محمد شرف - أمام المرآة

أن نقف صباحاً أمام المرآة لتعديل ما تركته ساعات النوم "المضطربة" على سحنتنا من بقايا الأحلام، فتلك من العادات اليومية التي أضحت جزءاً من سلوكنا. تختلف فترة النظر الى الذات، الخارجية، بين شخص وآخر، تبعاً لعوامل كثيرة، كما تختلف العلاقة مع المرآة بين فرد وقرينه، لأسباب، هي أيضاً، متعددة ومختلفة.

تفيد الأسطورة اليونانية أن إله الأنهار سيفيسيوس، الذي كان ماجناً وخليعاً، أغوى بكلامه المنمّق حورية من حوريات الأشجار، قرب نهر، فأنجبت بعد حملها صبياً سمّته نرسيس. كبر الطفل وصار ذا جمال ساحر وأخّاذ، مما أثار قلق أمه ودفعها الى استشارة عرّاف، تنبأ لها بأن ابنها سيبقى حياً الى أن يعرف حقيقة نفسه، وبأنه سيموت عندما يرى جمال وجهه. تتوالى فصول الأسطورة، الى أن قيّض لنرسيس النظر إلى وجهه المنعكس على صفحة ماء صافية، فراح يتأمل جماله لساعات، ثم صار يقصد بركة الماء يومياً، فانقطع عن الناس ومخالطتهم، وضعف جسمه وهزل، وأخذ يتلاشى الى أن صار زهرة نرجس. هناك رواية أخرى مفادها أنه شاء أن يقبّل وجهه، فسقط في البركة ولم يخرج منها. تكريماً لذكراه أنبتت الآلهة في مكان جلوسه زهرة نرجس.
يعرف الكثيرون حكاية نرسيس، لكنهم قد لا يعرفون تفاصيلها الأخرى. المهم أن كلمة "نرجسية" ولدت من تلك الحكاية، مع ما تشير اليه من حبّ للذات الى درجة الهيام بها. إذا كان للنرجسية اكثر من دلالة بين الروحي والفيزيولوجي، فإن الاعجاب بالذات يتركز، عادة، على الوجه، وقد ينسحب ليطاول الجسد بكامله، إذا اجتمعت في هذا الجسد الشروط الكلاسيكية للجمال. هذا الشغف بالذات الفيزيائية ما كان ليتم من دون مرآة تعكس صورتها، أو صفحة ماء كما في حال نرسيس.
في زمننا الحالي، يصعب الاستغناء عن المرآة، وتتراوح العلاقة بها بين الاستعمال العادي، البديهي، والتعلق بحضورها على نحو مرضي. أدلت الميثولوجيا الشعبية بدلوها في هذه العلاقة، فاعتبرت الحوادث المرتبطة بها تتضمن الإشارة الى ما هو غير سارّ. كسر المرآة، عرضياً، قد يشير الى إمكان حدوث مأساة أو أمر مؤلم ومحزن، ينتظره المؤمنون بهذه الخرافة، بوجل ورهبة كبيرين. تجدر الاشارة إلى أن بعض الشعوب تغطّي المرآة، أو المرايا، اثناء حال الحداد التي تلف المنزل، بعد رحيل أحد افراده.

في المعاني المجازية
إذا كان تاريخ المرآة هو تاريخ علاقة الانسان بصورته وبمحيطه، واذا كنا نستعملها يومياً فهل نتقبل دائماً الانعكاس الذي تعيده الينا؟ يتساءل الباحث الإيطالي في الفن ستيفانو زوفي: "هل نحن واثقون مما تقوله لنا المرآة، هل تعكس لنا الحقيقة أم صورة مشوّهة، غير ثابتة، وهمية وكاذبة؟". التساؤل ذو طابع فلسفي من دون شك. لم تعد كلمة مرآة، تنحصر في قطعة الزجاج ذات الوجه العاكس من جهة، والوجه الأسود الكامد من جهة أخرى. صارت استعمالاتها المجازية أكثر من كثيرة. ترى الأشياء في مرآة الواقع، في مرآة الأدب والشعر والفن، في مرآة الطائفية او المذهبية، الذي صار تعبيراً مألوفاً في أيامنا الحاضرة، أو في مرآة التخلف والاهتراء، ضمن "بستاننا المريض"، كما يسمّيه عقل العويط. في كل الأحوال، قد تكون المرآة علاقة صراع بين نقيضين: الذات في تمثّلها الفيزيولوجي الواقعي، والذات الاخرى المتمناة، تخيلاً واستحضاراً للأوهام، كما قد تكون المرآة معشوقة من البعض، ومكروهة من البعض الآخر، تبعاً لطبيعة من يقف أمامها ولمتطلباته.

في حيّز الخرافة
ورد ذكر المرآة، أو حامت حولها القصص والروايات، البسيطة السطحية منها، أو الاكثر غوصاً في أعماق النفس الانسانية، تبعاً لمدلولات تلك الحكايا وخصائصها. تداخل في هذه الروايات الواقع مع الخيال، والسحر مع الشعوذة. في قصص القرنين التاسع عشر والعشرين، ذات الطابع "الأسود" (noirs بالفرنسية)، لعبت التقاليد الشعبية دوراً في إرساء بعض المعتقدات، كتلك الخرافة التي تفيد أن صور الأرواح الشيطانية والأشباح، وحتى الأرواح الخيّرة، لا تنعكس في المرآة. ما زالت ذاكرتنا تحتفظ بمقاطع من أفلام الكونت دراكولا، مصاص الدماء الشهير ذي القدرات الخارقة، الذي وقع تحت سحر سيرته المثيرة، أحد أشهر المخرجين في أميركا والعالم، فرنسيس فورد كوبولا، الذي صنع فيلماً يعتبر علامة فارقة في تاريخ الأفلام المكرّسة للكائن الذي يتغذى من الدم البشري. يقودنا الاستطراد إلى أن افلاماً كثيرة نُسجت سيناريواتها على أساس حكاية الكونت، الروماني الأصل، لكن بعضها جاء سخيفاً وممجوجاً، بالرغم من نجاحه الجماهيري، الذي لا يعتبر مقياساً للجودة. آخر تلك الأفلام سلسلة twilight، التي ينطبق عليها الحكم الذي اوردناه اعلاه.
أياً يكن، دراكولا هو من المخلوقات الممسوخة التي لا تُرى صورتها في المرآة. هذا، على بساطته الظاهرة، يشكل عنصر تشويق ورهبة، تجسده لحظة بصرية متناقضة. إذ بدلاً من أن نرتعب من الشكل اللاإنساني لمصّاص الدماء، ترتعش حواسنا لمجرد عدم ظهور صورته في المرآة. هذه الارتعاشة قد تصيبنا أيضاً أمام مرآة قديمة يعلوها الصدأ، وتملأها ثقوب أحدثها الزمن في صفحتها العاكسة، المتفتتة، بحيث تتعذر رؤية صورتنا عليها، أو نراها مشوّهة، ما يفسح لأفكار وتخيلات أرستها قصص السحر في ذاكرتنا. ألا يمكن أن تحمل مرآة بالية، من هذا الطراز، منتشلة من قبر قديم، صوراً لجميلات انتقلن الى العالم الآخر منذ دهور، وما زالت أرواحهن محفوظة داخل قطعة زجاج متهالكة عفا عليها الزمن؟

المرآة كعنصر تشكيلي ووظيفي
لم يفلت موضوع المرآة من مروحة اهتمامات الفن التشكيلي، بل شكّل تيمة أثيرة في مواقع عدة، لما يضيفه من طاقة تعبيرية، ولينافس النحت. امتازت المنحوتة دوماً بصفات يصعب على سواها من اشكال التعبير التشكيلي تحقيقها: إمكان معاينة العمل من جهات عدة من خلال الدوران حوله. إن أعمالا مثل "دافيد" و"موسى" أو la pietà لا تزال تبهرنا، علماً أن المشاهد قد يراها من زاوية محددة، لكن الدوران من حولها سيبرهن ان ميكال أنجلو لم يهمل حتى التفاصيل الصغيرة، مدفوعاً بالسعي الى بلوغ كمال لم يكن ليتحقق لولا موهبته الخارقة وصبره اللامحدود. هكذا، شاء الفن التشكيلي التصويري، في حالات معيّنة، تبيان أجزاء من البورتريه أو القامة البشرية، بتضمين اللوحة مرآة تعكس الأجزاء اللامرئية، عبر خلق أبعاد إضافية في اللوحة المسطحة. هذا النوع من الحلول لمسألة الأبعاد اعتمده جيورجوني، وقبله فان إيك، وبعدهما فيلاسكيز، في بعض أعمالهم.
بيد أن المرآة لم تكن دوماً غرضاً موضع رضى. في التقاليد التشكيلية الأوروبية، العائدة إلى قرون ماضية، كانت المرآة تحمل إشارة الى خطيئتين أساسيتين: البهرجة والكبرياء. في لوحة "الخطايا السبع الاساسية" لجيروم بوش (نحو عام 1500) يمثل الفنان الكبرياء على هيئة امرأة تصفف شعرها، مستعينة بمرآة يحملها كائن شيطاني. خلال زمن طويل، اعتبر الرسّامون أن الإمساك بمرآة في اليد والنظر الى الوجه بواسطتها يعتبر عملاً مكروهاً. لكن هذا المفهوم تبدل مع الوقت، بحيث صارت المرآة، في العمل التشكيلي، عنصراً مساعداً يكشف مواطن الجمال الفيزيائي المقترن بحضور غرض ما، ذي صفحة برّاقة تعكس بعض ما تحويه اللوحة. هذا الغرض قد لا يكون مرآة، بل ربما وعاء زجاجياً أو معدنياً لامعاً، أو حتى زجاج نافذة. هكذا، انقلب دور المرآة وتبدّلت النظرة الى حضورها ليصبح على نقيض ما ذكرناه، إذ صار يشير الى نوع من أنواع الفضائل، وربما الى المعرفة، في معناها الشمولي. ففي لوحة "بورتريه امرأة شابة مع مرآة" لجيوفاني بيلليني (1515) التي كانت من أواخر أعمال الفنان (كان له 90 عاماً حين رسمها)، نرى لعبة تأليفية مزدوجة: الفتاة تمسك بمرآة، وثمة مرآة أخرى تلتصق بالجدار الواقع خلفها. ذلك كله يجتمع في عمل تفوح منه رائحة طهارة جلية، معقودة على لحظة تأمل هادئة نراها في عيني الشابة، ذات الوجه الملائكي.
مع مرور الوقت، تم الابتعاد تدريجاً عن مضامين الروايات الأخلاقية المتعلقة بالمرآة، مما ساهم في انحسار النواحي السلبية المرتبطة بها، إلى درجة اختفائها. ساعد في ذلك، التطور التقني الذي أصاب كل ما له علاقة بالصناعات البصرية والزجاجيات، إضافة الى الثقة المتصاعدة بالتطور العلمي. في حقبة الـRococo (حركة فنية أوروبية في القرن الثامن عشر عُنيت بالهندسة المعمارية والفنون الزخرفية)، كان يمكن رؤية جداريات تزيّن المكتبات رُسم عليها علماء وعقلاء متقدمون في السن، يعملون على التقاط ضوء الشمس، والاحاطة بمسائل معرفية، بواسطة مرآة صغيرة موجهة نحو مجموعات من الكتب يُطلعون تلامذتهم عليها، وفي ذلك إشارة الى العلاقة المستجدة مع الوسائل البصرية، ومنها المرآة، تختلف عن العلاقات السابقة.
في الأعمال الفنية ذات الموضوعات الايروتيكية، العائدة الى تلك الفترة وما بعدها، التي تمثلت فيها نساء يقفن أمام مراياهن، بمناوراتهن المثيرة ومكائدهن، يمكننا أن نشتمّ رائحة بصبصة هوسية تفوح من تلك الأعمال. أما في القرن التاسع عشر، مع نهاية مرحلة الصراع المجازي بين الشر والفضيلة، كنقيضين يجتمعان في الصفحة العاكسة، أعيد الاعتبار الى المرآة بوصفها غرضاً منزلياً، يتحدد وجوده بضرورة تنسيق الهندام والعناية بالمظهر الخارجي. مهمة أخرى: جمالية وهندسية. إذ تساعد المرآة في توزيع الضوء، وخلق مناخ من الخداع البصري، الهادف الى توسيع المكان افتراضياً، من خلال توزيع المرايا في الزوايا الميتة، مما يساهم في صوغ منظور مختلف للمساحة الداخلية. لكننا نشهد حالات يتم فيها استعمال المرايا في شكل "مفرط"، بحيث تغطي جدران المساحة الداخلية، الكبيرة أصلاً، من كل جهاتها. في حالات كهذه، ينحرف الهدف من حيّز الضرورة الى التوق نحو البهرجة والعظمة. خير مثال قاعة المرايا في قصر فرساي.
لا تغيب عن بالنا بعض الحالات الأكثر تطرفاً، المرتبطة بمسائل الجنس وألاعيبه، كأن يتقصد البعض إلصاق مرآة في سقف غرفة النوم، فوق السرير الذي تدور عليه "معارك" الجماع، بهدف إضافة متعة البصبصة، الى الذات والشريك، فضلا عن متعة الجماع ذاتها. هذا الفعل، على ما فيه من نرجسية ونزوات إيروتيكية، يمكن فهمه أيضاً، كسعي لإشباع رغبات جنسية بقيت طويلاً في حيز التهويمات المكبوتة، المتراكمة عبر سنوات الحرمان الطويلة، كما هي الحال في بعض بيئاتنا المحافظة. نتذكر فصلاً من راوية الطيب صالح الشهيرة "موسم الهجرة الى الشمال"، حيث يعمد مصطفى سعيد، الشخصية الرئيسية التي تروي سيرتها، الى وضع مرايا إضافية في غرفة نومه، حتى إذا ما ضاجع إحداهن خُيّل إليه أنه يضاجع حريماً بكامله.

المرآة الانطباعية
من المعروف أن الحاجة الى مزيد من الضوء وانعكاساته، وربطه باللون كرديف طبيعي تجمعه مع الضوء الفيزياء والعين البشرية أيضاً، شكّلت هماً طاغياً لدى جماعة الانطباعيين. لقد كانت شوارع باريس في الأيام الممطرة، وضفاف السين، وبقع الماء في الحدائق، تكوّن بيئة مثالية من أجل أعمال هدفت الى استغلال ما أمكن من انعكاسات ضوئية وإشعاعات موقتة، توفرها الطبيعة المناخية المتقلبة. في شكل مواز، لم يتوانَ الانطباعيون، امثال رينوار ومونيه وبيسارو ولوتريك ومانيه، عن اللجوء الى المرايا في أعمالهم، وهم مدركون ان بعض هذه الأعمال ستشكل مادة إستفزازية لن يتحملها محيطهم الذي لم يتخلَّ بعد عن اخلاقياته المحافظة. في هذا المجال، نذكر لوحة مانيه المسماة Nana، وهي بورتريه لأنريت اوزيه، الممثلة ذات الجمال الأخّاذ، والسمعة التي "مش ولا بد"، كما نقول في لغتنا العامية اللبنانية لوصف سلوك امرأة متحررة "أكثر من اللزوم". حام الكثيرون حول أنريت أوزيه، منهم أمير هولندا، وكان إميل زولا قد اختارها بطلة لروايته المعروفة Nana، التي استثنتها لجنة التحكيم من المشاركة في صالون 1877، وأمطرت الفنان بانتقاداتها البالغة حد الإدانة. ليس الأمر بغريب عن مانيه اذ كان تعرّض للتقريع ذاته بسبب لوحة "غداء على العشب". في Nana، وضع الفنان الممثلة في مركز العمل، أمام مرآة مستديرة، وفي طرف اللوحة الأيمن يظهر بورتريه جانبي لرجل في لباس السهر، يدل هندامه الى الطبقة الأريستوقراطية، وتشير وقفته إلى وضعية انتظار محموم، يفتقد الصبر، إلى حين أن تنتهي المرأة من تبرجها، كي يرافقها الى سهرة، لا شكوك لدينا حول المغامرة التي يعد الرجل نفسه بها لاحقاً.
أما في لوحة لوتريك، "عارية أمام المرآة"، فثمة اختلاف عميق بين Nana مانيه، والشخصية التي رسمها تولوز أمام مرآتها. المرأة هنا، كما مناخ اللوحة، يوحيان بأجواء حزينة وبمرارة ظاهرة. فشخصية اللوحة الرئيسية لا تتمتع بشيء من نجومية Nana، كما أنها ليست في وارد اكتشاف مكامن جمالها والتمتع بها أمام المرآة. الأنثى هنا ليست سوى بائعة هوى ودّعت سنوات شبابها، ولم يعد للحياة معان كثيرة في نظرها. "بغيّ ليس لها أحد في هذي الدنيا الرثة"، كما يقول مظفّر النواب. لا تشير وقفة المرأة الى انها في وارد تزيين نفسها، أو ارتداء ثيابها، بل تبدو منصرفة الى تلمس علامات مرور الزمن على جسد مستهلك، عبث به الرجال خلال مهنتها القاسية، ولم يبقَ لها سوى ذكريات منسية عن شباب ذابل.

مرآة الزمن الحديث
في زمننا المعاصر غدت المرآة حاجة وموضوعاً تعتمل داخله شحنات انفعالية جديدة، قد تختلف في معانيها ومفاهيمها عما كانت عليه في الماضي. انتشرت الفوتوغرافيا واحتلت مكانة تنافس من خلالها الفنون الأخرى. صار النظر الى المرآة كالنظر الى غرض يثير القلق، نرى فيه صورة تتناقض مع هيئتنا القديمة التي لم تعد سوى ذكرى تحفظها الصور الفوتوغرافية. بعض الذين يمتلكون حسابات على الـ"فايسبوك"، يضعون على صفحاتهم صوراً شخصية تمثلهم في أبهى حالاتهم، ولا يتوانَ كثر عن وضع صور لهم تعود الى أيام الشباب. فتيات كثيرات يضعن على صفحاتهن صوراً لا تمثلهن، بل تعود لشخصيات نسائية شابة لا ينقصها الجمال، في عملية خداع مكشوفة لهن ولأصدقائهن الافتراضيين. لا غرابة في موقف كهذا. فعالم وسائل التواصل الحديثة يمكن أن يكون، بدوره، مسرحاً لأنواع التخييلات وملاذاً لتهويمات مختلفة.
 
أعلى