تحسين الخطيب - الشعر العاري

"أيها العري الكامل! كل المسرات مردّها إليك"، كتب الشاعر الإنكليزي جون دَنّ (1572-1631) في "المرثية التاسعة عشرة: إلى حبيبته وهي ذاهبة إلى السرير". ولم يذهب بعيدًا عن ذلك مواطنه روبرت غريفز (1895-1985) حين خاطبها قائلًا: "عارية تشرقين".
وكان هذا العُري المشرق، عري المسرّات جميعًا، هو الذي قاد الشاعر الإسباني خوان رامون خيمينيث، الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 1956، إلى الشعر العاري. الجسد "المحض" الذي لا شيء عليه سوى "براءته" هو الذي فتح عينيه على شعر بلا وزن أو قافية، شعر مجرّد من كل محسّناته البديعية وزخارفه اللفظية. إيقاع الجسد، أن يتعرّى، هو ذاته إيقاع القصيدة آن تتشيّأ، كلمة كلمة، في عقـل الشاعر، وفي أعماق كينونته أيضًا.
كان خيمينيث، قد بدأ حياته الشعرية، تحت تأثير الشاعر روبين داريو، رائد الحداثة في العالم الناطق بالإسبانية، خاصة في "أغنيات حزينة" عام 1930، ثم تحدث النقلة الفارقة في أسلوبه الشعري، حين يلتقي بزنوبيا كامبروبي، زوجته المستقبلية، في مدريد، قبل أن يرتحلا إلى الولايات المتحدة. يكتب خيمينيث، في تلك الفترة، قصائد تجنح بعيدًا، على نحو قاطع، عن أساليب الحركة الحداثيّة وموضوعاتها، صوب شعر "صاف" يخلو من "الصنعة"، أطلق عليه اسم "الشعر العاري Poesia desnuda".
كان الجسد/النّعمة الذي لزوجته زنوبيا، أن تعرّى، وهو الذي جعله يدير ظهره إلى كل صنيعه الشعري السابق، ويكتب شعرًا لا يعتمد إلّا على البساطة وعلى الإيقاع الداخلي للكلمات فقط.
إنه الشعر الذي هو الجسد العاري في كامل تجليّاته: "ثم خلعت الثياب/ فكانت عارية تمامًا. . ./ الشعر العاري، الذي هو لي دومًا/والذي أحببته طيلة حياتي!".
وما إن قام الشاعر الأميركي روبرت بلاي، بترجمة قصيدة خيمينيث التي اقتطفنا منها الأبيات السابقة، حتى شاع مصطلح "الشعر العاري"، في الشعرية الأميركية، وأصبح بديلًا عن "الشعر الحر"، وعن الكتابة في الأشكال المفتوحة عمومًا.
وفي العام 1969، قام ستيفن بيرغ وروبرت ميزي، باقتفاء أثر هذا النوع لدى طائفة واسعة من الشعراء في أميركا، جامعين نماذج منه في أنثولوجيا شهيرة أطلقوا عليها اسم "الشعر العاري: الشعر الأميركي الحديث في الأشكال المفتوحة". ثم أتبعوها، بعد سبع سنين، بأنثولوجيا ثانية، تحت اسم "الشعر العاري الجديد".
ولم يحد محرر مجلة "بلاي بوي" عن نظرة خيمينيث تلك، حين صوّر حفيدته "عارية" على صفحات المجلة، دون أن يغفل عن الإشارة إلى جدّها بوصفه رائد "الشعر العاري" في الشعرية الحديثة!
"آه، أيتها الأجساد السماوية. أيتها الأجساد التي تتهاوي في العتمة"!



العرب
 
أعلى