عباس لطيف - توهج الروح وانطفاء الجسد في أدب العشق ومصادره

ظل مفهوم العشق وفلسفة الرغبة بكل تجلياتهما لوناً من الفكر المقموع وشكلاً من أشكال التابو وأدباً مهمشاً وفقاً لمساحة المصادرة التي يشتغل عليها العقل الفقهي ووصايا الموروث السيوسيو – ديني. ولكن التراكم الكمي والنوعي لأدبيات العشق وهيمنة المنطوق الشعري في العقل العربي وطغيان ما هو حسي ومنبري ووجداني جعل من موضوعة العشق وبكل تجسيداتها الغزلية والحسية والعرفانية والوجودية تفرض مقاربتها وضرورتها كونها تشكل كينونة مؤثرة لا يمكن التعامل معها بحس الإزاحة أو التجاهل القصدي.

فالشرق عموماً بكل نزعاته الروحانية والعاطفية يمثل بيئة مستثارة وأيقونة متوهجة لأَنْسَنَة ما هو رغبوي وحسي وبما يعمق التوجه الانساني لإثبات انسانية النوازع السايكولوجية. وليس غريباً أن يكون لفلسفة العشق ومثابات الجمال القدح المعلى والاستهلال البدئي في كل بدايات التوهج الحضاري بدءاً من حضارة الاغريق والى كشوفات ما بعد الحداثة وقد يتخذ العشق وتجلياته طقوساً وأشكالاً تتماهى مع أساليب التعبير الأدبي والفكري. وليس ثمة حضارة تستند على أناشيد الحب وقصائد الهيام. وهذا الاقتران الغرائبي السيامي بين الجمال والتحليق به في زوايا وميادين الصراع الانساني القائم في مجمله على التضاد الثنائي بين الحب والكراهية والجمال والقبح والزيف والحقيقة والحلم والواقع تجد مبثوثات الإرسال العشقي في الإلياذة والأوديسة وفي القصائد السومرية وفي حكايات الفراعنة وأساطير الرومان ونجدها في كلاسيكيات المسرح والتراجيديات اليونانية والمتون الشكسبيرية. ونجد الجمال والعشق والمتعة ملتصقة بماهية الفن. وقد توغل هيغل وكانت وقبلهما افلاطون وارسطو في هذه المخاضات المعرفية وظل العرب مشدودين الى ديوانهم الشعري القائم على تصوير العاطفة المشبوبة بدءاً من العشق الصحراوي في المعلقات مروراً بالعذريات حتى شيوع أنماط من التفلسف الغزلي ووصولاً الى الشعر الصوفي والعشق الإلهي والحب الذي يمجد العقل والروح وشجاعة الفكرة باعتبار المرأة ليست كائناً بيولوجياً ولوداً بقدر ما هي رمز للتكامل الوجودي وأيقونة الحرية وقداس الجمال الكلي.
وحتى هذه الموضوعة، أي موضوعة العشق، تعرضت الى كل أشكال التهميش والأدلجة الفقهية والمنطلقات الضيقة تبعاً للنزوع البطرياركي والنظرة المنقوصة الى المرأة وفق الذهنية الميتافيزيقية والبنى الاسطورية ذات المنحى والتسويغ والإسقاط الذكوري.
فالجمال والعشق والتحليق الروحي هي العوامل الفاعلة والمضادة للقبح والحروب والاستلاب والاستغلال. والمرأة برمزيتها الانثروبولوجية تمثل جوهر الانعتاق وبوابة الانتماء الى كل ما هو متعال وصولاً الى قدسية الجمال المطلق ولذا نجد ان الكثير من الفلاسفة والمفكرين يجدون علة سببية بين المجتمع المتخلف والمجتمع المتحضر من خلال ما تمثله المرأة ورمزيتها الطقوسية وربطوا بين مفهوم حرية المرأة وحرية الشعوب نجد ذلك عند الفقهاء المتنورين ونجدها في الوجودية المتقدمة والماركسية وفي التراث العربي والاسلامي بصيغة تثير الدهشة وتدحض الفكر الكهفي وكل أدران الفقه الظلامي والجذام الذي تتاجر به الفرق الجذامية. الحب طاقة إشراقية وأحد الموجهات المؤثرة لحياة البشر افراداً وشعوباً، هذا ما تصرح به الأديان وترسخه من خلال التمركز على المحبة والتآصر. ومنذ زمن لم تحظَ المكتبة العربية بكتاب يتصدّى لأدب العشق ويتوغل في اشكاليات الجمال والعشق والوجدان التي تشكل الكينونة والذاكرة والعقل السري للحياة البشرية.. ولعل صدور الكتاب الموسوم (توهج الروح وانطفاء الجسد – قراءة في أدب العشق ومصادره) يمثل إضاءةً موشورية واستقصاءً بانوراميا يمتزج في متنه المنهج واركيولوجيا الحب والمتعة والسياحة التاريخية والغوص في المصادر وخصائص التحليل والاجتهاد الفكري المتقدم لمؤلفته الدكتورة جنان قحطان فرحان – والصادر عن (دائرة الثقافة والإعلام – الشارقة) 2014.
لقد استطاعت الباحثة عبر آلياتها وأسلوبها وثقافتها التنويرية ان تخوض في إشكاليات هذه الموضوعة الفكرية الملتبسة التي تمثل بؤرة التناقض بين الفكر التحرري والفكر المنغلق.
وتضمن الكتاب منهجاً علمياً واستفاضة موضوعية وتتبعاً تاريخياً لكل المدونات التي تنطوي على فلسفة العشق والتيارات وأساليب الكتابة مع تقديم نبذة عن الكتاب والمؤلفين وأصحاب المصنفات ودراسة العوامل المؤثرة في سيرتهم وأجواء العصر الذي عاشوا فيه.
ففي المقدمة تتطرق الباحثة الى مفردة العشق ومدلولها الفكري والانساني نستهلها بالتوكيد على ان عاطفة الحب أو العشق تشكل الجزء الأوفر من تراثنا الأدبي وعماد غزلنا العربي منذ القِدم والعشق ظاهرة انسانية تنبئ عن الحيرة وتعلق القلب بالمعشوق والى الغلو والاضطراب وبما يؤدي الى الجنون أو الموت.
ولم تكن حكايات العشق وميلودراميتها مقتصرة على الأدب العربي وتتطرق الباحثة الى الربط بين الحضارة والحب عند شوبنهاور ودارون ونيتشه وفرويد وتفرد مساحة لحكايات الحب في سيَر سمير اميس وانانا وعشقها لديموزي.
وفي الحضارة المصرية كمغامرات سنوسي وقصة انويو وبيتشو وقصة عشق كليوباترا ومظاهر الحب في الحضارة اليونانية.
وتؤكد الباحثة على ان الكتابات عن الحب في الأدب العربي قد تمتزج بالأغراض الأخرى كما درست ذلك في مصنفات مهمة مثل (الحيوان للجاحظ) و (مروج الذهب للمسعودي) و (رسائل اخوان الصفا) و (رسائل ابن سينا) و (كتاب الزهرة لأبي بكر بن داود الاصفهاني) و (طوق الحمامة لأبي حزم الاندلسي) و (مصارع العشاق لابن السراج) و (ذم الهوى لابن الجوزي) و (مشارق أنوار القلب ومفاتح أسرار الغيوب لابن الدباغ) و (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) لابن قيم الجوزية و (ديوان الصبابة لابن أبي حجلة) و (روضة التعريف بالحب الشريف لابن الخطيب) و (تزيين الأسواق في أخبار العشاق للضرير الانطاكي) و (مدامع العشاق للدكتور زكي مبارك) وغيرها من مصنفات وأدبيات العشق ودرست الباحثة تحليلاً وتوصيفاً لكل مصنف واستخلصت أهم ما ينطوي عليه من فكر ووقائع ودلائل عشقية.
وتتطرق المؤلفة الى ظاهرة العشق الإلهي وماهيته وتجلياته الصوفية والعرفانية وهو لون من الحب الروحي المرتبط بالقداسة وتبحر في اشتراطاته والى طبيعة لغته والترميز الصوفي والاشتغالات الذهنية والترفع عن مفهوم الغائية الحسية والعلاقة المرموزية بين المرأة والعشق الإلهي وتورد الكثير من أسماء الشعراء والنصوص المترعة بالجمال.
وفي مبحث آخر تتناول موضوعة العشق الانساني ومضامينه وتورد الكثير من قصص العشاق ومغامراتهم ونهاياتهم التراجيدية ونصوصهم المثيرة وتتطرق الى دوافع العشق وعلاماته والتحسس الجمالي بين المرأة والرجل وظاهرة العفة والشعر العذري وشطحات العشاق وفسوقهم احياناً.
ولعل من اجمل فصول الكتاب ما تورده المؤلفة عن العشق ومثيراته ومكابداته وهو مبحث ينطلق في طقوس سايكولوجية ويبحر في تحليل العواطف والرغبات والاقتران الرومانسي بين مظاهر الطبيعة وهواجس العشق الدفينة وتحتل الحمامة وهديلها نموذجاً لهذا التماهي العشقي بين الطبيعة والمشاعر الانسانية المتوقدة.
وتقول عن العشق ومكابداته الوجدانية (فقد ينبعث الحب في الأصل من احساسنا بانعدام بعض الأمن الداخلي وادراك الإخفاق) فالإحساس بالنقص أو الحرمان هو أحد بواعث العشق والتعشق كنوع من الأوليات السايكولوجية لتحقيق الذات والشعور بالانتصار والزهو وتصف مسرات العشق التي غالباً ما تختلط بأحزان وقد يكون العاشق مازوكياً في تعذيب ذاته احياناً وسادياً في التلذذ بإحداث الألم عند نظيره.
وتتطرق الدكتورة حنان قحطان الى بعض الآراء والقوانين في الطب والتحليل لدراسة ظاهرة الحب بوصفها حاجة نفسية وبايولوجية.
وتخصص الفصل الثالث ووفق منهجها العلمي والاستقرائي الى التعمق في دراسة موضوعة الاستشهاد أي كتاب طوق الحمامة لأبي حزم الاندلسي بوصفه أنموذجاً متقدماً ومثيراً ومصنفاً جامعاً لكل ظواهر العشق وأشكاله وقد مزج الاندلسي بين خصائص كثيرة ربما لم تتوفر في مصنف آخر لذا نجده يمثل أيقونة العشق الغزلي وظل مصدراً مركزياً في تناول ظاهرة العشق والنزوع الوجداني على مدى القرون.
وفي البدء تضيء سيرة ابن حزم (384 – 456ه) واسمه وكنيته وأحوال عصره وسبب كتابته المصنف والمنهج الذي اتبعه في دراسة العشق وأهوال وعلل العشق وشرحت المؤلفة كل باب من أبوابه الثلاثين التي بدأت بباب (ماهية الحب) وحتى الباب الأخير (فضل التعفف) وبينت بدقة وبأسلوب نقدي رصين محاسن منهج الكتاب وعيوبه المنهجية.
وتناولت مفهوم ابن حزم للعشق كعاطفة انسانية وتعريفه للعشق والظواهر السايكولوجية التي ترافق العشق من الهيام والتوله والوفاء والهجر والعتاب.. إلخ وتتناول في مبحث آخر (ابن حزم التأثر والتأثير) كيف تأثر بمن سبقوه وكيف اثر بمن جاء بعده وفق دراسة مقارنة وتناصية تكشف عن حس نقدي ورهافة في التتبع والدقة في الدلالة وتنتقل الى دراسة الظواهر الفنية في النص وتبدأ بعد دراسة بنية النص وشفراته ومعانيه وأسلوبه البلاغي ثم تتناول البنية السردية والبنية الوصفية والبنية الايقاعية وتوظيفه للأساليب البلاغية من طباق وجناس وسجع واقتباس وتضمين وهي أساليب تعبيرية تحمل شحنات الاحتدام السايكولوجي والقلق العشقي والبنية السردية التي توافرت على نمط من التبئير السردي الذي يمزج بين السرد الحكائي وشعرية المعنى في فضاء سردي يجمع الحبكة والزمان والمكان وتقنيات الحوار الى جانب البنية الوصفية التي تصف الظواهر بأسلوب شاعري يتعمق في الكشف عن الخلجات ومظاهري في نسق وصفي دال ومختزل.
وتعتقد أن كتاب (توهج الروح وانطفاء الجسد في أدب العشق ومصادره – طوق الحمامة – أنموذجاً – يمثل إضافة معرفية وريادية في حقل أو ميدان شائك وملتبس والخوض فيه يتطلب ذهنية مركبة وقدرة على الكشف والاكتشاف والاختزال وانتاج معاني وأفكار وفق قراءة جديدة بالإفادة من المنهجيات الحديثة والغوص في معطيات التاريخ والأدب والفلسفة والنقد وكانت الباحثة الدكتورة حنان قحطان فرحان قد توافرت على هذه القدرة وتميزت بحس ذاتي وقدرة موضوعية وبأسلوب يكشف عن خزينها الفكري والأدبي والفلسفي بما يؤهلها أن تخوض في موضوعات وثيمات مازالت تعاني الالتباس والاشتباه وتعسف الحس التابوي وفوبيا الاقتراب منها بفعل الأدلجة والتسييس والروح البراغماتية والتعمية الفقهية استطاعت بجدارة أن تحرث في أرضٍ بِكْر واستظهرت الكثير وقدمت رؤية مغايرة ومتقدمة تستحق عليها أن تحتل مكانة مرموقة في مثل هذه الدراسات العميقة والشاقة التي تحتاج الى خبرة وفكر ووعي محلق.


.


صورة مفقودة

تغريد البقشي
 
أعلى