شكيب كاظم - عزت القمحاوي في المباهج والاحزان

عزت القمحاوي في كتابه الجميل والممتع والمؤنس هذا، يحدثنا عن بنيان الالفة رائيا ان الكتابة الغربية التي احتفت بالحواس تبدو بلا نوع فان الكتابة العربية التي تناولت هذا النوع من جماليات المكان احتفت بشكل واسع بالتجنيس واحالته الى النوع الانثوي واذا كان الخوارزمي قد قال لا خير في صوت يخرج من بين لحية وشارب في نزوع واضح الى اعلاء شأن الصوت الانثوي المُطْرِب، فان الشيخ محيي الدين بن عربي ينسب له القول: المكان الذي لا يؤنث ( او: يونس) لا يعول عليه، لابل انه في كتابه " الفتوحات المكية " يؤنث- في احدى شطحاته، والمتصوفة معروفون بشطحاتهم التي ادت في بعض الاحيان الى مغادرة الرأس موضعه من الجسد!! يؤنث الكعبة!!.
قبل ان يذهب الناس الى القوقعة، بعد ان ازداد التوجس من الاخر، منذ عقود قريبة كانت المنازل ذوات الحدائق، ذوات اسوار واطئة، فتضفي على المكان جمالا وسعة، حتى لكأن مساحة الدار الانيق وحديقته تضاف الى فضاء الرصيف والشارع، لكن مع ازدياد التوجس، وحلول الريبة محل الثقة والانفتاح على الناس، ازداد سمك الجدران، وازداد علو الاسيجة لتشكل قطيعة بين الناس والسابلة، وبين ساكني تلك البيوت، هذا الامر الذي تناوله عزت القمحاوي، اذ يتحدث جماليا عن بنيان الالفة، هو ما سبق ان تناوله نجيب محفوظ في عمله الروائي الجميل قشتمر، الذي قدم للقارئ حيوات شخوص روايته التي تقع في مئة وسبع واربعين صفحة، مكثفة في هذه الصفحات، واذا كان لبغداد محلتها العباسية، في كرادة مريم، التي انجبت الناقد الشاعر فوزي كريم والمفكر هادي العلوي وشقيقه الكاتب حسن العلوي فان للقاهرة عباسيتها كذلك التي يصفها نجيب محفوظ حيث " بيعت جملة من سرايات العباسية الشرقية المطلة على الشارع العمومي وشرع في اقامة عمائر شاهقة في مكانها، واخذ يتمايل في الافق منظر حي جديد مكتظ بالسكان والدكاكين، ويطوي في نموه المتصاعد الحي القديم بسراياته المعدودة وبيوته الصغيرة الانيقة وسكانه المعدودين، الذين تربط بينهم روابط الاسرة الكبيرة الواحدة (....) العباسية القديمة هل بقي منها اثر؟ اين الحقول والحدائق؟ اين البيوت ذوات الحدائق الخلفية؟ هل نرى اليوم الا غابات من الاسمنت المسلح ومظاهرات من المركبات المجنونة؟ ص81، ص146.
ولعل من امتع فصول الكتاب، الفصل الموسوم بـ " مطارح الغرام " ولم ينقل لنا عزت القمحاوي ما جاء في كتب التراث العربي، الروض العاطر، او تحفة العروس، او نزهة الالباب بشأن حميمية اماكن العشق والغرام، بل يذهب بعيدا الى العهد القديم لينقل للقارئ نصيحة نُعْمى لكنتها الارملة راعوت لاصطياد بوغر، لقد ارسلتها الى مكان قدلا يخطر على بال ليكون مطرح غرام ووصال، ارسلتها الى بيدر الشعير ناصحة اياها " ها هو يذري الشعير الليلة فاغتسلي وتدهني والبسي ثيابك وانزلي الى البيدر، ولكن لا تعرفي عند الرجل حتى يفرغ من الاكل والشرب، ومتى اضطجع فاعلمي المكان الذي يضطجع فيه وادخلي واكشفي ناحية رجليه واضطجعي وهو يخبرك بما تعملين- والقارئ اللبيب يفهم ما الذي يكنى به بالرِجْل!!.
كتاب ممتع ومؤنس، وضعته دار الهلال المصرية مشكورة بين ايادي القراء في دنيا العرب، والذي تعرفنا من خلاله اول مرة على منجز جميل من منجزات القاص والروائي والكاتب المصري عزت القمحاوي، الذي تنقل بنا وبجوارحنا حيث شاء من الهوى!!.
 
أعلى