نقوس المهدي
كاتب
حكى أبوالطيب محمد القاسم النميرى قال:
ــ مارأيت شابا ولا شيخا من ولد العباس أصون لنفسه, ولا أربط لجأشه ولا أعف جسدا ولا لسانا من أبى العباس بن المعتز. وكنا ربما عبثنا بالهزل في مجلسه فيجرى معنا فيه فيما لا يقدح فيه قادح وكان أكثر مايستعمل به نفسه سماع الغناء, وكان يعيب العشق ويقول: هو طرف من الحمق واذا رأى منا مطرقا أو مفكرا اتهمه بهذا المعنى ويقول: وقعت والله يافلان, وذهل عقلك, وسخف رأيك الى أن رأيناه قد حدث له سهو شديد وفكر دائم وزفير متتابع, سمعناه ينشد:
سل بحق الله عينيك عني = هل احست في الهوى بقتيل
انك نغصت حياتي بهجر = ومماتي بحساب طويل
وينشد أيضا:
أسر الحب أميرا = لم يكن قط أسيرا
فارحموا ذل عزيز = صار عبدا مستجيرا
وينشد كذلك:
لقد قتلك عيناك نفسا كريمة = فلا تأمنى أن مت سطوة ثائر
كان فؤادى في السما معلق = اذا غبت عنى بمخلب طائر
فقلت: جعلنى الله فداك هذه اشياء كنت تعيب أمثالها منا ونحن ننكرها منك.. فكان يرجع عن بعض ذلك تجملا ثم لا يلبث مستوره أن يظهر حتى تحقق أمره ودخل في جملة أهل الهوى العاشقين.
بهذه الرواية وتلك الأبيات يفتتح صاحبنا القيروانى أبواسحق الحصرى مصنفه الحافل بجميل الشعر وقد اتخذ له عنوانه الذى عايشناه على مدى أحاديث عديدة سبقت.. وهو (المصون في سر الهوى المكنون) ولأن العم أبا اسحق الحصرى رجل محترم وأديب لا يشق له غبار ورغم انه اتخذ الهوى. العشق والحب موضوعا لهذا الكتاب الا انه يتعامل مع الموضوع بكل جدية وبكل احترام تأمله مثلا وقد أودع الكتاب فصلا بعنوان: اثر الهوى في أبواب الفضائل انه لا ينكر أن الهوى نزعة انسانية.. فمادام في الصدور افئدة خفق لها نبض ولها ايقاع ولها وجيب يهتز امام ابداع الجمال وفطرة الحسن في خلق الله سبحانه, ومادامت النفوس تضطرم ويجيش بين حناياها طائف الشعر, فالمسألة اذن تفضى من جمال الى جمال, فطرة جميلة ومشاع أجمل يعبر عنها ابداع أجمل وأجمل.
يروى صاحب الكتاب عن أحمد بن أبى ظاهر قوله: وصف بعض البلغاء الهوى فقال: هو فضيلة تنتج الحيلة وتشجع قلب الجبان وتسخى كف البخيل وتصفى ذهن الغبى وتطلق بالشعر لسان العجم (فما بالك بالعرب).. وهو عزيز تذل له الملوك وتصدع له صولة الشجاع وينقاد له كل ممتنع.. اليه تستريح الهمم ويسكن بوافر الاخلاق والشيم, له سرور يجول في النفس وفرح يستكن في القلوب, وبه يتعاطف أهل المودة ويتصل أهل الألفية.. الخ
والمؤلف يشفع هذا الحديث بأبيات لعمر بن أبى ربيعة يقول فيها:
وأنا ليجرى بيننا حين نلتقى = حديث له وشي كوشي المطارف
حديث كوقع الغيم في المحل يشتفى به = من جوى بى في داخل القلب شاغف
وفي هذا المقام أيضا تقام أحاديث النجوى بين أهل الهوى يذهب شاعر آخر اسمه أبوحية النميرى الى مدى أبعد حين يقول:
حديث اذا لم تخش عتبا كأنه = إذا ساقطته الشهد بل هو أعذب
لو انك تستشفى به من بعد سكرة = من الموت, كادت سكرة الموت تذهب
ولا نكتمك علم الله ان غلبتنا النفس تدفعنا الى أن نضيف الى أحاديث الهوى هذه.. كلمات لسيد شعراء العربية في عهدها الحديث شوقى بك (ولم ترد أشعاره بداهة في كتاب عمنا الحصرى (القيروانى) يقول شوقى:
حديثها السحر, الا انه نغم جرت = على فم داوود فغناها
حمامة الايك من بالشجو طارحها = ومن وراء الدجى بالشوق ناجاها
وهى كما قد تذكر من أبياته الجميلة التى كان قد اهداها الى أم كلثوم عند مطالع حياتها الفنية الحافلة بمطلعها
(سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها..)
وكان أن غنتها فافتنت وابدعت وسجلتها عام 1946 بعد أن صاغ لها الموسيقار الكبير رياض السنباطى لحنا كلاسيكيا من مقام هزام يعد الآن من شوامخ ابداعات موسيقانا العربية في العصر الحديث
ثم نعود الى كتاب (المصون في سر الهوى) حيث يطرح صاحبه سؤالا من قبيل: * ترى.. ماالذى يثير كوامن الحب؟ ــ وهو يجيب بأن أول الغيث من الهوى نظرة الى وجه حسن.. وأحيانا يقترن السماع بالنظر. ولأمر ما, نلاحظ أن ثمة عقدا مبرما بين عشاق العرب واسلافهم عشاق الرومان.. في الميثولوجيا اللاتينية اتخذوا للحب رمزا هو كويبيد ورسموه كما لا شك تعرف على صورة طفل جميل يحمل على كاهله الرقيق جعبة من سهام يطلقها لتقصد الى صدر الانسان ليرشقها في صميم حشاشته فاذا به يتحول الى عاشق.. كلف, مدنف.. عميد هيمان ولا حول ولا قوة الا بالله. ربما كان الاغريق أكثر صراحة حين رمزوا للحب بالمعبود (ايروس) وهو رمز العشق الى درجة الشهوة ومنه اشتق الناس في لغات أوروبا المعاصرة تعابير (ايروتيك) واخواتها لتصدق في رأيهم على النزاعات الحسية أو الجنسية وما الى ذلك لسبيل. لكن الشاعر العربى عبر عن هذا كله في اطار اسمى وأبلغ وأرق قال اسماعيل الحميرى:
اقصدتنى بالسهم حين رمتنى = أم عمرو وطاش عنها سهامى
أقصدتنى منها بطرف وسهم = وبجيد ومعصم وقوام
هاهو اخونا اليعربى الحميرى بعد اذنك يوجز المسألة كلها.. يستعير سهام كيوبيد اياه ويجعل منطلقها نظرة العين التى في طرفها حور. ثم يلخص مكامن السحر في جيد أتلع وعصم تزينه أساور وقوام يحاكى غصن البان فما الذى يبقى بعد ذلك؟ ربما يكون التحفظ الوحيد هو ان السيدة أو الآنسة التى أحبها الحميرى كان اسمها (أم عمرو) وهو اسم لا يقبله ذوق عصور أخرى ترددت وسط اصدائها اسماء معشوقات خالدات مابين ليلى العمارية الى عزة أو بثينة (بثن وهو اسم الدلع الذى استخدمه صاحبها جميل بن معمر). الى وحيد اسم السيدة وتذكر انها كانت مطربة وقد تغنى بحبها ابن الرومى وقد نشكرها على ذلك اذ رطبت حياة ووجدان ذلك الشاعر المبدع الذى لم يقدره زمانه حق قدره.. وقال فيها داليته الشهيرة:
يارفاقى قد تيمتنى وحيدا = ففؤادى منها معنى عميد
الى السيدة (فوز) صاحبة واحد من أرق شعراء الغزل وأكثرهم عفة في عمود النظام العربى وهو العباس بن الأحنف دع عنك اعزك الله السيدات والاوانس اللائي صحبنا بمسيرهن منذ بواكير الطلب في محفوظات الأدب مابين فاطمة صاحبة امرىء القيس وخولة التى كان عنوانها في برقة ثهمد وحين ارتحلت اطلالا تغنى بهن زهير بن أبى سلمة الى سعاد التى بانت فقلبى اليوم متبول على نحو ما قال كعب بن زهير في قصيدته التى نظمها في مدح النبى عليه الصلاة والسلام ولعل الشاعر يذكر الاخت سعاد هذه لضرورات التقاليد الشعرية دون أن يكون لها وجود من الأصل والأساس.. والله أعلم!
مرة أخرى يحيل أبواسحق القيروانى الى ابن المعتز الخليفة العباس الشاعر حين يقول:
اعازلتي ولا تعزلي عاشقا مثلي = ولكن دعيني واعزلي الحب من أجلي
ونوحى على صب بكت عائداته = صريع الخدود البيض والأعين النجل
رمين فلما أن أصبن مقاتلي تولين = وانضمت جراحي على النبل
هذا ماكان من أمر العيون وسهامها.. أما السمع واثاره فيعرض له كتاب (المصون) عندما يحكى عن الشاعر العباس الكبير (أبو تمام الطائي) حين كان يجتاز مدينة أبر شهر من أعلى نيسابور فسمع جارية تغنى بالفارسية لم يفهم المعنى ولكن شاقه جمال الصوت.. عذبا كان ومفعما بالشجا والشجن.. هنالك أنشد أبوتمام من بحر الوافر يقول:
أيا سهرى بليلة (أبر شهر). = ذممت الي يوما في سواها
سمعت بها غناء كان أحرى = بأن يقتاد نفسي من غناها
مرت أوتارها, فشجت وشاقت = فلو يستطيع سامعها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن رمت = كبدي فلم أجهل شجاها
فكنت كأننى أعمى معنى يحب = الغانيات ومايراها
ولكن صاحب الكتاب الذى بين أيدينا في هذه السطور لا ينسى لحظة انه أديب ناقد, وليس مجرد جامع للشعر ناقل.. انه يتوقف على سرد أشعار الهوى ويفرد في هذا السياق زاوية تتكرر كثيرا بين ثنايا الكتاب وتحمل عنوان (من النقد) وفيها يسوق المؤلف أحكاما نقدية وتذوقية على ما يورده من مأثور القريض. وبعد أن روى شعر (أبوتمام) يحيل الى سؤال واحد من معاصرى الشاعر حين قال له: هل أخذت هذا المعنى من أحد.. أجاب أبوتمام نعم: قول بشار بن أبى برد في بيتيه الشهيرين ياقوم:
أذنى لبعض الحى عاشقة = والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا: بمن لا ترى تهذى فقلت لهم: = الأذن, كالعين توفى القلب ماكانا
وأنت تعلم أن بشار بن برد كان كفيفا ولعلك تعلم أيضا كم كان عابثا فيه شقاوة ومجون ولأنه كان موهوبا فقد أخبر- كما يقول أبواسحق القيروانى أن الحب انما يتولد بالقلب والفكر دون السمع والبصر فقال: يزهدنى في حب (عبدة) معشر قلوبهم فيها مخالفة قلبى فقلت: دعوا قلبى وما اختار وارتضى فبالقلب, لا بالعين يبصر ذو الحب وما تبصر العينان في موضع الهوى ولا تسمع الأذنان الا من القلب فى نفس السياق, والمجال محدود..
لا بأس أن نورد لك مع صاحب هذا الكتاب قولا جميلا لشاعر عربي مجهول في مقام الاستدلال على الحبيب:
اذا ابصرتك العين من بعد غاية = فخامر فيك الشك, اثبتك القلب
ولو أن ركبا يمموك, لقادهم = نسيمك حتى يستدل به الركب
.
ــ مارأيت شابا ولا شيخا من ولد العباس أصون لنفسه, ولا أربط لجأشه ولا أعف جسدا ولا لسانا من أبى العباس بن المعتز. وكنا ربما عبثنا بالهزل في مجلسه فيجرى معنا فيه فيما لا يقدح فيه قادح وكان أكثر مايستعمل به نفسه سماع الغناء, وكان يعيب العشق ويقول: هو طرف من الحمق واذا رأى منا مطرقا أو مفكرا اتهمه بهذا المعنى ويقول: وقعت والله يافلان, وذهل عقلك, وسخف رأيك الى أن رأيناه قد حدث له سهو شديد وفكر دائم وزفير متتابع, سمعناه ينشد:
سل بحق الله عينيك عني = هل احست في الهوى بقتيل
انك نغصت حياتي بهجر = ومماتي بحساب طويل
وينشد أيضا:
أسر الحب أميرا = لم يكن قط أسيرا
فارحموا ذل عزيز = صار عبدا مستجيرا
وينشد كذلك:
لقد قتلك عيناك نفسا كريمة = فلا تأمنى أن مت سطوة ثائر
كان فؤادى في السما معلق = اذا غبت عنى بمخلب طائر
فقلت: جعلنى الله فداك هذه اشياء كنت تعيب أمثالها منا ونحن ننكرها منك.. فكان يرجع عن بعض ذلك تجملا ثم لا يلبث مستوره أن يظهر حتى تحقق أمره ودخل في جملة أهل الهوى العاشقين.
بهذه الرواية وتلك الأبيات يفتتح صاحبنا القيروانى أبواسحق الحصرى مصنفه الحافل بجميل الشعر وقد اتخذ له عنوانه الذى عايشناه على مدى أحاديث عديدة سبقت.. وهو (المصون في سر الهوى المكنون) ولأن العم أبا اسحق الحصرى رجل محترم وأديب لا يشق له غبار ورغم انه اتخذ الهوى. العشق والحب موضوعا لهذا الكتاب الا انه يتعامل مع الموضوع بكل جدية وبكل احترام تأمله مثلا وقد أودع الكتاب فصلا بعنوان: اثر الهوى في أبواب الفضائل انه لا ينكر أن الهوى نزعة انسانية.. فمادام في الصدور افئدة خفق لها نبض ولها ايقاع ولها وجيب يهتز امام ابداع الجمال وفطرة الحسن في خلق الله سبحانه, ومادامت النفوس تضطرم ويجيش بين حناياها طائف الشعر, فالمسألة اذن تفضى من جمال الى جمال, فطرة جميلة ومشاع أجمل يعبر عنها ابداع أجمل وأجمل.
يروى صاحب الكتاب عن أحمد بن أبى ظاهر قوله: وصف بعض البلغاء الهوى فقال: هو فضيلة تنتج الحيلة وتشجع قلب الجبان وتسخى كف البخيل وتصفى ذهن الغبى وتطلق بالشعر لسان العجم (فما بالك بالعرب).. وهو عزيز تذل له الملوك وتصدع له صولة الشجاع وينقاد له كل ممتنع.. اليه تستريح الهمم ويسكن بوافر الاخلاق والشيم, له سرور يجول في النفس وفرح يستكن في القلوب, وبه يتعاطف أهل المودة ويتصل أهل الألفية.. الخ
والمؤلف يشفع هذا الحديث بأبيات لعمر بن أبى ربيعة يقول فيها:
وأنا ليجرى بيننا حين نلتقى = حديث له وشي كوشي المطارف
حديث كوقع الغيم في المحل يشتفى به = من جوى بى في داخل القلب شاغف
وفي هذا المقام أيضا تقام أحاديث النجوى بين أهل الهوى يذهب شاعر آخر اسمه أبوحية النميرى الى مدى أبعد حين يقول:
حديث اذا لم تخش عتبا كأنه = إذا ساقطته الشهد بل هو أعذب
لو انك تستشفى به من بعد سكرة = من الموت, كادت سكرة الموت تذهب
ولا نكتمك علم الله ان غلبتنا النفس تدفعنا الى أن نضيف الى أحاديث الهوى هذه.. كلمات لسيد شعراء العربية في عهدها الحديث شوقى بك (ولم ترد أشعاره بداهة في كتاب عمنا الحصرى (القيروانى) يقول شوقى:
حديثها السحر, الا انه نغم جرت = على فم داوود فغناها
حمامة الايك من بالشجو طارحها = ومن وراء الدجى بالشوق ناجاها
وهى كما قد تذكر من أبياته الجميلة التى كان قد اهداها الى أم كلثوم عند مطالع حياتها الفنية الحافلة بمطلعها
(سلوا كؤوس الطلا هل لامست فاها..)
وكان أن غنتها فافتنت وابدعت وسجلتها عام 1946 بعد أن صاغ لها الموسيقار الكبير رياض السنباطى لحنا كلاسيكيا من مقام هزام يعد الآن من شوامخ ابداعات موسيقانا العربية في العصر الحديث
ثم نعود الى كتاب (المصون في سر الهوى) حيث يطرح صاحبه سؤالا من قبيل: * ترى.. ماالذى يثير كوامن الحب؟ ــ وهو يجيب بأن أول الغيث من الهوى نظرة الى وجه حسن.. وأحيانا يقترن السماع بالنظر. ولأمر ما, نلاحظ أن ثمة عقدا مبرما بين عشاق العرب واسلافهم عشاق الرومان.. في الميثولوجيا اللاتينية اتخذوا للحب رمزا هو كويبيد ورسموه كما لا شك تعرف على صورة طفل جميل يحمل على كاهله الرقيق جعبة من سهام يطلقها لتقصد الى صدر الانسان ليرشقها في صميم حشاشته فاذا به يتحول الى عاشق.. كلف, مدنف.. عميد هيمان ولا حول ولا قوة الا بالله. ربما كان الاغريق أكثر صراحة حين رمزوا للحب بالمعبود (ايروس) وهو رمز العشق الى درجة الشهوة ومنه اشتق الناس في لغات أوروبا المعاصرة تعابير (ايروتيك) واخواتها لتصدق في رأيهم على النزاعات الحسية أو الجنسية وما الى ذلك لسبيل. لكن الشاعر العربى عبر عن هذا كله في اطار اسمى وأبلغ وأرق قال اسماعيل الحميرى:
اقصدتنى بالسهم حين رمتنى = أم عمرو وطاش عنها سهامى
أقصدتنى منها بطرف وسهم = وبجيد ومعصم وقوام
هاهو اخونا اليعربى الحميرى بعد اذنك يوجز المسألة كلها.. يستعير سهام كيوبيد اياه ويجعل منطلقها نظرة العين التى في طرفها حور. ثم يلخص مكامن السحر في جيد أتلع وعصم تزينه أساور وقوام يحاكى غصن البان فما الذى يبقى بعد ذلك؟ ربما يكون التحفظ الوحيد هو ان السيدة أو الآنسة التى أحبها الحميرى كان اسمها (أم عمرو) وهو اسم لا يقبله ذوق عصور أخرى ترددت وسط اصدائها اسماء معشوقات خالدات مابين ليلى العمارية الى عزة أو بثينة (بثن وهو اسم الدلع الذى استخدمه صاحبها جميل بن معمر). الى وحيد اسم السيدة وتذكر انها كانت مطربة وقد تغنى بحبها ابن الرومى وقد نشكرها على ذلك اذ رطبت حياة ووجدان ذلك الشاعر المبدع الذى لم يقدره زمانه حق قدره.. وقال فيها داليته الشهيرة:
يارفاقى قد تيمتنى وحيدا = ففؤادى منها معنى عميد
الى السيدة (فوز) صاحبة واحد من أرق شعراء الغزل وأكثرهم عفة في عمود النظام العربى وهو العباس بن الأحنف دع عنك اعزك الله السيدات والاوانس اللائي صحبنا بمسيرهن منذ بواكير الطلب في محفوظات الأدب مابين فاطمة صاحبة امرىء القيس وخولة التى كان عنوانها في برقة ثهمد وحين ارتحلت اطلالا تغنى بهن زهير بن أبى سلمة الى سعاد التى بانت فقلبى اليوم متبول على نحو ما قال كعب بن زهير في قصيدته التى نظمها في مدح النبى عليه الصلاة والسلام ولعل الشاعر يذكر الاخت سعاد هذه لضرورات التقاليد الشعرية دون أن يكون لها وجود من الأصل والأساس.. والله أعلم!
مرة أخرى يحيل أبواسحق القيروانى الى ابن المعتز الخليفة العباس الشاعر حين يقول:
اعازلتي ولا تعزلي عاشقا مثلي = ولكن دعيني واعزلي الحب من أجلي
ونوحى على صب بكت عائداته = صريع الخدود البيض والأعين النجل
رمين فلما أن أصبن مقاتلي تولين = وانضمت جراحي على النبل
هذا ماكان من أمر العيون وسهامها.. أما السمع واثاره فيعرض له كتاب (المصون) عندما يحكى عن الشاعر العباس الكبير (أبو تمام الطائي) حين كان يجتاز مدينة أبر شهر من أعلى نيسابور فسمع جارية تغنى بالفارسية لم يفهم المعنى ولكن شاقه جمال الصوت.. عذبا كان ومفعما بالشجا والشجن.. هنالك أنشد أبوتمام من بحر الوافر يقول:
أيا سهرى بليلة (أبر شهر). = ذممت الي يوما في سواها
سمعت بها غناء كان أحرى = بأن يقتاد نفسي من غناها
مرت أوتارها, فشجت وشاقت = فلو يستطيع سامعها فداها
ولم أفهم معانيها ولكن رمت = كبدي فلم أجهل شجاها
فكنت كأننى أعمى معنى يحب = الغانيات ومايراها
ولكن صاحب الكتاب الذى بين أيدينا في هذه السطور لا ينسى لحظة انه أديب ناقد, وليس مجرد جامع للشعر ناقل.. انه يتوقف على سرد أشعار الهوى ويفرد في هذا السياق زاوية تتكرر كثيرا بين ثنايا الكتاب وتحمل عنوان (من النقد) وفيها يسوق المؤلف أحكاما نقدية وتذوقية على ما يورده من مأثور القريض. وبعد أن روى شعر (أبوتمام) يحيل الى سؤال واحد من معاصرى الشاعر حين قال له: هل أخذت هذا المعنى من أحد.. أجاب أبوتمام نعم: قول بشار بن أبى برد في بيتيه الشهيرين ياقوم:
أذنى لبعض الحى عاشقة = والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا: بمن لا ترى تهذى فقلت لهم: = الأذن, كالعين توفى القلب ماكانا
وأنت تعلم أن بشار بن برد كان كفيفا ولعلك تعلم أيضا كم كان عابثا فيه شقاوة ومجون ولأنه كان موهوبا فقد أخبر- كما يقول أبواسحق القيروانى أن الحب انما يتولد بالقلب والفكر دون السمع والبصر فقال: يزهدنى في حب (عبدة) معشر قلوبهم فيها مخالفة قلبى فقلت: دعوا قلبى وما اختار وارتضى فبالقلب, لا بالعين يبصر ذو الحب وما تبصر العينان في موضع الهوى ولا تسمع الأذنان الا من القلب فى نفس السياق, والمجال محدود..
لا بأس أن نورد لك مع صاحب هذا الكتاب قولا جميلا لشاعر عربي مجهول في مقام الاستدلال على الحبيب:
اذا ابصرتك العين من بعد غاية = فخامر فيك الشك, اثبتك القلب
ولو أن ركبا يمموك, لقادهم = نسيمك حتى يستدل به الركب
.