نقوس المهدي
كاتب
يربط جل الباحثين تنظيم الدعارة بتنمية الحواضر والهيمنة الاستعمارية في بداية القرن الماضي.. نتكلم عن تنظيم المهنة، أما على مستوى وجودها، فهي تعود إلى عهد قديم، فالمتأمل لفتاوى الفقهاء في التاريخ القديم للمغرب، ولشكل الحياة الاجتماعية في حواضر فاس ومراكش والرباط... ومقاربة لبعض الألغاز الشعرية الصادرة عن الفقهاء في وقت "النزاهة" خارج الرقابة الأخلاقية، يدل على أن الدعارة كانت جزءا من التركيبة الاجتماعية للمغرب القديم، دون الحديث عن بعض طقوس الممارسة الجنسية المتعددة التي كانت تستدمجها بعض مناطق الأطلس كجزء من تمثلات الإنسان للجسد والجنس والعالم والتي تحمل كل الأبعاد الأسطورية لطقوس الجنس المقدس..
لقد كان كبار رجالات النخبة المخزنية يتخذون من نساء، لهن إقامات خاصة، وقتا للمرح والزهو، فيها يستضيفون زوارهم المحترمين من علية القوم.. لكن مع مجيء الاستعمار والاحتكاك المباشر مع الفرنسيين أفرز نوعا من التأثير الذي مارسته "السلوكات الغربية" خاصة في المناطق الحضرية، رغم أن النظام القيمي التقليدي للمغاربة وسيادة نظام تعدد الزيجات ووجود الجواري والإماء، ظل يُزكي بُعدَ التكتم حول البغاء ومستتبعاته.
طنجة الدولية تقنن الدعارة
سمح الوضع الدولي لمدينة طنجة بأن تأخذ بقوانين البغاء الرسمي منذ 1906، حيث جرى تنظيم المواخير في مناطق محروسة خاضعة لرعاية السلطة من حيث التنظيم والأمن والمراقبة الصحية، وانتقلت الظاهرة إلى المدن الكبرى مثل الدار البيضاء ومراكش وفاس والرباط ومكناس.. حيث كانت بيوت الدعارة تخضع للضرائب، وكانت المومسات تمارسن البغاء باعتباره نشاطا اقتصاديا، حيث يتوفرن على وثائق رسمية وبطاقة مهنية يدلين بها عند الحاجة (أنظر كتاب "البغاء والقوادة" لغابرييل مانسيني 1962).
ولما جاء الجنرال ليوطي، شجع تنظيم الدعارة وتقنينها، في محاولة لمهاجمة الوسطاء وتفكيك شبكات الدعارة وتضييق الخناق على العديد من أصحاب المواخير الخارجين عن سلطة المستعمر عبر الرفع من الضرائب أو اقتحام المواخير غير المحروسة.
ومباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح العديد من القياد والباشوات مختصين في إدارة دور الدعارة وإقامة الليالي الحمراء، وتحت ثقل الوضع الاجتماعي على مجتمع يرزح تحت سلطة الاحتلال الفرنسي، وبفعل ترمل العديد من النساء بعد الحرب الكونية، نشطت الدعارة الهامشية إلى جانب البغاء المقنن... فانتشرت الأمراض، وتحولت أوكار الدعارة النابتة مثل الفطر في الأحياء الفقيرة قطبا للصراع بين حركة التحرير التي كانت تستعين أحيانا بعاهرات، غير أنها كانت في أغلب الأحيان تتهمهن بالتعاون والخيانة لفائدة الفرنسيين، وبين إخضاع المستعمر للجنس خاصة في الدور العسكرية للتحكم في تقنين الوضع الداخلي بالمغرب، في ذات الوقت كانت المومسات تنتقلن من هيمنة ذكورية في مجتمع تقليدي إلى هيمنة استعمارية، خاصة ممن اشتغلن بدور الدعارة العسكرية، وكيف كان عليهن الارتباط بالقيم والتمثلات التي تربطهن بالمجتمع الأصلي واستدماج القيم الغربية الجديدة الواجب اكتسابها للإعلاء من سعر بضاعة الجسد، والتكيف مع ما تفرضه مهنة الدعارة.
يحكي الكاتب "غابرييل ما نسيني"، أن الحماية الفرنسية "في 1922، وبعد طلب تقدم به الأطباء المكلفون بالمصالح الصحية المحلية، قررت تجميع كل البغايا المسلمات واليهوديات اللواتي كن يمارسن مهنتهن بدون أدنى رقابة في مختلف أرجاء الدار البيضاء، هكذا بزغ إلى الوجود أشهر وأكبر ماخور في العالم: "بوسبير: Bousbir" (وهو تحريف لبروسبير، الإسم الشخصي لفيريو، مالك الأرض التي أقيم عليها الماخور) الذي يتموقع في قلب المدينة الجديدة، ويضم أكثر من 600 نزيلة ستصل فيما بعد إلى 3000 نزيلة، كلهن مقيدات في سجلات خاصة، وكل واحدة منهن تتوفر على مسكن فردي صغير، كما أن مستوصفا قد ألحق بالماخور الذي يبدو أمامه أرقى ماخور أوربي يومها، بئيسا للغاية، ويكشف "جون مانيو" "وب. موري" في دراستهما الإثنوغرافية بعنوان "بوسبير: الدعارة في المغرب الكولونيالي، إثنوغرافية حي خاص".. يكشف الطبيبان مهنة الدعارة من خلال حياة العاهرات ويعتبران نشاطهن فعلا اقتصاديا يندرج في إطار العلاقات الاجتماعية وديناميات التغيير التي كانت تميز المجتمع المغربي في تلك المرحلة التاريخية تحت نير الاستعمار الفرنسي.
(أصل هذه الدراسة المتميزة، عبارة عن بحث إثنوغرافي أنجزه طبيبان تحت إشراف "روبير مونتاني"، في إطار تحقيق شامل حول ميلاد البروليتارية المغربية، وقد ترجمه الباحث "عبد المجيد عريف" ونشر بتعاون مع معهد الأبحاث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي، وهو يعالج حياة المومسات عن قرب بهدف تقديم تغطية دقيقة معززة بالصور والإحصاءات لمختلف أبعاد الحياة الاجتماعية والمادية والجنسية للعاهرات).
لقد كان كبار رجالات النخبة المخزنية يتخذون من نساء، لهن إقامات خاصة، وقتا للمرح والزهو، فيها يستضيفون زوارهم المحترمين من علية القوم.. لكن مع مجيء الاستعمار والاحتكاك المباشر مع الفرنسيين أفرز نوعا من التأثير الذي مارسته "السلوكات الغربية" خاصة في المناطق الحضرية، رغم أن النظام القيمي التقليدي للمغاربة وسيادة نظام تعدد الزيجات ووجود الجواري والإماء، ظل يُزكي بُعدَ التكتم حول البغاء ومستتبعاته.
طنجة الدولية تقنن الدعارة
سمح الوضع الدولي لمدينة طنجة بأن تأخذ بقوانين البغاء الرسمي منذ 1906، حيث جرى تنظيم المواخير في مناطق محروسة خاضعة لرعاية السلطة من حيث التنظيم والأمن والمراقبة الصحية، وانتقلت الظاهرة إلى المدن الكبرى مثل الدار البيضاء ومراكش وفاس والرباط ومكناس.. حيث كانت بيوت الدعارة تخضع للضرائب، وكانت المومسات تمارسن البغاء باعتباره نشاطا اقتصاديا، حيث يتوفرن على وثائق رسمية وبطاقة مهنية يدلين بها عند الحاجة (أنظر كتاب "البغاء والقوادة" لغابرييل مانسيني 1962).
ولما جاء الجنرال ليوطي، شجع تنظيم الدعارة وتقنينها، في محاولة لمهاجمة الوسطاء وتفكيك شبكات الدعارة وتضييق الخناق على العديد من أصحاب المواخير الخارجين عن سلطة المستعمر عبر الرفع من الضرائب أو اقتحام المواخير غير المحروسة.
ومباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح العديد من القياد والباشوات مختصين في إدارة دور الدعارة وإقامة الليالي الحمراء، وتحت ثقل الوضع الاجتماعي على مجتمع يرزح تحت سلطة الاحتلال الفرنسي، وبفعل ترمل العديد من النساء بعد الحرب الكونية، نشطت الدعارة الهامشية إلى جانب البغاء المقنن... فانتشرت الأمراض، وتحولت أوكار الدعارة النابتة مثل الفطر في الأحياء الفقيرة قطبا للصراع بين حركة التحرير التي كانت تستعين أحيانا بعاهرات، غير أنها كانت في أغلب الأحيان تتهمهن بالتعاون والخيانة لفائدة الفرنسيين، وبين إخضاع المستعمر للجنس خاصة في الدور العسكرية للتحكم في تقنين الوضع الداخلي بالمغرب، في ذات الوقت كانت المومسات تنتقلن من هيمنة ذكورية في مجتمع تقليدي إلى هيمنة استعمارية، خاصة ممن اشتغلن بدور الدعارة العسكرية، وكيف كان عليهن الارتباط بالقيم والتمثلات التي تربطهن بالمجتمع الأصلي واستدماج القيم الغربية الجديدة الواجب اكتسابها للإعلاء من سعر بضاعة الجسد، والتكيف مع ما تفرضه مهنة الدعارة.
يحكي الكاتب "غابرييل ما نسيني"، أن الحماية الفرنسية "في 1922، وبعد طلب تقدم به الأطباء المكلفون بالمصالح الصحية المحلية، قررت تجميع كل البغايا المسلمات واليهوديات اللواتي كن يمارسن مهنتهن بدون أدنى رقابة في مختلف أرجاء الدار البيضاء، هكذا بزغ إلى الوجود أشهر وأكبر ماخور في العالم: "بوسبير: Bousbir" (وهو تحريف لبروسبير، الإسم الشخصي لفيريو، مالك الأرض التي أقيم عليها الماخور) الذي يتموقع في قلب المدينة الجديدة، ويضم أكثر من 600 نزيلة ستصل فيما بعد إلى 3000 نزيلة، كلهن مقيدات في سجلات خاصة، وكل واحدة منهن تتوفر على مسكن فردي صغير، كما أن مستوصفا قد ألحق بالماخور الذي يبدو أمامه أرقى ماخور أوربي يومها، بئيسا للغاية، ويكشف "جون مانيو" "وب. موري" في دراستهما الإثنوغرافية بعنوان "بوسبير: الدعارة في المغرب الكولونيالي، إثنوغرافية حي خاص".. يكشف الطبيبان مهنة الدعارة من خلال حياة العاهرات ويعتبران نشاطهن فعلا اقتصاديا يندرج في إطار العلاقات الاجتماعية وديناميات التغيير التي كانت تميز المجتمع المغربي في تلك المرحلة التاريخية تحت نير الاستعمار الفرنسي.
(أصل هذه الدراسة المتميزة، عبارة عن بحث إثنوغرافي أنجزه طبيبان تحت إشراف "روبير مونتاني"، في إطار تحقيق شامل حول ميلاد البروليتارية المغربية، وقد ترجمه الباحث "عبد المجيد عريف" ونشر بتعاون مع معهد الأبحاث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي، وهو يعالج حياة المومسات عن قرب بهدف تقديم تغطية دقيقة معززة بالصور والإحصاءات لمختلف أبعاد الحياة الاجتماعية والمادية والجنسية للعاهرات).