محيي الدين اللاذقاني - عشق النساء بين الخواء العاطفي وسطوة «الدونجوانية»

- فيلسوفات الإغريق لا يختلفن عن شعراء «الجاهلية العربية» في الدعوة لحب تشعله نظرة وتخمده غزوة


ان تقرن الحب بالوهم ليس شتيمة لتلك العاطفة السامية، بل بوابة مديح أكيدة، فالوهم يطيل الأمل، ويمدد الحلم تماما كما يطيل السراب حياة الظمآن، فمن يعطش في الصحراء يمكن ان يموت مبكراً لولا السراب المراوغ الذي يمده بطاقة لا يعهدها، ويدفعه لمواصلة السير الى الواحة أو الغدير.
وبما ان مجتمعات الكبت اسوأ من الغابة والصحراء أو «هي هما معاً» وزيادة، يصبح الحب الملجأ والملاذ من العطش والكبت والخوف، ويصبح لوحده مملكة من الغبطة والنشوة المرتجاة، وما أجمل وأرق اراغون وأنبله حين يقول موجها حديثه للبشرية كلها بصيغة تفسير يعقبه دعاء:
«انهم لا يصدقون قولي عن الحب، برغم هذا انظروا اليّ قد أكون مجنونا وقد أكون عبداً أحمق لكني أعلن لكم بأني لم أتعلم في الحياة إلا شيئا واحداً: لقد عرفت الحب، ولا اتمنى لكم شيئا آخر إلا ان تعرفوا الحب».
وإن كان مجنون إلسا وغرناطة يدعو لجميع الناس بأن يتذوقوا الحب، فهناك عشاق يدعون لهم بالعكس، والاثنان على حق، فالحب ألم مصفى أو سعادة مقطرة، وكل يدعو حسب تجربته لكن حتى الذين يذوقون شقاء الحب تظل أحوالهم أفضل من الذين لم يحبوا، فما أضيع العمر على المذهب الخيامي «دون ان نهوى وان نعشقا».
ولاحقا سوف يأتي ناقد اسمه شارل هاروش يضع كتابا عن «فكرة الحب» عند اراغون، ويزيد في الطنبور نغما ويضيف للتفسير البسيط الشفاف تعقيد النقاد، ويخلط دانتي بغوته وثرفانتس بشكسبير ليخرج بتعريف طويل للحب يقبله الشعراء ويصفق له الفلاسفة من اتباع «يونغ» اصحاب الذاكرة الجمعية، فالحب عند هاروش ـ وسأقتطف نصه الطويل مضطراً ـ هو:
«الذاكرة السلفية لعودة الاشياء الازلية، انه توكيد الكينونة في غياب الولادة الدائمة للابداع، مقياس المجهول، تشابك الآني بالأبدي، والحياة بالموت. الحب انتماء والتزام، انه يربط ويحرر، حوار يمتد الى اللانهاية مع الآخر، المعجزة المتجددة للرعشة الاولى، مغامرة الكون العظمى تتحدى الزمان لتخلق المستقبل من أعماق الألم».
* ستاندال والأخيلية
* ويتناغم هذا التعريف الغربي المنثور للحب بتعريف شعري جاء في قصيدة من أوائل قصائد نزار قباني اسمعها الى تلميذة يقول في بعض ابياتها:
الحب ليس رواية شرقية
بختامها يتزوج الأبطال
لكنه الإبحار دون سفينة
وشعورنا ان الوصول محال
هو ان تظل على الاصابع رعشة
وعلى الشفاه المطبقات سؤال
هو هذه الأيام تسحقنا معاً
فنموت نحن وتزهر الآمال
وما بين هذين القطبين الغربي، والشرقي، والنثري والشعري يظل حب الذكور حبيس هذه الحالة المترددة التي تضع رِجْلاً في الواقع، وأخرى عند تخوم الاسطورة. لكن وقبل ان ندخل في غابة العشق النسوي دعونا نأخذ رأي ذكر آخر هو «ستاندال» احتراما لجهده في وضع مقالة طويلة عن الحب أولاً، ولأنه وهذا الاهم اقرب الذكور الى حب الاناث ـ بعد أراغون طبعا ـ ففي ستاندال كما في النساء جميعا الكثير من الواقعية والمنهجية حتى في العواطف وهذا ما جعله يقسم الحب، الى عاطفة، وذوق، وحس وكبرياء، وخلاصة نظريته المعروفة باسم التبلر Crystallization ان الحب المتبلر عملية فكرية معقدة، تتوصل عبر كل ما يحدث لها الى اكتشاف صفات كمال متجددة في المعشوق لذا تطول حالات الحب احيانا اكثر من ثلاث سنوات رغم أنف العلماء الذين حددوا لكيمياء الحب تلك الفترة الزمنية المحدودة.
وتنويع ستاندال المتجدد عودة الى لحن الابد والتجدد الذي سبق وسمعناه من الشاعر العربي وضاح اليمن الذي دفنوه حيا في دمشق لتجرؤه كما قالوا على التغزل بزوجة الخليفة، والابيات التي عزف فيها ذلك اللحن لا علاقة لها بنساء الأمويين انما بحبيبة قديمة ودائمة اسمها روضة رحب الشاعر باحتلالها له ولعالمه في بيتين جميلين:
كل حب إذا استطال سيبلى
وهوى روضة المنى غير بال
لم يزده تقادم العهد إلا
جدة عندنا وحسن احتلال
ومما يؤسف له ان النساء العربيات لم يقدمن نظرية متكاملة ولا شبه متكاملة عن حب الانثى، فقد انشغلت الخنساء بالبكاء على صخر، واكتفت صويحباتها ببيت هنا وآخر هناك يلمسن فيه طرف المشكلة الى ان اتت ليلى الاخيلية، وهي أول شاعرة تجاهر بحبها، ولكن متى..؟ بعد ان صارت عظام توبة الحميري حبيبها رميما، وصار حبه عند الاخيلية مادة تكسبية، تقصد بها الخلفاء الامويين الذين كانوا يستطيبون السمر على امثال قصصها، فقد شبعوا من الحب الحسي حتى ما عاد كبيرهم عبد الملك بن مروان يعرف «امرأة أتى أم جداراً؟» وصاروا جميعا في ذلك الموقف المتجشئ المترهل الغبي الذي عبر عنه الاعشى نيابة عنهم جميعاً ونيابة عن جميع ذكور القبيلة في قصيدة يمكن ان تكون أنموذجا للحب الغبي الذي يظن اصحابه انهم بلغوا غاية المنى، وما بلغوا الا الضفاف الضحلة:
وأقررت عيني من الغانيات
إما نكاحا وإما أزن
من كل بيضاء ممكورة
لها بشر ناصع كاللبن
عريضة بوص إذا أدبرت
هضيم الحشا شختة المحتضن
تعاطي الضجيع إذا اقبلت
بعيد الرقاد وعند الوسن
وهذا ـ يا رعاك الله ـ ليس حباً بل رحلة متنوعة الدروب في طلب الولد واقعة حتما تحت سطوة المجتمع الذكوري والمخيلة الدونجوانية. وعند هذه النقطة بالذات يلتقي حب فيلسوفات الاغريق مع شعراء الجاهلية، فحب الجسد يساعد على التوالد وحفظ النسل، وحب الروح ايضا يؤدي الى توالد الافكار، وتنامي الروحانيات، ولو استمعت الى فيلسوفة اغريقية من القرن الخامس قبل الميلاد، واستمعت الى شعراء الجاهلية والى آراء الداعية النسوية المعاصرة زينب الغزالي لما وجدت فرقاً كبيراً بين المدرستين باستثناء الغاء الاعتراف بالزنى في قصيدة الاعشى، فقد كتبها قبل ان يجيء الاسلام، وتتنزل احكام الجلد والرجم.
إن هذا التعثر في صياغة تعريف نسوي للحب مسألة محيرة، فالمرأة بطبعها غنوصية التكوين والغنوصية حالة استبطان داخلي وتأمل عميق، ومن يعشها يكن اقدر على فهم العشق وتحولاته البريئة والمريبة. ومع كل هذه الفرضيات النظرية لم نجد عند شاعرات العرب وفيلسوفات الاغريق الا شذرات بالكاد تفسر موقف المرأة من الحب بعد المرحلة الطوطمية التي كانت فيها تسيد وتميد وتصل وتهجر، وتعدد في الازواج وتجمع الخمسة والسبعة والعشرة تحت سقف كهف واحد.
«ثيانو» زوجة فيثاغورث التي تسلمت مدرسته الفلسفية بعده، وكانت تلميذته قبل ان يفلسفها ويتزوجها، كانت ترى في الرومانسية حالة «خراقة وحمق» ولم تعترف بأي نشاط جنسي خارج اطار الزوجية، فدور المرأة الوحيد عندها العمل على امتاع الرجل واسعاده، وقد سئلت مراراً عن الحب فوصفته بأنه الميول الطبيعية للنفوس الجوفاء الخاوية، يعني لا يحب الا الخاوي أو الخالي، ولعل مطربنا العربي كان يغني «يا خلي القلب» لها وحدها فقد كانت ذات تعاليم اخلاقية صارمة والحب عندها في احسن الاحوال خواء فكري ونفسي و«لعب عيال».
وكانت تلميذات «ثيانو» على شاكلتها، فبركتيوني الاولى التي وضعت كتاباً لم يصلنا منه الا شذرات بعنوان «هارمونيا النساء» سارت على خطى المعلمة في الحجر الكلي على عواطف النساء، وجاءت بركتيوني الثانية بحدود القرن الثالث قبل الميلاد، فلم تكتف بذلك انما نافقت الرجال في تبرير خياناتهم الزوجية، فمن الطبيعي من وجهة نظرها التي تشبه نظرة المجتمعات العربية اليوم ان يخون الرجل، وان يدمن، وان ... وان... وان.
* معلمة سقراط
* تقول بركتيوني: «على المرأة ان تتحمل ظروف زوجها الفقير، وان تغض الطرف إذا سقط في عادة الشراب أو عاشر نساء أخريات، فإن هذه الغلطة يتم غفرانها للرجال لكنها لا تغتفر ابداً للنساء».
والواضح من اسم كتاب «هارمونيا النساء» انه يرمي الى تحقيق الانسجام بين الرجل والمرأة.. لكن هل فعل ذلك..؟
الأرجح: نعم، وهنا البؤس الحقيقي للعاطفة البشرية وتجلياتها في مختلف العصور التي تكاد تتشابه في الموقف من الحب، ومن تمجيد المرأة المطيعة المخلصة حتى لو كان زوجها «دون جوان» عصره.
وعلى ذكر «دون جوان» فقد ظلت البشرية تحترم سطوة هذا النموذج «المعدد» وظل الرجال يقلدونه الى ان جاء «أراغون» بمفهوم جديد للحب يستبعد فيه الشهوة والغواية من ذلك النسيج العاطفي الشفاف أو لنقل يوظفهما في اطار الحب الحقيقي، وليس العابر أو المدفوع الثمن، ومن أجمل مقاطع نشيد ذلك الشاعر المجنون ولهاً بما هو أبقى من الشهوة المؤقتة تلك القصيدة التي كتبها العاشق الحقيقي بعد لقاء «دون جوان الساكرومونتي» الذي يحتقر المرأة ويعتبرها عدواً، وكان قد أوقع في غوايته حين التقاه الفاً وثلاثمائة امرأة من الاعداء فقال الشاعر في ازدراء واضح للغواية الدونجوانية:
لم تبق الا الفكرة القوادة
التي ترى في الغابة خمراً مسفوحاً
ورجلا وامرأة في سرير مورد
الدراهم عدت في الغرفة المجاورة
وبشر يتدافعون بالمرافق
ينصتون لصيحات العاشقين
على وقع تلك الصيحات تبدأ الخيبة
حين يصبح الذكر ملكاً سيداً مطلقاً
يقضي وطره ويمضي
مملكة التعسف الزواج فيها سخرية
أزمنة الاحتكار الغواية فرحتها الوحيدة
إن اراغون اقرب الى النساء من كل النساء وهذا لا يضير الرجولة بمفهومها المليء بالكبرياء والعنفوان والتسامح والمحبة التي تحيل الى وجد حقيقي بالمحبوب وغرق في ذاته وصفاته، لا تلك المحبة التي تشعلها نظرة وتطفئها غزوة.
وعودة الى عشق الانثى، فإن النظرية الوحيدة شبه المتكاملة عن الحب الموصوف باحاسيس النساء جاءتنا على لسان الرجال، فآراء «ديوتيما» في الحب وصلت عن طريق سقراط الذي يعتبرها معلمته.
ومعظم تلك الآراء في «مأدبة الحب» التي لا أعرف لماذا يطلقون عليها اسم مأدبة افلاطون.. مع ان الداعي لها كان الشاعر «أجاثون» وقد حضرها سقراط متحدثاً نيابة عن «ديوتيما» لا ليحكي عن حب النساء بل عن الحب في المطلق موصوفاً بلسان معلمته العارفة.
والاشكالية الحقيقية اننا لا نعرف هل «ديوتيما» شخصية من لحم ودم أم من بنات مخيلة سقراط المولع بالسخرية والتهكم، فهناك من يقول انها كانت كاهنة من مدينة «مانتينيا» وانها كانت تفد الى اثينا فيجتمع حولها الشعراء والفلاسفة ومنهم سقراط المحب للصالونات النسائية، فنحن نعرف على وجه التأكيد ـ على الأقل ـ انه كان يرتاد صالون «أسبازيا» وكان على الأرجح مثل المثقفين العرب يحبس زوجته في البيت، ويذهب الى الصالونات النسائية ليستمع الى غيرها، لذا تراه الاقرب الى قلوبهم نظراً لتشابه المجتمعات وظروف النشأة.
ولا يخلو رأي «ديوتيما» المروي بلسان سقراط من واقعية نسائية مخلوطة ببعض «الفانتازيا» مع إلحاح واضح على صفة التناقض التي ترافق الحب منذ ولادته، فهو ابن سفاح يأتي صدفة من لقاء Poros إله الغنى والثراء في الاساطير الاغريقية مع Penia رمز الفقر والبؤس فقد سكر بوروس وانتشى، وفكرت «بينيا» ان تتخلص من فقرها وبؤسها بالنوم معه وحمل طفل منه، فجاء الحب يحمل خصائص الوالد وصفات الوالدة، لذا ترى في الحب جهلاً وحكمة وبؤساً وغنى، وقوة، وضعفاً وتشوشاً وصفاء، وجمالاً يحلق بك الى أعالي الجنان مقابل تعاسة ترميك في لحظات في مهاوي الجحيم.
وبعد الولادة الاسطورية المتناقضة التي يختلط فيها البشري بالميتافيزيقي تيمم «ديوتيما» شطر عالم الحيوان لتجد علة الحب في التناسل الذي يسير في خطين متوازيين «أجساد وأفكار» ونظراً لغنوصية المرأة النزاعة دوماً الى الخلود ترى ديوتيما في الذرية الروحية «الأفكار» مدعاة للسعادة لأنها خالدة، فالخلود غاية كل حب.
ألم نقل لكم قبل «ديوتيما» ان الحب يرافقه دوماً وهم الأبد..
وقد أوشكت ـ والله ـ ان اختم بهذه المعلمة لكن هل يكتمل مفهوم «الحب النسوي» دون ماكرينا الرومانية و«هيباشيا» الاسكندرانية، وجوليا الحمصية، وولادة القرطبية وكلهن يكدن يتفقن على ان الحياة لا طعم لها دون حب حقيقي يملأ العقل ويسحر القلب ويشع دفئا في الوجدان، وبهجة مصفاة في الوجنات والعيون.


.
 
أعلى