نقوس المهدي
كاتب
يسألني بعض الأصدقاء من الدارسين الغربيين لتراثنا الإسلامي عن سر المفارقة في موقف تراثنا من المرأة، فمن جهة أولى يبدو حضور المرأة قويا وجذّاباً بالنّظر إلى حكايات ألف ليلة وليلة ورباعيات الخيام وأبواب الفقه الإيروتيكي، ومن جهة ثانية يبدو حضور المرأة ملعونا مشيطنا منبوذا منفرا محصورا في عورة تُحجب وزانية تُضرب، بالنظر إلى فتاوى أغلب الفقهاء.
ومن جهة أولى يبدو الحب في بعض الأدبيات التراثية كأنه محور الوجود كله، لكنه سرعان ما يصبح في أدبيات أخرى مجرد شرك وعبادة للصورة. فكيف نفسر المفارقة؟
القول الصريح أن تراثنا ليس وحدة متجانسة، بل يتألف من ثلاث قارات متنافرة متباعدة: قارة الفقه، قارة الأدب، وقارة التصوف. أما عن الفلسفة فقد حوصرت وانحصرت وصارت مجرّد جزيرة صغيرة، لذلك لا نذكرها الآن.
كثيرون يعرفون الصراع بين الفلسفة والدين، بين العقل والنقل، بين الحكمة والشريعة، لكن حين يتعلق الأمر بمسائل الحب والمرأة والجسد والحياة فإن التناقض المحوري حاصل بين قارة الفقه من جهة، وقارة الأدب من جهة ثانية. في قارة الفقه عاشت المرأة على الهامش ولم تنجح في الحضور كذات وإنما ظلت مجرد متاع للرجل، وماكينة للإنجاب، وصولا إلى اعتبارها حطب النار، وحبائل الشيطان، وأنها تقطع الصلاة في بعض الأحيان، إلخ.
وأما في قارة الأدب فقد حصلت المرأة على حقوق واسعة؛ فهي لم تكن مجرد موضوع لرغبة الرجل وإنما كانت صاحبة القرار العاطفي، بل كانت الذات “المتكبرة” أحيانا مقابل ذات الشاعر “المتذللة”. في قارة الفقه كان الرجل يتمتع بالحق في الزواج المتعدد أكثر، لكن في قارة الأدب وعند جميع شعراء الغزل كان الرّجل ملتزما بمدونة الحب الأحادي، أمام معشوقة ما تنفك تتمنع ببراعة وكبرياء.
في مستوى الواقع العملي انتصر الفقه الذي يلغي ذات المرأة ويجعلها مجرد أداة، ويقصي قيم الحب والإبداع من الحياة. لكن في مستوى المتخيل الإنساني صمد الأدب الذي يمجد الحب والمرأة والحياة، بل صمد طويلا. العلاقة بين الواقع الفقهي الذي يمارس عملية الكبت من جهة والمتخيل الأدبي الذي يقوم بعملية التفريغ، هي التي تفسر لنا المفارقة التراثية.
فعلا هناك فقهاء أبدعوا في أدبيات الحب الجنسي، غير أنهم قلة قليلة، وكانت أدبياتهم تلك ضمن الهامش وظلت بعيدة عن قارة الفقه. لذلك، لا يندرج “طوق الحمامة” ضمن التراث الفقهي رغم أن مؤلفه يعدّ أحد أشهر فقهاء الأندلس، ابن حزم، فقد وجد ذلك الكتاب ملاذه في الأخير داخل قارة الأدب. بمعنى أن المكبوت فقهيا سرعان ما تم تفريغه في مستوى الهامش الأدبي. وبفعل هذا النمط من التفريغ حافظت حضارتنا على قدر من التوازن النفسي رغم الغلقة اللاّهوتية والتشدّد الفقهي. ولربما ذلك التفريغ هو الهامش الذي لم يعد متاحا اليوم.
.
ومن جهة أولى يبدو الحب في بعض الأدبيات التراثية كأنه محور الوجود كله، لكنه سرعان ما يصبح في أدبيات أخرى مجرد شرك وعبادة للصورة. فكيف نفسر المفارقة؟
القول الصريح أن تراثنا ليس وحدة متجانسة، بل يتألف من ثلاث قارات متنافرة متباعدة: قارة الفقه، قارة الأدب، وقارة التصوف. أما عن الفلسفة فقد حوصرت وانحصرت وصارت مجرّد جزيرة صغيرة، لذلك لا نذكرها الآن.
كثيرون يعرفون الصراع بين الفلسفة والدين، بين العقل والنقل، بين الحكمة والشريعة، لكن حين يتعلق الأمر بمسائل الحب والمرأة والجسد والحياة فإن التناقض المحوري حاصل بين قارة الفقه من جهة، وقارة الأدب من جهة ثانية. في قارة الفقه عاشت المرأة على الهامش ولم تنجح في الحضور كذات وإنما ظلت مجرد متاع للرجل، وماكينة للإنجاب، وصولا إلى اعتبارها حطب النار، وحبائل الشيطان، وأنها تقطع الصلاة في بعض الأحيان، إلخ.
وأما في قارة الأدب فقد حصلت المرأة على حقوق واسعة؛ فهي لم تكن مجرد موضوع لرغبة الرجل وإنما كانت صاحبة القرار العاطفي، بل كانت الذات “المتكبرة” أحيانا مقابل ذات الشاعر “المتذللة”. في قارة الفقه كان الرجل يتمتع بالحق في الزواج المتعدد أكثر، لكن في قارة الأدب وعند جميع شعراء الغزل كان الرّجل ملتزما بمدونة الحب الأحادي، أمام معشوقة ما تنفك تتمنع ببراعة وكبرياء.
في مستوى الواقع العملي انتصر الفقه الذي يلغي ذات المرأة ويجعلها مجرد أداة، ويقصي قيم الحب والإبداع من الحياة. لكن في مستوى المتخيل الإنساني صمد الأدب الذي يمجد الحب والمرأة والحياة، بل صمد طويلا. العلاقة بين الواقع الفقهي الذي يمارس عملية الكبت من جهة والمتخيل الأدبي الذي يقوم بعملية التفريغ، هي التي تفسر لنا المفارقة التراثية.
فعلا هناك فقهاء أبدعوا في أدبيات الحب الجنسي، غير أنهم قلة قليلة، وكانت أدبياتهم تلك ضمن الهامش وظلت بعيدة عن قارة الفقه. لذلك، لا يندرج “طوق الحمامة” ضمن التراث الفقهي رغم أن مؤلفه يعدّ أحد أشهر فقهاء الأندلس، ابن حزم، فقد وجد ذلك الكتاب ملاذه في الأخير داخل قارة الأدب. بمعنى أن المكبوت فقهيا سرعان ما تم تفريغه في مستوى الهامش الأدبي. وبفعل هذا النمط من التفريغ حافظت حضارتنا على قدر من التوازن النفسي رغم الغلقة اللاّهوتية والتشدّد الفقهي. ولربما ذلك التفريغ هو الهامش الذي لم يعد متاحا اليوم.
.