صدقي البيك - الغزل بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم

كان للقصيد في الشعر العربي في العصر الجاهلي غالباً منهج محدد، يسلكه الشاعر، سواء أكان الشاعر مقلاً أم كان مكثراً، فكانت القصيدة تبدأ بمقدمة غزلية، يتغزل فيها الشاعر بامرأة، يذكر اسمها وتعلق قلبه بها، ويصفها وصفاً حسياً أو معنوياً، ويقف على أطلال ديارها يشكو هجرانها له، ويحيي ذكرياته معها في تلك الديار التي أقفرت من ساكنيها، وسمي هذا لمطلع للقصيدة: "الوقوف على الأطلال".


وكان يفعل ذلك الشعراء الذين اشتهروا بالمجون، والذين اتصفوا بالعقل والرزانة، والشعراء الشباب، والشعراء الذين تقدمت بهم السن، فالشاب طرفة بن العبد يقول:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد = تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد


والماجن امرؤ القيس يستوقف صاحبيه على أطلال محبوبته:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل = بسقط اللوى بين الدخول فحومل


والشيخ الهرم الذي نيف على الثمانين زهير بن أبي سلمى يقول:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم؟ = بحومانة الدراج المتثلم
وقفت بها من بعد عشرين حجة = فلأياً عرفت الدار بعد توهم


وهذا الغزل لم يكن تغزلاً بزوجة الشاعر دائماً، فقد يتغزل بها أو بغيرها، وغالباً ما يكون بغير زوجته، ضناً بها عن أن يتحدث عنها الناس. وكانت هذه الطريقة أسلوباً سلكه الشعراء في العصر الجاهلي، واستمروا عليه حتى بعد ظهور الإسلام، فالشعراء المخضرمون الذين أسلموا ساروا على هذا النهج، وشعراء العصر الأموي لم يخرجوا عليه.. إلى أن لحق التجديد نهج الشعر في العصر العباسي، بعد معركة كلامية حامية بين من خرج على هذا النهج (المحدثين) ومن بقي عليه (المحافظين).


وعندما جاء الإسلام بعقيدة جديدة على المجتمع الجاهلي، وبأخلاق سامية نبيلة، هذبت هذه العقيدة سلوك أفراد المجتمع، نتيجة تحريم الخمرة، وطلب الحفاظ على العرض وغض البصر... فلم يكن بد من أن يلتزم المجتمع بذلك في سلوك أفراده.


أما الشعراء، فقد قال الله تعالى عنهم في كتابه العزيز ﴿ وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 224 - 226] ومع ذلك، كان منهم شعراء مسلمون يؤدون دورهم الإعلامي، ويجاهدون بالكلمة المنافحة عن الإسلام والمسلمين، وقد استمروا على النهج الذي كانوا عليه؛ فكانوا يبدؤون قصائدهم بالغزل التقليدي، ويقفون على الأطلال، ولم يكن المسلمون يحاسبونهم على كل كلمة يقولونها في شعرهم، ولا يستنكر عليهم ذلك أحد: فهذا كعب بن زهير بن أبي سلمى كما تروي كتب الأدب والتاريخ، يقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدحه ويعتذر إليه عما بدر منه من هجاء له وعن محاربته للإسلام بشعره، ويفتتح قصيدته، على عادة شعراء الجاهلية بالوقوف على الأطلال، بل بالغزل مباشرة فيقول:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول = متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا = إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت = كأنه منهل بالراح معلول
شجت بذي شبم من ماء محنية = صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
فيا لها خلة قد سيط من دمها = فجع وولع وإخلاف وتبديل
فما تدوم على حال تكون بها = كما تلوّن في أثوابها الغول
وما تمسّك بالوعد الذي وعدت = إلا كما تمسك الماء الغرابيل
كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً = وما مواعيدها إلى الأباطيل
أرجو وآمل أن تدنو مودتها = وما لهن، إخال، الدهرَ تعجيل
أمست سعاد بأرض لا تبلغها = إلا العتاق النجيبات المراسيل


فهو يصرح بذكر اسم المرأة التي يتغزل بها، ويصف جمالها وكمالها وأخلاقها الحسنة وعاداتها.. فهي هيفاء عجزاء مكحولة العينين ذات صوت أغن، معتدلة القوام، وتعد وتخلف، وتتلون وتتقلب.. أوصاف جسدية ومعنوية.


والرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إليه، فلا ينهره ولا يردعه! وأين يلقي كعب قصيدته هذه؟ إنه يلقيها بين يدي الرسول عليه السلام، وفي مسجده وبعد صلاة الفجر، ويروي هذه القصيدة ابن هشام في سيرته في الصفحة 153 من الجزء 4، كما يرويها ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية" في الصفحة 370 من الجزء الرابع، مقدماً لها بقوله:

وجاء به رجل من جهينة بينه وبينه معرفة فغدا به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح، فصلى مع رسول الله ثم أشار له إلى رسول الله، فقال، هذا رسول الله، فقم إليه فاستأذنه، وقام فجلس إلى رسول الله، ووضع يده في يده، والرسول لا يعرفه.


وقد يقول قائل: إن كعباً نظم هذه القصيدة وهو جاهلي، وقبل أن يسلم، ولا يعرف أحكام الإسلام.


ولكن الحقيقة أن كعباً لم يكن يجهل مفاهيم الإسلام، فقد كان يهجو الرسول والمسلمين، وترددت الرسائل بينه وبين أخيه المسلم بجير مرات، كما أن المشركين كانوا يعرفون مفاهيم الإسلام ومواقفه الأخلاقية.. وسواء أكان هذا أم ذاك، فإن الرسول عليه السلام لم يعنفه على ما قال في مطلع قصيدته، ولم يرشده إلى التخلي عن ذلك، بل يورد ابن كثير، أن الرسول صلى الله عليه وسلم نبه الصحابة إلى بيت كعب:
نبئت أن رسول الله أوعدني = والعفو عند رسول الله مأمول


فأشار رسول الله إلى من معه (أن اسمعوا).


ويروى أن الرسول تدخل في صياغة بعض أبيات القصيدة فعندما قال كعب:

مهند من سيوف الهند مسلول


فسأله الرسول: ألا يصح.. من سيوف الله؟ قال: بلى.


وهذا يدل على أن الرسول عليه السلام، لم يعترض على أبيات المقدمة، واستمع إليها مع كثرة أبياتها!


وحسان بن ثابت شاعر الرسول، الذي نافح بشعره عن الإسلام وعن الرسول، له قصيدته الهمزية، التي تتصدر ديوانه، ويرويها كاملة ابن هشام في سيرته (في الصفحة 43 من الجزء الرابع)، فيما قيل من شعر في يوم الفتح، كما يذكرها ابن كثير بتمامها (في تاريخه في الصفحة 310 من الجزء الرابع)، ولا يتورع أي منهما عن ذكرها في كتابه، وهذه القصيد يبدؤها حسان بوصف الأطلال ثم بالغزل فيقول:
عفت ذات الأصابع فالجواء = إلى عذراء منزلها خلاء
فدع هذا، ولكن من لطيف = يؤرقني إذا ذهب العشاء
لشعثاء التي قد تيمته = فليس لقلبه منها شفاء
عدمنا خيلنا إن لم تروها = تثير النقع موعدها كداء


فحسان في هذه الأبيات لم يكتف بالوقوف على أطلال شعثاء بل تغزل بها، فطيفها يؤرقه، ولا شفاء لقلبه منها.. ويزيد على ذلك أنه يذكر أربعة أبيات يتحدث فيها عن الخمرة.


وقد يقول قائل: هذه المقدمة ليست جزءاً من قصيدة حسان في مدح الرسول وفتح مكة، إنما هي مقدمة لقصيدة أخرى من شعر حسان في جاهليته، اتفقت في الوزن والقافية والروي وحركته، مع القصيدة التي تحدث فيها عن فتح مكة.


ولكن ما يلفت النظر أن ديوان حسان لا يحتوي على قصيدة همزية أخرى بهذه المواصفات، وكذلك لم يشر جامع الديوان ولا ابن هشام ولا ابن كثير إلى انفصال المقدمة عن بقية القصيدة، كما أن العالمين الجليلين ابن هشام وابن كثير، لم يعلقا على القصيدة بنقد أو بعيب أو أي إشارة إلى تناقض هذه المقدمة مع أحكام الإسلام، فكأنهما نظرا إليها من الناحية البيانية والشعرية، على أنها شيء مألوف ومعروف ومعفوّ عنه في أوساط الأدب والأدباء، فلا يثير عندهم شيئاً من الاستنكار. ولذلك يستغرب المرء الآن أن يجد من يستنكر إلقاء الشعر في المسجد أو يعترض على من يرد في شعره كلمة غزلية عابرة من مثل "فالوجه الباسم لامرأة وسط حقول الرمان، أجمل من أشعاري وقوافيّ".


ولم تكن قصيدة حسان السابقة هي الوحيدة التي يفتتحها بالمقدمة الطللية والغزل، بل هناك قصيدة أخرى أوردها ابن كثير (في الصفحة 361 من الجزء الرابع)، في ما كان من أمر الأنصار وتأخرهم عن الغنيمة بعد حصار الطائف.


قال حسان:
ذر الهموم، فماء العين منحدر = شحا إذا حفلته عبرة درر
وجدا بشماء إذ شماءُ بهكنة = هيفاء لا ذنن فيها ولا خور
دع عنك شماء إذ كانت مودتها = نزراً، وشر وصال الواصل النزر
وأنت الرسول، وقل يا خير مؤتمن = للمؤمنين إذا ما عدد البشر


فهو يأخذه الوجد بشماء، وهي بضة ناعمة دقيقة الخصر ما فيها ضعف ولا فتور. وهذا كله بعد غزوة الطائف في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يعترض عليه رسول الله ولا الصحابة، ولم يستنكر ذلك منه ابن كثير صاحب التفسير والحافظ للحديث والفقيه السلفي، وأورد ذلك في كتابه.


ولو كانت كتب التاريخ تروي كل القصائد كاملة لوجدنا لكثير من قصائد الشعراء المخضرمين مقدمات طللية غزلية، ولكن الغالب على هذه الكتب أن تذكر من القصيدة الأبيات التي لها علاقة بالحدث المقصود. وكل هذا يدل على أن النظرة إلى الأدب والشعر خاصة، كانت غير متشددة، وفيها تساهل لا نجده مع النصوص النثرية، ولعل ذلك داخل في باب فهمهم لقول الله تعالى عن الشعراء: ﴿ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ﴾ [الشعراء: 226] وأنهم يتطرقون إليه من غير تزيين له وإغراء به.



- عن الشبكة
 
أعلى