نقوس المهدي
كاتب
1
يحافظ هذا التحقيق على الاصطلاحات التي تصف البغاء واماكنه وممارساته ، وبعضه استولت عليه اللغة الشعبية في سبابها والاوصاف التي تعتمدها في تصوير بعض الاشخاص والممارسات الكريهة . وهدفنا من هذا ليس تشجيع هذه اللغة ، بل معرفة جذورها، فضلا على أننا نقف ضد ممارسات تسيء الى الانسان ، ولاسيما الى المرأة . لكن هذا لا يعفينا من معرفة ظاهرة قديمة ما زالت تتخذ اشكالا مختلفة ، تظهر وتختفي على ايقاع جملة من العوامل منها: انتشار الثقافة والتعليم، النمو الاقتصادي ، الفقر وعوامل النبذ الاجتماعي ، وطبيعة مؤسسة العقاب الخاصة بالمجتمع والدولة. وفي كل الاحوال لا يخلو هذا الموضوع من الطرافة وظرف بعض الشخصيات البغدادية القديمة ، مع حوادث تتصف بالغرابة.
تعد ممارسة البغاء ظاهرة اجتماعية وجدت منذ أقدم العصور، وكان الرومان والإغريق يتخذون من العشيقات والبغايا تسلية ومتعة جنبا إلى جنب مع أزواجهم الشرعيات، ومثلهم فعل إقطاعيو القرون الوسطى وأباطرة الوثنية كطقس ديني يتعلق بمعتقدات تلك الديانات . كما كان البغاء موجودا في العصر الجاهلي بنوعيه العلني والمستتر. وجاء الإسلام فحرم البغاء كما حرمته المسيحية واليهودية من قبل ولكن الجواري والبغايا المملوكات راجت سلعتهن في العصرين الاموي والعباسي وامتدادا للعصور اللاحقة فقد ضرب عليهن بعض الستور المانعة للجنوح الخلقي فلا غرابة أن تكون مجالس اللهو والأنس والطرب وسائل إغراء جامحة لجنوح بعضهن إلى ممارسات خلقية خاطئة بعلم أو بدون علم من مالكيهن .
ما أن بدأت (سلعة) الجواري والإماء بالأفول التدريجي في أواخر العصر العباسي نجد أنها تعاود الظهور والانتشار في العصر العثماني الذي حكم العراق قرابة الأربعة قرون. لكن ( المحترفات) منهن أخذن يتعاطين الحرفة بصور واشكال مختلفة تحت ستار الفن من رقص وغناء وطرب فضلا على دور اللهو والمراقص في بعض الأزقة المشبوهة التي تسكنها فئة من السماسرة والقحاب اللواتي يتعاطين الخطيئة بصورة سرية، ولكنها كانت أشبه بالعلنية في المنطقة المحيطة بساحة الميدان في باب المعظم وبعض الأزقة التي يسكنها اليهود في التوراة وعقد الكنيسة..
بعد دخول الانكليز بغداد أصبحت هذه ( الحرفة) علنية، فقد جمعت القحاب في منطقة معينة من بغداد وهي ( محلة الكلجية وكوكز نظر ) المقابلة لسوق هرج، وفي هذين الزقاقين كانت مجموعة من الدور المتلاصقة القديمة ومقاه ذات مدخل واحد تطل على بداية شارع الرشيد وكذلك على عدد من الدكاكين والمقاهي. كانت القحاب المقيمات في تلك الدور ملزمات رسميا بإجراء الفحص الطبي والمختبري الدوري عليهن في مواعيد معينة، ولدى كل واحدة منهن اجازة ( ممارسة ) مهنة (القحاب) بصورة رسمية، ويغرّم ( القواد) السمسير إذا قام بتشغيل من لم تحصل على اجازة أو لم تخضع إلى الفحص الطبي.
وقد درجت السلطات البريطانية على ان تستوفي من يدخل ويتعاطى البغاء من ذكر وانثى رسماً
( ضريبة ) ويعطى لكل واحد منهم يدخل المبغى العام وصلاً سمي ( باص ) من الانكليزية ( pass ) أي تذكرة وكانت السلطات الانكليزية تبغي من وراء ذلك حصر وتعداد من يتعاطى البغاء لأنها كانت تخضعهم للفحص الطبي في مواعيد معينة . ومعظمهن سكنّ دربونة الكلجية ، في حين جئن من مدن ومناطق بعيدة من بغداد، وقد دفعتهن الظروف إلى هذا المنزلق السحيق. وكن يتعاقدن مع القواد بالعمل لديه أو القوادة بالعمل لديها بعد أن تستلف من أي منهما مبلغا من المال لشراء حوائجها الشخصية من ملبس وطعام ومكياج وما تنفق على نفسها أو على ذويها أحيانا من نفقات معيشية . وكانت الباغية في مثل هذه الظروف الصعبة أسيرة أولئك السماسرة بما توقع عليها من (كمبيالات) (صك) أو وصل أمانة، وعليها العمل الدائم لتسديد ديونها التي تتراكم عليها بمرور الزمن حتى يذبل عودها وترمى في الشارع رمي الكلاب . كان المبغى العام في الكلجية في الرصافة ومحلة الذهب في الكرخ / الجعيفر هو المكان الوحيد الذي تشرف عليه الحكومة بصورة علنية وتعترف به ، كذلك يوجد مبغى عام في البصرة والموصل.
الدّربونة ... في فهم البغداديين
الدربونة التي كانت تعرف عند البغداديين بدار للقحاب أو موضع للبغاء العلني وتعني الزقاق الضيق غير النافذ، والدرابين كثيرة في بغداد ولكل واحدة منها اسم، وأكثر ما تكون نسبتها لأشهر من يقيم في دورها مثل دربونة البستان او دربونة الجلبة ، أما إذا ذكرت الدربونة بدون نسبة فالمقصود بها دربونة الكلجية أي دار القحاب ، كما يكنى البغداديون عن المومس بأنها(بنت الدربونة) .
وكان للدربونة مختار يدعى ( السيد حسين ) وكان يأخذ خاوات من المومسات والقوادات وقد رثاه ملا عبود الكرخي بقصيدة عند وفاته وقال :
مختار الحبايب ما يجي دونه وصاير سور للساكن الدربونة
تاهت بنت ابو حجرين امونه وبنت الدودكي وضحه وشكرية
وكانت القوادة والقواد مهنة سنت نظاما فيه وزارة الشؤون الاجتماعية في العراق نعتت فيه القواد بالسمسار واشترطت فيمن يقوم بالقوادة شروطا لا تتوفر إلا في كرام الناس ، منها أن يكون حسن السلوك ، وان لا يكون محكوما عليه بجنحة أو بجناية ، الأمر الذي أشاع موجة من التندر بين الناس بشأن هذا النظام. وقد تناولت سجلات المحاكم في الثلاثينيات قضايا عدة في السمسرة والقوادة ، وأشهر القوادين الذين كانوا يترددون على المحاكم يدعى ( يوسف ) وهو ارمني من تلكيف وكان يقدم إلى المحاكم بقضايا موجزة بتهمة الترصد أي التعلق بالناس من اجل أن يُقوّد لهم . فقال له القاضي في إحدى الجلسات يا يوسف إلى متى تبقى قوادا ؟ فرد عليه : هل تحسب يا سيدي اني مرتاح لهذه المهنة التي لا الاقي فيها غير الرزق الشحيح مغمسا بالصفع والاهانة . اتراني وجدت مهنة اخرى غيرها وبقيت متعلقا بها؟
وبهذه المناسبة قال عبود الكرخي يعزّي احدى فتيات الدربونة بعد موت قوادهن :
يكنديره ... يمسكينة راح الكان يحمينا
عمت عينك عكب عينه دظلي عاد سمسيرة
كانت القوادة ( أو القواد ) يحاسبن البنات على ( الخشات) وهي كناية بغدادية عن المضاجعة، وهي من لغة القحاب في الدربونة حيث من المتعارف عندهن أن كل فتاة منهن لمضاجعتها ثمن معلوم فيقال فلانة (خشتها) كذا وكذا . ويطلق على القواد تسميات عدة منها ( ابو كرون ) وديوس فهو الذي لا يغار على أهله، وكلاهما يكنى عند الناس (بذي القرنين).. وللشعراء ابيات عدة في ذكر الكرون يوصف بعضها بالغلظ وبعضها بالقوة ويوصف بعض من ذكرهم بان له قرنا واحدا وأخرى من له قرنين وثالثا بان له اربعة قرون. وقال الملا عبود الكرخي في رثاء داود اللمبجي / ديوس دربونه القحاب معزيا بوفاة زوجته ( فطومة الصمنجي) قائلا :
يحك لها فطومة بثياب السود تلبس عالمعفرت لمبجي داو
بو كرن الجبير من احسن الموجود كل كحبه عليه اليوم مألومة
وبعد وفاة داود اللمبجي تزوجت فطومة من إبراهيم بك الطنبوري الذي أصبح قواد القحاب جميعا. ويطلق على القواد تسمية ( قرخ ) وهي كناية تركية بمعنى أربعين وتعني إن المقصود بها القواد الاصيل ويعني الذي مارس القوادة اربعين سنة .
وكانت القحاب يتعاطين البغاء بصورة سرية قبل إصدار القانون وتسمى (كوزلي) حيث أطلقت هذه التسمية من قبل البغداديين على كل من يتعاطى البغاء بصورة سرية. وهذه الكلمة أصلها تركي بمعنى (سري أو مستتر) وتطلق أيضا لفظة ( بربوك ) على كل قحبة أو مستهترة منهن ، ولا تزال تستعمل هذه الكلمة في السباب والشتم بين الناس وتعني في الأصل الكوز الذي طال استعماله حتى تثلمت شفته ولم يعد صالحا للاستعمال في سقي الماء ، ويراد بهذه الكلمة في الشتيمة ان هذه المرأة البغي قد تثلمت لكثرة المراجعة فأصبحت بربوكا.
من أشهر القوادات في بغداد
ا
شتهرت في بغداد في أواخر القرن التاسع عشر قوادتان – الأولى في جانب الرصافة ( الجانب الشرقي من بغداد ) واسمها (ريجينة) وتكنى بـ (نجية)، وريجينة هي الأخت الكبرى للمغنية (سليمة مراد) المعروفة في وسط الغناء باسم ( سليمة باشا )، والثانية في جانب الكرخ ( الجانب الغربي من بغداد ) واسمها ( ريمة ) وتلقب ( ريمة أم عظام ) وكان عملها في محلة الذهب . ومن القصص التي يتفكه بها البغداديون أن ريفيا قصد بغداد للمرة الأولى في حياته ودخل محلة الذهب وجاء إلى دار (ريمة أم عظام) وطرق بابها وهو لا يعرفها، يريد عملا فاطعمته وكسته وأجلسته في دهليز الدار وأوصته بان يفتح باب الدار إذا طرقه طارق ، وأن يغلقه خلف من يبارح الدار ، وقام الريفي بمهمته وأتقنها وحسنت صحته وسمن من طعام (ريمة) ومن الهبات التي كان يتلقاها من الزوار. وحدث ذات يوم أن انزعج منه احد المراجعين فصاح به : (اسكت يا كواد) . فهاج الريفي وجن جنونه وهجم على الرجل يريد قتله ، وعندما حِيل بينهما عاود الهجوم وهو يقول : لن تنجو مني ، يقول عني إني كواد ، لابد أن اقتله .
وضحكوا منه وقالوا له : لماذا غضبت من هذه التسمية ، الست تعمل قوادا ؟ وقال لهم هل أن ما أقوم به من عمل سهل وبأجور وطعام فاخر هو الكوادة ؟ قالوا : نعم! قال : إذاً لابد لي من أن أسافر غدا واحضر جميع أقربائي لأشغلهم قوادين.
حكايات
روي عن عبد الحميد الشاوي عندما كان رئيسا لبلدية بغداد في عام 1928 عندما يشتكي أهل محلة عنده عن وجود ( امرأة قحبة في محلتهم ) وسلوكها معوج يحضر لها عربانة ويضعها فيها مع متاعها وثيابها وينقلها إلى الميدان أو محلة الذهب. ويقول البغداديون انه ( سركلها ) من المحلة .
وكان ببغداد في الأربعينيات فندق في محلة السيد سلطان علي مطل على نهر دجلة اسمه فندق متروبول يقوم على إدارته فتى اسمه ( صادق حنا ) وكان صادق يحضر فتيات جميلات من اوروبا باعتبارهن فنانات وينزلهن في فندقه ويتقاضى مبالغ عن زيارة الزائرين لهن. وغضب عليه ارشد العمري وكان آنذاك امين العاصمة وكان ارشد عصبيا وشتاما فاحضره وصرخ فيه: (ولك صادق بغداد لا تتحمل قوادين اثنين.. فإما أنا وإما أنت!).
ويحكى ان عبد العزيز الخياط كان حاكما في محكمة جزاء بغداد، وكان حاد الطبع صارما في احكامه، وجيء ذات يوم بشاهد فسأله عن صنعته ، فقال له انه صاحب مقهى في الكلجية ( دار القحاب ) فالتفت الى كاتب الضبط وقال له : سجل أن شغله قواد . فانزعج الشاهد وقال له : يا سيدي الحاكم أنا صاحب عمل شريف.. انا صاحب مقهى هناك. فقال له الحاكم : تكون صاحب مقهى في الكلجية وتغضب ان سجلنا مهنتك قوادا؟ ثم التفت الى كاتب الضبط وقال له : سجله قواد ابن قواد!
وروى عبود الشالجي في الكنايات البغدادية انه عندما كان رئيسا للمحاكم في البصرة في الأربعينيات من القرن الماضي، توجه صباح احد الأيام إلى مكتبه في المحاكم ليجد امرأة جالسة بين المراجعين وتكررت رؤيته لها أياما، فحسب أن لها قضية في المحكمة ، وأنها تأتي لإنجازها ، وأحس بالرأفة تجاهها، وأمر الفَراش أن يحضرها ، فلما وقفت أمامه سألها عما إذا كانت لديها قضية تراجع بشأنها من اجل أن يأمر بتعجيل انجازها ، فأجابته بأن لا قضية لها وإنها ( على باب الله ) فلم يفهم مرادها، وتنحنح الفَراش وسكت فأدرك انه يريد إن يوضح له القصة فأمر المرأة بمبارحة الغرفة ، فأخبره الفَراش بان هذه المرأة قوادة وأنها تجيء إلى ساحة المحكمة في كل يوم من اجل الحصول على زبائن تأخذهم إلى فتياتها!
وعن كساد القحاب في البصرة أثناء فترة القحط جاءت قوادة مديونة إلى مأمور الإجراء في البصرة لسداد الديون عليها برغم مطالبة الحكومة بذلك فخيرها مأمور الاجراء بسداد الدين جملة أو تقسيطه عليها فقالت له: ( والله يا سيدنا لا استطيع سداد الدين دفعة واحدة ولا باقساط كبيرة لان الشغل واكف والرزق شحيح والنيّاك قل عددهم ) ، وتنرفز مأمور الإجراء من أقوالها وصرخ فيها مستنكرا.. وظنت القوادة المدينة أن رئيس الأجراء لم يقبل عذرها ولم يصدق أقوالها فقالت له: ( والله يا سيدنا أن ما أقوله صحيح ، وإن لم تصدقني فتعال والزم الدخل بيدك واقبض الوارد بنفسك لترى صحة أقوالي) .
أخبار القوّادين وحكاياتهم عند البغداديين
ويطلق على احقر القوادين كناية ( غسال الخرك ) وهو ادنى درجات القوادين ويسميهم البغداديون ( صانع الكحاب) لانه يخدم في الدار ويقوم بغسل الخرك. وهناك قصة يرويها احد المحامين الذين كانت له صلة بقوادة تدعى حليمة وكان لديها خادم يقوم على خدمة فتياتها اسمه ( عبد) وكان يعطيه عندما يزورهم لقضاء المتعة درهما أو درهمين.. وذات يوم كان في مكتبه جالسا واذا بالقوادة ( حليمة ) تقتحم الباب بدفعة من رجلها وتدخل عليه من دون استئذان وعلى وجهها علائم الالم والانزعاج وسألها : ما بك؟ قالت : اخوك عبد! فقال لها: ومن هو اخي عبد؟ قالت : أها، هل نسيته، اخوك عبد الذي يشتغل عندي خادما لفتياتي. عندها تذكره وقال لها : وماذا جرى لاخي عبد ؟ قالت : القت الشرطة القبض عليه واتهم بالقوادة . فأجابها : فعلوها هؤلاء الملاعين ، الا يخافون الله! فقالت : هذا ما حصل. فقال لها : اطمئني فسوف اعمل على اطلاق سراحه غدا. وفي اليوم التالي راجع المحامي حاكم التحقيق وكفل (اخاه عبد ) وأطلقه من الحبس!
كذلك يطلق على القواد كلمة ( كرخانجي ) اشارة إلى اتخاذ بيته للقوادة والمتعة .
مصطلح ( القحبة ) عند العامة
(القحبة) كناية عن المرأة الوسخة السفيهة، بمعنى المرأة التي سلمت نفسها فأصبحت لا تستحي من احد. واسم القحبة مشتق من القحب ، وهو (السعال)، لان القحبة تكون على قارعة الطريق ، فإن مر بها احد سعلت له ، مشيرة إلى موقعها. ويطلق عليها بعض الناس تسمية (قحبة عورة) وهي المرأة السليطة الشرسة وتسمية (قحبه شوشتر) وهن مشهورات بالسفه وطول اللسان والإسراع إلى العركات والخصام . وتسمية (كحاب الخندك) وهن ارخص القحاب في بغداد وابخسهن قيمة وكن لفقرهن يألفن الحفر الباقية من خندق بغداد بالجانب الغربي حيث تأوي كل واحدة الى حفرة بعيدا عن العمران والمارة ، تفترش الواحدة منهن حصيرة وقد اعدت ستارة تعلقها على حبل تربطه بين عمودين ، تستر بها نفسها وصاحبها . قد ذكر الملا عبود الكرخي ان ثمن الواحدة منهن كان ( نصف قران ) وهو ما يعادل عشرة فلوس ومن اشهرهن في الخندق ( عواشة الديرية ).
وكانت أجور القحاب في بغداد في القرن الرابع الهجري تدفع مقدما لها .
أصل تسمية الكلّجيّة
ورد اسم ( الكلجية ) لصنف من اصناف العساكر في العهد المغولي عند احتلالهم بغداد وقد اقاموا وسكنوا في هذا المكان فسميت باسمهم ونسبت اليهم ، كما سميت محلة خان لاوند بامس الاونه ومحلة الهيتاويين باسم قوم وفدوا من هيت ، ولكن قصر البغاء العلني على دربونه (الكلجية) دفع البغداديين الى تسمية كل محل للبغاء العلني بالكلجية حتى المحلات التي هي خارج بغداد او خارج العراق ايضا وزيادة على ذلك فان الملا عبود الكرخي ابرز شعراء العامية اتخذ من اسم الكلجية افعالا وصرفها ومن جملة ما قال :
احنه من كبل ما كان عدنه هيج ولا نعبر لذاك الصوب للتكليج
وكانت دربونة الكلجية قبل الاحتلال البريطاني لبغداد ، زقاقا نافذا يتصل من طرفيه بأزقة ودرابين ، ولما فتح خليل باشا شارعه في بغداد في سنة 1916 وهو المسمى الان بشارع الرشيد بدأ من الميدان وانتهى به إلى الباب الشرقي وسمي أولا : (خليل باشا جادة سي ) ثم بعدها لما احتل البريطانيون بغداد سمي: (الجادة) ، ولما تشكلت الحكومة العراقية سمي : الشارع العام، ثم سمي بعد ذلك شارع الرشيد ، ولما فتح الشارع ، وقع احد طرفي الكلجية على الشارع ، وظل طرفه الأخر من الخلف متصلا بالأزقة والدرابين الأخرى . ولما دخل الانكليز بغداد ، اخلوا زقاق الكلجية من سكانه الأصليين وافردوه موضعا للبغاء العلني أي ( دار القحاب ).
واشتكى أهالي المحلات المحيطة بالكلجية من مرور قاصدي الكلجية بمحلاتهم ، فطلبوا من الحكومة أن تسد الباب الخلفي للزقاق لتصبح الكلجية دربونة ذات منفذ واحد على الشارع العام فقط ، ولكن مالكي الدور الخلفية من الكلجية ، وكذلك القوادات في البيوت الخلفية احتجوا لهذا الطلب ، لان سد المنفذ الخلفي يحول الزقاق إلى دربونة ، ويجعلهم في قعر الدربونة ، فيضر بارباحهم وبأثمان الدور، وكذلك فان بعض طالبي الونسة والكيف كانوا يتسللون إليهم متخفين ، ينفذون إليهم من الجهة الخلفية ، فان سدت تلك الجهة التزموا ان يصلوا اليهم من الشارع العام ، وهو طريق مزدحم بالناس ، يفتضح من يمر فيه إليهم ، واقتنع رئيس البلدية آنذاك عبد المجيد الشاوي بسد المنفذ الخلفي للزقاق ، فشكا أهالي المحلات أمرهم للملك فيصل الأول فاهتم بالموضوع ودعا اليه رئيس البلدية وناقشه في القضية ، فقال للملك : يا سيدنا ، هذا الزقاق نافذ من طرفيه ، فهو طريق عام ، ولا يجوز سد الطريق العام ، لأن في سده ضررا على الناس .
وقال الكلك : إن بعض رجال الدولة أعلموني ، أن هذا الزقاق لم يكن نافذا في العهد العثماني! وكان المرحوم عبد المجيد الشاوي حاضر البديهية ، لاذع الجواب ، فقال للملك : كذبوا يا صاحب الجلالة ، وليسألوا امهاتهم ، من أين كن يعبرن إذا أردن الخروج من محلتهن!
وتلاصق الكلجية محلة – كوك نزر – التي أصبحت مرتعا لطلاب المتعة من البغاء والقحاب
فاخلاها سكانها هربا من مجاورة دار البغاء العلني. وأصل كلمة ( كوك نزر ) أي قطيعة (لازار) وسبب تسمية المحلة بهذا الاسم ان السلطان مراد الرابع العثماني لما فتح بغداد ، كان آمر المدفعية في جيشه ارمني اسمه ( لازار ) فطلب منه أن يقطعه ببغداد ارضا يبني عليها كنيسة ، فأقطعه السلطان هذه القطعة فبنى فيها كنيسة للارمن الارثوذكس ، وبنى الناس بيوتهم حول الكنيسة وسميت ( محلة كوك لازار) اي قطعية لازار. وأصبحت المحلة مرتعا للبغاء السري حتى الستينيات من القرن الماضي . واشتهرت هذه المحلة بنماذج من بائعات الهوى والقحاب والراقصات ظلت أسماء البعض منهم تتردد حتى الآن في حياتنا اليومية. ولعل ( عباس بيزه ) كان اسما معروفا في المحلة يستقبل طالبي المتعة ويقودهم إلى أجمل قحاب المحلة .
.
د. معتز محيي عبد الحميد - لمحات من تاريخ البغاء العلني والسرّي في بغداد – 1
يحافظ هذا التحقيق على الاصطلاحات التي تصف البغاء واماكنه وممارساته ، وبعضه استولت عليه اللغة الشعبية في سبابها والاوصاف التي تعتمدها في تصوير بعض الاشخاص والممارسات الكريهة . وهدفنا من هذا ليس تشجيع هذه اللغة ، بل معرفة جذورها، فضلا على أننا نقف ضد ممارسات تسيء الى الانسان ، ولاسيما الى المرأة . لكن هذا لا يعفينا من معرفة ظاهرة قديمة ما زالت تتخذ اشكالا مختلفة ، تظهر وتختفي على ايقاع جملة من العوامل منها: انتشار الثقافة والتعليم، النمو الاقتصادي ، الفقر وعوامل النبذ الاجتماعي ، وطبيعة مؤسسة العقاب الخاصة بالمجتمع والدولة. وفي كل الاحوال لا يخلو هذا الموضوع من الطرافة وظرف بعض الشخصيات البغدادية القديمة ، مع حوادث تتصف بالغرابة.
تعد ممارسة البغاء ظاهرة اجتماعية وجدت منذ أقدم العصور، وكان الرومان والإغريق يتخذون من العشيقات والبغايا تسلية ومتعة جنبا إلى جنب مع أزواجهم الشرعيات، ومثلهم فعل إقطاعيو القرون الوسطى وأباطرة الوثنية كطقس ديني يتعلق بمعتقدات تلك الديانات . كما كان البغاء موجودا في العصر الجاهلي بنوعيه العلني والمستتر. وجاء الإسلام فحرم البغاء كما حرمته المسيحية واليهودية من قبل ولكن الجواري والبغايا المملوكات راجت سلعتهن في العصرين الاموي والعباسي وامتدادا للعصور اللاحقة فقد ضرب عليهن بعض الستور المانعة للجنوح الخلقي فلا غرابة أن تكون مجالس اللهو والأنس والطرب وسائل إغراء جامحة لجنوح بعضهن إلى ممارسات خلقية خاطئة بعلم أو بدون علم من مالكيهن .
ما أن بدأت (سلعة) الجواري والإماء بالأفول التدريجي في أواخر العصر العباسي نجد أنها تعاود الظهور والانتشار في العصر العثماني الذي حكم العراق قرابة الأربعة قرون. لكن ( المحترفات) منهن أخذن يتعاطين الحرفة بصور واشكال مختلفة تحت ستار الفن من رقص وغناء وطرب فضلا على دور اللهو والمراقص في بعض الأزقة المشبوهة التي تسكنها فئة من السماسرة والقحاب اللواتي يتعاطين الخطيئة بصورة سرية، ولكنها كانت أشبه بالعلنية في المنطقة المحيطة بساحة الميدان في باب المعظم وبعض الأزقة التي يسكنها اليهود في التوراة وعقد الكنيسة..
بعد دخول الانكليز بغداد أصبحت هذه ( الحرفة) علنية، فقد جمعت القحاب في منطقة معينة من بغداد وهي ( محلة الكلجية وكوكز نظر ) المقابلة لسوق هرج، وفي هذين الزقاقين كانت مجموعة من الدور المتلاصقة القديمة ومقاه ذات مدخل واحد تطل على بداية شارع الرشيد وكذلك على عدد من الدكاكين والمقاهي. كانت القحاب المقيمات في تلك الدور ملزمات رسميا بإجراء الفحص الطبي والمختبري الدوري عليهن في مواعيد معينة، ولدى كل واحدة منهن اجازة ( ممارسة ) مهنة (القحاب) بصورة رسمية، ويغرّم ( القواد) السمسير إذا قام بتشغيل من لم تحصل على اجازة أو لم تخضع إلى الفحص الطبي.
وقد درجت السلطات البريطانية على ان تستوفي من يدخل ويتعاطى البغاء من ذكر وانثى رسماً
( ضريبة ) ويعطى لكل واحد منهم يدخل المبغى العام وصلاً سمي ( باص ) من الانكليزية ( pass ) أي تذكرة وكانت السلطات الانكليزية تبغي من وراء ذلك حصر وتعداد من يتعاطى البغاء لأنها كانت تخضعهم للفحص الطبي في مواعيد معينة . ومعظمهن سكنّ دربونة الكلجية ، في حين جئن من مدن ومناطق بعيدة من بغداد، وقد دفعتهن الظروف إلى هذا المنزلق السحيق. وكن يتعاقدن مع القواد بالعمل لديه أو القوادة بالعمل لديها بعد أن تستلف من أي منهما مبلغا من المال لشراء حوائجها الشخصية من ملبس وطعام ومكياج وما تنفق على نفسها أو على ذويها أحيانا من نفقات معيشية . وكانت الباغية في مثل هذه الظروف الصعبة أسيرة أولئك السماسرة بما توقع عليها من (كمبيالات) (صك) أو وصل أمانة، وعليها العمل الدائم لتسديد ديونها التي تتراكم عليها بمرور الزمن حتى يذبل عودها وترمى في الشارع رمي الكلاب . كان المبغى العام في الكلجية في الرصافة ومحلة الذهب في الكرخ / الجعيفر هو المكان الوحيد الذي تشرف عليه الحكومة بصورة علنية وتعترف به ، كذلك يوجد مبغى عام في البصرة والموصل.
الدّربونة ... في فهم البغداديين
الدربونة التي كانت تعرف عند البغداديين بدار للقحاب أو موضع للبغاء العلني وتعني الزقاق الضيق غير النافذ، والدرابين كثيرة في بغداد ولكل واحدة منها اسم، وأكثر ما تكون نسبتها لأشهر من يقيم في دورها مثل دربونة البستان او دربونة الجلبة ، أما إذا ذكرت الدربونة بدون نسبة فالمقصود بها دربونة الكلجية أي دار القحاب ، كما يكنى البغداديون عن المومس بأنها(بنت الدربونة) .
وكان للدربونة مختار يدعى ( السيد حسين ) وكان يأخذ خاوات من المومسات والقوادات وقد رثاه ملا عبود الكرخي بقصيدة عند وفاته وقال :
مختار الحبايب ما يجي دونه وصاير سور للساكن الدربونة
تاهت بنت ابو حجرين امونه وبنت الدودكي وضحه وشكرية
وكانت القوادة والقواد مهنة سنت نظاما فيه وزارة الشؤون الاجتماعية في العراق نعتت فيه القواد بالسمسار واشترطت فيمن يقوم بالقوادة شروطا لا تتوفر إلا في كرام الناس ، منها أن يكون حسن السلوك ، وان لا يكون محكوما عليه بجنحة أو بجناية ، الأمر الذي أشاع موجة من التندر بين الناس بشأن هذا النظام. وقد تناولت سجلات المحاكم في الثلاثينيات قضايا عدة في السمسرة والقوادة ، وأشهر القوادين الذين كانوا يترددون على المحاكم يدعى ( يوسف ) وهو ارمني من تلكيف وكان يقدم إلى المحاكم بقضايا موجزة بتهمة الترصد أي التعلق بالناس من اجل أن يُقوّد لهم . فقال له القاضي في إحدى الجلسات يا يوسف إلى متى تبقى قوادا ؟ فرد عليه : هل تحسب يا سيدي اني مرتاح لهذه المهنة التي لا الاقي فيها غير الرزق الشحيح مغمسا بالصفع والاهانة . اتراني وجدت مهنة اخرى غيرها وبقيت متعلقا بها؟
وبهذه المناسبة قال عبود الكرخي يعزّي احدى فتيات الدربونة بعد موت قوادهن :
يكنديره ... يمسكينة راح الكان يحمينا
عمت عينك عكب عينه دظلي عاد سمسيرة
كانت القوادة ( أو القواد ) يحاسبن البنات على ( الخشات) وهي كناية بغدادية عن المضاجعة، وهي من لغة القحاب في الدربونة حيث من المتعارف عندهن أن كل فتاة منهن لمضاجعتها ثمن معلوم فيقال فلانة (خشتها) كذا وكذا . ويطلق على القواد تسميات عدة منها ( ابو كرون ) وديوس فهو الذي لا يغار على أهله، وكلاهما يكنى عند الناس (بذي القرنين).. وللشعراء ابيات عدة في ذكر الكرون يوصف بعضها بالغلظ وبعضها بالقوة ويوصف بعض من ذكرهم بان له قرنا واحدا وأخرى من له قرنين وثالثا بان له اربعة قرون. وقال الملا عبود الكرخي في رثاء داود اللمبجي / ديوس دربونه القحاب معزيا بوفاة زوجته ( فطومة الصمنجي) قائلا :
يحك لها فطومة بثياب السود تلبس عالمعفرت لمبجي داو
بو كرن الجبير من احسن الموجود كل كحبه عليه اليوم مألومة
وبعد وفاة داود اللمبجي تزوجت فطومة من إبراهيم بك الطنبوري الذي أصبح قواد القحاب جميعا. ويطلق على القواد تسمية ( قرخ ) وهي كناية تركية بمعنى أربعين وتعني إن المقصود بها القواد الاصيل ويعني الذي مارس القوادة اربعين سنة .
وكانت القحاب يتعاطين البغاء بصورة سرية قبل إصدار القانون وتسمى (كوزلي) حيث أطلقت هذه التسمية من قبل البغداديين على كل من يتعاطى البغاء بصورة سرية. وهذه الكلمة أصلها تركي بمعنى (سري أو مستتر) وتطلق أيضا لفظة ( بربوك ) على كل قحبة أو مستهترة منهن ، ولا تزال تستعمل هذه الكلمة في السباب والشتم بين الناس وتعني في الأصل الكوز الذي طال استعماله حتى تثلمت شفته ولم يعد صالحا للاستعمال في سقي الماء ، ويراد بهذه الكلمة في الشتيمة ان هذه المرأة البغي قد تثلمت لكثرة المراجعة فأصبحت بربوكا.
من أشهر القوادات في بغداد
ا
شتهرت في بغداد في أواخر القرن التاسع عشر قوادتان – الأولى في جانب الرصافة ( الجانب الشرقي من بغداد ) واسمها (ريجينة) وتكنى بـ (نجية)، وريجينة هي الأخت الكبرى للمغنية (سليمة مراد) المعروفة في وسط الغناء باسم ( سليمة باشا )، والثانية في جانب الكرخ ( الجانب الغربي من بغداد ) واسمها ( ريمة ) وتلقب ( ريمة أم عظام ) وكان عملها في محلة الذهب . ومن القصص التي يتفكه بها البغداديون أن ريفيا قصد بغداد للمرة الأولى في حياته ودخل محلة الذهب وجاء إلى دار (ريمة أم عظام) وطرق بابها وهو لا يعرفها، يريد عملا فاطعمته وكسته وأجلسته في دهليز الدار وأوصته بان يفتح باب الدار إذا طرقه طارق ، وأن يغلقه خلف من يبارح الدار ، وقام الريفي بمهمته وأتقنها وحسنت صحته وسمن من طعام (ريمة) ومن الهبات التي كان يتلقاها من الزوار. وحدث ذات يوم أن انزعج منه احد المراجعين فصاح به : (اسكت يا كواد) . فهاج الريفي وجن جنونه وهجم على الرجل يريد قتله ، وعندما حِيل بينهما عاود الهجوم وهو يقول : لن تنجو مني ، يقول عني إني كواد ، لابد أن اقتله .
وضحكوا منه وقالوا له : لماذا غضبت من هذه التسمية ، الست تعمل قوادا ؟ وقال لهم هل أن ما أقوم به من عمل سهل وبأجور وطعام فاخر هو الكوادة ؟ قالوا : نعم! قال : إذاً لابد لي من أن أسافر غدا واحضر جميع أقربائي لأشغلهم قوادين.
حكايات
روي عن عبد الحميد الشاوي عندما كان رئيسا لبلدية بغداد في عام 1928 عندما يشتكي أهل محلة عنده عن وجود ( امرأة قحبة في محلتهم ) وسلوكها معوج يحضر لها عربانة ويضعها فيها مع متاعها وثيابها وينقلها إلى الميدان أو محلة الذهب. ويقول البغداديون انه ( سركلها ) من المحلة .
وكان ببغداد في الأربعينيات فندق في محلة السيد سلطان علي مطل على نهر دجلة اسمه فندق متروبول يقوم على إدارته فتى اسمه ( صادق حنا ) وكان صادق يحضر فتيات جميلات من اوروبا باعتبارهن فنانات وينزلهن في فندقه ويتقاضى مبالغ عن زيارة الزائرين لهن. وغضب عليه ارشد العمري وكان آنذاك امين العاصمة وكان ارشد عصبيا وشتاما فاحضره وصرخ فيه: (ولك صادق بغداد لا تتحمل قوادين اثنين.. فإما أنا وإما أنت!).
ويحكى ان عبد العزيز الخياط كان حاكما في محكمة جزاء بغداد، وكان حاد الطبع صارما في احكامه، وجيء ذات يوم بشاهد فسأله عن صنعته ، فقال له انه صاحب مقهى في الكلجية ( دار القحاب ) فالتفت الى كاتب الضبط وقال له : سجل أن شغله قواد . فانزعج الشاهد وقال له : يا سيدي الحاكم أنا صاحب عمل شريف.. انا صاحب مقهى هناك. فقال له الحاكم : تكون صاحب مقهى في الكلجية وتغضب ان سجلنا مهنتك قوادا؟ ثم التفت الى كاتب الضبط وقال له : سجله قواد ابن قواد!
وروى عبود الشالجي في الكنايات البغدادية انه عندما كان رئيسا للمحاكم في البصرة في الأربعينيات من القرن الماضي، توجه صباح احد الأيام إلى مكتبه في المحاكم ليجد امرأة جالسة بين المراجعين وتكررت رؤيته لها أياما، فحسب أن لها قضية في المحكمة ، وأنها تأتي لإنجازها ، وأحس بالرأفة تجاهها، وأمر الفَراش أن يحضرها ، فلما وقفت أمامه سألها عما إذا كانت لديها قضية تراجع بشأنها من اجل أن يأمر بتعجيل انجازها ، فأجابته بأن لا قضية لها وإنها ( على باب الله ) فلم يفهم مرادها، وتنحنح الفَراش وسكت فأدرك انه يريد إن يوضح له القصة فأمر المرأة بمبارحة الغرفة ، فأخبره الفَراش بان هذه المرأة قوادة وأنها تجيء إلى ساحة المحكمة في كل يوم من اجل الحصول على زبائن تأخذهم إلى فتياتها!
وعن كساد القحاب في البصرة أثناء فترة القحط جاءت قوادة مديونة إلى مأمور الإجراء في البصرة لسداد الديون عليها برغم مطالبة الحكومة بذلك فخيرها مأمور الاجراء بسداد الدين جملة أو تقسيطه عليها فقالت له: ( والله يا سيدنا لا استطيع سداد الدين دفعة واحدة ولا باقساط كبيرة لان الشغل واكف والرزق شحيح والنيّاك قل عددهم ) ، وتنرفز مأمور الإجراء من أقوالها وصرخ فيها مستنكرا.. وظنت القوادة المدينة أن رئيس الأجراء لم يقبل عذرها ولم يصدق أقوالها فقالت له: ( والله يا سيدنا أن ما أقوله صحيح ، وإن لم تصدقني فتعال والزم الدخل بيدك واقبض الوارد بنفسك لترى صحة أقوالي) .
أخبار القوّادين وحكاياتهم عند البغداديين
ويطلق على احقر القوادين كناية ( غسال الخرك ) وهو ادنى درجات القوادين ويسميهم البغداديون ( صانع الكحاب) لانه يخدم في الدار ويقوم بغسل الخرك. وهناك قصة يرويها احد المحامين الذين كانت له صلة بقوادة تدعى حليمة وكان لديها خادم يقوم على خدمة فتياتها اسمه ( عبد) وكان يعطيه عندما يزورهم لقضاء المتعة درهما أو درهمين.. وذات يوم كان في مكتبه جالسا واذا بالقوادة ( حليمة ) تقتحم الباب بدفعة من رجلها وتدخل عليه من دون استئذان وعلى وجهها علائم الالم والانزعاج وسألها : ما بك؟ قالت : اخوك عبد! فقال لها: ومن هو اخي عبد؟ قالت : أها، هل نسيته، اخوك عبد الذي يشتغل عندي خادما لفتياتي. عندها تذكره وقال لها : وماذا جرى لاخي عبد ؟ قالت : القت الشرطة القبض عليه واتهم بالقوادة . فأجابها : فعلوها هؤلاء الملاعين ، الا يخافون الله! فقالت : هذا ما حصل. فقال لها : اطمئني فسوف اعمل على اطلاق سراحه غدا. وفي اليوم التالي راجع المحامي حاكم التحقيق وكفل (اخاه عبد ) وأطلقه من الحبس!
كذلك يطلق على القواد كلمة ( كرخانجي ) اشارة إلى اتخاذ بيته للقوادة والمتعة .
مصطلح ( القحبة ) عند العامة
(القحبة) كناية عن المرأة الوسخة السفيهة، بمعنى المرأة التي سلمت نفسها فأصبحت لا تستحي من احد. واسم القحبة مشتق من القحب ، وهو (السعال)، لان القحبة تكون على قارعة الطريق ، فإن مر بها احد سعلت له ، مشيرة إلى موقعها. ويطلق عليها بعض الناس تسمية (قحبة عورة) وهي المرأة السليطة الشرسة وتسمية (قحبه شوشتر) وهن مشهورات بالسفه وطول اللسان والإسراع إلى العركات والخصام . وتسمية (كحاب الخندك) وهن ارخص القحاب في بغداد وابخسهن قيمة وكن لفقرهن يألفن الحفر الباقية من خندق بغداد بالجانب الغربي حيث تأوي كل واحدة الى حفرة بعيدا عن العمران والمارة ، تفترش الواحدة منهن حصيرة وقد اعدت ستارة تعلقها على حبل تربطه بين عمودين ، تستر بها نفسها وصاحبها . قد ذكر الملا عبود الكرخي ان ثمن الواحدة منهن كان ( نصف قران ) وهو ما يعادل عشرة فلوس ومن اشهرهن في الخندق ( عواشة الديرية ).
وكانت أجور القحاب في بغداد في القرن الرابع الهجري تدفع مقدما لها .
أصل تسمية الكلّجيّة
ورد اسم ( الكلجية ) لصنف من اصناف العساكر في العهد المغولي عند احتلالهم بغداد وقد اقاموا وسكنوا في هذا المكان فسميت باسمهم ونسبت اليهم ، كما سميت محلة خان لاوند بامس الاونه ومحلة الهيتاويين باسم قوم وفدوا من هيت ، ولكن قصر البغاء العلني على دربونه (الكلجية) دفع البغداديين الى تسمية كل محل للبغاء العلني بالكلجية حتى المحلات التي هي خارج بغداد او خارج العراق ايضا وزيادة على ذلك فان الملا عبود الكرخي ابرز شعراء العامية اتخذ من اسم الكلجية افعالا وصرفها ومن جملة ما قال :
احنه من كبل ما كان عدنه هيج ولا نعبر لذاك الصوب للتكليج
وكانت دربونة الكلجية قبل الاحتلال البريطاني لبغداد ، زقاقا نافذا يتصل من طرفيه بأزقة ودرابين ، ولما فتح خليل باشا شارعه في بغداد في سنة 1916 وهو المسمى الان بشارع الرشيد بدأ من الميدان وانتهى به إلى الباب الشرقي وسمي أولا : (خليل باشا جادة سي ) ثم بعدها لما احتل البريطانيون بغداد سمي: (الجادة) ، ولما تشكلت الحكومة العراقية سمي : الشارع العام، ثم سمي بعد ذلك شارع الرشيد ، ولما فتح الشارع ، وقع احد طرفي الكلجية على الشارع ، وظل طرفه الأخر من الخلف متصلا بالأزقة والدرابين الأخرى . ولما دخل الانكليز بغداد ، اخلوا زقاق الكلجية من سكانه الأصليين وافردوه موضعا للبغاء العلني أي ( دار القحاب ).
واشتكى أهالي المحلات المحيطة بالكلجية من مرور قاصدي الكلجية بمحلاتهم ، فطلبوا من الحكومة أن تسد الباب الخلفي للزقاق لتصبح الكلجية دربونة ذات منفذ واحد على الشارع العام فقط ، ولكن مالكي الدور الخلفية من الكلجية ، وكذلك القوادات في البيوت الخلفية احتجوا لهذا الطلب ، لان سد المنفذ الخلفي يحول الزقاق إلى دربونة ، ويجعلهم في قعر الدربونة ، فيضر بارباحهم وبأثمان الدور، وكذلك فان بعض طالبي الونسة والكيف كانوا يتسللون إليهم متخفين ، ينفذون إليهم من الجهة الخلفية ، فان سدت تلك الجهة التزموا ان يصلوا اليهم من الشارع العام ، وهو طريق مزدحم بالناس ، يفتضح من يمر فيه إليهم ، واقتنع رئيس البلدية آنذاك عبد المجيد الشاوي بسد المنفذ الخلفي للزقاق ، فشكا أهالي المحلات أمرهم للملك فيصل الأول فاهتم بالموضوع ودعا اليه رئيس البلدية وناقشه في القضية ، فقال للملك : يا سيدنا ، هذا الزقاق نافذ من طرفيه ، فهو طريق عام ، ولا يجوز سد الطريق العام ، لأن في سده ضررا على الناس .
وقال الكلك : إن بعض رجال الدولة أعلموني ، أن هذا الزقاق لم يكن نافذا في العهد العثماني! وكان المرحوم عبد المجيد الشاوي حاضر البديهية ، لاذع الجواب ، فقال للملك : كذبوا يا صاحب الجلالة ، وليسألوا امهاتهم ، من أين كن يعبرن إذا أردن الخروج من محلتهن!
وتلاصق الكلجية محلة – كوك نزر – التي أصبحت مرتعا لطلاب المتعة من البغاء والقحاب
فاخلاها سكانها هربا من مجاورة دار البغاء العلني. وأصل كلمة ( كوك نزر ) أي قطيعة (لازار) وسبب تسمية المحلة بهذا الاسم ان السلطان مراد الرابع العثماني لما فتح بغداد ، كان آمر المدفعية في جيشه ارمني اسمه ( لازار ) فطلب منه أن يقطعه ببغداد ارضا يبني عليها كنيسة ، فأقطعه السلطان هذه القطعة فبنى فيها كنيسة للارمن الارثوذكس ، وبنى الناس بيوتهم حول الكنيسة وسميت ( محلة كوك لازار) اي قطعية لازار. وأصبحت المحلة مرتعا للبغاء السري حتى الستينيات من القرن الماضي . واشتهرت هذه المحلة بنماذج من بائعات الهوى والقحاب والراقصات ظلت أسماء البعض منهم تتردد حتى الآن في حياتنا اليومية. ولعل ( عباس بيزه ) كان اسما معروفا في المحلة يستقبل طالبي المتعة ويقودهم إلى أجمل قحاب المحلة .
.
د. معتز محيي عبد الحميد - لمحات من تاريخ البغاء العلني والسرّي في بغداد – 1
صورة مفقودة