا موقف من الوجود بأكمله وهو عام وشامل، على حين أنَّ موقف سوريو ضيّق وخاص بالعلاقة بين الإنسان والأشياء، وهو يرتبط بالفن خاصة.
والعشق من خلال ما تبيّن يربط الإنسان مع العالم الخارجي ويوثّق علاقته به، فهو مرتكز أساساً على وجود ذات وموضوع، فيكون هو الرابط بينهما، إذ إنَّه القوة المغروزة في الذات، وهو يجعلها تقبل على الموضوعات المختلفة في العالم الخارجي انطلاقاً من الدافع الذاتي فيه.
ويأتي العشق لدى ابن سينا بمعنى الحب أو درجة من درجاته ، وهو المعنى الشائع المعروف له، إلا أنَّ ما يميزه لديه أنَّه كانت له طبيعة ووظيفة تتفق مع المنهج المعرفي العام الذي وضعه وأخضع له كل علومه ومعارفه. فحين تناول العشق كعاطفة إنسانية، امتزجت لديه الرؤية الفلسفية بالطبية والدينية، فالعشق لديه عاطفة إنسانية يجب أن تحتكم إلى العقل والدين وأن تكون وسيلة للرقي والكمال، ونتج عن ذلك تحديد دقيق وتفسير متميز كان له أثره الكبير في بيان أهمية هذه العاطفة في حياة الإنسان وذلك إذا كان على الصورة المعتدلة والملائمة لطبيعته، وخطرها عليه حينما تتحوَّل إلى مرض وسواسي قد يقوده إلى الجنون حينما تخرج عن حد الاعتدال. ولم ينس خلال ذلك أن يوضح كيف يجب أن يكون العشق حتى يوصل الإنسان إلى غايات محمودة، ويكون سبباً في رقيه وكماله وبلوغه سعادته. فهو لم يقف عند حدود وصف هذه العاطفة وبيان أسبابها ونتائجها من وجهة نظرية، بل إنَّه نهج في ذلك منهجاً علمياً وعملياً قائماً على الملاحظة والتجربة، ومما ساعده على ذلك أنَّه طبيب بارع عرف بتجاربه الواسعة ونجاحه في البرهان على نتائجه. ويضاف إلى ذلك أنَّه وظّف معرفته بعقيدته في تحديد كيف يجب أن تكون هذه العاطفة حتى لا تؤدي إلى أمور مذمومة وقبيحة عقلاً وشرعاً، ومضرَّة بالإنسان، ومبعدة إياه عن خيره وكماله وسعادته. كما وظّف فلسفته في وضع الأساس النظري لهذه العاطفة ببيان طبيعتها وتأثيرها وكيف يمكن السيطرة عليها وتوجيهها نحو الأمور الملائمة والمحمودة. فهناك في فلسفته من الأسس ما يصلح لأن يكون أساساً قوياً وقاعدة متينة تبنى عليها أسس هذه العاطفة في الإنسان وتحتكم إليها وتضبطها. فمن خلال مفهوم النفس مثلاً تتحدَّد طبيعة الإنسان والقوى الكامنة فيه وبما يمكن أن يتأثَّر، وكيف يمكنه أن يضبط نفسه ويسيطر عليها إزاء المؤثِّرات الكثيرة التي يمكن أن يتعرَّض لها.
وقد ذكر ابن سينا أنَّ العشق، كعاطفة إنسانية، قد تتحوَّل إلى حالة مرضية من وجهة نظر طبية في كتابه القانون في الطب، مفسّراً طبيعة هذه العاطفة ودواعيها فبيّن أنَّه “مرض وسواسي شبيه بالمالنخوليا يكون الإنسان قد جلبه إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل التي له، أعانته على ذلك شهوته أو لم تعن” .
فالعشق في هذا المفهوم ليس إلا مرضاً ناتجاً عن تسلُّط فكر الإنسان على الصور المادية والصفات المستحسنة لديه في الموضوع. وما يلفت الانتباه في تعريف ابن سينا هذا أنَّ الإنسان هو من يجلب هذا المرض إلى نفسه بإرادته واختياره، إذ إنَّ لديه القدرة والقوة على ضبط فكره، فقد هيئ بطبيعته ليكون قادراً على ضبط قوى نفسه وتحديد اتجاهاتها. وهو إذا لم يضبط ذلك تحوّل هذا العشق لديه إلى مرض وسواسي قد يتعذَّر علاجه إذا استحكم، كما قد يؤدي إلى هلاكه. وبذلك فإرادة الإنسان واختياره قد تودي به إلى الشر والنقص بدلاً من الخير والكمال، كما قد توقعه في القبح عندما يقوم بأفعال غير ملائمة لطبيعته. فالعشق بالمفهوم الاجتماعي قد يتحوّل إلى مرض وسواسي إذا لم يضبط الإنسان فكره، وقد يجعله هذا يقوم بأفعال قبيحة عقلاً وشرعاً ومتنافية مع طبيعته ووظيفته في الوجود، وهذه الأفعال تنقص من جمال أفعاله وتبعده عن خيره وكماله.
وما يحفز هذه العاطفة هي الصور الإنسانية الجميلة، فعندما يشاهد الإنسان صورة جميلة ينجذب إليها ويحبها ، والسبب في ذلك أنَّ قوة العشق المحرِّكة تدفع الإنسان نحو الجميل والملائم وتجعله يبحث عنه، وعندما يقابله يحبه ويتحد به. وبذلك يدل العشق على معنيين هنا لدى الإنسان، الأول فلسفي وهو القوة المحركة نحو الجميل، والثاني اجتماعي وهو العاطفة التي تظهر لدى الإنسان عندما يقابل وجهاً جميلاً.
وقد نوّه ابن سينا إلى أنَّ لهذا النوع من العشق أي عشق الصور الإنسانية الجميلة أثراً كبيراً في الإنسان، فإمَّا أن يكون سبباً للرفعة والخيرية وإمَّا أن يكون سبباً للنقيصة والملامة أي إمَّا أن يكون حسناً أو قبيحاً . و قد اعتمد في وصوله إلى هذه النتيجة على مصدرين هما العقيدة الإسلامية ومعرفته العميقة بالنفس.
.
صورة مفقودة